الباحث القرآني
* بابُ ما يَحْرُمُ مِنَ النِّساءِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: أخْبَرَنا أبُو عُمَرَ (p-٥٠)غُلامُ ثَعْلَبٍ قالَ: الَّذِي حَصَّلْناهُ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنِ الكُوفِيِّينَ والمُبَرِّدِ عَنِ البَصْرِيِّينَ أنَّ النِّكاحَ في أصْلِ اللُّغَةِ هو اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، تَقُولُ العَرَبُ: " أنْكَحْنا الفَرا فَسَنَرى " هو مَثَلٌ ضَرَبُوهُ لِلْأمْرِ يَتَشاوَرُونَ فِيهِ ويَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ عَنْ ماذا يَصْدُرُونَ فِيهِ، مَعْناهُ: جَمَعْنا بَيْنَ الحِمارِ وأتانِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: إذا كانَ اسْمُ النِّكاحِ في حَقِيقَةِ اللُّغَةِ مَوْضُوعًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، ثُمَّ وجَدْناهم قَدْ سَمُّوا الوَطْءَ نَفْسَهُ نِكاحًا مِن غَيْرِ عَقْدٍ كَما قالَ الأعْشى:
؎ومَنكُوحَةٌ غَيْرُ مَمْهُورَةٍ وأُخْرى يُقالُ لَهُ فادِها
يَعْنِي المَسْبِيَّةَ المَوْطُوءَةَ بِغَيْرِ مَهْرٍ ولا عَقْدٍ، وقالَ الآخَرُ:
؎ومِن أيِّمٍ قَدْ أنْكَحَتْها رِماحُنا ∗∗∗ وأُخْرى عَلى عَمٍّ وخالٍ تَلْهَفُ
وهَذا يَعْنِي المَسْبِيَّةَ أيْضًا؛ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ أيْضًا:
؎فَنَكَحْنَ أبْكارًا وهُنَّ بِأُمَّةٍ ∗∗∗ أعْجَلْنَهُنَّ مَظِنَّةَ الإعْذارِ
وهُوَ يَعْنِي الوَطْءَ أيْضًا؛ ولا يَمْتَنِعُ أحَدٌ مِن إطْلاقِ اسْمِ النِّكاحِ عَلى الوَطْءِ. وقَدْ تَناوَلَ الِاسْمُ العَقْدَ أيْضًا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] والمُرادُ بِهِ العَقْدُ دُونَ الوَطْءِ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أنا مِن نِكاحٍ ولَسْتُ مِن سِفاحٍ؛» فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ اسْمَ النِّكاحِ يَقَعُ عَلى العَقْدِ، والثّانِي: دَلالَتُهُ عَلى أنَّهُ قَدْ يَتَناوَلُ الوَطْءَ مِن غَيْرِ عَقْدٍ، لَوْلا ذَلِكَ لاكْتَفى بِقَوْلِهِ: أنا مِن نِكاحٍ، إذْ كانَ السِّفاحُ لا يَتَناوَلُ اسْمَ النِّكاحِ بِحالٍ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: " ولَسْتُ مِن سِفاحٍ " بَعْدَ تَقْدِيمِ ذِكْرِ النِّكاحِ أنَّ النِّكاحَ يَتَناوَلُ لَهُ الأمْرَيْنِ، فَبَيَّنَ ﷺ أنَّهُ مِنَ العَقْدِ الحَلالِ لا مِنَ النِّكاحِ الَّذِي هو سِفاحٌ.
ولَمّا ثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ الِاسْمَ يَنْتَظِمُ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنَ العَقْدِ والوَطْءِ، وثَبَتَ بِما ذَكَرْنا مِن حُكْمِ هَذا الِاسْمِ في حَقِيقَةِ اللُّغَةِ وأنَّهُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ والجَمْعُ إنَّما يَكُونُ بِالوَطْءِ دُونَ العَقْدِ؛ إذِ العَقْدُ لا يَقَعُ بِهِ جَمْعٌ؛ لِأنَّهُ قَوْلٌ مِنهُما جَمِيعًا لا يَقْتَضِي جَمْعًا في الحَقِيقَةِ، ثَبَتَ أنَّ اسْمَ النِّكاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجازٌ لِلْعَقْدِ، وأنَّ العَقْدَ إنَّما سُمِّيَ نِكاحًا؛ لِأنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى الوَطْءِ، تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذا كانَ مِنهُ بِسَبَبٍ أوْ مُجاوِرًا لَهُ، مِثْلُ الشَّعْرِ الَّذِي يُولَدُ الصَّبِيُّ وهو عَلى رَأْسِهِ يُسَمّى عَقِيقَةً ثُمَّ سُمِّيَتِ الشّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْهُ عِنْدَ حَلْقِ ذَلِكَ الشَّعْرِ عَقِيقَةً، وكالرّاوِيَةِ الَّتِي هي اسْمٌ لِلْجَمَلِ الَّذِي يَحْمِلُ المَزادَةَ ثُمَّ سُمِّيَتِ المَزادَةُ راوِيَةً لِاتِّصالِها بِهِ وقُرْبِها مِنهُ. وقالَ أبُو النَّجْمِ: (p-٥١)
؎تَمْشِي مِنَ الرِّدَّةِ مَشْيَ الحُفَّلِ ∗∗∗ مَشْيَ الرَّوايا بِالمَزادِ الأثْقَلِ
ونَحْوُهُ الغائِطُ، هو اسْمٌ لِلْمَكانِ المُطْمَئِنِّ مِنَ الأرْضِ ويُسَمّى بِهِ ما يَخْرُجُ مِنَ الإنْسانِ مَجازًا؛ لِأنَّهم كانُوا يَقْصِدُونَ الغائِطَ لِقَضاءِ الحاجَةِ ونَظائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ فَكَذَلِكَ النِّكاحُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ حَقِيقَةً عَلى مُقْتَضى مَوْضُوعِهِ في أصْلِ اللُّغَةِ ويُسَمّى العَقْدُ بِاسْمِهِ مَجازًا؛ لِأنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ وهو سَبَبُهُ ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ العَقْدِ مَجازًا أنَّ سائِرَ العُقُودِ مِنَ البِياعاتِ والهِباتِ لا يُسَمّى مِنها شَيْءٌ نِكاحًا وإنْ كانَ قَدْ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى اسْتِباحَةِ وطْءِ الجارِيَةِ؛ إذْ لَمْ تَخْتَصَّ هَذِهِ العُقُودُ بِإباحَةِ الوَطْءِ؛ لِأنَّ هَذِهِ العُقُودَ تَصِحُّ فِيمَن يَحْظُرُ عَلَيْهِ وطْؤُها كَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضاعَةِ ومِنَ النَّسَبِ وأُمِّ امْرَأتِهِ ونَحْوِها؛ وسُمِّيَ العَقْدُ المُخْتَصُّ بِإباحَةِ الوَطْءِ نِكاحًا؛ لِأنَّ مَن لا يَحِلُّ لَهُ وطْؤُها لا يَصِحُّ نِكاحُها، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ اسْمَ النِّكاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجازٌ في العَقْدِ، فَوَجَبَ إذا كانَ هَذا عَلى ما وصَفْنا أنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ عَلى الوَطْءِ، فاقْتَضى ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَن وطِئَها أبُوهُ مِنَ النِّساءِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ النِّكاحَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالمُباحِ مِنهُ دُونَ المَحْظُورِ كالضَّرْبِ والقَتْلِ، والوَطْءُ نَفْسُهُ لا يَخْتَصُّ عِنْدَ الإطْلاقِ بِالمُباحِ مِنهُ دُونَ المَحْظُورِ بَلْ هو عَلى الأمْرَيْنِ حَتّى تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى تَخْصِيصِهِ.
وكانَ أبُو الحَسَنِ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ مُرادُهُ الوَطْءُ دُونَ العَقْدِ مِن حَيْثُ اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، ولَمْ يُرِدْ بِهِ العَقْدَ لِاسْتِحالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ واحِدٍ مَجازًا وحَقِيقَةً في حالٍ واحِدَةٍ، وإنَّما أوْجَبْنا التَّحْرِيمَ بِالعَقْدِ بِغَيْرِ الآيَةِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في إيجابِ تَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ بِوَطْءِ الزِّنا، فَرَوى سَعِيدُ بْنُ أبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنِ الحَسَنِ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ في رَجُلٍ زَنى بِأُمِّ امْرَأتِهِ: " حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأتُهُ "، وهو قَوْلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ وسالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ومُجاهِدٍ وعَطاءٍ وإبْراهِيمَ وعامِرٍ وحَمّادٍ وأبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ وزُفَرَ والثَّوْرِيِّ والأوْزاعِيِّ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وطْءِ الأُمِّ قَبْلَ التَّزَوُّجِ أوْ بَعْدَهُ في إيجابِ تَحْرِيمِ البِنْتِ.
ورَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الرَّجُلِ يَزْنِي بِأُمِّ امْرَأتِهِ بَعْدَ ما يَدْخُلُ بِها قالَ: " تَخَطّى حُرْمَتَيْنِ ولَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأتُهُ " ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: " لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ " .
وذَكَرَ الأوْزاعِيُّ عَنْ عَطاءٍ أنَّهُ كانَ (p-٥٢)يَتَأوَّلُ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ " لا يُحَرِّمُ حَرامٌ حَلالًا " عَلى الرَّجُلِ يَزْنِي بِالمَرْأةِ ولا يُحَرِّمُها عَلَيْهِ زِناهُ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ الَّذِي رَواهُ عِكْرِمَةُ في أنَّ الزِّنا بِالأُمِّ لا يُحَرِّمُ البِنْتَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَطاءٍ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ ثابِتًا عِنْدَهُ لَما احْتاجَ إلى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ " . وقالَ الزُّهْرِيُّ ورَبِيعَةُ ومالِكٌ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: " لا تَحْرُمُ أُمُّها ولا بِنْتُها بِالزِّنا " . وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ في الرَّجُلِ يَزْنِي بِأُمِّ امْرَأتِهِ قالَ: " حَرامٌ لا يُحَرِّمُ حَلالًا، ولَكِنَّهُ إنْ زَنى بِالأُمِّ قَبْلَ أنْ يَتَزَوَّجَ البِنْتَ أوْ زَنى بِالبِنْتِ قَبْلَ أنْ يَتَزَوَّجَ الأُمَّ فَقَدْ حَرُمَتْ " فَفَرَّقَ بَيْنَ الزِّنا بَعْدَ التَّزْوِيجِ وقَبْلَهُ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ أيْضًا في الرَّجُلِ يَلُوطُ بِالرَّجُلِ هَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهُ وابْنَتُهُ ؟ فَقالَ أصْحابُنا: " لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ " وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحُسَيْنِ: " هو مِثْلُ وطْءِ المَرْأةِ بِزِنًا في تَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ " وقالَ: " مَن حَرُمَ بِهَذا مِنَ النِّساءِ حَرُمَ مِنَ الرِّجالِ " .
ورَوى إبْراهِيمُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: سَألْتُ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَلْعَبُ بِالغُلامِ أيَتَزَوَّجُ أُمَّهُ ؟ قالَ: لا. وقالَ: كانَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ يَكْرَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأةٍ قَدْ لَعِبَ بِابْنِها وقالَ الأوْزاعِيُّ في غُلامَيْنِ يَلُوطُ أحَدُهُما بِالآخَرِ فَتُولَدُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ جارِيَةٌ قالَ: " لا يَتَزَوَّجُها الفاعِلُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ قَدْ أوْجَبَ تَحْرِيمَ نِكاحِ امْرَأةٍ قَدْ وطِئَها أبُوهُ بِزِنًا أوْ غَيْرِهِ؛ إذْ كانَ الِاسْمُ يَتَناوَلُهُ حَقِيقَةً فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْها، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في وطْءِ الأبِ ثَبَتَ مِثْلُهُ في وطْءِ أُمِّ المَرْأةِ أوِ ابْنَتِها في إيجابِ تَحْرِيمِ المَرْأةِ؛ لِأنَّ أحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣] والدُّخُولُ بِها اسْمٌ لِلْوَطْءِ، وهو عامٌّ في جَمِيعِ ضُرُوبِ الوَطْءِ مِن مُباحٍ أوْ مَحْظُورٍ ونِكاحٍ أوْ سِفاحٍ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُ البِنْتِ بِوَطْءٍ كانَ مِنهُ قَبْلَ تَزَوُّجِ الأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣] ويَدُلُّ عَلى أنَّ الدُّخُولَ بِها اسْمٌ لِلْوَطْءِ وأنَّهُ مُرادٌ بِالآيَةِ وأنَّ اسْمَ الدُّخُولِ لا يَخْتَصُّ بِوَطْءِ نِكاحٍ دُونَ غَيْرِهِ، أنَّهُ لَوْ وطِئَ الأُمَّ بِمِلْكِ اليَمِينِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ البِنْتُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِحُكْمِ الآيَةِ، وكَذَلِكَ لَوْ وطِئَها بِنِكاحٍ فاسِدٍ.
فَثَبَتَ أنَّ الدُّخُولَ لَمّا كانَ اسْمًا لِلْوَطْءِ لَمْ يَخْتَصَّ فِيما عُلِّقَ بِهِ مِنَ الحُكْمِ بِوَطْءٍ بِنِكاحٍ دُونَ ما سِواهُ مِن سائِرِ ضُرُوبِ الوَطْءِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ الوَطْءَ آكَدُ في إيجابِ التَّحْرِيمِ مِنَ العَقْدِ؛ لِأنّا لَمْ نَجِدْ وطْئًا مُباحًا إلّا وهو مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وقَدْ وجَدْنا عَقْدًا صَحِيحًا لا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وهو العَقْدُ عَلى الأُمِّ لا يُوجِبُ تَحْرِيمَ البِنْتِ ولَوْ وطِئَها حَرُمَتْ، فَعَلِمْنا أنَّ وُجُودَ الوَطْءِ عِلَّةٌ لِإيجابِ التَّحْرِيمِ، (p-٥٣)فَكَيْفَما وُجِدَ يَنْبَغِي أنْ يُحَرِّمَ مُباحًا كانَ الوَطْءُ أوْ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الوَطْءِ؛ لِأنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يُخْرِجْهُ مِن أنْ يَكُونَ وطْئًا صَحِيحًا، فَلَمّا اشْتَرَكا في هَذا المَعْنى وجَبَ أنْ يَقَعَ بِهِ تَحْرِيمٌ وأيْضًا لا خِلافَ أنَّ الوَطْءَ بِشُبْهَةٍ وبِمِلْكِ اليَمِينِ يُحَرِّمانِ مَعَ عَدَمِ النِّكاحِ.
وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الوَطْءَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلى أيِّ وجْهٍ وقَعَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ وطْءُ الزِّنا مُحَرِّمًا لِوُجُودِ الوَطْءِ الصَّحِيحِ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّ الوَطْءَ بِمِلْكِ اليَمِينِ وبِشُبْهَةٍ إنَّما تَعَلَّقَ بِهِما التَّحْرِيمُ لِما يَتَعَلَّقُ بِهِما مِن ثُبُوتِ النَّسَبِ، والزِّنا لا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ فَلا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ تَأْثِيرٌ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لا يُجامِعُ مِثْلُهُ لَوْ جامَعَ امْرَأتَهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّها وبِنْتُها ولَمْ يَتَعَلَّقْ بِوَطْئِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ، ومَن عَقَدَ عَلى امْرَأةٍ نِكاحًا تَعَلَّقَ بِعَقْدِ النِّكاحِ ثُبُوتُ النَّسَبِ قَبْلَ الوَطْءِ حَتّى لَوْ جاءَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ الدُّخُولِ وبَعْدَ العَقْدِ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ لَزِمَهُ ولَمْ يَتَعَلَّقْ بِالعَقْدِ تَحْرِيمُ البِنْتِ؛ فَإذا كُنّا وجَدْنا الوَطْءَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِهِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ والعَقْدَ مَعَ تَعَلُّقِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِهِ لا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، عَلِمْنا أنَّهُ لا حَظَّ لِثُبُوتِ النَّسَبِ في ذَلِكَ وأنَّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبارُهُ هو الوَطْءُ لا غَيْرُ. وأيْضًا لا خِلافَ بَيْنَنا وبَيْنَهم أنَّهُ لَوْ لَمَسَ أمَتَهُ لِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّها وابْنَتُها، ولَيْسَ لِلْمَسِّ حَظٌّ في ثُبُوتِ النَّسَبِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلى النَّسَبِ وأنَّهُ جائِزٌ ثُبُوتُهُ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ وجائِزٌ ثُبُوتُهُ أيْضًا مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أصْحابِنا أنّا وجَدْنا اللَّهَ تَعالى قَدْ غَلَّظَ أمْرَ الزِّنا بِإيجابِ الرَّجْمِ تارَةً وبِإيجابِ الجَلْدِ أُخْرى وأوْعَدَ عَلَيْهِ بِالنّارِ ومَنَعَ إلْحاقَ النَّسَبِ بِهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ تَغْلِيظٌ لِحُكْمِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ بِإيجابِ التَّحْرِيمِ أوْلى؛ إذْ كانَ إيجابُ التَّحْرِيمِ ضَرْبًا مِنَ التَّغْلِيظِ ألا تَرى أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا حَكَمَ بِبُطْلانِ حَجِّ مَن جامَعَ امْرَأتَهُ قَبْلَ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كانَ الزّانِي أوْلى بِبُطْلانِ الحَجِّ؛ لِأنَّ بُطْلانَ الحَجِّ تَغْلِيظٌ لِتَحْرِيمِ الجِماعِ فِيهِ ؟ كَذَلِكَ لَمّا حَكَمَ اللَّهُ بِإيجابِ تَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ بِالوَطْءِ الحَلالِ وجَبَ أنْ يَكُونَ الزِّنا أوْلى بِإيجابِ التَّحْرِيمِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِهِ. وقَدْ زَعَمَ الشّافِعِيُّ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أوْجَبَ الكَفّارَةَ عَلى قاتِلِ الخَطَإ كانَ قاتِلُ العَمْدِ بِهِ أوْلى، إذْ كانَ حُكْمُ العَمْدِ أغْلَظَ مِن حُكْمِ الخَطَإ؛ ألا تَرى أنَّ الوَطْءَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ أنْ يَكُونَ بِزِنًا أوْ غَيْرِهِ فِيما تَعَلَّقَ بِهِ مِن فَسادِ الحَجِّ والصَّوْمِ ووُجُوبِ الغُسْلِ ؟ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَسْتَوِيا في حُكْمِ التَّحْرِيمِ.
فَإنْ قِيلَ: الوَطْءُ المُباحُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الحُكْمُ في إيجابِ المَهْرِ ولا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالزِّنا. قِيلَ لَهُ: قَدْ تَعَلَّقَ بِالزِّنا مِن إيجابِ الرَّجْمِ أوِ الجَلْدِ (p-٥٤)ما هو أغْلَظُ مِن إيجابِ المالِ، وعَلى أنَّ المالَ والحَدَّ يَتَعاقَبانِ عَلى الوَطْءِ؛ لِأنَّهُ مَتى وجَبَ الحَدُّ لَمْ يَجِبِ المَهْرُ ومَتى وجَبَ المَهْرُ لَمْ يَجِبِ الحَدُّ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَخْلُفُ الآخَرَ، فَإذا وجَبَ الحَدُّ فَذَلِكَ قائِمٌ مَقامَ المالِ فِيما تَعَلَّقَ بِالوَطْءِ مِنَ الحُكْمِ، فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما مِن هَذا الوَجْهِ. فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ الجَزَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ بُهْلُولٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نافِعٍ المَدَنِيُّ قالَ: حَدَّثَنا المُغِيرَةُ بْنُ إسْماعِيلَ بْنِ أيُّوبَ بْنِ سَلَمَةَ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ شِهابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يَتْبَعُ المَرْأةَ حَرامًا أيَنْكِحُ أُمَّها ؟ أوْ يَتْبَعُ الأُمَّ حَرامًا أيَنْكِحُ ابْنَتَها ؟ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ إنَّما يَحْرُمُ ما كانَ بِنِكاحٍ؛» وبِما رَواهُ إسْحاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ قالَ: «لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ» . ورَوى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يُفْسِدُ الحَرامُ الحَلالَ» . فَإنَّ هَذِهِ الأخْبارَ باطِلَةٌ عِنْدَ أهْلِ المَعْرِفَةِ ورُواتُها غَيْرُ مَرْضِيِّينَ، أمّا المُغِيرَةُ بْنُ إسْماعِيلَ فَمَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ لا يَجُوزُ ثُبُوتُ شَرِيعَةٍ بِرِوايَتِهِ لا سِيَّما في اعْتِراضِهِ عَلى ظاهِرِ القُرْآنِ، وإسْحاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ مَطْعُونٌ في رِوايَتِهِ، وكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ،
ولَوْ ثَبَتَ لَمْ يَدُلَّ عَلى قَوْلِ المُخالِفِ؛ لِأنَّ الحَدِيثَ الأوَّلَ إنَّما ذُكِرَ فِيهِ الرَّجُلُ يَتْبَعُ المَرْأةَ ولَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الوَطْءِ، فَكانَ قَوْلُهُ ﷺ: «لا يَحْرُمُ إلّا ما كانَ بِنِكاحٍ» جَوابًا عَمّا سَألَهُ عَنِ اتِّباعِ المَرْأةِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ بِأنْ يُتْبِعَها نَفْسَهُ فَيَكُونَ مِنهُ نَظَرٌ إلَيْها أوْ مُراوَدَتُها عَلى الوَطْءِ.
ولَيْسَ فِيهِ إثْباتُ الوَطْءِ، فَأخْبَرَ ﷺ أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لا يُوجِبُ تَحْرِيمًا وأنَّهُ لا يَقَعُ بِمِثْلِهِ التَّحْرِيمُ إلّا أنْ يَكُونَ. بَيْنَهُما عَقْدُ نِكاحٍ ولَيْسَ فِيهِ لِلْوَطْءِ ذِكْرٌ؛ وقَوْلُهُ: «لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ» إنَّما هو فِيما سُئِلَ عَنْهُ مِنَ اتِّباعِ المَرْأةِ مِن غَيْرِ وطْءٍ، وأمّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وقَوْلُهُ: «لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ» فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ في هَذِهِ القِصَّةِ بِعَيْنِها إنْ صَحَّتْ، فَكانَ جَوابًا لِما سُئِلَ عَنْهُ مِنَ النَّظَرِ والمُراوَدَةِ مِن غَيْرِ جِماعٍ، وتَكُونُ فائِدَتُهُ إزالَةَ تَوَهُّمِ مَن يَظُنُّ أنَّ النَّظَرَ بِانْفِرادِهِ يُحَرِّمُ لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «زِنا العَيْنَيْنِ النَّظَرُ وزِنا الرِّجْلَيْنِ المَشْيُ» فَكانَ جائِزًا أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ النَّظَرَ بِانْفِرادِهِ يُحَرِّمُ كَما يُحَرِّمُ الوَطْءُ لِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ إيّاهُ زِنًا، فَأخْبَرَ ﷺ أنَّ ذَلِكَ لا يُحَرِّمُ وأنَّ التَّحْرِيمَ إذا لَمْ تَكُنْ مُلامَسَةٌ إنَّما يَتَعَلَّقُ بِالعَقْدِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَسِيسٌ؛ وإذا (p-٥٥)احْتَمَلَ هَذا الخَبَرُ ما وصَفْنا زالَ الِاعْتِراضُ بِهِ.
وعَلى أنَّهم مُتَّفِقُونَ أنَّ التَّحْرِيمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلى النِّكاحِ ولا عَلى الوَطْءِ المُباحِ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ مَن وطِئَ أمَتَهُ حائِضًا أنَّ هَذا وطْءٌ حَرامٌ في غَيْرِ نِكاحٍ وأنَّهُ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَبَطَلَ أنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مَقْصُورًا عَلى النِّكاحِ ولا عَلى وطْءٍ مُباحٍ؛ وكَذَلِكَ لَوْ وطِئَ جارِيَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ أوْ جارِيَتَهُ وهي مَجُوسِيَّةٌ كانَ واطِئًا وطْئًا حَرامًا في غَيْرِ نِكاحٍ مُوجِبٍ لِلتَّحْرِيمِ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الحَدِيثَ إنْ ثَبَتَ فَلَيْسَ بِعُمُومٍ في نَفْيِ إيجابِ التَّحْرِيمِ بِوَطْءٍ حَرامٍ.
وأيْضًا قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى امْرَأةَ المُظاهِرِ عَلَيْهِ بِالظِّهارِ، وقَدْ سَمّاهُ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا، ولَمْ يَكُنْ هَذا القَوْلُ مُحَرِّمًا مانِعًا مِن وُقُوعِ تَحْرِيمِ الوَطْءِ بِهِ. وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ: «الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ» لا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِهِ لَوُرُودِهِ مُطْلَقًا مِن وجْهٍ صَحِيحٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِسَبَبٍ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما:
أنَّ الحَرامَ والحَلالَ إنَّما هو حُكْمُ اللَّهِ تَعالى بِالتَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ، وقَدْ عَلِمْنا حَقِيقَةَ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعالى بِالتَّحْرِيمِ في شَيْءٍ وبِالتَّحْلِيلِ في غَيْرِهِ لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ آخَرُ في إيجابِ تَحْرِيمٍ أوْ تَحْلِيلٍ إلّا بِدَلالَةٍ؛ فَهَذا اللَّفْظُ إذا حُمِلَ عَلى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَسْألَتِنا؛ لِأنّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعالى بِالتَّحْرِيمِ لا يُوجِبُ تَحْرِيمَ مُباحٍ بِنَفْسِ وُرُودِ الحُكْمِ إلّا أنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلى إيجابِ تَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِن حَيْثُ حَرُمَ هو، وفائِدَتُهُ حِينَئِذٍ أنَّ ما قَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعالى بِتَحْلِيلِهِ نَصًّا فَهو مُقِرٌّ عَلى ما حَكَمَ بِهِ مِن تَحْلِيلِهِ.
وإذا حَكَمَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَجُزِ الِاعْتِراضُ عَلى المَحْكُومِ بِتَحْلِيلِهِ بَدِيًّا بِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِن طَرِيقِ القِياسِ فَمَنَعَ تَحْرِيمَ المُباحِ بِالقِياسِ، ودَلَّ بِذَلِكَ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يُجِيزُ النَّسْخَ بِالقِياسِ؛ هَذا الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ إنْ صَحَّ، فَهَذا أحَدُ الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنا، والوَجْهُ الآخَرُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: «الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ» أنَّ فِعْلَ الحَرامِ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ، فَإنْ كانَ هَذا أرادَ فَلا مَحالَةَ أنَّ في اللَّفْظِ ضَمِيرًا يَجِبُ اعْتِبارُهُ دُونَ اعْتِبارِ حَقِيقَةِ مَعْنى اللَّفْظِ، فَلا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجاجُ بِهِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما:
أنَّ الضَّمِيرَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ يُعْتَبَرُ عُمُومُهُ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجاجُ بِعُمُومِهِ، إذِ الضَّمِيرُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ حَتّى يَكُونَ لَفْظُ عُمُومٍ فِيما تَحْتَهُ مِنَ المُسَمَّياتِ، فَلا يَصِحُّ لِأحَدٍ الِاحْتِجاجُ بِعُمُومِ ضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّهُ لا يَصِحُّ اعْتِبارُ العُمُومِ فِيهِ، مِن قِبَلِ أنَّهُ لا يَصِحُّ اعْتِقادُ العُمُومِ في مِثْلِهِ لِاتِّفاقِ المُسْلِمِينَ عَلى إيجابِ تَحْرِيمِ الحَرامِ الحَلالَ وهو الوَطْءُ بِنِكاحٍ فاسِدٍ، ووَطْءِ الأمَةِ الحائِضِ والطَّلاقِ الثَّلاثِ في الحَيْضِ والظِّهارِ والخَمْرِ إذا (p-٥٦)خالَطَتِ الماءَ والرِّدَّةُ تُبْطِلُ النِّكاحَ وتُحَرِّمُها عَلى الزَّوْجِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأفْعالِ المُحَرِّمَةِ لِلْحَلالِ، فَقَوْلُهُ ﷺ: «الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ» لَوْ ورَدَ بِلَفْظِ عُمُومٍ لَما صَحَّ اعْتِقادُ العُمُومِ فِيهِ، وكانَ مَفْهُومًا مَعَ وُرُودِهِ أنَّهُ أرادَ: بَعْضَ الأفْعالِ المُحَرِّمَةِ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ، فَيَحْتاجُ إلى دَلالَةٍ في إثْباتِ حُكْمِهِ كَسائِرِ الألْفاظِ المُجْمَلَةِ. وأيْضًا لَوْ نَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلى ما ادَّعَيْتَ مِن ضَمِيرِهِ فَقالَ إنَّ فِعْلَ الحَرامِ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ، لِما دَلَّ عَلى ما ذَكَرْتَ؛ لِأنّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ فِعْلَ الحَرامِ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلى حَقِيقَتِهِ ولا دَلالَةَ فِيهِ أنَّ اللَّهَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ عِنْدَ وُقُوعِ فِعْلٍ حَرامٍ، فَإنْ قِيلَ: مَعْناهُ أنَّ اللَّهَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ بِفِعْلِ الحَرامِ. قِيلَ لَهُ: فَإذًا قَوْلُهُ: «الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ» إذا كانَ المُرادُ بِهِ ما ذَكَرْتَ مَجازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فَيَحْتاجُ إلى دَلالَةٍ في إثْباتِ حُكْمِهِ؛ إذْ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُ المَجازِ إلّا عِنْدَ قِيامِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ.
وذَكَرَ الشّافِعِيُّ أنْ مُناظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ بَعْضِ النّاسِ فِيها أُعْجُوبَةٌ لِمَن تَأمَّلَها، قالَ الشّافِعِيُّ: قالَ لِي قائِلٌ: لِمَ قُلْتَ إنَّ الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ ؟ قُلْتُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ وقالَ: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] وقالَ: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣] أفْلَسْتَ تَجِدُ التَّنْزِيلَ إنَّما يُحَرِّمُ ما سُمِّيَ بِالنِّكاحِ أوِ الدُّخُولِ والنِّكاحِ ؟ قالَ: بَلى، قالَ: قُلْتُ: أفَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ بِالحَلالِ شَيْئًا وحَرَّمَهُ بِالحَرامِ والحَرامُ ضِدُّ الحَلالِ والنِّكاحُ مَندُوبٌ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ، وحَرَّمَ الزِّنا فَقالَ: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلا﴾ [الإسراء: ٣٢]
قالَ أبُو بَكْرٍ: تَلا الشّافِعِيُّ آيَةَ التَّحْرِيمِ بِالنِّكاحِ والدُّخُولِ وآيَةَ تَحْرِيمِ الزِّنا، وهَذانِ الحُكْمانِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِما، أعْنِي إباحَةَ النِّكاحِ والدُّخُولِ وتَحْرِيمَ الزِّنا، ولَيْسَ في ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ في المَسْألَةِ؛ لِأنَّ إباحَةَ النِّكاحِ والدُّخُولِ وإيجابِ التَّحْرِيمِ بِهِما لَيْسَ فِيهِ أنَّ التَّحْرِيمَ لا يَقَعُ بِغَيْرِهِما كَما لَمْ يَنْفِ إيجابَ التَّحْرِيمِ بِالوَطْءِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وتَحْرِيمُ اللَّهِ تَعالى لِلزِّنا لا يُفِيدُ أنَّ التَّحْرِيمَ لا يَقَعُ إلّا بِهِ، فَإذًا لَيْسَ في ظاهِرِ تِلاوَةِ الآيَتَيْنِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ النِّكاحِ بِوَطْءِ الزِّنا؛ لِأنَّ آيَةَ الزِّنا إنَّما فِيها تَحْرِيمُ الزِّنا ولَيْسَ تَحْرِيمُ الزِّنا عِبارَةً عَنْ نَفْيِ إيجابِهِ لِتَحْرِيمِ النِّكاحِ ولا في إيجابِ التَّحْرِيمِ بِالنِّكاحِ والدُّخُولِ نَفْيٌ لِإيجابِهِ بِغَيْرِهِما، فَإذًا لا دَلالَةَ فِيما تَلاهُ مِنَ الآيَتَيْنِ عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ ولا جَوابًا لِلسّائِلِ الَّذِي سَألَهُ عَنِ الدَّلالَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ.
ثُمَّ قالَ: " الحَرامُ ضِدُّ الحَلالِ " فَلَمّا قالَ لَهُ السّائِلُ: فَرِّقْ بَيْنَهُما، قالَ: " قُلْتُ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُما؛ لِأنَّ اللَّهَ نَدَبَ إلى النِّكاحِ وحَرَّمَ الزِّنا "؛ (p-٥٧)فَجَعَلَ فَرْقَ اللَّهِ بَيْنَهُما في التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ دَلِيلًا عَلى السّائِلِ، والسّائِلُ لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِ إباحَةُ النِّكاحِ وتَحْرِيمُ الزِّنا وإنَّما سَألَهُ عَنْ وجْهِ الدَّلالَةِ مِنَ الآيَةِ عَلى ما ذُكِرَ، فَلَمْ يُبَيِّنْ وجْهَها واشْتَغَلَ بِأنَّ هَذا مُحَرَّمٌ وهَذا حَلالٌ، فَإنْ كانَ هَذا السّائِلُ مِن عَمى القَلْبِ بِالمَحَلِّ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بَيْنَ النِّكاحِ وبَيْنَ الزِّنا فَرْقًا مِن وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ فَمِثْلُهُ لا يَسْتَحِقُّ الجَوابَ؛ لِأنَّهُ مَئُوفُ العَقْلِ؛ إذِ العاقِلُ لا يُنْزِلُ نَفْسَهُ بِهَذِهِ المَنزِلَةِ مِنَ التَّجاهُلِ.
وإنْ كانَ قَدْ عَرَفَ الفَرْقَ بَيْنَهُما مِن جِهَةِ أنَّ أحَدَهُما مَحْظُورٌ والآخَرُ مُباحٌ وإنَّما سَألَهُ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُما في امْتِناعِ جَوازِ اجْتِماعِهِما في إيجابِ تَحْرِيمِ النِّكاحِ، فَإنَّ الشّافِعِيَّ لَمْ يُجِبْهُ عَنْ ذَلِكَ ولَمْ يَزِدْهُ عَلى تِلاوَةِ الآيَتَيْنِ في الإباحَةِ والحَظْرِ وأنَّ الحَلالَ ضِدُّ الحَرامِ؛ إذْ لَيْسَ في كَوْنِ الحَلالِ ضِدَّ الحَرامِ ما يَمْنَعُ اجْتِماعَهُما في إيجابِ التَّحْرِيمِ ألا تَرى أنَّ الوَطْءَ بِالنِّكاحِ الفاسِدِ هو حَرامٌ ووَطْءُ الحائِضِ حَرامٌ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ واتِّفاقِ المُسْلِمِينَ وهو ضِدُّ الوَطْءِ الحَلالِ وهُما مُتَساوِيانِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ، والطَّلاقُ في الحَيْضِ مَحْظُورٌ وفي الطُّهْرِ قَبْلَ الجِماعِ مُباحٌ وهُما مُتَساوِيانِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِما مِن إيجابِ التَّحْرِيمِ ؟
فَإنْ كانَ عِنْدَ الشّافِعِيِّ أنَّ القِياسَ مُمْتَنِعٌ في الضِّدَّيْنِ فَواجِبٌ أنْ لا يَجْتَمِعا أبَدًا في حُكْمٍ واحِدٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ في الشَّرِيعَةِ اجْتِماعَ الضِّدَّيْنِ في حُكْمٍ واحِدٍ وأنَّ كَوْنَهُما ضِدَّيْنِ لا يَمْنَعُ اجْتِماعَهُما في أحْكامٍ كَثِيرَةٍ، ألا تَرى أنَّ وُرُودَ النَّصِّ جائِزٌ بِمِثْلِهِ وما جازَ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ ساغَ فِيهِ القِياسُ عِنْدَ قِيامِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ ؟ فَإذا لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا في العَقْلِ ولا في الشَّرْعِ اجْتِماعُ الضِّدَّيْنِ في حُكْمٍ واحِدٍ فَقَوْلُهُ: " إنَّ الحَلالَ ضِدُّ الحَرامِ " لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُما مِن حَيْثُ سَألَهُ السّائِلُ ويَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ نَهى المُصَلِّي عَنِ المَشْيِ في الصَّلاةِ وعَنِ الِاضْطِجاعِ فِيها مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، والمَشْيُ والِاضْطِجاعُ ضِدّانِ وقَدِ اجْتَمَعا في النَّهْيِ.
ولا يُحْتاجُ في ذَلِكَ إلى الإكْثارِ؛ إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أحَدٌ مِن إجازَتِهِ؛ فَلَمْ يَحْصُلْ مِن قَوْلِ الشّافِعِيِّ: " إنَّهُما ضِدّانِ " مَعْنًى يُوجِبُ الفَرْقَ بَيْنَهُما. ثُمَّ حُكِيَ عَنِ السّائِلِ أنَّهُ قالَ: أجِدُ جِماعًا وجِماعًا فَأقِيسُ أحَدَهُما بِالآخَرِ، قالَ: " قُلْتُ: وجَدْتُ جِماعًا حَلالًا حُمِدْتَ بِهِ ووَجَدْتُ جِماعًا حَرامًا رُجِمْتَ بِهِ أفَرَأيْتَهُ يُشْبِهُهُ ؟ " قالَ: ما يُشْبِهُهُ، فَهَلْ تُوَضِّحُهُ بِأكْثَرَ مِن هَذا ؟
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ السّائِلُ أنَّهُ ما يُشْبِهُهُ، فَإنْ كانَ مُرادُهُ أنَّهُ لا يُشْبِهُهُ مِن حَيْثُ افْتَرَقا فَهَذا ما لا يُنازَعُ فِيهِ، وإنْ كانَ أرادَ لا يُشْبِهُهُ مِن حَيْثُ رامَ الجَمْعَ بَيْنَهُما مِن جِهَةِ إيجابِ التَّحْرِيمِ فَإنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ يَنْفِي الشَّبَهَ بَيْنَهُما مِن هَذِهِ الجِهَةِ، ولَيْسَ في الدُّنْيا (p-٥٨)قِياسٌ إلّا وهو تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ بِغَيْرِهِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ دُونَ جَمِيعِها، فَإنْ كانَ افْتِراقُ الشَّيْئَيْنِ مِن وجْهٍ يُوجِبُ الفَرْقَ بَيْنَهُما مِن سائِرِ الوُجُوهِ فَإنَّ في ذَلِكَ إبْطالَ القِياسِ أصْلًا؛ إذْ لَيْسَ يَجُوزُ وُجُودُ القِياسِ فِيما اشْتَبَها فِيهِ مِن سائِرِ الوُجُوهِ؛ فَقَدْ بانَ أنَّ ما قالَهُ الشّافِعِيُّ وما سَلَّمَهُ لَهُ السّائِلُ كَلامٌ فارِغٌ لا مَعْنًى تَحْتَهُ في حُكْمِ ما سُئِلَ عَنْهُ. ثُمَّ قالَ لَهُ السّائِلُ: هَلْ تُوَضِّحُهُ بِأكْثَرَ مِن هَذا ؟ قالَ: " نَعَمْ، أفَتَجْعَلُ الحَلالَ الَّذِي هو نِعْمَةٌ قِياسًا عَلى الحَرامِ الَّذِي هو نِقْمَةٌ ؟ " وهَذا هو تَكْرارٌ لِلْمَعْنى الأوَّلِ بِزِيادَةِ النِّعْمَةِ والنِّقْمَةِ، والسُّؤالُ قائِمٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِما تَقْتَضِيهِ مُطالَبَةُ السّائِلِ بَيانَ وجْهِ الدَّلالَةِ في مَنعِ هَذا القِياسِ، وهو قَدْ جَعَلَ هَذا الحَرامَ الَّذِي هو نِقْمَةٌ وهو وطْءُ الحائِضِ والجارِيَةِ المَجُوسِيَّةِ والوَطْءُ بِالنِّكاحِ الفاسِدِ بِمَنزِلَةِ الحَلالِ الَّذِي هو نِعْمَةٌ في إيجابِ التَّحْرِيمِ، فانْتَقَضَ ما ذَكَرَهُ وادَّعاهُ مِن غَيْرِ دَلالَةٍ أقامَها عَلَيْهِ.
وحَكى عَنِ السّائِلِ أنَّهُ قالَ: إنَّ صاحِبَنا قالَ: يُوجِدُكم أنَّ الحَرامَ يُحَرِّمُ الحَلالَ ؟ قالَ: " قُلْتُ لَهُ: أفِيما اخْتَلَفْنا فِيهِ مِنَ النِّساءِ ؟ " قالَ: لا، ولَكِنْ في غَيْرِهِ مِنَ الصَّلاةِ والمَشْرُوبِ والنِّساءِ قِياسٌ عَلَيْهِ، قالَ: " قُلْتُ: أفَتُجِيزُ لِغَيْرِكَ أنْ يَجْعَلَ الصَّلاةَ قِياسًا عَلى النِّساءِ ؟ " قالَ: أمّا في شَيْءٍ فَلا.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَمَنَعَ الشّافِعِيُّ بِهَذا أنْ يَقِيسَ تَحْرِيمَ الحَرامِ الحَلالَ مِن غَيْرِ النِّساءِ عَلى النِّساءِ مَعَ إطْلاقِهِ القَوْلَ بَدِيًّا أنَّهُ إنَّما لَمْ يُجِزْ قِياسَ الزِّنا عَلى الوَطْءِ المُباحِ؛ لِأنَّهُ حَرامٌ وهو ضِدُّ الحَلالِ والحَلالُ نِعْمَةٌ والحَرامُ نِقْمَةٌ، مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِذَلِكَ بِأنَّ هَذِهِ القَضِيَّةَ في مَنعِ القِياسِ مَقْصُورَةٌ عَلى النِّساءِ دُونَ غَيْرِهِنَّ، وإطْلاقُهُ الِاعْتِلالَ بِالفَرْقِ الَّذِي ذُكِرَ يَلْزَمُهُ إجْراؤُهُ في سائِرِ ما وُجِدَ فِيهِ، فَإذا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ناقَضَ. ثُمَّ يُقالُ لَهُ: فَإذا جازَ تَحْرِيمُ الحَرامِ الحَلالَ في غَيْرِ النِّساءِ هَلّا جازَ مِثْلُهُ في النِّساءِ مَعَ كَوْنِ أحَدِهِما ضِدًّا لِلْآخَرِ وكَوْنِ أحَدِهِما نِعْمَةً والآخَرِ نِقْمَةً، كَما كانَ الوَطْءُ بِمِلْكِ اليَمِينِ مِثْلَ الوَطْءِ بِالنِّكاحِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ مَعَ كَوْنِ مِلْكِ اليَمِينِ ضِدًّا لِلنِّكاحِ ألا تَرى أنَّ مِلْكَ اليَمِينِ والنِّكاحَ لا يَجْتَمِعانِ لِرَجُلٍ واحِدٍ ؟
وحَكى عَنِ السّائِلِ أنَّهُ قالَ لَهُ: إنَّ الصَّلاةَ حَلالٌ والكَلامَ فِيها حَرامٌ فَإذا تَكَلَّمَ فِيها فَسَدَتْ عَلَيْهِ صَلاتُهُ فَقَدْ أفْسَدَ الحَلالَ بِالحَرامِ، قالَ: " قُلْتُ لَهُ: زَعَمْتَ أنَّ الصَّلاةَ فاسِدَةٌ والصَّلاةُ لا تَكُونُ فاسِدَةً، ولَكِنَّ الفاسِدَ فِعْلُهُ لا هي، ولَكِنْ لا تُجْزِي عَنْكَ الصَّلاةُ؛ لِأنَّكَ لَمْ تَأْتِ بِها كَما أُمِرْتَ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ما ظَنَنْتُ أنَّ أحَدًا مِمَّنْ يُنْتَدَبُ لِمُناظَرَةِ خَصْمٍ يَبْلُغُ بِهِ الإفْلاسُ مِنَ الحِجاجِ إلى أنْ يَلْجَأ إلى مِثْلِ هَذا مَعَ سَخافَةِ عَقْلِ السّائِلِ وغَباوَتِهِ، وذَلِكَ؛ لِأنَّ أحَدًا لا يَمْتَنِعُ مِن إطْلاقِ القَوْلِ (p-٥٩)بِفَسادِ صَلاتِهِ إذا فَعَلَ فِيها ما يُوجِبُ بُطْلانَها كَما لا يَمْتَنِعُ مِن إطْلاقِ القَوْلِ بِفَسادِ النِّكاحِ إذا وُجِدَ فِيهِ ما يُبْطِلُهُ، فَإنْ كانَ الَّذِي أوْجَبَ الفَرْقَ بَيْنَهُما أنَّهُ لا يُطْلَقُ اسْمُ الفَسادِ عَلى الصَّلاةِ مَعَ بُطْلانِها مَعَ إطْلاقِ النّاسِ كُلِّهِمْ ذَلِكَ فِيها فَإنَّهُ لا يُعْوِزُ خَصْمَهُ أنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ في النِّكاحِ: إنِّي لا أقُولُ إنَّ نِكاحَهُ يَفْسُدُ والنِّكاحُ لا يَكُونُ فاسِدًا وإنَّما فِعْلُهُ وهو الزِّنا هو الفاسِدُ فَأمّا النِّكاحُ فَلَمْ يَفْسُدْ ولَكِنَّ المَرْأةَ بانَتْ مِنهُ وخَرَجَتْ مِن حِبالِهِ؛ فَهُما سَواءٌ مِن هَذا الوَجْهِ.
ثُمَّ يُقالُ لَهُ: أحْسَبُ أنّا قَدْ سَلَّمْنا لَكَ ما ادَّعَيْتَ مِنِ امْتِناعِ اسْمِ الفَسادِ عَلى الصَّلاةِ الَّتِي قَدْ بَطَلَتْ، ألَيْسَ السُّؤالُ قائِمًا عَلَيْكَ في المَعْنى؛ إذْ سَلَّمْنا لَكَ الِاسْمَ ؟ وهو أنْ يُقالَ لَكَ: ما أنْكَرْتَ أنَّهُ لَمّا جازَ خُرُوجُ المُتَكَلِّمِ مِنَ الصَّلاةِ ولَمْ تُجِزْ عَنْهُ لِأجْلِ الكَلامِ المَحْظُورِ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ المَرْأةِ فَلا يَبْقى نِكاحُها بَعْدَ وطْءِ أُمِّها بِزِنًا كَما لَمْ تَبْقَ الصَّلاةُ بَعْدَ الكَلامِ فَتَبِينُ مِنهُ امْرَأتُهُ وتَخْرُجُ مِن حِبالِهِ كَما خَرَجَ مِنَ الصَّلاةِ ؟ ويَلْزَمُ الشّافِعِيَّ عَلى هَذا أنْ لا يُطْلِقَ في شَيْءٍ مِنَ البُيُوعِ أنَّهُ فاسِدٌ وكَذَلِكَ سائِرُ العُقُودِ، وإنَّما يُقالُ فِيها إنَّها غَيْرُ مُجْزِيَةٍ ولا مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ؛ وهَذا إنَّما هو مَنعٌ لِلْعِبارَةِ، وإنَّما الكَلامُ عَلى المَعانِي لا عَلى العِباراتِ والأسامِي.
وذَكَرَ الشّافِعِيُّ عَنْ سائِلِهِ أنَّهُ قالَ: إنَّ صاحِبَنا قالَ: الماءُ حَلالٌ والخَمْرُ حَرامٌ فَإذا صُبَّ الماءُ في الخَمْرِ حُرِّمَ الماءُ. قالَ: " قُلْتُ لَهُ: أرَأيْتَ إنْ صَبَبْتُ الماءَ في الخَمْرِ أما يَكُونُ الماءُ الحَلالُ مُسْتَهْلَكًا في الحَرامِ ؟ قالَ: بَلى، قُلْتُ: أتَجِدُ المَرْأةَ مُحَرَّمَةً عَلى كُلِّ أحَدٍ كَما تَجِدُ الخَمْرَ مُحَرَّمَةً عَلى كُلِّ أحَدٍ ؟ قالَ: لا، قُلْتُ: أتَجِدُ المَرْأةَ وبِنْتَها مُخْتَلِطَتَيْنِ كاخْتِلاطِ الماءِ والخَمْرِ ؟ قالَ: لا، قُلْتُ: أفَتَجِدُ القَلِيلَ مِنَ الخَمْرِ إذا صُبَّ في كَثِيرِ الماءِ نَجِسَ ؟ قالَ: لا، قُلْتُ: أفَتَجِدُ قَلِيلَ الزِّنا والقُبْلَةَ واللَّمْسَ لِلشَّهْوَةِ لا يَحْرُمُ ويَحْرُمُ كَثِيرُهُ ؟ قالَ: لا، قالَ: فَلا يُشْبِهُ أمْرُ النِّساءِ الخَمْرَ والماءَ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا أيْضًا مِن طَرِيقِ الفُرُوقِ، واَلَّذِي ذُكِرَ في تَحْرِيمِ الخَمْرِ لِلْماءِ يُحْكى عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ احْتَجَّ بِهِ عَلى يَحْيى بْنِ مَعِينٍ حِينَ قالَ: " الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ " وهو إلْزامٌ صَحِيحٌ عَلى مَن يَنْفِي التَّحْرِيمَ لِهَذِهِ العِلَّةِ لِوُجُودِها فِيهِ؛ إذْ لَمْ تَكُنِ العِلَّةُ في مَنعِ تَحْرِيمِ الحَرامِ الحَلالَ أنَّهُما غَيْرُ مُخْتَلِطَيْنِ وأنَّ قَلِيلَ الزِّنا يَحْرُمُ، وإنَّما كانَتْ عِلَّتُهُ أنَّ الحَرامَ ضِدُّ الحَلالِ وأنَّ الحَلالَ نِعْمَةٌ والحَرامَ نِقْمَةٌ، ولَمْ نَرَهُ احْتَجَّ بِغَيْرِهِ في جَمِيعِ ما ناظَرَ بِهِ السّائِلَ، والفُرُوقُ الَّتِي ذَكَرَها إنَّما هي فُرُوقٌ مِن وُجُوهٍ أُخَرَ تَزِيدُ عِلَّتُهُ انْتِقاضًا لَوُجُودِها مَعَ عَدَمِ الحُكْمِ؛ وعَلى أنَّهُ إنْ كانَ التَّحْرِيمُ مَقْصُورًا عَلى الِاخْتِلاطِ وتَعَذَّرَ تَمْيِيزُ المَحْظُورِ مِنَ المُباحِ فَيَنْبَغِي أنْ (p-٦٠)لا يَحْرُمَ الوَطْءُ المُباحُ لِعَدَمِ الِاخْتِلاطِ، وكَذَلِكَ الوَطْءُ بِالنِّكاحِ الفاسِدِ وسائِرِ ضُرُوبِ الوَطْءِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، إذْ كانَتِ المَرْأةُ مُتَمَيِّزَةً عَنْ أُمٍّ فَهُما غَيْرُ مُخْتَلِطَتَيْنِ، فَإذا جازَ أنْ يَقَعَ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الوُجُوهِ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِلاطِ فَما أُنْكِرَ مِثْلُهُ في الزِّنا وقَدْ بَيَّنّا في صَدْرِ المَسْألَةِ دَلالَةَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣] عَلى وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِالزِّنا، فَلَمْ يَحْصُلْ مِن كَلامِ الشّافِعِيِّ دَلالَةٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ ولا شُبْهَةَ عَلى ما سُئِلَ عَنْهُ.
ثُمَّ حَكى الشّافِعِيُّ عَنْ سائِلِهِ هَذا لَمّا فَرَّقَ لَهُ بَيْنَ الماءِ والخَمْرِ وبَيْنَ النِّساءِ بِما ذَكَرَ أنَّهُ لا يُشْبِهُ أمْرُ النِّساءِ الخَمْرَ والماءَ، قالَ الشّافِعِيُّ: " فَقُلْتُ لَهُ: وكَيْفَ قَبِلْتَ هَذا مِنهُ ؟ فَقالَ: ما بَيَّنَ لَنا أحَدٌ بَيانَكَ لَنا، ولَوْ عَلِمَ صاحِبُنا بِهِ لَظَنَنْتُ أنَّهُ لا يُقِيمُ عَلى قَوْلِهِ ولَكِنْ غَفَلَ وضَعُفَ عَنْ كَلامِهِ، قالَ: فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِمْ وقالَ الحَقُّ عِنْدِي في قَوْلِكم ولَمْ يَصْنَعْ صاحِبُنا شَيْئًا " .
ولا نَدْرِي مَن كانَ هَذا السّائِلُ ولا مَن صاحِبُهُمُ الَّذِي قالَ لَوْ عَلِمَ صاحِبُنا بِهَذِهِ الفُرُوقِ لَظَنَّ أنَّهُ لا يُقِيمُ عَلى قَوْلِهِ، وقَدْ بانَ عَمى قَلْبِ هَذا السّائِلِ بِتَسْلِيمِهِ لِلشّافِعِيِّ جَمِيعَ ما ادَّعاهُ مِن غَيْرِ مُطالَبَةٍ لَهُ بِوَجْهِ الدَّلالَةِ عَلى المَسْألَةِ فِيما ذَكَرَ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ رَجُلًا عامِّيًّا لَمْ يَرْتَضْ بِشَيْءٍ مِنَ الفِقْهِ، إلّا أنَّهُ قَدِ انْتَظَمَ بِذَلِكَ شَيْئَيْنِ:
أحَدُهُما: الجَهْلُ والغَباوَةُ بِما وقَفْنا عَلَيْهِ مِن مُناظَرَتِهِ وتَسْلِيمِهِ ما لا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ ومُطالَبَتِهِ لِلْمَسْؤُولِ بِالفُرُوقِ الَّتِي لا تُوجِبُ فَرْقًا في مَعانِي العِلَلِ والمُقايَساتِ، ثُمَّ انْتِقالُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إلى مَذْهَبِهِ عَلى ما زَعَمَ وتَرْكُهُ لِقَوْلِ أصْحابِهِ، والآخَرُ: قِلَّةُ العَقْلِ، وذَلِكَ أنَّهُ ظَنَّ أنَّ صاحِبَهُ لَوْ سَمِعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، فَقَضى بِالظَّنِّ عَلى غَيْرِهِ فِيما لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ.
وسُرُورُ الشّافِعِيِّ بِمُناظَرَةِ مِثْلِهِ وانْتِقالُهُ إلى مَذْهَبِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُما كانا مُتَقارِبَيْنِ في المُناظَرَةِ، وإلّا فَلَوْ كانَ عِنْدَهُ في مَعْنى المُبْتَدِئِ والمُغَفَّلِ العامِّيِّ لَما أثْبَتَ مُناظَرَتَهُ إيّاهُ في كِتابِهِ، ولَوْ كُلِّمَ بِذَلِكَ المُبْتَدِئُونَ مِن أحْداثِ أصْحابِنا لَما خَفِيَ عَلَيْهِمْ عَوارُ هَذا الحِجاجِ وضَعْفُ السّائِلِ والمَسْؤُولِ فِيهِ.
وقَدْ ذَكَرَ الشّافِعِيُّ أنَّهُ قالَ لِمُناظِرِهِ: " جَعَلْتَ الفُرْقَةَ إلى المَرْأةِ بِتَقْبِيلِها ابْنَ زَوْجِها واللَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الفُرْقَةَ إلَيْها ؟ قالَ: فَقالَ: فَأنْتَ تَزْعُمُ أنَّها تَحْرُمُ عَلى زَوْجِها إذا ارْتَدَّتْ ؟ قالَ: قُلْتُ: وأقُولُ إنْ رَجَعَتْ وهي في العِدَّةِ فَهُما عَلى النِّكاحِ، أفَتَزْعُمْ أنْتَ في الَّتِي تُقَبِّلُ ابْنَ زَوْجِها مِثْلَهُ ؟ قالَ: لا "
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأنْكَرَ عَلى خَصْمِهِ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ مِن قِبَلِ المَرْأةِ، ثُمَّ قالَ هو بِها وجَعَلَ إلَيْها الرَّجْعَةَ كَما جَعَلَ إلَيْها التَّحْرِيمَ. ثُمَّ قالَ الشّافِعِيُّ: " فَأقُولُ إنْ مَضَتِ العِدَّةُ فَرَجَعَتْ إلى الإسْلامِ كانَ لِزَوْجِها أنْ (p-٦١)يَنْكِحَها، أفَتَزْعُمُ في الَّتِي تُقَبِّلُ ابْنَ زَوْجِها مِثْلَهُ ؟ قالَ: والمُرْتَدَّةُ تَحْرُمُ عَلى النّاسِ كُلِّهِمْ حَتّى تُسْلِمَ، وتَقْبِيلُ ابْنِ الزَّوْجِ لَيْسَ كَذَلِكَ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَناقَضَ عَلى أصْلِهِ فِيما أنْكَرَهُ عَلى خَصْمِهِ؛ ثُمَّ أخَذَ في ذِكْرِ الفُرُوقِ عَلى النَّحْوِ الَّذِي مَضى مِن كَلامِهِ، ولَمْ أذْكُرْ ذَلِكَ؛ لِأنَّ في مِثْلِهِ شُبْهَةً عَلى مِنَ ارْتاضَ بِشَيْءٍ مِنَ النَّظَرِ ولَكِنْ لِأُبَيِّنَ مَقادِيرَ عُلُومِ مُخالِفِي أصْحابِنا ومَحَلَّهم مِنَ النَّظَرِ.
وأمّا ما حُكِيَ عَنْ عُثْمانَ البَتِّيِّ في فَرْقِهِ بَيْنَ الزِّنا بِأُمِّ المَرْأةِ بَعْدَ التَّزْوِيجِ وقَبْلَهُ فَلا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ ما يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لا يَخْتَلِفُ في إيجابِهِ ذَلِكَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ وقَبْلَهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الرَّضاعَ لَمّا كانَ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ المُؤَبَّدِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ في إيجابِهِ ذَلِكَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وبَعْدَهُ، إنَّما قالَ أصْحابُنا: إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالرَّجُلِ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهُ ولا بِنْتُهُ، مِن قِبَلِ أنَّ هَذِهِ الحُرْمَةَ إنَّما هي مُتَعَلِّقَةٌ بِمَن يَصِحُّ عَقْدُ النِّكاحِ عَلَيْها ويَجُوزُ أنْ تُمَلَّكَ بِهِ، فَيَكُونُ الوَطْءُ المُحَرَّمُ فِيها بِمَنزِلَةِ الوَطْءِ الحَلالِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ، فَلَمّا لَمْ يَصِحَّ وُجُودُ ذَلِكَ في الرَّجُلِ عَلى الوَجْهِ المُباحِ ولا يَجُوزُ أنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ بِالعَقْدِ مِنهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ لَمَسَ الرَّجُلَ بِشَهْوَةٍ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ في إيجابِ تَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ ؟ واللَّمْسُ بِمَنزِلَةِ الوَطْءِ في المَرْأةِ عِنْدَ الجَمِيعِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَلَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ اللَّمْسَ لا حُكْمَ لَهُ في الرَّجُلِ في حُكْمِ تَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ كانَ كَذَلِكَ ما سِواهُ مِنَ الوَطْءِ وفي ذَلِكَ الدَّلالَةُ مِن وجْهَيْنِ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْنا، أحَدُهُما: أنَّ لَمْسَ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ لِشَهْوَةٍ لَمّا لَمْ يَكُنْ مِمّا يَصِحُّ أنْ يُمْلَكَ بِعَقْدِ النِّكاحِ ولَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ كانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الوَطْءِ؛ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يَمْلِكَ بِعَقْدِ النِّكاحِ.
والثّانِي: أنَّ اللَّمْسَ عِنْدَ الجَمِيعِ في المَرْأةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الوَطْءِ، ألا تَرى أنَّ الجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ لَمْسَ المَرْأةِ الزَّوْجَةِ يُحَرِّمُ بِنْتَها كَما يُحَرِّمُها الوَطْءُ ؟ وكَذَلِكَ لَمْسُ الجارِيَةِ بِمِلْكِ اليَمِينِ يُوجِبُ مِنَ التَّحْرِيمِ ما يُوجِبُهُ الوَطْءُ، وكَذَلِكَ مَن حُرِّمَ بِوَطْءِ الزِّنا حُرِّمَ بِاللَّمْسِ؛ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ لَمْسُ الرَّجُلِ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ وطْئِهِ لِاسْتِوائِهِما في المَرْأةِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: واتَّفَقَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ ومالِكٌ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ أنَّ اللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ بِمَنزِلَةِ الجِماعِ في تَحْرِيمِ أُمِّ المَرْأةِ وبِنْتِها، فَكُلُّ مَن حُرِّمَ بِالوَطْءِ الحَرامِ أوْجَبَهُ بِاللَّمْسِ إذا كانَ لِشَهْوَةٍ، ومَن لَمْ يُوجِبْهُ بِالوَطْءِ الحَرامِ. لَمْ يُوجِبْهُ بِاللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ، ولا خِلافَ أنَّ اللَّمْسَ المُباحَ في الزَّوْجَةِ ومِلْكِ اليَمِينِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الأُمِّ والبِنْتِ إلّا شَيْئًا يُحْكى عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ أنَّهُ قالَ: " لا تَحْرُمُ بِاللَّمْسِ وإنَّما تَحْرُمُ بِالوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ مِثْلُهُ الحَدَّ "، وهو قَوْلٌ شاذٌّ قَدْ سَبَقَهُ (p-٦٢)الإجْماعُ بِخِلافِهِ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في النَّظَرِ هَلْ يَحْرُمُ أمْ لا، فَقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا: " إذا نَظَرَ إلى فَرْجِها لِشَهْوَةٍ كانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ اللَّمْسِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ، ولا يُحَرِّمُ النَّظَرُ لِلشَّهْوَةِ إلى غَيْرِ الفَرْجِ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " إذا نَظَرَ إلى فَرْجِها مُتَعَمِّدًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّها وابْنَتُها " ولَمْ يُشْتَرَطْ أنْ يَكُونَ لِشَهْوَةٍ. وقالَ مالِكٌ: " إذا نَظَرَ إلى شَعْرِ جارِيَتِهِ أوْ صَدْرِها أوْ ساقِها أوْ شَيْءٍ مِن مَحاسِنِها تَلَذُّذًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّها وابْنَتُها " . وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى والشّافِعِيُّ: " النَّظَرُ لا يُحَرِّمُ ما لَمْ يَلْمِسْ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: رَوى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ أبِي هانِئٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن نَظَرَ إلى فَرْجِ امْرَأةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّها وابْنَتُها» .
ورَوى حَمّادٌ عَنْ إبْراهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: " لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلى رَجُلٍ نَظَرَ إلى فَرْجِ امْرَأةٍ وابْنَتِها " ورَوى الأوْزاعِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ " أنَّ عُمَرَ جَرَّدَ جارِيَةً لَهُ، فَسَألَهُ إيّاها بَعْضُ ولَدِهِ، فَقالَ: إنَّها لا تَحِلُّ لَكَ " .
ورَوى حَجّاجٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " أنَّهُ جَرَّدَ جارِيَةً ثُمَّ سَألَهُ إيّاها بَعْضُ ولَدِهِ، فَقالَ: إنَّها لا تَحِلُّ لَكَ " .
ورَوى المُثَنّى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: " أيُّما رَجُلٍ جَرَّدَ جارِيَةً لَهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ مِنها يُرِيدُ ذَلِكَ الأمْرَ فَإنَّها لا تَحِلُّ لابْنِهِ " . وعَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: كَتَبَ مَسْرُوقٌ إلى أهْلِهِ قالَ: " اُنْظُرُوا جارِيَتِي فُلانَةَ فَبِيعُوها فَإنِّي لَمْ أُصِبْ مِنها إلّا ما حَرَّمَها عَلَيَّ ولَدِي مِنَ اللَّمْسِ والنَّظَرِ " وهو قَوْلُ الحَسَنِ والقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ومُجاهِدٍ وإبْراهِيمَ. فاتَّفَقَ هَؤُلاءِ السَّلَفُ عَلى إيجابِ التَّحْرِيمِ بِالنَّظَرِ واللَّمْسِ، وإنَّما خَصَّ أصْحابُنا النَّظَرَ إلى الفَرْجِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ دُونَ النَّظَرِ إلى سائِرِ البَدَنِ لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن نَظَرَ إلى فَرْجِ امْرَأةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّها ولا ابْنَتُها» فَخَصَّ النَّظَرَ إلى الفَرْجِ بِإيجابِ التَّحْرِيمِ دُونَ النَّظَرِ إلى سائِرِ البَدَنِ؛ وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ ولَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِما مِنَ السَّلَفِ خِلافُهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ النَّظَرَ إلى الفَرْجِ مَخْصُوصٌ بِإيجابِ التَّحْرِيمِ دُونَ غَيْرِهِ. وكانَ القِياسُ أنْ لا يَقَعَ تَحْرِيمٌ بِالنَّظَرِ إلى الفَرْجِ كَما لا يَقَعُ بِالنَّظَرِ إلى غَيْرِهِ مِن سائِرِ البَدَنِ، إلّا أنَّهم تَرَكُوا القِياسَ فِيهِ لِلْأثَرِ واتِّفاقِ السَّلَفِ، ولَمْ يُوجِبُوهُ بِالنَّظَرِ إلى غَيْرِ الفَرْجِ وإنْ كانَ لِشَهْوَةٍ عَلى ما يَقْتَضِيهِ القِياسُ.
ألا تَرى أنَّ النَّظَرَ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ في سائِرِ الأُصُولِ ؟ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ نَظَرَ وهو مُحْرِمٌ أوْ صائِمٌ فَأمْنى لا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ولَوْ كانَ الإنْزالُ عَنْ لَمْسٍ فَسَدَ صَوْمُهُ ولَزِمَهُ دَمٌ لِإحْرامِهِ ؟ فَعَلِمْتَ أنَّ النَّظَرَ مِن غَيْرِ لَمْسٍ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنا: إنَّ القِياسَ أنْ لا يُحَرِّمَ النَّظَرُ شَيْئًا، إلّا أنَّهم تَرَكُوا القِياسَ في النَّظَرِ إلى الفَرْجِ خاصَّةً لِما ذَكَرْنا.
ويُحْتَجُّ لِمَذْهَبِ ابْنِ شُبْرُمَةَ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] (p-٦٣)واللَّمْسُ لَيْسَ بِدُخُولٍ، فَلا يُحَرِّمُ. والجَوابُ عَنْهُ أنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أنْ يُرِيدَ الدُّخُولَ أوْ ما يَقُومُ مَقامَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾ [البقرة: ٢٣٠] فَذَكَرَ الطَّلاقَ ومَعْناهُ الطَّلاقُ أوْ ما يَقُومُ مَقامَهُ، ويَكُونُ دَلالَتُهُ ما ذَكَرْنا مِن قَوْلِ السَّلَفِ واتِّفاقِهِمْ مِن غَيْرِ مُخالِفٍ لَهم عَلى إيجابِ التَّحْرِيمِ بِاللَّمْسِ. ولا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ عَقْدَ النِّكاحِ عَلى امْرَأةٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَها عَلى الِابْنِ.
ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ ومُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وإبْراهِيمَ وعَطاءٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ
{"ayah":"وَلَا تَنكِحُوا۟ مَا نَكَحَ ءَابَاۤؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَمَقۡتࣰا وَسَاۤءَ سَبِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق