الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: ٢٢].
نزَلَتِ الآيةُ لتساهُلِ أهلِ الجاهليَّةِ في نكاحِ زوجاتِ آبائِهم، فقد روى ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه، عن عديِّ بنِ ثابتٍ، عن رجلٍ مِن الأنصارِ، قال: لمّا تُوُفِّيَ أبو قيسٍ ـ يعني: ابنَ الأَسْلَتِ ـ وكان مِن صالِحي الأنصارِ، فخطَبَ ابنُهُ قيسٌ امرأتَهُ، فقالتْ: إنّما أعُدُّكَ ولدًا! وأنتَ مِن صالِحِي قومِكَ، ولكنْ آتِي رسولَ اللهِ ﷺ، فأَسْتَأْمِرُهُ، فأتَتْ رسولَ اللهِ ﷺ، فقالتْ: إنّ أبا قيسٍ تُوفِّيَ، فقال خيرًا، ثمَّ قالتْ: إنّ ابنَهُ قَيْسًا خَطَبَنِي، وهو مِن صالِحِي قَوْمِهِ، وإنّما كنتُ أعُدُّهُ ولدًا، فما تَرى؟ فقال لها: (ارْجِعِي إلى بَيْتِكِ)، فنزَلَتِ الآيةُ بالتحريمِ[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦١٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٠٩).]].
وبنحوِه رواهُ ابنُ جُرَيْجٍ، عن عِكْرِمةَ، مُرْسَلًا، رواهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٦/٥٢٣).]].
وقد ذَكَرَ اللهُ المواريثَ، ثمَّ أعْقَبَها بذِكْرِ المحرَّماتِ مِن النِّساءِ، لمعرفةِ حقوقِ القَراباتِ وفَضْلِهم في الحياةِ وبعدَ المماتِ، وقدَّمَ في المحرَّماتِ نِكاحَ زوجاتِ الآباءِ على غيرِهنَّ، لأنّه ممّا يَتساهَلُ به أهلُ الجاهليَّةِ، وقد كان أهلُ الجاهليَّةِ يحرِّمُونَ ما حَرَّمَهُ اللهُ مِن النِّكاحِ إلا نكاحَ زَوْجاتِ الآباءِ والجَمْعَ بينَ الأُختَيْنِ، كما قاله ابنُ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٦/٥٤٩)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٦١٨).]].
أولويّاتُ الإصلاحِ:
ومِن الحِكمةِ: تقديمُ ما يفرِّطُ فيه الناسُ ويُضيِّعُونَهُ مِن أحكامِ اللهِ ولو كان مفضولًا، على ما يَحفَظُونَهُ ويَعْمَلُونَ به ولو كان فاضلًا، مع عدمِ إهمالِ المحفوظِ، حتى لا يُنسى، وهكذا يَنزِلُ الوحيُ، وهذا مِن الحِكْمةِ التي يجبُ أنْ يَسلُكَها العالِمُ في إصلاحِهِ، فيَنظُرُ إلى جهتَيْنِ:
الأُولى: أنْ ينظُرَ إلى مواضِعِ بُعْدِ الناسِ عن الحقِّ وقُرْبِهم منه، فيُقرِّبَ البعيدَ حتى لا يُفرِّطَ، ويَحفَظَ القريبَ حتى يَثبُتَ فلا يَغْلُوَ.
الثانيةُ: أنْ ينظُرَ إلى منازِلِ الأحكامِ مِن الشريعةِ ومراتِبِها منها، حتى لا يُصلِحَ بالتشهِّي، أو بما يُحِبُّهُ الناسُ، فيَترُكَ المنهيّاتِ التي يُحِبُّها الناسُ إلى المنهيّاتِ التي لا يُحِبُّونَها، فيَظُنَّ أنّه حَفِظَ الشريعةَ بانشغالِه بما هو محفوظٌ مِن غيرِه، ويَتْرُكَ المُهْمَلَ المُضَيَّعَ مِن حدودِ اللهِ تهيبًا للناسِ.
ولا شكَّ أنّ نِكاحَ الأمِّ والأختِ والبنتِ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن نِكاحِ زوجةِ الأبِ، ولكنَّ تحريمَ نكاحِ الأمِّ والأختِ والبنتِ معظَّمٌ في الجاهليَّةِ، ويَسْتَحِلُّونَ نِكاحَ زوجةِ الأبِ، فقدَّمَ تحريمَ نكاحِ زوجةِ الأبِ على غيرِه.
العقدُ على زَوْجة الأبِ:
وقولُه تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾، المرادُ بالنِّكاحِ هنا العَقْدُ، فيحرُمُ العقدُ على زوجةِ الأبِ ولو لم تُوطَأْ، وهذا ظاهرُ الآيةِ، لأنّ الآيةَ وما بعدَها لبيانِ المحرَّماتِ نكاحًا لا سفاحًا، فالآيةُ في سياقِ بيانِ العقودِ، فاللهُ لمّا أطلَقَ في أوَّلِ السورةِ حِلَّ النِّكاحِ مِن النِّساءِ، وقيَّدَ ذلك بالعَدَدِ في قولِه: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣]، احتاجَ إلى التقييدِ بالوصفِ مع العددِ، حتى لا يُفهَمَ الحِلُّ على إطلاقِه، والآيةُ مِن أولِ السورةِ لبيانِ ما يَحِلُّ ويَحرُمُ مِن نِكاحِ النِّساءِ والعقدِ عليهنَّ، وهذا يظهَرُ في مواضِعَ مِن هذه الآياتِ:
الأولُ: قولُه تعالى في أولِ السورةِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣]، وقولُه: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾، والنكاحُ إذا أُطلِقَ في الشريعةِ فيُرادُ به العقدُ، كما في قولِه تعالى: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩]، فلا يقعُ الطلاقُ إلا بعدَ عقدٍ.
والنِّكاحُ إذا أُطلِقَ في القرآنِ، كقولِهِ: ﴿وأَنْكِحُوا الأَيامى مِنكُمْ﴾ [الـنـور: ٣٢]، يعـني: زوِّجُوهم، وقولِهِ: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١]، يعني: لا تتزوَّجُوهُنَّ، فذكَرَ القيدَ (الإيمانَ)، وزِنى المُشرِكةِ والمؤمِنةِ محرَّمٌ لا فرقَ بينَهما، إلا أنّ المؤمنةَ أشَدُّ إحصانًا وعِرْضًا وعِفَّةً، فهي أشَدُّ تحريمًا، ومنه قولُه تعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، يعني: تتزوَّجُ بل ويَدخُلُ عليها.
ومنه قولُه: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣]، يعني: تزوَّجُوا.
الثـاني: أنّ اللهَ ذكَرَ المحرَّماتِ بعدَ ذلك، فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ وأَخَواتُكُمْ وعَمّاتُكُمْ وخالاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]، وهذا تحريمٌ للزَّواجِ منهنَّ والعقدِ عليهنَّ.
فالزِّنى لا تقولُ العربُ حتى في الجاهليَّةِ بحِلِّه بِهِنَّ، فالآياتُ في سياقِ تحريمِ النِّكاحِ، لا وطءِ الزِّنى.
الثالثُ: أنّ اللهَ قال في المحرَّماتِ بعدَ ذلك: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]، وصَفَهُنَّ بالحلائلِ، يعني: ما أحَلَّهُ اللهُ لهم، ولا تَحِلُّ المرأةُ إلا بعقدٍ صحيحٍ.
الرابعُ: أنّ اللهَ ذكَرَ محرَّماتٍ وقيَّدَ التحريمَ بأوصافٍ، منها إذا تزوَّجَها الأبُ، ومنها الرَّضاعُ، ومنها جمعُ الأُختَيْنِ، وهذه الأوصافُ لا تُغَيِّرُ حُكْمَ الزِّنى قَبلَ وُجودِهِنَّ في المرأةِ وبَعْدَه، فالزِّنى حرامٌ، كان ذلك قبلَ الرَّضاعِ أو بعدَه، وبَعْدَهُ أشَدُّ، والزِّنى حرامٌ قبلَ نِكاحِ الأبِ أو بعدَه، وبعدَه أشَدُّ، والزِّنى بأُختِ الزوجةِ حرامٌ قبلَ العقدِ على الزوجةِ أو بعدَه، وبعدَه أشَدُّ.
والقولُ بأنّ النِّكاحَ في قولِه تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ هو العقدُ: هو قولُ عامَّةِ السلفِ وجمهورِ الفقهاءِ.
خلافًا لأبي حنيفةَ وقولٍ لمالكٍ، ولازمُ قولِ أبي حنيفةَ: أنّ مَن زَنى بامرأةٍ حَرُمَ على ابنِهِ الزواجُ منها، لأنّ النِّكاحَ في اللُّغةِ الضمُّ والجمعُ، وهو شاملٌ لهذا المعنى.
ويدُلُّ على خطأِ هذا القولِ: أنّ مَن عَقَدَ على امرأةٍ، ولم يَدخُلْ بها، لا يَحرُمُ على ابنِه الزواجُ منها، وهذا مخالفٌ للإجماعِ، وقد روى عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَها أبُوكَ أوِ ابْنُكَ، دَخَلَ أوْ لَمْ يَدْخُلْ بِها، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرامٌ»، أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١٠).]].
ويدُلُّ على أنّ التحريمَ مُتعلِّقٌ بالعقدِ، لا بالدخُولِ: أنّ اللهَ حرَّمَ على البناتِ نِكاحَ أزواجِ أمَّهاتِهنَّ، وحرَّمَ على الأبناءِ نِكاحَ زوجاتِ آبائِهم، وقال في تحريمِ البناتِ على أزواجِ الأمَّهاتِ: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣]، فقيَّدَ التحريمَ بالدخولِ بأمهاتِهنَّ، وأطلَقَ التحريمَ في زوجاتِ الآباءِ بلا تقييدٍ، ولو كان مقيَّدًا بالدخولِ، لَقيَّدَهُ في حُرْمةِ زوجاتِ الآباءِ على الأبناءِ، كما قيَّدَهُ في حُرْمةِ أزواجِ الأمَّهاتِ على البناتِ.
وكذلك: فإنّ الشريعةَ لا تُحِيلُ وصْفَ المحرَّمِ إلى ما يَشُقُّ معرفتُه، فأنّى للأبناءِ أنْ يَعرِفُوا فواحشَ الآباءِ؟! ولو زَنى الرجلُ بامرأةٍ ولم يَعلَمْ به أحَدٌ، لم يَحِلَّ له أنْ يُخبِرَ ابنَهُ بزِناهُ إذا رغِبَ في نكاحِها، وإنّما له أنْ يَمْنَعَهُ ويَنْهاهُ عنها، لا أنْ يُخبِرَهُ بزِناهُ، لأنّ هذا هتكٌ لسِترِه وسِترِها، وإشاعةٌ للفاحشةِ.
وقولُه تعالى: ﴿ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ يحرُمُ نكاحُ زوجةِ الأبِ وإنْ علا، كالجَدِّ مِن جميعِ جهاتِه، مِن الأمِّ والأبِ، ويحرُمُ ذلك على الأبناءِ وإنْ نزَلُوا، ولو كانوا أبناءَ البنتِ.
نكاحُ الابنِ مولاةَ أبيهِ:
ويحرُمُ على الابنِ وطءُ الموطوءةِ مِن أبيهِ بمِلْكِ يمينٍ، لأنّه نكاحٌ مشروعٌ أشْبَهَ النكاحَ بعقدٍ، وهذا وطءٌ بعقدِ المِلكِ.
وما يَملِكُهُ الأبُ مِن الإماءِ إذا لم يَرَ الأبُ منها ما يحرُمُ عليه لو كان أجنبيًّا، جاز للابنِ الزواجُ بها، وأمّا إذا رَأى منها ما لا يراهُ إلا الزوجُ أو باشَرَها مِن غيرِ جِماعٍ، فقد اختُلِفَ في تحريمِها على ابنِه، والصوابُ التحريمُ، وبه قال أحمدُ، ورَوى ابنُ عساكرَ، عن خَدِيجٍ الخَصِيِّ مَوْلى معاويةَ، عن معاويةَ، أنّه أخَذَ بالمنعِ[[«تاريخ دمشق» (١٢/٢٣٨).]].
وقولُه تعالى: ﴿إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ﴾ عفوٌ عمّا مَضى مِن الأفعالِ المُخالِفةِ لأمرِ اللهِ، لا أنّ اللهَ أحَلَّ لهم أنْ يُبْقُوا على نكاحِ نساءِ آبائِهم ممّا سبَقَ نزولَ الوحيِ، فإنّ اللهَ ذكَرَ في المحرَّماتِ مِن النساءِ، ﴿إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢ و٢٣] في موضعَيْنِ، الأولُ: في زوجاتِ الآباءِ، والثاني: في الجمعِ بينَ الأُختَيْنِ، وهذا لأنّهم في الجاهليَّةِ لم يَسْلفْ منهم نكاحُ غيرِ هاتَيْنِ مِن المحرَّماتِ، فهم يُعظِّمونَ المُحرَّماتِ التي حرَّمَ اللهُ، ولم يكنْ يقَعُ منهم شيءٌ يُخالِفُ ما حرَّمَهُ اللهُ إلا في هذَيْنِ الموضعَيْنِ، كما قاله ابنُ عبّاسٍ، فيما رواهُ عنه عكرمةُ، أخرَجَه ابنُ المُنذِرِ[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦١٨).]].
فقد تزوَّجَ صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ امرأةَ أبيهِ بعدَه، وهي فاخِتَةُ بنتُ الأَسْوَدِ بنِ عبدِ المطَّلبِ، وكذلك كِنانةُ بنُ خُزيمةَ تزوَّجَ امرأةَ أبيهِ وولَدَتْ له ابنَه النضرَ بنَ كِنانةَ.
حدودُ ما يحرُمُ من زوجاتِ الآباءِ:
ولا ينتشرُ التحريمُ مِن زوجاتِ الآباءِ إلى أُصُولِهنَّ وفُرُوعِهنَّ وحَواشِيهِنَّ، فلا يحرُمُ على أبناءِ الآباءِ أنْ يتزوَّجُوا مِن بناتِ زوجةِ الأبِ مِن غيرِه، فإذا جاز هذا في المُحرَّمةِ بالنصِّ على التأبيدِ كالعَمَّةِ والخالةِ، فيجوزُ نكاحُ بنتِها، فبنتُ زوجةِ الأبِ مِن غيرِ الأبِ مِن بابِ أوْلى.
وتحريمُ زوجاتِ الآباءِ على الأبناءِ، كتحريمِ زوجاتِ الأبناءِ على الآباءِ.
وقولُ اللَّهِ تعالى: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا ﴾، يعني: بعدَ تحريمِه.
وقيل: إنّ وصْفَ العاقِدِ على زوجةِ أبيهِ بعدَ التحريمِ بفاعِلِ الفاحِشةِ والمقتِ وساء سبيلًا، إشارةٌ إلى عدمِ كفرِه، قال: ولو كان كافرًا، لكان وصفُهُ بالكفرِ أعظَمَ مِن فعلِ الفاحشةِ والمقتِ، والمقتُ هو شدةُ البُغضِ مِن اللهِ للفعلِ وفاعِلِه.
وهذه الآيةُ مِن مواضعِ النزاعِ فيمَن عقَدَ على امرأةٍ تحرُمُ عليه، وقبلَ ذِكرِ كلامِ العلماءِ في هذا، فإنّ الأمرَ المُجمَعَ عليه: أنّ مَن حرَّمَ ما أحَلَّ اللهُ في كتابِه، أو حَلَّلَ ما حرَّمَه اللهُ في كتابِه: كافرٌ، ولكنَّ فِعْلَهُ دونَ استحلالٍ فِسْقٌ وفُحْشٌ، فلا يلزَمُ مِن فعلِ المُحرَّمِ تشريعُ حِلِّه، ولا مِن تركِ الحلالِ تشريعُ تحريمِه.
حكمُ العقدِ على مَحْرَمٍ:
وإنّما الخلافُ طرَأَ عندَ الفقهاءِ، لاختلافِهم في أمرِ العقودِ: هل هي استحلالٌ صريحٌ للمُحرَّمِ أو لا؟
والحقُّ: أنّ مُشرِّعَ العقودِ وسانَّها حُكْمُهُ أشَدُّ مِن حُكْمِ المُتعاقِدين، فمَن شرَّعَ العقودَ للوقوعِ في المُحرَّمِ، كمَن يُشرِّعُ الحرامَ بسَنِّ عقودٍ للزُّناةِ إذا أرادُوا الزِّنى، ومَن يسُنُّ ويُشرِّعُ عقودًا لمتبايِعِي الخمرِ إذا تبايَعُوا، فهذا مُشرِّعٌ مِن دونِ اللهِ حاكمًا أو نظامًا، وهذا كفرٌ باللهِ.
وأمّا المتعاقِدانِ على محرَّمٍ قطعيٍّ مِن نِكاحٍ أو بيعٍ أو طعامٍ ونحوِ ذلك مع العِلْمِ بتحريمِهِ، كمَن عقَدَ على امرأةٍ لا تَحِلُّ له:
فقد ذهَبَ جماعةٌ مِن الفقهاءِ: إلى أنّ ذلك ليس بتشريعٍ قطعيٍّ حتى تقومَ قرينةٌ أو بيِّنةٌ عليه، وإنّما هو فِعلٌ للمحرَّمِ، وبهذا قال جماعةٌ مِن الفقهاءِ، كأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأبي يوسُفَ ومحمدِ بنِ الحسنِ وجماعةٍ مِن فقهاءِ المالكيَّةِ، وهو قولُ ابنِ عبدِ الحكمِ وأبيهِ وابنِ القاسِمِ وأَشْهَبَ وغيرِهم، وهؤلاء وإنِ اختلَفُوا في العقوبةِ وصِفةِ إنزالِها، فإنّهم يتَّفقونَ على أنّ المتعاقدينِ لم يَكْفُرا.
وظاهرُ مذهبِ أحمدَ وقولِهِ: أنّ مَن عقَدَ على امرأةٍ محرَّمةٍ عليه تحريمًا قطعيًّا: أنّه يُحَدُّ رِدَّةً، لأنّ التعاقُدَ عليه استحلالٌ عندَهُ، وبهذا قال إسحاقُ والطحاويُّ وابنُ تيميَّةَ وابنُ كثيرٍ.
واستدَلَّ أحمدُ: بما رواهُ هو مِن حديثِ عديِّ بنِ ثابتٍ، وأبي الجَهْمِ، كلاهما عن البراءِ بنِ عازبٍ، قال: «مَرَّ بِي عَمِّي الحارِثُ بْنُ عَمْرٍو ومَعَهُ لِواءٌ قَدْ عَقَدَهُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: أيْ عَمِّ، أيْنَ بَعَثَكَ النَّبِيُّ ﷺ؟ قالَ: بَعَثَنِي إلى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أبِيهِ، فَأَمَرَنِي أنْ أضْرِبَ عُنُقَهُ»[[أخرجه أحمد (١٨٥٧٩) (٤/٢٩٢).]].
ورواهُ أهلُ السُّننِ مِن طرُقٍ وألفاظٍ مُتقارِبةٍ[[أخرجه الترمذي (١٣٦٢) (٣/٦٣٥)، والنسائي (٣٣٣١) (٦/١٠٩)، وابن ماجه (٢٦٠٧) (٢/٨٦٩).]].
وخلافُ العلماءِ في التعاقُدِ على المحرَّمِ هل يكونُ دليلًا صريحًا على الاستحلالِ أو لا؟ وأمّا الاستحلالُ للمحرَّمِ القطعيِّ، فلا خلافَ في كونِه كفرًا.
والصحيحُ كما سبَقَ: أنّ مَن سَنَّ العقودَ للناسِ وشرَّعَها لِيفعَلوا، فهو مستحِلٌّ للفِعْلِ، وهذا في الحُكّامِ والنُّظُمِ والقوانينِ والحكوماتِ، والقرينةُ فيه مشرِّعًا أصرَحُ مِن المتعاقِدينَ، فالمشرِّعُ للعقودِ وسنِّ الأنظمةِ التي يَصِلُ بها المتعاقِدونَ للمُحرَّمِ ـ البيِّنةُ عليه في استحلالِه للمُحرَّمِ أظهَرُ وأَقْوى ـ فيأخُذُ حُكْمَ المُستحِلِّ بالكفرِ، لأنّ المتعاقِدينَ تَختلِفُ مقاصِدُهم بينَ مستحِلٍّ وغيرِ مستحِلٍّ، فهو قد شرَّعَ للجميعِ مع اليقينِ بوجودِ مَن يتعاقَدُ منهم استحلالًا.
والمتعاقِدانِ قد يتعاقَدانِ على مُحرَّمٍ شهوةً، مِن مالٍ كالرِّبا، أو مَطْعَمٍ كالخمرِ، فلا يحصُلُ لهما إلا بعقدٍ، كمَن يتعاقَدُ مع بائعٍ على بيعِ رِبًا، أو غَرَرٍ، أو شراءِ خمرٍ، وهو يَعْلَمُ، لأنّه لا يَجِدُ ما يُمضِي به الصفقةَ إلا بعَقْدِها، فهذا لا يَكْفُرُ، وهو آثمٌ، ومِثلُه مَن عقَدَ على ذاتِ مَحْرَمٍ يُرِيدُ الزِّنى بها، فلم يَصِلْ إلى مواقَعتِها وقضاءِ شهوتِه منها إلا بالعقدِ عليها، فهذا يُقامُ عليه حدُّ الزِّنى، ولا يَكْفُرُ، وإذا قامَتِ البيِّنةُ على مَن عقَدَ على ذاتِ مَحْرَمٍ: أنّه فعَلَهُ لا لقضاءِ شهوةِ المواقَعةِ، بل للبقاءِ والولادةِ منها، ولو أرادَها زِنًى مِن غيرِ عقدٍ، وجَدَها، فهذا مستحِلٌّ، وعليه يُحمَلُ حديثُ البَراءِ وقولُ أحمدَ فيه، لأنّ الفاعلَ عالِمٌ بالتحريمِ، وظهَرَ منه استحلالُهُ، وأنّه يُريدُ النِّكاحَ لا الزِّنى، وذلك أنّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يعتقدونَ أنّ الابنَ أوْلى بامرأةِ أبيهِ مِن غيرِه، فظهَرَ: أنّ مقصودَ ناكِحِ امرأةِ أبيهِ العقدُ عليها والزواجُ منها، لا الزِّنى بها، وهذا استحلالٌ، كما سبق.
والشافعيُّ إنّما جعَلَ مَن عقَدَ على امرأةِ أبيهِ زانيًا، فيُقامُ عليه حدُّ الزِّنى، لا الردَّةِ، لعدمِ قيامِ البيِّنةِ على استحلالِه.
والاستحلالُ لا خلافَ فيه عندَ الجميعِ، ولكنَّ الخلافَ في تحقُّقِ صورتِهِ في الأفعالِ، ولذا فأبو حنيفةَ يَرى أنّ العقدَ يُقِيمُ الشُّبْهةَ على جهلِ المتعاقِدَينِ، لأنّهما لو أرادا الفاحشةَ، لَما تعاقَدا، ولكنَّهما أرادا النِّكاحَ المشروعَ، فأخطَأا مَوضِعَهُ.
وعلى هذا: فلا خلافَ بينَ قولِ أحمدَ وبينَ غيرِهِ مِن الأئمَّةِ فيما قامَتِ البيِّنةُ على استحلالِهِ مِن المُحرَّماتِ بعقدٍ أو بغيرِ عقدٍ: أنّ فاعِلَهُ كافرٌ باللهِ، فإنّ أحمدَ يُفرِّقُ بينَ الجاهلِ والعالِمِ إذا نكَحَ ذاتَ المَحْرَمِ، كما في روايةِ ابنِه عبدِ اللهِ:
قال عبدُ اللهِ: «سألتُ أبي عن حديثِ النبيِّ ﷺ: أنّ رجلًا تزوَّجَ امرأةَ أبيهِ، فأمَرَ النبيُّ ﷺ بقتلِه وأَخْذِ مالِه؟
قال أبي: نرى ـ واللهُ أعلَمُ ـ أنّ ذلك منه على الاستحلالِ، فأمَرَ بقتلِه بمنزلِه وأخذِ مالِه»[[«مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله» (ص ٣٥١ ـ ٣٥٢).]].
ويُؤيِّدُ هذا: أنّ النبيَّ ﷺ لم يأمُرْ بقتلِ امرأةِ الأبِ التي تزوَّجَها ابنُ زوجِها، ولم يأمُرْ بقتلِ الوليِّ إنْ وُجِدَ، لأنّ القرينةَ في قصدِ الابنِ بالزواجِ مِن امرأةِ أبيهِ أنّه استحَلَّ: أظهَرُ منه في غيرِه، فدَلَّ على أنّ الحُكْمَ على المتعاقِدَينِ على حرامٍ يَختلِفُ باختلافِ حالِهما في القصدِ وفي الجهلِ والعِلمِ.
وعلى هذا: يُفرَّقُ بينَ المُحرَّمِ البيِّنِ فيما يُتعاقَدُ عليه وبينَ المُشتبِهِ بحسَبِ حالِ المتعاقِدينَ وبُلدانِهم ووَفْرةِ العلمِ فيها، فنكاحُ الأمِّ يختلِفُ عن نكاحِ زوجةِ الأبِ، والبنتُ تختلفُ عن الأختِ، وكلَّما كانتِ المرأةُ أشَدَّ تحريمًا بالطبعِ والشرعِ، فالقرينةُ على الاستحلالِ أقْوى.
وإنّما كان التفريقُ بينَ مشرِّعِ العقودِ وسانِّها للناسِ وبينَ المتعاقِدين، أنّ فِعلَ مشرِّعِ العقودِ المُحرَّمةِ وسانِّها يقعُ على العقدِ، لا على فِعلِ الحرامِ، كالرِّبا والخمرِ والزِّنى والانتفاعِ به، فليس هو مِن المتعاقِدين، ولا شهوةَ له بالمالِ ولا الطعامِ ولا الفرجِ الحرامِ المعقودِ عليه، وأمّا المتعاقِدانِ: ففِعْلُهما يقعُ على الحصولِ على المحرَّمِ، وشُبْهةُ الاستحلالِ بالعقدِ قائمةٌ، لأنّهما فعَلا العقدَ لأكلِ مالِ الرِّبا وشربِ الخمرِ وفِعلِ الزِّنى، فلم يَجِداهُ إلا بعقدٍ عليه، ولو وجَداهُ مِن غيرِ عقدٍ، لَما اشترَطا العقدَ، ولا بحَثا عنه، والحاكمُ يسُنُّ العقودَ ويُشرِّعُها للناسِ للحصولِ على المُحرَّمِ، ففِعلُه تشريعٌ فقطْ، وأعظَمُ مِن ذلك مَن يُلزِمُ بالعقودِ المُحرَّمةِ القطعيَّةِ ويُعاقِبُ على تركِها.
{"ayah":"وَلَا تَنكِحُوا۟ مَا نَكَحَ ءَابَاۤؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَمَقۡتࣰا وَسَاۤءَ سَبِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق