الباحث القرآني

﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ مَن يَحْرُمُ نِكاحُها مِنَ النِّساءِ ومَن لا يَحْرُمُ، وإنَّما خُصَّ هَذا النِّكاحُ بِالنَّهْيِ ولَمْ يُنْظَمْ في سِلْكِ نِكاحِ المُحَرَّماتِ الآتِيَةِ مُبالَغَةً في الزَّجْرِ عَنْهُ حَيْثُ كانُوا مُصِرِّينَ عَلى تَعاطِيهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَتَزَوَّجُونَ بِأزْواجِ آبائِهِمْ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ واسْمُ الآباءِ يَنْتَظِمُ الأجْدادَ مَجازًَا فَتَثْبُتُ حُرْمَةُ ما نَكَحُوها نَصًَّا وإجْماعًَا ويَسْتَقِلُّ في إثْباتِ هَذِهِ الحُرْمَةِ نَفْسُ النِّكاحِ إذا كانَ صَحِيحًَا، وأمّا إذا كانَ فاسِدًَا فَلا بُدَّ في إثْباتِها مِنَ الوَطْءِ أوْ ما يَجْرِي مَجْراهُ مِنَ التَّقْبِيلِ والمَسِّ بِشَهْوَةٍ ونَحْوِهِما بَلْ هو المُثْبِتُ لَها في الحَقِيقَةِ حَتّى لَوْ وقَعَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ بِحُكْمِ مِلْكِ اليَمِينِ أوْ بِالوَجْهِ المُحَرَّمِ تَثْبُتُ بِهِ الحُرْمَةُ عِنْدَنا خِلافًَا لِلشّافِعِيِّ في المُحَرَّمِ، أيْ: لا تَنْكِحُوُا الَّتِي نَكَحَها آباؤُكُمْ، وإيثارُ "ما" عَلى "مَن" لِلذَّهابِ إلى الوَصْفِ، وقِيلَ: "ما" مَصْدَرِيَّةٌ عَلى إرادَةِ المَفْعُولِ مِنَ المَصْدَرِ. ﴿مِنَ النِّساءِ﴾ بَيانٌ لِما نُكِحَ عَلى الوَجْهَيْنِ. ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ اسْتِثْناءٌ مِمّا نُكِحَ مُفِيدٌ لِلْمُبالَغَةِ في التَّحْرِيمِ بِإخْراجِ الكَلامِ مَخْرَجَ التَّعْلِيقِ بِالمُحالِ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: ؎ ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم ∗∗∗ بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ والمَعْنى: لا تَنْكِحُوا حَلائِلَ آبائِكم إلّا مَن ماتَتْ مِنهُنَّ، والمَقْصُودُ: سَدُّ طَرِيقِ الإباحَةِ بِالكُلِّيَّةِ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ﴾، وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مِمّا يَسْتَلْزِمُهُ النَّهْيُ ويَسْتَوْجِبُهُ مُباشَرَةً المَنهِيُّ عَنْهُ (p-160)كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ فَإنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعِقابِ إلّا ما قَدْ مَضى فَإنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، مَعْناهُ: لَكِنَّ ما قَدْ سَلَفَ لا مُؤاخَذَةَ عَلَيْهِ لا أنَّهُ مُقَرَّرٌ ويَأْباهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا﴾ فَإنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ وبَيانٌ لِكَوْنِ المَنهِيِّ عَنْهُ في غايَةِ القُبْحِ مَبْغُوضًَا أشَدَّ البُغْضِ، وأنَّهُ لَمْ يَزَلْ في حُكْمِ اللَّهِ تَعالى وعِلْمِهِ مَوْصُوفًَا بِذَلِكَ ما رَخَّصَ فِيهِ لِأُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ فَلا يُلائِمُ أنْ يُوَسَّطَ بَيْنَهُما ما يُهَوِّنُ أمْرَهُ مِن تَرْكِ المُؤاخَذَةِ عَلى ما سَلَفَ مِنهُ. ﴿وَساءَ سَبِيلا﴾ في كَلِمَةِ "ساءَ" قَوْلانِ، أحَدُهُما: أنَّها جارِيَةٌ مَجْرى بِئْسَ في الذَّمِّ والعَمَلِ فَفِيها ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: "وَساءَ سَبِيلًَا سَبِيلُ ذَلِكَ النِّكاحِ" كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِئْسَ الشَّرابُ﴾ أيْ: ذَلِكَ الماءُ، وثانِيهِما: أنَّها كَسائِرِ الأفْعالِ وفِيها ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ "إنَّهُ" وسَبِيلًَا تَمْيِيزٌ، والجُمْلَةُ إمّا مُسْتَأْنِفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ أوْ مَعْطُوفَةٌ عَلى خَبَرِ كانَ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مُضْمَرٍ هو المَعْطُوفُ في الحَقِيقَةِ تَقْدِيرُهُ: ومَقُولًَا في حَقِّهِ ساءَ سَبِيلًَا، فَإنَّ ألْسِنَةَ الأُمَمِ كافَّةً لَمْ تَزَلْ ناطِقَةً بِذَلِكَ في الأعْصارِ والأمْصارِ. قِيلَ: مَراتِبُ القُبْحِ ثَلاثٌ: القُبْحُ الشَّرْعِيُّ والقُبْحُ العَقْلِيُّ والقُبْحُ العادِيُّ، وقَدْ وصَفَ اللَّهُ تَعالى هَذا النِّكاحَ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاحِشَةً﴾ مَرْتَبَةُ قُبْحِهِ العَقْلِيِّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَقْتًا﴾ مَرْتَبَةُ قُبْحِهِ الشَّرْعِيِّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَساءَ سَبِيلا﴾ مَرْتَبَةُ قُبْحِهِ العادِيِّ، وما اجْتَمَعَ فِيهِ هَذِهِ المَراتِبُ فَقَدْ بَلَغَ أقْصى مَراتِبِ القُبْحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب