الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ وسَعى في خَرابِها أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلَ: المَسْألَةُ الأُولى: أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ مُجَرَّدَ بَيانِ الشَّرْطِ والجَزاءِ، أعْنِي مُجَرَّدَ بَيانِ أنَّ مَن فَعَلَ كَذا، فَإنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِهِ كَذا، بَلِ المُرادُ مِنهُ بَيانُ أنَّ مِنهم مَن مَنَعَ عِمارَةَ المَساجِدِ، وسَعى في خَرابِها، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى جازاهم بِما ذَكَرَ في الآيَةِ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في أنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مِن عِمارَةِ المَسْجِدِ وسَعَوْا في خَرابِهِ مَن هم ؟ وذَكَرُوا فِيهِ أرْبَعَةَ أوْجُهٍ: أوَّلُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أنَّ مَلِكَ النَّصارى غَزا بَيْتَ المَقْدِسِ فَخَرَّبَهُ، وألْقى فِيهِ الجِيَفَ، وحاصَرَ أهْلَهُ وقَتَلَهم، وسَبى البَقِيَّةَ وأحْرَقَ التَّوْراةَ، ولَمْ يَزَلْ بَيْتُ المَقْدِسِ خَرابًا حَتّى بَناهُ أهْلُ الإسْلامِ في زَمَنِ عُمَرَ. وثانِيها: قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ في بُخْتُنَصَّرَ حَيْثُ خَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وبَعْضُ النَّصارى أعانَهُ عَلى ذَلِكَ بُغْضًا لِلْيَهُودِ. قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في أحْكامِ القُرْآنِ: هَذانِ الوَجْهانِ غَلَطانِ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ بِالسِّيَرِ أنَّ عَهْدَ بُخْتُنَصَّرَ كانَ قَبْلَ مَوْلِدِ المَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، والنَّصارى كانُوا بَعْدَ المَسِيحِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَ بُخْتُنَصَّرَ في تَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأيْضًا فَإنَّ النَّصارى يَعْتَقِدُونَ في تَعْظِيمِ بَيْتِ المَقْدِسِ مِثْلَ اعْتِقادِ اليَهُودِ وأكْثَرَ، فَكَيْفَ أعانُوا عَلى تَخْرِيبِهِ. وثالِثُها: أنَّها نَزَلَتْ في مُشْرِكِي العَرَبِ الَّذِينَ مَنَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنِ الدُّعاءِ إلى اللَّهِ بِمَكَّةَ وألْجَئُوهُ إلى الهِجْرَةِ، فَصارُوا مانِعِينَ لَهُ ولِأصْحابِهِ أنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ في المَسْجِدِ الحَرامِ، وقَدْ كانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَنى مَسْجِدًا عِنْدَ دارِهِ، فَمُنِعَ، وكانَ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ وِلْدانُ قُرَيْشٍ ونِساؤُهم، وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها﴾ [الإسراء: ١١٠] نَزَلَتْ في ذَلِكَ، فَمُنِعَ مِنَ الجَهْرِ لِئَلّا يُؤْذى، وطَرَحَ أبُو جَهْلٍ العَذِرَةَ عَلى ظَهْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَقِيلَ: ومَن أظْلَمُ مِن هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُوَحِّدُونَ اللَّهَ ولا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، ويُصَلُّونَ لَهُ تَذَلُّلًا وخُشُوعًا، ويَشْغَلُونَ قُلُوبَهم بِالفِكْرِ فِيهِ، وألْسِنَتَهم بِالذِّكْرِ لَهُ، وجَمِيعَ جَسَدِهِمْ بِالتَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ وسُلْطانِهِ. ورابِعُها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ مِنهُ الَّذِينَ صَدُّوهُ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ حِينَ ذَهَبَ إلَيْهِ مِنَ المَدِينَةِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، واسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [الفتح: ٢٥] وبِقَوْلِهِ: ﴿وما لَهم ألّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وهم يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [الأنفال: ٣٤] وحَمَلَ قَوْلَهُ: ﴿إلّا خائِفِينَ﴾ بِما يُعْلِي اللَّهُ مِن يَدِهِ، ويُظْهِرُ مِن كَلِمَتِهِ، كَما قالَ في المُنافِقِينَ: ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٠] وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ خامِسٌ، وهو أقْرَبُ إلى رِعايَةِ النَّظْمِ: وهو أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَمّا حُوِّلَتِ القِبْلَةُ إلى الكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلى اليَهُودِ، فَكانُوا يَمْنَعُونَ النّاسَ عَنِ الصَّلاةِ عِنْدَ تَوَجُّهِهِمْ إلى الكَعْبَةِ، (p-١٠)ولَعَلَّهم سَعَوْا أيْضًا في تَخْرِيبِ الكَعْبَةِ بِأنْ حَمَلُوا بَعْضَ الكُفّارِ عَلى تَخْرِيبِها، وسَعَوْا أيْضًا في تَخْرِيبِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ لِئَلّا يُصَلُّوا فِيهِ مُتَوَجِّهِينَ إلى القِبْلَةِ، فَعابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وبَيَّنَ سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ فِيهِ، وهَذا التَّأْوِيلُ أوْلى مِمّا قَبْلَهُ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَذْكُرْ في الآياتِ السّابِقَةِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ إلّا قَبائِحَ أفْعالِ اليَهُودِ والنَّصارى، وذَكَرَ أيْضًا بَعْدَها قَبائِحَ أفْعالِهِمْ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الواحِدَةِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها قَبائِحَ أفْعالِ المُشْرِكِينَ في صَدِّهِمُ الرَّسُولَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وأمّا حَمْلُ الآيَةِ عَلى سَعْيِ النَّصارى في تَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَضَعِيفٌ أيْضًا عَلى ما شَرَحَهُ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا ما قُلْناهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في كَيْفِيَّةِ اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وُجُوهٌ: فَأمّا مَن حَمَلَها عَلى النَّصارى وخَرابِ بَيْتِ المَقْدِسِ، قالَ: تَتَّصِلُ بِما قَبْلَها مِن حَيْثُ إنَّ النَّصارى ادَّعَوْا أنَّهم مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَقَطْ، فَقِيلَ لَهم: كَيْفَ تَكُونُونَ كَذَلِكَ مَعَ أنَّ مُعامَلَتَكم في تَخْرِيبِ المَساجِدِ والسَّعْيِ في خَرابِها هَكَذا. وأمّا مَن حَمَلَهُ عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، وسائِرِ المَساجِدِ، قالَ: جَرى ذِكْرُ مُشْرِكِي العَرَبِ في قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ [البقرة: ١١٣] وقِيلَ: جَرى ذِكْرُ جَمِيعِ الكُفّارِ وذَمُّهم، فَمَرَّةً وجَّهَ الذَّمَّ إلى اليَهُودِ والنَّصارى، ومَرَّةً إلى المُشْرِكِينَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مَساجِدَ اللَّهِ﴾ عُمُومٌ، فَمِنهم مَن قالَ: المُرادُ بِهِ كُلُّ المَساجِدِ، ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى ما ذَكَرْناهُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ وغَيْرِهِ مِن مَساجِدِ مَكَّةَ، وقالُوا: قَدْ كانَ لِأبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَسْجِدٌ بِمَكَّةَ يَدْعُو اللَّهَ فِيهِ، فَخَرَّبُوهُ قَبْلَ الهِجْرَةِ، ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ فَقَطْ، وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ حَيْثُ فَسَّرَ المَنعَ بِصَدِّ الرَّسُولِ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ المَساجِدِ عَلى مَسْجِدٍ واحِدٍ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: هَذا كَمَنَ يَقُولُ لِمَن آذى صالِحًا واحِدًا: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ آذى الصّالِحِينَ. وثانِيها: أنَّ المَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ، فالمَسْجِدُ الحَرامُ لا يَكُونُ في الحَقِيقَةِ مَسْجِدًا واحِدًا بَلْ مَساجِدَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾ في مَحَلِّ النَّصْبِ، واخْتَلَفُوا في العامِلِ فِيهِ عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ ثانِي مَفْعُولَيْ ”مَنَعَ“ لِأنَّكَ تَقُولُ: مَنَعْتُهُ كَذا، ومِثْلُهُ: ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ﴾ [الإسراء: ٥٩] ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا﴾ [الإسراء: ٩٤] . الثّانِي: قالَ الأخْفَشُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ ”مِن“، كَأنَّهُ قِيلَ: مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ مِن أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ عَلى البَدَلِ مِن ”مَساجِدَ اللَّهِ“ . الرّابِعُ: قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى مَعْنى: كَراهَةَ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، والعامِلُ فِيهِ ”مَنَعَ“ . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: السَّعْيُ في تَخْرِيبِ المَسْجِدِ قَدْ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مَنعُ المُصَلِّينَ والمُتَعَبِّدِينَ والمُتَعَهِّدِينَ لَهُ مِن دُخُولِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْرِيبًا. والثّانِي: بِالهَدْمِ والتَّخْرِيبِ، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَصِحُّ أنْ يُتَأوَّلَ عَلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ، ولَمْ يَظْهَرْ فِيهِ التَّخْرِيبُ؛ لِأنَّ مَنعَ النّاسِ مِن إقامَةِ شِعارِ العِبادَةِ فِيهِ يَكُونُ تَخْرِيبًا لَهُ، وقِيلَ: إنَّ أبا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ لَهُ مَوْضِعُ صَلاةٍ فَخَرَّبَتْهُ قُرَيْشٌ لَمّا هاجَرَ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ هَذا الفِعْلَ أعْظَمُ أنْواعِ الظُّلْمِ، وفِيهِ إشْكالٌ؛ لِأنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] مَعَ أنَّ الشِّرْكَ أعْظَمُ مِن هَذا الفِعْلِ، وكَذا الزِّنا، وقَتْلُ النَّفْسِ أعْظَمُ مِن هَذا الفِعْلِ، والجَوابُ عَنْهُ: أقْصى ما في البابِ أنَّهُ عامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فَلا يَقْدَحُ فِيهِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ فاعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ: (p-١١)المَسْألَةُ الأُولى: ظاهِرُ الكَلامِ أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وسَعَوْا في تَخْرِيبِ المَسْجِدِ هُمُ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ دُخُولُهُ إلّا خائِفِينَ، وأمّا مَن يَجْعَلُهُ عامًّا في الكُلِّ فَذَكَرُوا في تَفْسِيرِ هَذا الخَوْفِ وُجُوهًا: أحَدُها: ما كانَ يَنْبَغِي لَهم أنْ يَدْخُلُوا مَساجِدَ اللَّهِ إلّا خائِفِينَ عَلى حالِ الهَيْبَةِ وارْتِعادِ الفَرائِصِ مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ فَضْلًا أنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهِمْ، ويَمْنَعُوا المُؤْمِنِينَ مِنها، والمَعْنى: ما كانَ الحَقُّ والواجِبُ إلّا ذَلِكَ، لَوْلا ظُلْمُ الكَفَرَةِ وعُتُوُّهم. وثانِيها: أنَّ هَذا بِشارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأنَّهُ سَيُظْهِرُهم عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ وعَلى سائِرِ المَساجِدِ، وأنَّهُ يُذِلُّ المُشْرِكِينَ لَهم حَتّى لا يَدْخُلَ المَسْجِدَ الحَرامَ واحِدٌ مِنهم إلّا خائِفًا، يَخافُ أنْ يُؤْخَذَ فَيُعاقَبَ، أوْ يُقْتَلَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وقَدْ أنْجَزَ اللَّهُ صِدْقَ هَذا الوَعْدِ، فَمَنَعَهم مِن دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرامِ، ونادى فِيهِمْ عامَ حَجَّ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ألا لا يَحُجَّنَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ، وأمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِإخْراجِ اليَهُودِ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ، فَحَجَّ مِنَ العامِ الثّانِي ظاهِرًا عَلى المَساجِدِ لا يَجْتَرِئُ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ أنْ يَحُجَّ، ويَدْخُلَ المَسْجِدَ الحَرامَ، وهَذا هو تَفْسِيرُ أبِي مُسْلِمٍ في حَمْلِ المَنعِ مِنَ المَساجِدِ عَلى صَدِّهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، ويُحْمَلُ هَذا الخَوْفُ عَلى ظُهُورِ أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ وغَلَبَتِهِ لَهم بِحَيْثُ يَصِيرُونَ خائِفِينَ مِنهُ ومِن أُمَّتِهِ. وثالِثُها: أنْ يُحْمَلَ هَذا الخَوْفُ عَلى ما يَلْحَقُهم مِنَ الصَّغارِ والذُّلِّ بِالجِزْيَةِ والإذْلالِ. ورابِعُها: أنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ دُخُولُ المَسْجِدِ الحَرامِ إلّا في أمْرٍ يَتَضَمَّنُ الخَوْفَ نَحْوَ أنْ يَدْخُلُوا لِلْمُخاصَمَةِ والمُحاكَمَةِ والمُحاجَّةِ؛ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الخَوْفَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧] . وخامِسُها: قالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ: قَوْلُهُ: ﴿إلّا خائِفِينَ﴾ بِمَعْنى أنَّ النَّصارى لا يَدْخُلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ إلّا خائِفِينَ، ولا يُوجِدُ فِيهِ نَصْرانِيٌّ إلّا أُوجِعَ ضَرْبًا، وهَذا التَّأْوِيلُ مَرْدُودٌ؛ لِأنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ بَقِيَ أكْثَرَ مِن مِائَةِ سَنَةٍ في أيْدِي النَّصارى، بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إلّا خائِفًا، إلى أنِ اسْتَخْلَصَهُ المَلِكُ صَلاحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ في زَمانِنا. وسادِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ وإنْ كانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الخَبَرِ، لَكِنَّ المُرادَ مِنهُ النَّهْيُ عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ، والتَّخْلِيَةِ بَيْنَهم وبَيْنَهُ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لَكم أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٥٣] . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفُوا في الخِزْيِ، فَقالَ بَعْضُهم: ما يَلْحَقُهم مِنَ الذُّلِّ بِمَنعِهِمْ مِنَ المَساجِدِ، وقالَ آخَرُونَ: بِالجِزْيَةِ في حَقِّ أهْلِ الذِّمَّةِ، وبِالقَتْلِ في حَقِّ أهْلِ الحَرْبِ، واعْلَمْ أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، فَإنَّ الخِزْيَ لا يَكُونُ إلّا ما يَجْرِي مَجْرى العُقُوبَةِ مِنَ الهَوانِ والإذْلالِ، فَكُلُّ ما هَذِهِ صِفَتُهُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ، وذَلِكَ رَدْعٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَنْ ثَباتِهِمْ عَلى الكُفْرِ؛ لِأنَّ الخِزْيَ الحاضِرَ يَصْرِفُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِما يُوجِبُهُ ويَقْتَضِيهِ، وأمّا العَذابُ العَظِيمُ فَقَدْ وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى بِما جَرى مَجْرى النِّهايَةِ في المُبالَغَةِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ قَدَّمَ ذِكْرَهم وصَفَهم بِأعْظَمِ الظُّلْمِ، فَبَيَّنَ أنَّهم يَسْتَحِقُّونَ العِقابَ العَظِيمَ، وفي الآيَةِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في أحْكامِ المَساجِدِ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: في بَيانِ فَضْلِ المَساجِدِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ والأخْبارُ والمَعْقُولُ، أمّا القُرْآنُ فَآياتٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ [الجن: ١٨] . أضافَ المَساجِدَ إلى ذاتِهِ بِلامِ الِاخْتِصاصِ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ الِاخْتِصاصَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ . وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما يَعْمُرُ﴾ (p-١٢)﴿مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ١٨] فَجَعَلَ عِمارَةَ المَسْجِدِ دَلِيلًا عَلى الإيمانِ، بَلِ الآيَةُ تَدُلُّ بِظاهِرِها عَلى حَصْرِ الإيمانِ فِيهِمْ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ لِلْحَصْرِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ [النور: ٣٦] . ورابِعُها: هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾ فَإنَّ ظاهِرَها يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ السّاعِي في تَخْرِيبِ المَساجِدِ أسْوَأ حالًا مِنَ المُشْرِكِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن أظْلَمُ﴾ يَتَناوَلُ المُشْرِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ فَإذا كانَ السّاعِي في تَخْرِيبِهِ في أعْظَمِ دَرَجاتِ الفِسْقِ وجَبَ أنْ يَكُونَ السّاعِي في عِمارَتِهِ في أعْظَمِ دَرَجاتِ الإيمانِ. وأمّا الأخْبارُ: فَأحَدُها: ما رَوى الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما أنَّ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرادَ بِناءَ المَسْجِدِ فَكَرِهَ النّاسُ ذَلِكَ، وأحَبُّوا أنْ يَدَعَهُ، فَقالَ عُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ”«مَن بَنى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنى اللَّهُ لَهُ كَهَيْئَتِهِ في الجَنَّةِ» “ . وفي رِوايَةٍ أُخْرى: ”«بَنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ» “ . وثانِيها: ما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«أحَبُّ البِلادِ إلى اللَّهِ تَعالى مَساجِدُها، وأبْغَضُ البِلادِ إلى اللَّهِ أسْواقُها» “، واعْلَمْ أنَّ هَذا الخَبَرَ تَنْبِيهٌ عَلى ما هو السِّرُّ العَقْلِيُّ في تَعْظِيمِ المَساجِدِ، وبَيانُهُ: أنَّ الأمْكِنَةَ والأزْمِنَةَ إنَّما تَتَشَرَّفُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، فَإذا كانَ المَسْجِدُ مَكانًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى حَتّى إنَّ الغافِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إذا دَخَلَ المَسْجِدَ اشْتَغَلَ بِذِكْرِ اللَّهِ، والسُّوقُ عَلى الضِّدِّ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مَوْضِعُ البَيْعِ والشِّراءِ والإقْبالِ عَلى الدُّنْيا، وذَلِكَ مِمّا يُورِثُ الغَفْلَةَ عَنِ اللَّهِ والإعْراضَ عَنِ التَّفَكُّرِ في سَبِيلِ اللَّهِ، حَتّى إنَّ ذاكَرَ اللَّهِ إذا دَخَلَ السُّوقَ فَإنَّهُ يَصِيرُ غافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ - لا جَرَمَ كانَتِ المَساجِدُ أشْرَفَ المَواضِعِ، والأسْواقُ أخَسَّ المَواضِعِ. الثّانِي: في فَضْلِ المَشْيِ إلى المَساجِدِ: (أ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشى إلى بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرائِضِ اللَّهِ، كانَتْ خُطُواتُهُ إحْداها تَحُطُّ خَطِيئَتَهُ، والأُخْرى تَرْفَعُ دَرَجَتَهُ» “، رَواهُ مُسْلِمٌ. (ب) أبُو هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن غَدا أوْ راحَ إلى المَسْجِدِ أعَدَّ اللَّهُ لَهُ في الجَنَّةِ مَنزِلًا كُلَّما غَدا أوْ راحَ» “ أخْرَجاهُ في الصَّحِيحِ. (ج) أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قالَ: «كانَ رَجُلٌ ما أعْلَمُ أحَدًا مِن أهْلِ المَدِينَةِ مِمَّنْ يُصَلِّي إلى القِبْلَةِ أبْعَدَ مَنزِلًا مِنهُ مِنَ المَسْجِدِ، وكانَ لا تُخْطِئُهُ الصَّلَواتُ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمارًا لِتَرْكَبَهُ في الرَّمْضاءِ والظَّلْماءِ، فَقالَ: واللَّهِ ما أُحِبُّ أنَّ مَنزِلِي بِلِزْقِ المَسْجِدِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ فَسَألَهُ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْما يُكْتَبُ أثَرِي وخُطايَ ورُجُوعِي إلى أهْلِي وإقْبالِي وإدْبارِي، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”لَكَ ما احْتَسَبْتَ أجْمَعُ» “، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. (د) جابِرٌ قالَ: «خَلَتِ البِقاعُ حَوْلَ المَسْجِدِ فَأرادَ بَنُو سَلَمَةَ أنْ يَنْتَقِلُوا إلى قُرْبِ المَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَهم: ”إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّكم تُرِيدُونَ أنْ تَنْتَقِلُوا إلى قُرْبِ المَسْجِدِ، فَقالُوا: نَعَمْ، قَدْ أرَدْنا ذَلِكَ، قالَ: يا بَنِي سَلَمَةَ، دِيارَكم تُكْتَبُ آثارُكم» “، رَواهُ مُسْلِمٌ. وعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في حَقِّهِمْ: ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتى ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ﴾ [يس: ١٢] . (هـ) عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”«إنَّ أعْظَمَ النّاسِ أجْرًا في الصَّلاةِ أبْعَدُهم إلى المَسْجِدِ مَشْيًا، والَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ حَتّى يُصَلِّيَها مَعَ الإمامِ في جَماعَةٍ أعْظَمُ أجْرًا مِمَّنْ يُصَلِّيها ثُمَّ يَنامُ» “ أخْرَجاهُ في الصَّحِيحِ. (و) عُقْبَةُ بْنُ عامِرٍ الجُهَنِيُّ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«إذا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ ثُمَّ مَرَّ إلى المَسْجِدِ يَرْعى الصَّلاةَ، كَتَبَ لَهُ كاتِبُهُ أوْ كاتِباهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى المَسْجِدِ عَشْرَ حَسَناتٍ، والقاعِدُ الَّذِي يَرْعى الصَّلاةَ كالقانِتِ، ويُكْتَبُ مِنَ المَصَلِّينَ مِن حِينِ يَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ حَتّى يَرْجِعَ» “ . (ز) عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قالَ: حَضَرَ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ المَوْتُ، فَقالَ لِأهْلِهِ: مَن في البَيْتِ ؟ فَقالُوا: (p-١٣)أهْلُكَ، وأمّا إخْوَتُكَ وجُلَساؤُكَ فَفي المَسْجِدِ، فَقالَ: ارْفَعُونِي، فَأسْنَدَهُ رَجُلٌ مِنهم إلَيْهِ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وسَلَّمَ عَلى القَوْمِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ، وقالُوا لَهُ: خَيْرًا. فَقالَ: إنِّي مُورِثُكُمُ اليَوْمَ حَدِيثًا ما حَدَّثْتُ بِهِ أحَدًا مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ احْتِسابًا، وما أُحَدِّثُكُمُوهُ اليَوْمَ إلّا احْتِسابًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”«مَن تَوَضَّأ في بَيْتِهِ فَأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ يُصَلِّي في جَماعَةِ المُسْلِمِينَ، لَمْ يَرْفَعْ رِجْلَهُ اليُمْنى إلّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِها حَسَنَةً، ولَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ اليُسْرى إلّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِها خَطِيئَةً حَتّى يَأْتِيَ المَسْجِدَ، فَإذا صَلّى بِصَلاةِ الإمامِ انْصَرَفَ وقَدْ غُفِرَ لَهُ، فَإنْ هو أدْرَكَ بَعْضَها وفاتَهُ بَعْضٌ، كانَ كَذَلِكَ» “ . (ح) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«مَن تَوَضَّأ فَأحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ راحَ فَوَجَدَ النّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أعْطاهُ اللَّهُ مِثْلَ أجْرِ مَن صَلّاها وحَضَرَها، ولَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِن أجْرِهِمْ شَيْئًا» “ . (ط) أبُو هُرَيْرَةَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ألا أدُلُّكم عَلى ما يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطايا ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ، قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ عَلى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ فَذَلِكُمُ الرِّباطُ“» رَواهُ مُسْلِمٌ. (ي) «قالَ أبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِداوُدَ بْنِ صالِحٍ: هَلْ تَدْرِي فِيمَ نَزَلَتْ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا ورابِطُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠] قالَ: قُلْتُ: لا يا ابْنَ أخِي، قالَ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ غَزْوٌ يُرابَطُ فِيهِ، ولَكِنِ انْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ» . (يا) بُرَيْدَةُ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«بَشِّرِ المَشّائِينَ في الظُّلَمِ إلى المَسْجِدِ بِالنُّورِ التّامِّ يَوْمَ القِيامَةِ» “، قالَ النَّخَعِيُّ: كانُوا يَرَوْنَ المَشْيَ إلى المَسْجِدِ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ مُوجِبَةً. (يب) قالَ الأوْزاعِيُّ: كانَ يُقالُ: خَمْسٌ كانَ عَلَيْها أصْحابُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ والتّابِعُونَ بِإحْسانٍ: لُزُومُ الجَماعَةِ واتِّباعُ السُّنَّةِ، وعِمارَةُ المَسْجِدِ، وتِلاوَةُ القُرْآنِ، والجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ. (يج) أبُو هُرَيْرَةَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن بَنى لِلَّهِ بَيْتًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَن مالٍ حَلالٍ - بَنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ مِن دُرٍّ وياقُوتٍ» “ . (يد) أبُو ذَرٍّ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن بَنى لِلَّهِ مَسْجِدًا ولَوْ كَمَفْحَصِ قَطاةٍ - بَنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ» “ . (يه) أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتادُ المَسْجِدَ فاشْهَدُوا لَهُ بِالإيمانِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾“» [التوبة: ١٨] . (يو) عَنْ بَعْضِ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهم قالُوا: إنَّ المَساجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ، وإنَّهُ لَحَقٌّ عَلى اللَّهِ أنْ يُكْرِمَ مَن زارَهُ فِيها. (يز) أنَسٌ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إنَّ عُمّارَ بُيُوتِ اللَّهِ هم أهْلُ بُيُوتِ اللَّهِ» “ . (يح) أنَسٌ، «قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: كَأنِّي لَأهُمُّ بِأهْلِ الأرْضِ عَذابًا، فَإذا نَظَرْتُ إلى عُمّارِ بُيُوتِي والمُتَحابِّينَ فِيَّ، وإلى المُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ صَرَفْتُ عَنْهم» “ . (يط) عَنْ أنَسٍ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا أُنْزِلَتْ عاهَةٌ مِنَ السَّماءِ صُرِفَتْ عَنْ عَمّارِ المَساجِدِ» “ . (ك) كَتَبَ سَلْمانُ إلى أبِي الدَّرْداءِ: يا أخِي، لِيَكُنْ بَيْتُكَ المَساجِدَ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”«المَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَن كانَتِ المَساجِدُ بُيُوتَهم بِالرَّوْحِ والرَّحْمَةِ، والجَوازِ عَلى الصِّراطِ إلى رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى» “ . (كا) قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ: إنَّ لِلْمَساجِدِ أوْتادًا مِنَ النّاسِ، وإنَّ لَهم جُلَساءَ مِنَ المَلائِكَةِ، فَإذا فَقَدُوهم سَألُوا عَنْهم، وإنْ كانُوا مَرْضى عادُوهم، وإنْ كانُوا في حاجَةٍ أعانُوهم. (كب) الحَسَنُ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«يَأْتِي عَلى النّاسِ زَمانٌ يَكُونُ حَدِيثُهم في مَساجِدِهِمْ في أمْرِ دُنْياهم فَلا تُجالِسُوهم، فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حاجَةٌ» “ . (كج) أبُو هُرَيْرَةَ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إنَّ لِلْمُنافِقِينَ عَلاماتٍ يُعْرَفُونَ بِها، تَحِيَّتُهم لَعْنَةٌ، وطَعامُهم نُهْبَةٌ، وغَنِيمَتُهم غُلُولٌ، لا يَقْرَبُونَ المَساجِدَ إلّا هَجْرًا، ولا الصَّلاةَ إلّا دَبْرًا، لا يَتَألَّفُونَ ولا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ، سُحُبٌ بِالنَّهارِ» “ . (كد) أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وأبُو هُرَيْرَةَ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ: إمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأ في عِبادَةِ اللَّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسْجِدِ إذا خَرَجَ مِنهُ حَتّى يَعُودَ إلَيْهِ، ورَجُلانِ تَحابّا (p-١٤)فِي اللَّهِ، اجْتَمَعا عَلى ذَلِكَ وتَفَرَّقا، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا فَفاضَتْ عَيْناهُ، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذاتُ حُسْنٍ وجَمالٍ فَقالَ: إنِّي أخافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفاها حَتّى لا تَعْلَمُ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ» “ . هَذا حَدِيثٌ أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في الصَّحِيحَيْنِ. (كه) عُقْبَةُ بْنُ عامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«مَن خَرَجَ مِن بَيْتِهِ إلى المَسْجِدِ كَتَبَ لَهُ كاتِبُهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها عَشْرَ حَسَناتٍ، والقاعِدُ في المَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ كالقانِتِ، ويُكْتَبُ مِنَ المُصَلِّينَ حَتّى يَرْجِعَ إلى بَيْتِهِ» “ . (كو) رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ الحَكَمِ، قالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ، وسَألَهُ أبِي: أحُضُورُ الجِنازَةِ أحَبُّ إلَيْكَ أمِ القُعُودُ في المَسْجِدِ ؟ قالَ: مَن صَلّى عَلى جِنازَةٍ فَلَهُ قِيراطٌ، ومَن تَبِعَها حَتّى تُقْبَرَ فَلَهُ قِيراطانِ، والجُلُوسُ في المَسْجِدِ أحَبُّ إلَيَّ، تُسَبِّحُ اللَّهَ، وتُهَلِّلُ وتَسْتَغْفِرُ، والمَلائِكَةُ تَقُولُ: آمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، فَإذا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ. الثّالِثُ: في تَزْيِينِ المَساجِدِ: (أ) ابْنُ عَبّاسٍ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«ما أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المَساجِدِ» “ والمُرادُ مِنَ التَّشْيِيدِ رَفْعُ البِناءِ وتَطْوِيلُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨] وهي الَّتِي يَطُولُ بِناؤُها. (ب) أمَرَ عُمَرُ بِبِناءِ مَسْجِدٍ، وقالَ لِلْبَنّاءِ: أكِنَّ النّاسَ مِنَ المَطَرِ، وإيّاكَ أنْ تُحَمِّرَ أوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النّاسَ. (ج) رُوِيَ أنَّ عُثْمانَ رَأى أُتْرُجَّةً مِن جِصٍّ مُعَلَّقَةً في المَسْجِدِ، فَأمَرَ بِها فَقُطِعَتْ. (د) قالَ أبُو الدَّرْداءِ: إذا حَلَّيْتُمْ مَصاحِفَكم، وزَيَّنْتُمْ مَساجِدَكم فالدَّمارُ عَلَيْكم. (هـ) قالَ أبُو قِلابَةَ: غَدَوْنا مَعَ أنَسِ بْنِ مالِكٍ إلى الزّاوِيَةِ فَحَضَرَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ، فَمَرَرْنا بِمَسْجِدٍ فَقالَ أنَسٌ: لَوْ صَلَّيْنا في هَذا المَسْجِدِ ؟ فَقالَ بَعْضُ القَوْمِ: حَتّى نَأْتِيَ المَسْجِدَ الآخَرَ، فَقالَ أنَسٌ: أيُّ مَسْجِدٍ ؟ قالُوا: مَسْجِدٌ أُحْدِثَ الآنَ، فَقالَ أنَسٌ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«سَيَأْتِي عَلى أُمَّتِي زَمانٌ يَتَباهَوْنَ في المَساجِدِ، ولا يَعْمُرُونَها إلّا قَلِيلًا» “ . الرّابِعُ: في تَحِيَّةِ المَسْجِدِ، في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي قَتادَةَ السُّلَمِيِّ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«إذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ» “، واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ بِذَلِكَ مَذْهَبُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ومَكْحُولٍ وقَوْلُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ وإسْحاقَ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَجْلِسُ ولا يُصَلِّي، وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ والنَّخَعِيُّ وقَتادَةُ، وبِهِ قالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ وأصْحابُ الرَّأْيِ. الخامِسُ: فِيما يَقُولُ إذا دَخَلَ المَسْجِدَ، رَوَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ أبِيها، قالَتْ: ”«كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا دَخَلَ المَسْجِدَ صَلّى عَلى مُحَمَّدٍ وسَلَّمَ، وقالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وافْتَحْ لِي أبْوابَ رَحْمَتِكَ، وإذا خَرَجَ صَلّى عَلى مُحَمَّدٍ وسَلَّمَ، وقالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وافْتَحْ لِي أبْوابَ فَضْلِكَ» “ . السّادِسُ: في فَضِيلَةِ القُعُودِ في المَسْجِدِ لِانْتِظارِ الصَّلاةِ. (أ) أبُو هُرَيْرَةَ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«المَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلى أحَدِكم ما دامَ في مُصَلّاهُ الَّذِي صَلّى فِيهِ، فَتَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ما لَمْ يُحْدِثْ» “ . «ورُوِيَ أنَّ عُثْمانَ بْنَ مَظْعُونٍ أتى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقالَ: ائْذَنْ لِي في الِاخْتِصاءِ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”لَيْسَ مِنّا مَن خَصى أوِ اخْتَصى، إنَّ خِصاءَ أُمَّتِي الصِّيامُ“، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي في السِّياحَةِ، فَقالَ: ”إنَّ سِياحَةَ أُمَّتَيِ الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ“، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي في التَّرَهُّبِ، فَقالَ: ”إنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتَيِ الجُلُوسُ في المَساجِدِ انْتِظارًا لِلصَّلاةِ» “ . السّابِعُ: في كَراهِيَةِ البَيْعِ والشِّراءِ في المَسْجِدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - «نَهى عَنْ تَناشُدِ الأشْعارِ في المَساجِدِ، وعَنِ البَيْعِ والشِّراءِ فِيهِ، وعَنْ أنْ يَتَحَلَّقَ النّاسُ في (p-١٥)المَساجِدِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلاةِ» . واعْلَمْ أنَّهُ كَرِهَ قَوْمٌ مِن أهْلِ العِلْمِ البَيْعَ والشِّراءَ في المَسْجِدِ، وبِهِ يَقُولُ أحْمَدُ وإسْحاقُ وعَطاءُ بْنُ يَسارٍ، وكانَ إذا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَن يَبِيعُ في المَسْجِدِ، قالَ: عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيا، فَإنَّما هَذا سُوقُ الآخِرَةِ، وكانَ لِسالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - رَحْبَةٌ إلى جَنْبِ المَسْجِدِ سَمّاها البَطْحاءَ، وقالَ: مَن أرادَ أنْ يَلْغَطَ أوْ يُنْشِدَ شِعْرًا أوْ يَرْفَعَ صَوْتًا، فَلْيَخْرُجْ إلى هَذِهِ الرَّحْبَةِ، واعْلَمْ أنَّ الحَدِيثَ الَّذِي رَوَيْناهُ يَدُلُّ عَلى كَراهِيَةِ التَّحَلُّقِ والِاجْتِماعِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلاةِ لِمُذاكَرَةِ العِلْمِ، بَلْ يُشْتَغَلُ بِالذِّكْرِ والصَّلاةِ والإنْصاتِ لِلْخُطْبَةِ، ثُمَّ لا بَأْسَ بِالِاجْتِماعِ والتَّحَلُّقِ بَعْدَ الصَّلاةِ، وأمّا طَلَبُ الضّالَّةِ في المَسْجِدِ، ورَفْعُ الصَّوْتِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ - فَمَكْرُوهٌ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: مَن سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضالَّةً في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإنَّ المَساجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذا، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيْضًا أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«إذا رَأيْتُمْ مَن يَبِيعُ أوْ يَبْتاعُ في المَسْجِدِ فَقُولُوا: لا أرْبَحَ اللَّهُ تِجارَتَكَ» “، قالَ أبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ويَدْخُلُ في هَذا كُلُّ أمْرٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ المَسْجِدُ مِن أُمُورِ مُعامَلاتِ النّاسِ، واقْتِضاءِ حُقُوقِهِمْ، وقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ المَسْألَةَ في المَسْجِدِ، وكانَ بَعْضُهم يَرى أنْ لا يَتَصَدَّقَ عَلى السّائِلِ المُتَعَرِّضِ في المَسْجِدِ، ووَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إقامَةِ الحُدُودِ في المَساجِدِ، قالَ عُمَرُ فِيمَن لَزِمَهُ حَدٌّ: أخْرِجاهُ مِنَ المَسْجِدِ، ويُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ، وقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ: إنَّ المَساجِدَ طُهِّرَتْ مِن خَمْسٍ: مِن أنْ يُقامَ فِيها الحُدُودُ، أوْ يُقْبَضَ فِيها الخَراجُ، أوْ يُنْطَقَ فِيها بِالأشْعارِ، أوْ يُنْشَدَ فِيها الضّالَّةُ، أوْ تُتَّخَذَ سُوقًا، ولَمْ يَرَ بَعْضُهم بِالقَضاءِ في المَسْجِدِ بَأْسًا؛ لِأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لاعَنَ بَيْنَ العَجْلانِيِّ وامْرَأتِهِ في المَسْجِدِ، ولاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنبَرِ النَّبِيِّ ﷺ وقَضى شُرَيْحٌ والشَّعْبِيُّ ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ في المَسْجِدِ، وكانَ الحَسَنُ وزُرارَةُ بْنُ أوْفى يَقْضِيانِ في الرَّحْبَةِ خارِجًا مِنَ المَسْجِدِ. الثّامِنُ: في النَّوْمِ في المَسْجِدِ؛ في الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ أنَّهُ «رَأى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَلْقِيًا في المَسْجِدِ واضِعًا إحْدى رِجْلَيْهِ عَلى الأُخْرى»، وعَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: كانَ ذَلِكَ مِن عُمَرَ وعُثْمانَ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ الِاتِّكاءِ والِاضْطِجاعِ وأنْواعِ الِاسْتِراحَةِ في المَسْجِدِ، مِثْلَ جَوازِها في البَيْتِ، إلّا الِانْبِطاحَ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نَهى عَنْهُ، وقالَ: «إنَّها ضِجْعَةٌ يُبْغِضُها اللَّهُ»، وعَنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ كانَ شابًّا أعْزَبَ لا أهْلَ لَهُ، فَكانَ يَنامُ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ورَخَّصَ قَوْمٌ مِن أهْلِ العِلْمِ في النَّوْمِ في المَسْجِدِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تَتَّخِذُوهُ مَبِيتًا أوْ مَقِيلًا. التّاسِعُ: في كَراهِيَةِ البُزاقِ في المَسْجِدِ؛ عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«البُزاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وكَفّارَتُها دَفْنُها» “، وفي الصَّحِيحِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«عُرِضَتْ عَلَيَّ أعْمالُ أُمَّتِي حَسَنُها وسَيِّئُها، فَوَجَدْتُ مِن مَحاسِنِ أعْمالِها الأذى يُماطُ عَنِ الطَّرِيقِ، ووَجَدْتُ في مَساوِئِ أعْمالِها النُّخامَةَ تَكُونُ في المَسْجِدِ لا تُدْفَنُ» “، وفي الحَدِيثِ: ”«إنَّ المَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنَ النُّخامَةِ كَما تَنْزَوِي الجِلْدَةُ في النّارِ» “، أيْ: يَنْضَمُّ ويَنْقَبِضُ، فَقالَ بَعْضُهم: المُرادُ أنَّ كَوْنَهُ مَسْجِدًا يَقْتَضِي التَّعْظِيمَ، وإلْقاءُ النُّخامَةِ يَقْتَضِي التَّحْقِيرَ، وبَيْنَهُما مُنافاةٌ، فَعَبَّرَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْ تِلْكَ المُنافاةِ بِقَوْلِهِ: لَيَنْزَوِي، وقالَ آخَرُونَ: أرادَ أهْلَ المَسْجِدِ، وهُمُ المَلائِكَةُ، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هَذا ما حَدَّثَنا أبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«إذا قامَ أحَدُكم إلى الصَّلاةِ فَلا يَبْصُقْ أمامَهُ، فَإنَّهُ يُناجِي اللَّهَ ما دامَ في مُصَلّاهُ، ولا عَنْ يَمِينِهِ (p-١٦)فَإنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، ولَكِنْ لِيَبْصُقْ عَنْ شِمالِهِ أوْ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَيَدْفِنُهُ» “ . وعَنْ أنَسٍ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَأى نُخامَةً في القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتّى رُئِيَ في وجْهِهِ، فَقامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، وقالَ: ”إنَّ أحَدَكم إذا قامَ في صَلاتِهِ فَإنَّهُ يُناجِي رَبَّهُ؛ فَلا يَبْزُقَنَّ أحَدُكم في قِبْلَتِهِ، ولَكِنْ عَنْ يَسارِهِ، أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، قالَ: ثُمَّ أخَذَ طَرَفَ رِدائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ، وقالَ: يَفْعَلُ هَكَذا» “ أخْرَجَهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ. العاشِرُ: في الثُّومِ والبَصَلِ. فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَسٍ وابْنِ عُمَرَ وجابِرٍ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن أكَلَ مِن هَذِهِ الشَّجَرَةِ المُنْتِنَةِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنا؛ فَإنَّ المَلائِكَةَ تَتَأذّى مِمّا يَتَأذّى مِنهُ الإنْسُ» “، وعَنْ جابِرٍ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«مَن أكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنا» “، «وأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خُضَرٌ، فَوَجَدَ لَها رِيحًا، فَسَألَ فَأُخْبِرَ بِما فِيهِ مِنَ البُقُولِ، فَقالَ: ”قَرِّبُوها إلى بَعْضِ مَن كانَ حاضِرًا، وقالَ لَهُ: كُلْ، فَإنِّي أُناجِي مَن لا تُناجِي» “ أخْرَجاهُ في الصَّحِيحَيْنِ. الحادِيَ عَشَرَ: في المَساجِدِ في الدُّورِ. عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبِناءِ المَسْجِدِ في الدُّورِ، وأنْ يُنَظَّفَ ويُطَيَّبَ» . أنَسُ بْنُ مالِكٍ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في المَسْجِدِ ومَعَهُ أصْحابُهُ إذْ جاءَ أعْرابِيٌّ فَبالَ في المَسْجِدِ، فَقالَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَهْ مَهْ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”لا تُزْرِمُوهُ“، ثُمَّ دَعاهُ فَقالَ: ”إنَّ هَذِهِ المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ العَذِرَةِ والبَوْلِ والخَلاءِ، إنَّما هي لِقِراءَةِ القُرْآنِ وذِكْرِ اللَّهِ والصَّلاةِ“، ثُمَّ دَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِدَلْوٍ مِن ماءٍ فَصَبُّوا عَلَيْهِ» . * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في دُخُولِ الكافِرِ المَسْجِدَ، فَجَوَّزَهُ أبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا، وأباهُ مالِكٌ مُطْلَقًا، وقالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُمْنَعُ مِن دُخُولِ الحَرَمِ والمَسْجِدِ الحَرامِ، واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ: أوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التوبة: ٢٨] قالَ الشّافِعِيُّ: قَدْ يَكُونُ المُرادُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ الحَرَمَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [الإسراء: ١] وإنَّما أُسْرِيَ بِهِ مِن بَيْتِ خَدِيجَةَ. فالآيَةُ دالَّةٌ إمّا عَلى المَسْجِدِ فَقَطْ، أوْ عَلى الحَرَمِ كُلِّهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالمَقْصُودُ حاصِلٌ؛ لِأنَّ الخِلافَ حاصِلٌ فِيهِما جَمِيعًا، فَإنْ قِيلَ: المُرادُ بِهِ الحَجُّ، ولِهَذا قالَ: ﴿بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ لِأنَّ الحَجَّ إنَّما يُفْعَلُ في السَّنَةِ مَرَّةً واحِدَةً، قُلْنا: هَذا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَرْكٌ لِلظّاهِرِ مِن غَيْرِ مُوجِبٍ. الثّانِي: ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الحُكْمِ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ المانِعَ مِن قُرْبِهِمْ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ نَجاسَتُهم، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّهم ما دامُوا مُشْرِكِينَ كانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَوْ أرادَ الحَجَّ لَذَكَرَ مِنَ البِقاعِ ما يَقَعُ فِيهِ مُعْظَمُ أرْكانِ الحَجِّ، وهو عَرَفَةُ. الرّابِعُ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ دُخُولُ الحَرَمِ لا الحَجُّ فَقَطْ - قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨] فَأرادَ بِهِ الدُّخُولَ لِلتِّجارَةِ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ وهَذا يَقْتَضِي أنْ يُمْنَعُوا مِن دُخُولِ المَسْجِدِ، وأنَّهم مَتى دَخَلُوا كانُوا خائِفِينَ مِنَ الإخْراجِ إلّا ما قامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَن خَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ، أوْ بِمَن مَنَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنَ العِبادَةِ في الكَعْبَةِ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ خَوْفَ الإخْراجِ، بَلْ خَوْفُ الجِزْيَةِ والإخْراجِ. قُلْنا: الجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ﴾ ظاهِرٌ في العُمُومِ، فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ خِلافُ (p-١٧)الظّاهِرِ. وعَنِ الثّانِي: أنَّ الظّاهِرَ قَوْلُهُ: ﴿ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الخَوْفُ إنَّما حَصَلَ مِنَ الدُّخُولِ، وعَلى ما يَقُولُونَهُ لا يَكُونُ الخَوْفُ مُتَوَلِّدًا مِنَ الدُّخُولِ، بَلْ مِن شَيْءٍ آخَرَ، فَسَقَطَ كَلامُهم. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧] وعِمارَتُها تَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: بِناؤُها وإصْلاحُها. والثّانِي: حُضُورُها ولُزُومُها، كَما تَقُولُ: فُلانٌ يَعْمُرُ مَسْجِدَ فُلانٍ، أيْ: يَحْضُرُهُ ويَلْزَمُهُ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«إذا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتادُ المَساجِدَ فاشْهَدُوا لَهُ بِالإيمانِ» “، وذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ١٨]، فَجَعَلَ حُضُورَ المَساجِدِ عِمارَةً لَها. ورابِعُها: أنَّ الحَرَمَ واجِبُ التَّعْظِيمِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الدُّعاءِ: ”«اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفًا وتَعْظِيمًا» ومَهابَةً“ فَصَوْنُهُ عَمّا يُوجِبُ تَحْقِيرَهُ واجِبٌ، وتَمْكِينُ الكُفّارِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْبَيْتِ لِلتَّحْقِيرِ؛ لِأنَّهم لِفَسادِ اعْتِقادِهِمْ فِيهِ رُبَّما اسْتَخَفُّوا بِهِ وأقْدَمُوا عَلى تَلْوِيثِهِ وتَنْجِيسِهِ. وخامِسُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِتَطْهِيرِ البَيْتِ في قَوْلِهِ: ﴿وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ﴾ [الحج: ٢٦]، والمُشْرِكُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] والتَّطْهِيرُ عَلى النَّجَسِ واجِبٌ، فَيَكُونُ تَبْعِيدُ الكُفّارِ عَنْهُ واجِبًا. وسادِسُها: أجْمَعْنا عَلى أنَّ الجُنُبَ يُمْنَعُ مِنهُ، فالكافِرُ بِأنْ يُمْنَعَ مِنهُ أوْلى إلّا أنَّ هَذا مُقْتَضى مَذْهَبِ مالِكٍ، وهو أنْ يُمْنَعَ عَنْ كُلِّ المَساجِدِ، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأُمُورٍ: الأوَّلُ: «رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ وفْدُ يَثْرِبَ فَأنْزَلَهُمُ المَسْجِدَ» . الثّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفْيانَ فَهو آمِنٌ، ومَن دَخَلَ الكَعْبَةَ فَهو آمِنٌ» “، وهَذا يَقْتَضِي إباحَةَ الدُّخُولِ. الثّالِثُ: الكافِرُ جازَ لَهُ دُخُولُ سائِرِ المَساجِدِ، فَكَذَلِكَ المَسْجِدُ الحَرامُ كالمُسْلِمِ، والجَوابُ عَنِ الحَدِيثَيْنِ الأوَّلَيْنِ: أنَّهُما كانا في أوَّلِ الإسْلامِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالآيَةِ، وعَنِ القِياسِ أنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ أجَلُّ قَدْرًا مِن سائِرِ المَساجِدِ، فَظَهَرَ الفَرْقُ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب