الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الآية، (من) ابتداء، وخبره أظلم، وهو استفهام معناه: وأيُّ أحدٍ أظلمُ [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 195.]]. وعن ابن عباس في نزول هذه الآية روايتان: الأولى: أنها نزلت في أهل الروم، لأنهم خربوا بيتَ المقدس، فعلى هذا أراد بالمسجد بيت المقدس ومحاريبه [[في (م): (محاربة).]] [[ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1122 دون عزو وذكره الواحدي في "أسباب == النزول" ص 39 من رواية الكلبي عن ابن عباس وأخرجها الطبري في "تفسيره" 1/ 498، وابن أبي حاتم 1/ 210 من طريق العوفي نحو ذلك، كما روي عن مجاهد وقتادة والسدي كما ذكره الطبري في "تفسيره" 2/ 520، وابن أبي حاتم 1/ 210، والواحدي في "أسباب النزول" ص 39 وغيرهم.]]. والثانية: أنها نزلت في مشركي مكة، لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام [[أخرجها ابن أبي حاتم 1/ 210 من طريق ابن اسحاق بسند حسن، وذكره الحافظ في "العجاب" 1/ 359 من طريق عطاء عن ابن عباس. وبه قال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، كما رواه الطبري عنه 1/ 498.]]، وعلى هذه الرواية معنى قوله ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ أنهم منعوا من العبادة في المساجد، وكلُّ من مَنعَ من عبادة الله في مسجد فقد سعى في خرابه؛ لأن عمارته بالعبادة فيه. وأصل السعي في اللغة: الإسراع في المشي، قال الله عز وجل: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ [القصص: 20]. ثم يسمّى المشيُ سعيًا، كقوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات: 102]، يعنى المشي، وقال: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9]، أي: امشوا، وقال [[في (م): (ثم قال).]] ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [البقرة: 260]، أي: مشيًا. ثم يسمى العمل سعيًا، لأنه لا ينفك من السعي في غالب الأمر، قال الله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19] وقال: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ [الحج: 51] أي: جدّوا في ذلك، وقال: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: 4]، أي: عملكم مختلف. وأراد [[في (ش): (فأراد).]] بالسعي في هذه الآية: العمل [[ينظر: "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني ص 238 - 239.]]. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾. قال أبن عباس على الرواية الأولى: لم يدخل بيتَ المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلا خائفًا لو عُلمَ به قُتِلَ [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1123، البغوي 1/ 139، "الخازن" 1/ 98.]]، قيل: وهذا قول [[يذكر ذلك عن كعب والسدي، ينظر: الطبري 1/ 500، ابن أبي حاتم 1/ 210 - 211، "العجاب" 1/ 360.]] مجاهد وقتادة [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 56 ومن طريقه أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 498 - 499، وابن أبي حاتم 1/ 341 بنحوه وأخرجه الطبري أيضا من غير طريق عبد الرزاق.]] ومقاتل [["تفسيرمقاتل" 1/ 132 - 133.]] والفراء [[في "معاني القرآن" 1/ 74. وقد رجح الطبري في "تفسيره" هذا القول 1/ 498 - 500 محتجًّا بأن الله ذكر أنهم سعوا في خراب المسجد، وهذا لم يكن قط من المشركين في المسجد الحرام، بل كانوا يفخرون بعمارته، وبأن سياق الآية ولحاقها كله في أهل الكتاب، ولم يجر للمشركين ذكر. ثم قال: وإن كان قد دل بعموم قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ أن كل مانع مصليًا في مسجد لله -فرضًا كانت صلاته فيه أو تطوعًا- وكل ساع في إخرابه، فهو من المعتدين الظالمين. وانتصر لترجيح الطبري في "تفسيره" أحمد شاكر ورد كلام ابن كثير في "تفسيره" الآتي مختصره. وأما قول الطبري في "تفسيره" إنهم النصارى، وذلك أنهم سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بُخْتنْصَّر على ذلك ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد مُنْصرف بختنصر عنهم إلى بلاده. اهـ. فهذا قول قتادة والسدي وقد ذكر الجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 61 أن ما روي في خبر قتادة يشبه أن يكون غلطا من راويه؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الأولين أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى إنما كانوا بعد المسيح وإليه ينتمون، فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس، والنصارى إنما استفاض دينهم في الشام والروم في أيام قسطنطين== الملك، وكان قبل الإسلام بمائتي سنة وكسور، وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أوثان، وكان من ينتحل النصرانية منهم مغمورين مستخفين بأديانهم فيما بينهم، ومع ذلك فإن النصارى تعتقد من تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود، فكيف أعانوا على تخريبه مع اعتقادهم فيه.]]. وقال على الرواية الثانية: هذا وعدٌ من الله لنبيه والمهاجرين، يقول: أفتح مكة لكم حتى تدخلوها آمنين وتكونوا أولى بها منهم. وهذا قول عطاء [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1126، وعنه البغوي في "تفسيره" 1/ 139، والحافظ في "العجاب" 1/ 359.]] وابن زيد [[ينظر الطبري في "تفسيره" 1/ 500، ففيه عن ابن زيد بغير هذا المعنى ومال إلى هذا ابن كثير في "تفسيره" 1/ 167 وبين أن أعظم خراب فعلوه إخراجهم رسول الله ﷺ واستحواذهم عليه بأصنامهم، وصدهم رسول الله ﷺ يوم الحديبية، وذكر الآيات الدالة على أن معنى العمارة إقامة ذكر الله فيها وليس زخرفتها ... إلخ.]]. وقيل [[في (ش): (وقال).]]: إنه أمر في صيغة الخبر، يقول: جاهدوهم واستأصلوهم بالجهاد؛ كيلا يدخلها أحد منهم إلا خائفًا من القتل والسبي، كقوله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ [الأحزاب: 53] نهاهم على لفظ الخبر، ومعناهما: لا ينبغي لهم ولكم [["تفسير الثعلبي" 1/ 1124، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 139، والرازي 4/ 12، والقرطبي 2/ 70، و"البحر المحيط" 1/ 358 - 359.]]. وقال الزجاج حاكيًا: إنَّ هذه الآية مما يعنى به جميع الكفار الذين تظاهروا على الإسلام ومنعوا جملة المساجد؛ لأن من قاتل المسلمين حتى يمنعهم من الصلاة فقد منع جميع المساجد، وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد؛ لقوله ﷺ:"جعلت لي الأرض مسجدا" [[أخرجه البخاري (438) كتاب الصلاة، باب: قول النبي ﷺ جعلت لي الأرض مسجدا. ومسلم (522) كتاب المساجد ومواضع الصلاة.]] والمعنى على هذا: ومن أظلم ممن يخالف ملة الإسلام [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 196.]]. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا﴾ الآية، أعلم الله عز وجل أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم، حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفا، وهذا كقوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33]. الآية [[نقله عن الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 196.]]. وقوله: ﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ موضع (أن) نصب؛ لأنه المفعول الثاني للمنع، وهو مع الفعل بمنزلة المصدر [["تفسير الثعلبي" 1/ 1123، القرطبي في "تفسيره" 2/ 68، "البحر المحيط" 1/ 358 وذكر الثعلبي في "تفسيره" جواز نصبه على نزع الخافض والتقدير: من أن يذكر.]]. قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ الآية. قال المفسرون: يريد القتل للحربي، والجزية للذمي [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1124، والبغوي في "تفسيره" 1/ 140، والقرطبي 2/ 70 عن قتادة، وأخرجه عبد الرازق في "تفسيره" 1/ 56 ومن طريقه الطبري 1/ 500، وابن أبي حاتم 1/ 211 عن قتادة: أن المراد بها الجزية وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 196 - 197، قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 168: والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.]]. وذكرنا معنى الخزي عند قوله: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ﴾ [البقرة: 85].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب