الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١١٤ ] ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ وسَعى في خَرابِها أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلا خائِفِينَ لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾
﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ وسَعى في خَرابِها﴾ إنْكارٌ واسْتِبْعادٌ لِأنْ يَكُونَ أحَدٌ أظْلَمَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ، ولَمّا وجَّهَ تَعالى الذَّمَّ فِيما سَبَقَ في حَقِّ اليَهُودِ والنَّصارى، ذَيَّلَهُ بِذَمِّ المُشْرِكِينَ في قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١١٣] ثُمَّ وجَّهَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ أيْضًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أخْرَجُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأصْحابَهُ مِن مَكَّةَ، ومَنَعُوهم مِنَ الصَّلاةِ في المَسْجِدِ الحَرامِ، وصَدُّوهم أيْضًا عَنْهُ، حِينَ ذَهَبَ إلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ (p-٢٢٨)وأصْحابُهُ مِنَ المَدِينَةِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، وكُلُّ هَذا تَخْرِيبٌ لِلْمَسْجِدِ الحَرامِ، لِأنَّ مَنعَ النّاسِ مِن إقامَةِ شَعائِرِ العِبادَةِ فِيهِ، سَعْيٌ في تَخْرِيبِهِ. وأيُّ خَرابٍ أعْظَمُ مِمّا فَعَلُوا ؟ أخْرَجُوا عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأصْحابَهُ. واسْتَحْوَذُوا عَلَيْهِ بِأصْنامِهِمْ وأنْدادِهِمْ وشِرْكِهِمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما لَهم ألا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وهم يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلا المُتَّقُونَ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٣٤] وقالَ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم وفي النّارِ هم خالِدُونَ﴾ [التوبة: ١٧] ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إلا اللَّهَ فَعَسى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: ١٨] وقالَ تَعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥] فَإذا كانَ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ..إلَخْ مَصْدُودًا عَنْهُ، مَطْرُودًا مِنهُ، (p-٢٢٩)فَأيُّ خَرابٍ لَهُ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ. والعِمارَةُ إحْياءُ المَكانِ وشَغْلُهُ بِما وُضِعَ لَهُ. ولَيْسَ المُرادُ بِعِمارَتِهِ، زَخْرَفَتَهُ وإقامَةَ صُورَتِهِ فَقَطْ، إنَّما عِمارَتُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ وإقامَةِ شَرْعِهِ فِيهِ ورَفْعِهِ عَنِ الدَّنَسِ والشِّرْكِ. وإنَّما أُوقِعَ المَنعُ عَلى المَساجِدِ، وإنْ كانَ المَمْنُوعُ هو النّاسُ لِما أنَّ المَآلَ عائِدٌ لَها. ولا يُقالُ: كَيْفَ قِيلَ مَساجِدُ والمُرادُ المَسْجِدُ الحَرامُ فَقَطْ ؟ لِأنَّهُ لا بَأْسَ أنْ يَجِيءَ الحُكْمُ عامًّا، وإنْ كانَ السَّبَبُ خاصًّا، كَما تَقُولُ، لِمَن آذى صالِحًا واحِدًا: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ آذى الصّالِحِينَ ؟ وكَما قالَ تَعالى ﴿ويْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] والمَنزُولُ فِيهِ واحِدٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلا خائِفِينَ﴾ هَذا بِشارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأنَّهُ سَيُظْهِرُهم عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، ويُذِلُّ لَهُمُ المُشْرِكِينَ، حَتّى لا يَدْخُلَ المَسْجِدُ الحَرامُ واحِدٌ مِنهم إلّا خائِفًا. يَخافُ أنْ يُؤْخَذَ فَيُعاقَبَ، أوْ يُقْتَلَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ. وقَدْ أنْجَزَ اللَّهُ صِدْقَ هَذا الوَعْدِ فَمَنَعَهم مِن دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرامِ. ونادى فِيهِمْ عامَ حَجَّ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ««ألا لا يَحُجَّنَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ»» . فَحَجَّ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ العامِ الثّانِي ظاهِرًا عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، لا يَجْتَرِئُ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ أنْ يَحُجَّ ويَدْخُلَ المَسْجِدَ الحَرامَ. وهَذا هو الخِزْيُ لَهم في الدُّنْيا، المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ لِأنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ. فَكَما صَدُّوا المُؤْمِنِينَ صُدُّوا عَنْهُ ﴿ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو عَذابُ النّارِ لِما انْتَهَكُوا مِن حُرْمَةِ البَيْتِ وامْتَهَنُوهُ، مِن نَصْبِ الأصْنامِ حَوْلَهُ، ودُعاءِ غَيْرِ اللَّهِ، والطَّوافِ بِهِ عُرْيًا، وغَيْرَ ذَلِكَ مِن أفاعِيلِهِمُ الَّتِي يَكْرَهُها اللَّهُ ورَسُولُهُ.
وفِي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ الآيَةَ في ذَمِّ اليَهُودِ، تَبَعًا لِلسّابِقِ واللّاحِقِ، وما جَنَوْهُ بِكُفْرِهِمْ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ مِن خَرابِهِ وتَسْلِيطِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ حَتّى خَرَّبَهُ ودَمَّرَ مَدِينَتَهم، وقَتَلَ وسَبى مِنهم، وأسَرَهم (p-٢٣٠)وبَقُوا في الأسْرِ البابِلِيِّ سَبْعِينَ سَنَةً؛ كُلُّ ذَلِكَ كانَ بِرَفْضِهِمْ كِتابَ اللَّهِ، والعَمَلَ بِشَرِيعَتِهِ.
وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلا خائِفِينَ﴾ إشارَةٌ إلى رُجُوعِهِمْ إلَيْهِ بَعْدَ الأسْرِ عَلى تَخَوُّفٍ مِنَ العَدُوِّ ومَذَلَّةٌ لَصِقَتْ بِهِمْ. وهو وجْهٌ وجِيهٌ. لِأنَّ لَفْظَ "سَعى"، يُرْشِدُ إلى ذَلِكَ. كَما أنَّ مَفْهُومَها يُشْعِرُ بِذَمِّ القائِمِينَ عَلى الخَرابِ بِالأوْلى وهُمُ النَّصارى، حِينَما تَمَكَّنَتْ سُلْطَتُهُمُ انْتِقامًا مِن أعْدائِهِمُ اليَهُودِ.
رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ، قالَ في الآيَةِ: هُمُ النَّصارى كانُوا يَطْرَحُونَ في بَيْتِ المَقْدِسِ الأذى. ويَمْنَعُونَ النّاسَ أنْ يُصَلُّوا فِيهِ. وقالَ قَتادَةُ: حَمَلَهم بُغْضُ اليَهُودِ عَلى أنْ أعانُوا بِخْتِنْصَرَ البابِلِيَّ المَجُوسِيَّ عَلى تَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ. وتَدُلُّ عَلى أنَّ أماكِنَ العِبادَةِ تُصانُ وتُحْتَرَمُ، لِأنَّها المَدْرَسَةُ العامَّةُ الَّتِي تُتْلى فِيها الحِكَمُ والأحْكامُ، والإرْشادُ إلى سُبُلِ السَّلامِ.
وقَدْ ورَدَ الحَدِيثُ بِالِاسْتِعاذَةِ مِن خِزْيِ الدُّنْيا وعَذابِ الآخِرَةِ، فِيما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ بُسْرِ بْنِ أرْطاةَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أحْسِنْ عاقِبَتَنا في الأُمُورِ كُلِّها، وأجِرْنا مِن خِزْيِ الدُّنْيا وعَذابِ الآخِرَةِ»» .
قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ ولَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ، ولَيْسَ لِصَحابِيِّهِ، وهو بُسْرُ بْنُ أرْطاةَ، (ويُقالُ ابْنُ أبِي أرْطاةَ) حَدِيثٌ سِواهُ، وسِوى حَدِيثِ: ««لا تُقْطَعُ الأيْدِي في الغَزْوِ»» .
{"ayah":"وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ أَن یُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِی خَرَابِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن یَدۡخُلُوهَاۤ إِلَّا خَاۤىِٕفِینَۚ لَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا خِزۡیࣱ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











