الباحث القرآني

ولَمّا اشْتَرَكَتْ جَمِيعُ هَذِهِ الفِرَقِ في الظُّلْمِ وزادَ الجَهَلَةُ مَنَعَ حِزْبَ اللَّهِ مِن عِمارَةِ المَسْجِدِ الحَرامِ بِما يُرْضِيهِ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ فازْدادُوا بِذَلِكَ ظُلْمًا آخَرَ، وكانَ مَن مَنَعَ مَسْجِدًا واحِدًا لِكَوْنِهِ مَسْجِدًا مانِعًا لِجَمِيعِ المَساجِدِ قالَ: ﴿ومَن أظْلَمُ﴾ أيْ: مِنهم، وإنَّما أبْدَلَ الضَّمِيرَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ﴾ أيِ: الجامِعَ لِصِفاتِ الكَمالِ الَّتِي هي جِنانُ الدُّنْيا لِكَوْنِها أسْبابَ الجَنَّةِ الَّتِي قَصَرُوها عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أبْدَلَ مِن ذَلِكَ تَفْخِيمًا لَهُ تَذْكِرَةً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، قَوْلَهُ: ﴿أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾ وعَطَفَ بِقَوْلِهِ: ﴿وسَعى في خَرابِها﴾ أيْ: بِتَعْطِيلِها عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ لِبُعْدِ وُجُوهِ ظُلْمِهِمْ زِيادَةً في تَبْكِيتِهِمْ، والمَنعُ الكَفُّ عَمّا يَتَرامى إلَيْهِ، والمَسْجِدُ مَفْعِلٌ لِمَوْضِعِ السُّجُودِ وهو (p-١١٩)أخْفَضُ مَحَطِّ القائِمِ، والسَّعْيُ: الإسْراعُ في الأمْرِ حِسًّا أوْ مَعْنًى، والخَرابُ: ذَهابُ العِمارَةِ، والعِمارَةُ: إحْياءُ المَكانِ وإشْغالُهُ بِما وُضِعَ لَهُ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما رَتَّبَهُ عَلى فِعْلِهِمْ مِنَ الخَوْفِ في المَسْجِدِ الَّذِي أخافُوا فِيهِ أوْلِياءَهُ وفي جَمِيعِ جِنْسِهِ والخِزْيِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ضِدَّ ما رَتَّبَهُ لِمَن أحْسَنَ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ: البُعَداءُ البُغَضاءُ، ﴿ما كانَ لَهُمْ﴾ أيْ: ما صَحَّ وما انْبَغى، ﴿أنْ يَدْخُلُوها﴾ أيِ: المَساجِدَ المَوْصُوفَةَ، ﴿إلا خائِفِينَ﴾ وما كانَ أمْنُهم فِيها إلّا بِسَبَبِ كَثْرَةِ المُساعِدِ عَلى ما ارْتَكَبُوهُ مِنَ الظُّلْمِ والتَّمالُؤِ عَلى الباطِلِ وسَنُزِيلُ ذَلِكَ، ثُمَّ عَمَّمَ الحُكْمَ بِما يَنْدَرِجُ فِيهِ هَذا الخَوْفُ فَقالَ: ﴿لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ أيْ: عَظِيمٌ بِذَلِكَ وبِغَيْرِهِ، ثُمَّ زادَهُ بِأنَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ولَهم في الآخِرَةِ﴾ الَّتِي هم لَها مُنْكِرُونَ بِالِاعْتِقادِ أوِ الأفْعالِ، ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ فَدَلَّ بِوَصْفِ العَذابِ عَلى وصْفِ الخِزْيِ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ بِالتَّنْوِينِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وفِيهِ إنْباءٌ بِإحْباطِ ما يَصْرِفُ عَنْهم وجْهًا مِن وُجُوهِ العَذابِ، فَنالَهم مِنَ العَذابِ العَظِيمِ ما نالَ الكافِرِينَ حَتّى كانَ ما كانَ لَهم مِن مِلَّةٍ وكِتابٍ لَمْ يَكُنْ، وذَلِكَ أسْوَأُ الخَسارِ؛ قالَ: ومِنَ المَوْعُودِ أنَّ مِن أعْلامِ قِيامِ السّاعَةِ تَضْيِيعَ (p-١٢٠)المَساجِدِ لِذَلِكَ كُلُّ أُمَّةٍ وكُلُّ طائِفَةٍ وكُلُّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ تَطَرَّقَ بِجُرْمٍ في مَسْجِدٍ يَكُونُ فِعْلُهُ سَبَبًا لِخِلائِهِ فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُعاقِبُهُ بِرَوْعَةٍ ومَخافَةٍ تَنالُهُ في الدُّنْيا، حَتّى يَنْتَظِمَ بِذَلِكَ مَن خَرَّبَ مَدِينَةً مِن مُدُنِ الإسْلامِ أوْ كانَتْ أعْمالُهُ سَبَبَ خَرابِها، وفي ضِمْنِ ذَلِكَ ما كانَ مِن أحْداثِ المُسَلَّطِينَ عَلى البَيْتِ المُقَدَّسِ بِما جَرَتْ إلَيْهِ أعْمالُ يَهُودٍ فِيهِ؛ قالَ: كَذَلِكَ أجْرى اللَّهُ سُنَّتَهُ أنَّ مَن لَمْ يُقِمْ حُرْمَةَ مَساجِدِهِ شَرَّدَهُ مِنها وأحْوَجَهُ لِدُخُولِها تَحْتَ رَقَبَةٍ وذِمَّةٍ مِن أعْدائِهِ، كَما قَدْ شَهِدَتْ مُشاهَدَةُ بَصائِرِ أهْلِ التَّبْصِرَةِ، وخُصُوصًا في الأرْضِ المُقَدَّسَةِ المُتَناوَبِ فِيها دُوَلُ الغَلَبِ بَيْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ (p-١٢١)وأهْلِ الكِتابِ، ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢] ﴿فِي أدْنى الأرْضِ وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ٣] ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤] فَكُلُّ طائِفَةٍ في بِضْعِها إذا ساءَ عَمَلُها في مَسْجِدِها شُرِّدَتْ مِنهُ ودَخَلَتْهُ في بِضْعِ الأُخْرى خائِفَةً كَذَلِكَ حَتّى تَكُونَ العاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ حِينَ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، قالَ: وفي إشْعارِهِ تَحْذِيرٌ مِن غَلْقِ المَساجِدِ وإيصادِها وحَجْرِها عَلى القاصِدِينَ لِلتَّحَنُّثِ فِيها والخَلْوَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ، ولَيْسَ رَفْعُ المَساجِدِ مَنعُها بَلْ رَفْعُها أنْ لا يُذْكَرَ فِيها غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ، قالَ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦] قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا بَنى الرَّحْبَةَ: مَن أرادَ أنَّ يَلْغَطَ أوْ يَتَحَدَّثَ أوْ يَنْشُدَ شِعْرًا فَلْيَخْرُجْ إلى هَذِهِ الرَّحْبَةِ، وقالَ ﷺ: «جَنِّبُوا مَساجِدَكم صِبْيانَكم ومَجانِينَكم وسَلَّ سُيُوفِكم وبَيْعَكم وشِراءَكم، وابْنُوا عَلى أبْوابِها المَطاهِرَ»، فَفي حِلِّ ذَلِكَ إنْباءٌ بِأنَّ مَن عَمِلَ في مَساجِدِ اللَّهِ بِغَيْرِ ما وُضِعَتْ لَهُ مِن ذِكْرِ اللَّهِ كانَ ساعِيًا في خَرابِها ونالَهُ الخَوْفُ في مَحَلِّ الأمْنِ، انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب