الباحث القرآني

(p-٣٥٥)﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ وسَعى في خَرابِها أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١١٥] ﴿وقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ [البقرة: ١١٦] ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] ﴿وقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنا اللَّهُ أوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهم قَدْ بَيَّنّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ١١٨] ﴿إنّا أرْسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا ونَذِيرًا ولا تُسْألُ عَنْ أصْحابِ الجَحِيمِ﴾ [البقرة: ١١٩] ﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهم قُلْ إنَّ هُدى اللَّهِ هو الهُدى ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٢٠] ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [البقرة: ١٢١] . المَنعَ: الحَيْلُولَةُ بَيْنَ المُرِيدِ ومُرادِهِ. ولَمّا كانَ الشَّيْءُ قَدْ يُمْنَعُ صِيانَةً، صارَ المَنعُ مُتَعارَفًا في المُتَنافَسِ فِيهِ؛ قالَهُ الرّاغِبُ. وفِعْلُهُ: مَنَعَ يَمْنَعُ، بِفَتْحِ النُّونِ، وهو القِياسُ؛ لِأنَّ لامَ الفِعْلِ أحَدُ حُرُوفِ الحَلْقِ. المَساجِدُ: مَعْرُوفَةٌ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى المُفْرَدِ أوَّلَ ما يُذْكَرُ في القُرْآنِ، إنْ شاءَ اللَّهُ. السَّعْيُ: المَشْيُ بِسُرْعَةٍ، وهو دُونَ العَدْوِ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلى الطَّلَبِ، كَما قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎فَلَوْ أنَّ ما أسْعى لِأدْنى مَعِيشَةٍ كَفانِي ولَمْ أطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المالِ ؎ولَكِنَّما أسْعى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ∗∗∗ وقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أمْثالِي فَسَّرَهُ الشُّرّاحُ بِالطَّلَبِ. الخَرابُ: ضِدُّ العِمارَةِ، وهو مَصْدَرُ خَرِبَ الشَّيْءُ يَخْرَبُ خَرابًا، ويُوصَفُ بِهِ فَيُقالُ: مَنزِلٌ خَرابٌ، واسْمُ الفاعِلِ: خَرِبٌ، كَما قالَ أبُو تَمّامٍ: ؎ما رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُورًا يُطِيفُ بِهِ ∗∗∗ غَيْلانُ أبْهى رُبًى مِن رَبْعِها الخَرِبِ والخَرَبُ: ذَكَرُ الحُبارى، يَجْمَعُ عَلى خِرْبانٍ. المَشْرِقُ والمَغْرِبُ: مَكانُ الشُّرُوقِ والغُرُوبِ، وهُما مِنَ الألْفاظِ الَّتِي جاءَتْ عَلى مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ العَيْنِ شُذُوذًا، والقِياسُ الفَتْحُ؛ لِأنَّ كُلَّ فِعْلٍ ثُلاثِيٍّ لَمْ تُكْسَرْ عَيْنُ مُضارِعِهِ، فَقِياسُ صَوْغِ المَصْدَرِ مِنهُ والزَّمانِ والمَكانِ مَفْعَلٌ، بِفَتْحِ العَيْنِ. أيْنَ: مِن ظُرُوفِ المَكانِ، وهو مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ في الِاسْتِفْهامِ مَعْنى حَرْفِهِ، وفي الشَّرْطِ مَعْنى حَرْفِهِ، وإذا كانَ لِلشَّرْطِ جازَ أنْ تَزِيدَ بَعْدَهُ ما، ومِمّا جاءَ فِيهِ شَرْطًا بِغَيْرِ ما قَوْلُهُ: ؎أيْنَ تَضْرِبْ بِنا العُداةُ تَجِدْنا وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ أصْلَ أيْنَ: السُّؤالُ عَنِ الأمْكِنَةِ. ثَمَّ: ظَرْفُ مَكانٍ يُشارُ بِهِ لِلْبَعِيدِ، وهو مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإشارَةِ، وهو لازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ، لَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ بِغَيْرِ مِن يَقُولُ: مِن ثَمَّ كانَ كَذا. وقَدْ وهَمَ مَن أعْرَبَها مَفْعُولًا بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: ٢٠] . بَلْ: مَفْعُولُ رَأيْتَ مَحْذُوفٌ. واسِعٌ: اسْمُ فاعِلٍ مِن وسِعَ يَسَعُ سَعَةً ووُسْعًا، ومُقابِلُهُ ضاقَ، إلّا أنَّ وسِعَ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] . الوَلَدُ: مَعْرُوفٌ، وهو فَعَلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كالقَبْضِ والنَّقْضِ، ولا يَنْقاسُ فَعَلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وفِعْلُهُ: ولَدَ يَلِدُ وِلادَةً ووَلِيدِيَّةً، وهَذا المَصْدَرُ الثّانِي غَرِيبٌ. القُنُوتُ: القِيامُ، ومِنهُ أفْضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القُنُوتِ، أيِ القِيامِ، والطّاعَةُ والعِبادَةُ والدُّعاءُ. قَنَتَ شَهْرًا: دَعا. البَدِيعُ: النّادِرُ الغَرِيبُ الشَّكْلِ. بَدُعَ يَبْدُعُ بَداعَةً فَهو بَدِيعٌ، إذا كانَ نادِرًا غَرِيبَ الصُّورَةِ في الحُسْنِ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى الِابْتِداعِ، وهو الِاخْتِراعُ والإنْشاءُ. قَضى: قَدَّرَ، ويَجِيءُ بِمَعْنى أمْضى. قَضى يَقْضِي قَضاءً. قالَ: ؎سَأغْسِلُ عَنِّي العارَ بِالسَّيْفِ جالِبًا ∗∗∗ عَلَيَّ قَضاءُ اللَّهِ ما كانَ جالِبا قالَ الأزْهَرِيُّ: قَضى عَلى وُجُوهٍ، مَرْجِعُها إلى انْقِطاعِ الشَّيْءِ وتَمامِهِ، قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎وعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضاهُما ∗∗∗ داوُدُ أوْ صَنِعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ وقالَ الشَّمّاخُ في عُمَرَ: ؎قَضَيْتُ أُمُورًا ثُمَّ غادَرْتُ بَعْدَها ∗∗∗ بَوائِقَ في أكْمامِها لَمْ تُفَتَّقِ فَيَكُونُ بِمَعْنى خَلَقَ: ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ [فصلت: ١٢]، وأعْلَمَ: ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ﴾ [الإسراء: ٤]، وأمَرَ: ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، وألْزَمَ، مِنهُ: قَضى القاضِي، ووَفّى: ﴿فَلَمّا قَضى مُوسى الأجَلَ﴾ [القصص: ٢٩]، وأرادَ: ﴿إذا قَضى أمْرًا﴾ [آل عمران: ٤٧] . (p-٣٥٦)لَوْلا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وجاءَ ذَلِكَ في القُرْآنِ كَثِيرًا، وحُكْمُها حُكْمُ هَلّا، وتَأْتِي أيْضًا حَرْفَ امْتِناعٍ لِوُجُودٍ، وأحْكامُها بِمَعْنَيَيْها مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ النَّحْوِ، ومِنها أنَّ التَّحْضِيضِيَّةَ لا يَلِيها إلّا الفِعْلُ ظاهِرًا أوْ مُضْمَرًا، وتِلْكَ لا يَلِيها إلّا الِاسْمُ، عَلى خِلافٍ في إعْرابِهِ. الجَحِيمُ: إحْدى طَبَقاتِ النّارِ - أعاذَنا اللَّهُ مِنها - وقالَ الفَرّاءُ: الجَحِيمُ: النّارُ عَلى النّارِ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: النّارُ المُسْتَحْكِمَةُ المُتَلَظِّيَةُ. وقالَ الزَّجّاجُ: النّارُ الشَّدِيدَةُ الوَقُودِ، يُقالُ جَحَمَتِ النّارُ تَجْحَمُ: اشْتَدَّ وقُودُها. وهَذِهِ كُلُّها أقْوالٌ يَقْرُبُ بَعْضُها مِن بَعْضٍ. وقالابْنُ فارِسٍ: الجاحِمُ: المَكانُ الشَّدِيدُ الحَرِّ، ويُقالُ لِعَيْنِ الأسَدِ: جُحْمَةٌ، لِشِدَّةِ تَوَقُّدِها، ويُقالُ لِشِدَّةِ الحَرِّ: جاحِمٌ، قالَ: ؎والحَرْبُ لا يَبْقى لِجا ∗∗∗ حِمِها التَّخَيُّلُ والمَراحُ الرِّضا: مَعْرُوفٌ، ويُقابِلُهُ الغَضَبُ، وفِعْلُهُ رَضِيَ يَرْضى رِضًا بِالقَصْرِ، ورِضاءً بِالمَدِّ، ورِضْوانًا، فَياؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ الرِّضْوانُ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ بِعَنْ وقَدْ جاءَ تَعْدِيَتُهُ بِعَلى، قالَ: ؎إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ وخُرِّجَ عَلى أنْ يَكُونَ عَلى بِمَعْنى عَنْ، أوْ عَلى تَضْمِينِ رَضِيَ مَعْنى عَطَفَ، فَعُدِّيَ بِعَلى كَما تَعَدّى عَطَفَ. المِلَّةُ: الطَّرِيقَةُ، وكَثُرَ اسْتِعْمالُها بِمَعْنى الشَّرِيعَةِ، فَقِيلَ: الِاشْتِقاقُ مِن أمْلَلْتُ؛ لِأنَّ الشَّرِيعَةَ تُبْتَنى عَلى مَتْلُوٍّ ومَسْمُوعٍ. وقِيلَ: مِن قَوْلِهِمْ طَرِيقٌ مُمَلٌّ، أيْ قَدْ أثَّرَ المَشْيُ فِيهِ. الخُسْرانُ والخَسارَةُ: هو النَّقْصُ مِن رَأْسِ المالِ في التِّجارَةِ، هَذا أصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ في النَّقْصِ مُطْلَقًا، وفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، كَما أنَّ مُقابِلَهُ مُتَعَدٍّ، وهو الرِّبْحُ. تَقُولُ: خَسِرَ دِرْهَمًا، كَما تَقُولُ: رَبِحَ دِرْهَمًا. وقالَ: ﴿خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ﴾ [الزمر: ١٥] . * * * ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾: نَزَلَتْ في نَطُّوسَ بْنِ اسْبِيسْيانُوسَ الرُّومِيِّ، الَّذِي خَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ، ولَمْ يَزَلْ خَرابًا إلى أنْ عُمِّرَ في زَمانِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ. وقِيلَ في مُشْرِكِي العَرَبِ: مَنَعُوا (p-٣٥٧)المُسْلِمِينَ مِن ذِكْرِ اللَّهِ في المَسْجِدِ الحَرامِ، قالَهُ عَطاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ في النَّصارى، كانُوا يَوَدُّونَ خَرابَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ويَطْرَحُونَ بِهِ الأقْذارَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ: في الرُّومِ الَّذِينَ أعانُوا بُخْتَ نَصَّرَ عَلى تَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ: حِينَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرائِيلَ يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: لا خِلافَ بَيْنِ أهْلِ العِلْمِ بِالسِّيَرِ أنَّ عَهْدَ بُخْتَ نَصَّرَ كانَ قَبْلَ مَوْلِدِ المَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وقِيلَ في بُخْتَ نَصَّرَ، قالَهُ قَتادَةُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وأبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ كُفّارُ قُرَيْشٍ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ. وعَلى اخْتِلافِ هَذِهِ الأقْوالِ يَجِيءُ الِاخْتِلافُ في تَفْسِيرِ المانِعِ والمَساجِدِ. وظاهِرُ الآيَةِ العُمُومُ في كُلِّ مانِعٍ وفي كُلِّ مَسْجِدٍ، والعُمُومُ وإنْ كانَ سَبَبُ نُزُولِهِ خاصًّا، فالعِبْرَةُ بِهِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: أنَّهُ جَرى ذِكْرُ النَّصارى في قَوْلِهِ: ﴿وقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلى شَيْءٍ﴾ [البقرة: ١١٣]، وجَرى ذِكْرُ المُشْرِكِينَ في قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ [البقرة: ١١٣]، وفي أيٍّ نَزَلَتْ مِنهم كانَ ذَلِكَ مُناسِبًا لِذِكْرِها تَلِي ما قَبْلَها. ومَن: اسْتِفْهامٌ، وهو مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ. وأظْلَمُ: أفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وهو خَبَرٌ عَنْ مَن. ولا يُرادُ بِالِاسْتِفْهامِ هُنا حَقِيقَتُهُ، وإنَّما هو بِمَعْنى النَّفْيِ، كَما قالَ: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إلّا القَوْمُ الفاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٥] ؟ أيْ ما يُهْلَكُ. ومَعْنى هَذا: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ. وقَدْ تَكَرَّرَ هَذا اللَّفْظُ في القُرْآنِ، وهَذا أوَّلُ مَوارِدِهِ، وقالَ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ٢١] . وقالَ: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٥٧] ؟ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها﴾ [الكهف: ٥٧] ؟ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. ولَمّا كانَ هَذا الِاسْتِفْهامُ مَعْناهُ النَّفْيُ كانَ خَبَرًا، ولَمّا كانَ خَبَرًا تَوَهَّمَ بَعْضُ النّاسِ أنَّهُ إذا أُخِذَتْ هَذِهِ الآياتُ عَلى ظَواهِرِها سَبَقَ إلى ذِهْنِهِ التَّناقُضُ فِيها؛ لِأنَّهُ قالَ المُتَأوِّلُ في هَذا: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، وقالَ في أُخْرى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى، وفي أُخْرى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها. فَتَأوَّلَ ذَلِكَ عَلى أنْ خُصَّ كُلُّ واحِدٍ بِمَعْنى صِلَتِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: لا أحَدَ مِنَ المانِعِينَ أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، ولا أحَدَ مِنَ المُفْتَرِينَ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ، وكَذَلِكَ باقِيها. فَإذا تَخَصَّصَتْ بِالصِّلاتِ زالَ عِنْدَهُ التَّناقُضُ. وقالَ غَيْرُهُ: التَّخْصِيصُ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلى السَّبْقِ، لَمّا لَمْ يَسْبِقْ أحَدٌ إلى مِثْلِهِ، حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم أظْلَمُ مِمَّنْ جاءَ بَعْدَهم سالِكًا طَرِيقَتَهم في ذَلِكَ، وهَذا يَئُولُ مَعْناهُ إلى السَّبْقِ في المانِعِيَّةِ، أوِ الِافْتِرائِيَّةِ. وهَذا كُلُّهُ بُعْدٌ عَنْ مَدْلُولِ الكَلامِ ووَضْعِهِ العَرَبِيِّ، وعُجْمَةٌ في اللِّسانِ يَتْبَعُها اسْتِعْجامُ المَعْنى. وإنَّما هَذا نَفْيٌ لِلْأظْلَمِيَّةِ، ونَفْيُ الأظْلَمِيَّةِ لا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الظّالِمِيَّةِ؛ لِأنَّ نَفْيَ المُقَيَّدِ لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ المُطْلَقِ. لَوْ قُلْتَ: ما في الدّارِ رَجُلٌ ظَرِيفٌ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى نَفْيِ مُطْلَقِ رَجُلٍ، وإذا لَمْ يَدُلَّ عَلى نَفْيِ الظّالِمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ تَناقُضًا؛ لِأنَّ فِيها إثْباتَ التَّسْوِيَةِ في الأظْلَمِيَّةِ. وإذا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ في الأظْلَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلى الآخَرِ، لِأنَّهم يَتَساوَوْنَ في الأظْلَمِيَّةِ. وصارَ المَعْنى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ، ومِمَّنِ افْتَرى، ومِمَّنْ ذُكِّرَ. ولا إشْكالَ في تَساوِي هَؤُلاءِ في الأظْلَمِيَّةِ. ولا يَدُلُّ عَلى أنَّ أحَدَ هَؤُلاءِ أظْلَمُ مِنَ الآخَرِ. كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ: لا أحَدَ أفْقَهُ مِن زَيْدٍ وعَمْرٍو وخالِدٍ، لا يَدُلُّ عَلى أنَّ أحَدَهم أفْقَهُ مِنَ الآخَرِ، بَلْ نَفْيُ أنْ يَكُونَ أحَدٌ أفْقَهَ مِنهم. لا يُقالُ: إنَّ مَن مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، وسَعى في خَرابِها، ولَمْ يَفْتَرِ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ، أقَلُّ ظُلْمًا مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَهُما، فَلا يَكُونُ مُساوِيًا في الأظْلَمِيَّةِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآياتِ كُلَّها إنَّما هي في الكُفّارِ، فَهم مُتَساوُونَ في الأظْلَمِيَّةِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الأظْلَمِيَّةِ. فَكُلُّها صائِرَةٌ إلى الكُفْرِ، فَهو شَيْءٌ واحِدٌ لا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِأفْرادِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ، وإنَّما تُمْكِنُ الزِّيادَةُ في الظُّلْمِ بِالنِّسْبَةِ لَهم، ولِلْعُصاةِ المُؤْمِنِينَ بِجامِعِ ما اشْتَرَكُوا فِيهِ مِنَ المُخالَفَةِ، فَنَقُولُ: الكافِرُ أظْلَمُ مِنَ المُؤْمِنِ، ونَقُولُ: لا أحَدَ أظْلَمُ مِنَ الكافِرِ. ومَعْناهُ: أنَّ ظُلْمَ الكافِرِ يَزِيدُ عَلى ظُلْمِ غَيْرِهِ. ومَن في قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَنَعَ، (p-٣٥٨)مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. أنْ يُذْكَرَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا لِمَنَعَ، أوْ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، فَيَتَعَيَّنَ حَذْفُ مُضافٍ، أيْ دُخُولَ مَساجِدِ اللَّهِ، أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ، أوْ بَدَلًا مِن مَساجِدَ بَدَلَ اشْتِمالٍ، أيْ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ فِيها، أوْ مَفْعُولًا عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ مِن أنْ يُذْكَرَ. فَلَمّا حُذِفَتْ ”مَن“ انْتَصَبَ عَلى رَأْيٍ، أوْ بَقِيَ مَجْرُورًا عَلى رَأْيٍ. وكَنّى بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَمّا يُوقَعُ في المَساجِدِ مِنَ الصَّلَواتِ والتَّقَرُّباتِ إلى اللَّهِ تَعالى بِالأفْعالِ القَلْبِيَّةِ والقالِبِيَّةِ، مِن تِلاوَةِ كُتُبِهِ، وحَرَكاتِ الجِسْمِ مِنَ القِيامِ والرُّكُوعِ والسُّجُودِ والقُعُودِ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، أوْ إنَّما ذُكِرَ تَعَلُّقُ المَنعِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهم مَنَعُوا مِن أيْسَرِ الأشْياءِ، وهو التَّلَفُّظُ بِاسْمِ اللَّهِ. فَمَنعُهم لِما سِواهُ أوْلى. وحُذِفَ الفاعِلُ هُنا اخْتِصارًا، لِأنَّهم عالَمٌ لا يُحْصَوْنَ. وجاءَ تَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ؛ لِأنَّ المُحَدَّثَ عَنْهُ قَبْلُ هي مَساجِدُ اللَّهِ، وهي في اللَّفْظِ مَذْكُورَةٌ قَبْلَ اسْمِ اللَّهِ، فَناسَبَ تَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِذَلِكَ. وأُضِيفَتِ المَساجِدُ لِلَّهِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ﴾ [الجن: ١٨]، وخُصَّ بِلَفْظِ المَسْجِدِ، وإنْ كانَ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ أفْعالًا كَثِيرَةً مِنَ القِيامِ والرُّكُوعِ والقُعُودِ والعُكُوفِ. وكُلُّ هَذا مُتَعَبَّدٌ بِهِ، ولَمْ يَقُلْ مَقامٌ ولا مَرْكَعٌ ولا مَقْعَدٌ ولا مَعْكَفٌ؛ لِأنَّ السُّجُودَ أعْظَمُ الهَيْئاتِ الدّالَّةِ عَلى الخُضُوعِ والخُشُوعِ والطَّواعِيَةِ التّامَّةِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﷺ: «أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ» ؟ وهي حالَةٌ يُلْقِي فِيها الإنْسانُ نَفْسَهُ لِلِانْقِيادِ التّامِّ، ويُباشِرُ بِأفْضَلِ ما فِيهِ وأعْلاهُ - وهو الوَجْهُ - التُّرابَ الَّذِي هو مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ الآيَةُ تَتَناوَلُ كُلَّ مَن مَنَعَ مِن مَسْجِدٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، أوْ خَرَّبَ مَدِينَةَ إسْلامٍ، لِأنَّها مَساجِدُ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مَوْقُوفَةً، إذِ الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ قِيلَ ”مَساجِدَ اللَّهِ“ ؟ وإنَّما وقَعَ المَنعُ والتَّخْرِيبُ عَلى مَسْجِدٍ واحِدٍ وهو بَيْتُ المَقْدِسِ، أوِ المَسْجِدِ الحَرامِ ؟ قُلْتُ: لا بَأْسَ أنْ يَجِيءَ الحُكْمُ عامًّا، وإنْ كانَ السَّبَبُ خاصًّا، كَما تَقُولُ لِمَن آذى صالِحًا واحِدًا، ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ آذى الصّالِحِينَ ؟ وكَما قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ويْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١]، والمَنزُولُ فِيهِ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ غَيْرُهُ: جُمِعَتْ لِأنَّها قِبْلَةُ المَساجِدِ كُلِّها، يَعْنِي الكَعْبَةَ لِلْمُسْلِمِينَ، وبَيْتَ المَقْدِسِ لِغَيْرِهِ. ﴿وسَعى في خَرابِها﴾: إمّا حَقِيقَةً، كَتَخْرِيبِ بَيْتِ المَقْدِسِ، أوْ مَجازًا بِانْقِطاعِ الذِّكْرِ فِيها ومَنعِ قاصِدِيها مِنها، إذْ ذَلِكَ يَئُولُ بِها إلى الخَرابِ. فَجُعِلَ المَنعُ خَرابًا، كَما جُعِلَ التَّعاهُدُ بِالذِّكْرِ والصَّلاةِ عِمارَةً، وذَلِكَ مَجازٌ. وقالَ المَرْوَزِيُّ: قالَ ومَن أظْلَمُ لِيُعْلِمَ أنَّ قُبْحَ الِاعْتِقادِ يُورِثُ تَخْرِيبَ المَساجِدِ، كَما أنَّ حُسْنَ الِاعْتِقادِ يُورِثُ عِمارَةَ المَساجِدِ. ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قالُوا تَدُلُّ عَلى ما يَقَعُ في المُسْتَقْبَلِ، وذَلِكَ مِن مُعْجِزِ القُرْآنِ، إذْ هو مِنَ الإخْبارِ بِالغَيْبِ. وفِيها بِشارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعُلُوِّ كَلِمَةِ الإسْلامِ وقَهْرِ مَن عاداهُ. إلّا خائِفِينَ: نَصْبٌ عَلى الحالِ، وهو اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الأحْوالِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: إلّا خُيَّفًا، وهو جَمْعُ خائِفٍ، كَنائِمٍ ونُوَّمٍ، ولَمْ يَجْعَلْها فاصِلَةً، فَلِذَلِكَ جُمِعَتْ جَمْعَ التَّكْسِيرِ. وإبْدالُ الواوِ ياءً، إذِ الأصْلُ خَوْفٌ، وذَلِكَ جائِزٌ كَقَوْلِهِمْ، في صُوَّمٍ صُيَّمٍ، وخَوْفُهم: هو ما يَلْحَقُهم مِنَ الصَّغارِ والذُّلِّ والجِزْيَةِ، أوْ مِن أنْ يَبْطِشَ بِهِمُ المُؤْمِنُونَ، أوْ في المُحاكَمَةِ، وهي تَتَضَمَّنُ الخَوْفَ، أوْ ضَرْبًا مُوجِعًا؛ لِأنَّ النَّصارى لا يَدْخُلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ إلّا خائِفِينَ مِنَ الضَّرْبِ، أقْوالٌ. والظّاهِرُ أنَّ المَعْنى: أُولَئِكَ ما يَنْبَغِي لَهم أنْ يَدْخُلُوا مَساجِدَ اللَّهِ إلّا وهم خائِفُونَ مِنَ اللَّهِ وجِلُونَ مِن عِقابِهِ. فَكَيْفَ لَهم أنْ يَلْتَبِسُوا بِمَنعِها مِن ذِكْرِ اللَّهِ والسَّعْيِ في تَخْرِيبِها، إذْ هي بُيُوتٌ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبَّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ ؟ وما هَذِهِ سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أنْ يُعَظَّمَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ، ويُسْعى في عِمارَتِهِ، ولا يَدْخُلَهُ الإنْسانُ إلّا وجِلًا خائِفًا، إذْ هو بَيْتُ اللَّهِ أمَرَ بِالمُثُولِ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْعِبادَةِ. ونَظِيرُ الآيَةِ أنْ يَقُولَ: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ قَتَلَ ولِيًّا لِلَّهِ تَعالى ؟ (p-٣٥٩)ما كانَ لَهُ أنْ يَلْقاهُ إلّا مُعَظِّمًا لَهُ مُكْرِمًا أيْ هَذِهِ حالَةُ مَن يَلْقى ولِيًّا لِلَّهِ، لا أنْ يُباشِرَهُ بِالقَتْلِ. فَفي ذَلِكَ تَقْبِيحٌ عَظِيمٌ عَلى ما وقَعَ مِنهُ، إذْ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ ضِدُّهُ، وهو التَّبْجِيلُ والتَّعْظِيمُ. ولَمّا لَمْ يَقَعْ هَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ لِلْمُفَسِّرِينَ، اخْتَلَفُوا في الآيَةِ عَلى تِلْكَ الأقْوالِ الَّتِي ذَكَرْناها عَنْهم. ولَوْ أُرِيدَ ما ذَكَرُوهُ، لَكانَ اللَّفْظُ: أُولَئِكَ ما يَدْخُلُونَها إلّا خائِفِينَ، ولَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ: ”ما كانَ لَهم“، الدّالَّةِ عَلى نَفْيِ الِابْتِغاءِ. وقِيلَ المَعْنى: ما كانَ لَهم في حُكْمِ اللَّهِ، يَعْنِي أنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ وكَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ أنَّهُ يَنْصُرُ المُؤْمِنِينَ ويُقَوِّيهِمْ حَتّى لا يَدْخُلَ المَساجِدَ الكُفّارُ إلّا خائِفِينَ. قالَ بَعْضُ النّاسِ: وفِيها دَلالَةٌ عَلى جَوازِ دُخُولِ الكُفّارِ المَساجِدَ عَلى صِفَةِ الخَوْفِ، ولَيْسَ كَما قالَ، إذْ قَدْ ذَكَرْنا ما دَلَّ عَلَيْهِ ظاهِرُ الآيَةِ. وقِيلَ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها﴾: أنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الخَبَرِ ومَعْناهُ الأمْرُ لَنا بِأنْ نُخِيفَهم، وإنَّما ذُهِبَ إلى ذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أخْبَرَ أنَّهم سَيَدْخُلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والغَلَبَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧]، ولِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أخْبَرَ أنَّ ذا السَّوِيقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ يَهْدِمُ الكَعْبَةَ حَجَرًا حَجَرًا. فَلَمّا رَأى أنَّ هَذا يُعارِضُ الآيَةَ إذا جَعَلْناها خَبَرًا لَفْظًا ومَعْنًى حَمْلِها عَلى الأمْرِ، ودَلالَتُها عَلى الأمْرِ لَنا بِالإخافَةِ لَهم بَعِيدَةٌ جِدًّا، وإذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى ما ذَكَرْناهُ، بَطَلَتْ هَذِهِ الأقْوالُ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ﴾ [الإسراء: ٧]، فَلَيْسَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ يَوْمِ القِيامَةِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ في مَوْضِعِهِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ﴾، حُمِلَ عَلى مَعْنى مَن في قَوْلِهِ: ﴿ومَن أظْلَمُ﴾، ولا يَخْتَصُّ الحَمْلُ فِيها عَلى اللَّفْظِ وعَلى المَعْنى بِكَوْنِها مَوْصُولَةً، بَلْ هي كَذَلِكَ في سائِرِ مَعانِيها مِنَ الوَصْلِ والشَّرْطِ والِاسْتِفْهامِ، وكِلاهُما مَوْجُودٌ فِيها في سائِرِ مَعانِيها في كَلامِ العَرَبِ. أمّا إذا كانَتْ مَوْصُوفَةً نَحْوَ: مَرَرْتُ بِمَن مُحْسِنٌ لَكَ، فَلَيْسَ في مَحْفُوظِي مِن كَلامِ العَرَبِ مُراعاةُ المَعْنى فِيها. وقَدْ تَكَلَّمْنا قَبْلُ عَلى كَوْنِها مَوْصُوفَةً. وقالَ بَعْضُ النّاسِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ﴾: الآيَةَ، دَلِيلٌ عَلى مَنعِ دُخُولِ الكافِرِ المَسْجِدَ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ، وهي مَسْألَةٌ تُذْكَرُ في عِلْمِ الفِقْهِ، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرَهُ عَلى ما فَهِمْنا نَحْنُ مِنَ الآيَةِ. * * * ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾: هَذا الجَزاءُ مُناسِبٌ لِما صَدَرَ مِنهم. أمّا الخِزْيُ في الدُّنْيا فَهو الهَوانُ والإذْلالُ، وهو مُناسِبٌ لِلْوَصْفِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ فِيهِ إخْمالَ المَساجِدِ بِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ وتَعْطِيلِها مِن ذَلِكَ، فَجُوزُوا عَلى ذَلِكَ بِالإذْلالِ والهَوانِ. وأمّا العَذابُ العَظِيمُ في الآخِرَةِ، فَهو العَذابُ بِالنّارِ، وهو إتْلافٌ لِهَياكِلِهِمْ وصُوَرِهِمْ، وتَخْرِيبٌ لَها بَعْدَ تَخْرِيبٍ ﴿نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا العَذابَ﴾ [النساء: ٥٦] . وهو مُناسِبٌ لِلْوَصْفِ الثّانِي، وهو سَعْيُهم في تَخْرِيبِ المَساجِدِ، فَجُوزُوا عَلى ذَلِكَ بِتَخْرِيبِ صُوَرِهِمْ وتَمْزِيقِها بِالعَذابِ. ولَمّا كانَ الخِزْيُ الَّذِي يَلْحَقُهم في الدُّنْيا لا يَتَفاوَتُونَ فِيهِ حُكْمًا، سَواءٌ فَسَّرْتَهُ بِقَتْلٍ أوْ سَبْيٍ لِلْحَرْبِيِّ، أوْ جِزْيَةٍ لِلذِّمِّيِّ، لَمْ يَحْتَجْ إلى وصْفٍ. ولَمّا كانَ العَذابُ مُتَفاوِتًا - أعْنِي عَذابَ الكافِرِ وعَذابَ المُؤْمِنِ - وُصِفَ عَذابُ الكافِرِ بِالعِظَمِ لِيَتَمَيَّزَ مِن عَذابِ المُؤْمِنِ. وقِيلَ: الخِزْيُ هو الفَتْحُ الإسْلامِيُّ، كالقُسْطَنْطِينِيَّةِ وعَمُّورِيَّةَ ورُومِيَّةَ، وقِيلَ: جِزْيَةُ الذِّمِّيِّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقِيلَ: طَرْدُهم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وقِيلَ: قَتْلُ المَهْدِيِّ إيّاهم إذا خَرَجَ، قالَهُ المَرْوَزِيُّ، وقِيلَ: مَنعُهم مِنَ المَساجِدِ. قالَ بَعْضُ مُعاصِرِينا: إنَّ عَلى كُلِّ طائِفَةٍ مِنَ الكُفّارِ في الدُّنْيا خِزْيًا. أمّا اليَهُودُ والنَّصارى، فَقَتْلُ قُرَيْظَةَ، وإجْلاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وقَتْلُ النَّصارى وفَتْحُ حُصُونِهِمْ وبِلادِهِمْ، وإجْراءُ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، والسِّيما الَّتِي التَزَمُوها، وما شَرَطَهُ عُمَرُ عَلَيْهِمْ. وأمّا مُشْرِكُو العَرَبِ، فَقَتْلُ أبْطالِهِمْ وأقْيالِهِمْ، وكَسْرُ أصْنامِهِمْ، وتَسْفِيهُ أحْلامِهِمْ، وإخْراجُهم مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ الَّتِي هي دارُ قَرارِهِمْ ومَسْقَطُ رُءُوسِهِمْ، وإلْزامُهم خُطَّةَ الهَلاكِ مِنَ القَتْلِ إلّا أنْ يُسْلِمُوا. وقالَ (p-٣٦٠)الفَرّاءُ: مَعْناهُ في آخِرِ الدُّنْيا، وهو ما وعَدَ اللَّهُ بِهِ المُسْلِمِينَ مِن فَتْحِ الرُّومِ، ولَمْ يَكُنْ بَعْدُ. قالَ القُشَيْرِيُّ: في قَوْلِهِ تَعالى: (ومَن أظْلَمُ) الآيَةَ، إشارَةٌ إلى ظُلْمِ مَن خَرَّبَ أوْطانَ المَعْرِفَةِ بِالمُنى والعَلاقاتِ، وهي قُلُوبُ العارِفِينَ وأوْطانَ العِبادَةِ بِالشَّهَواتِ، وهي نُفُوسُ العِبادِ، وأوْطانَ المَحَبَّةِ بِالحُظُوظِ والمُساكَناتِ، وهي أرْواحُ الواجِدِينَ، وأوْطانَ المُشاهَداتِ بِالِالتِفاتِ إلى القُرُباتِ، وهي أسْرارُ المُوَحِّدِينَ. ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾: ذُلُّ الحِجابِ، وفي الآخِرَةِ عَذابٌ لِاقْتِناعِهِمْ بِالدَّرَجاتِ. انْتَهى، وبَعْضُهُ مُلَخَّصٌ. وهَذا تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ القُرْآنِ، وكَذا أكْثَرُ ما يَقُولُهُ هَؤُلاءِ القَوْمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب