الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا اسْتَقْصى في شَرْحِ الوَعْدِ والوَعِيدِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ فَجَمَعَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَتَّصِلُ بِالتَّكْلِيفِ فَرْضًا ونَفْلًا، وما يَتَّصِلُ بِالأخْلاقِ والآدابِ عُمُومًا وخُصُوصًا، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في بَيانِ فَضائِلِ هَذِهِ الآيَةِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ عُثْمانَ بْنَ مَظْعُونٍ الجُمَحِيَّ قالَ: ما أسْلَمْتُ أوَّلًا إلّا حَياءً مِن مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولَمْ يَتَقَرَّرِ الإسْلامُ في قَلْبِي، فَحَضَرْتُهُ ذاتَ يَوْمٍ، فَبَيْنَما هو يُحَدِّثُنِي إذْ رَأيْتُ بَصَرَهُ شَخَصَ إلى السَّماءِ ثُمَّ خَفَضَهُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ عادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَسَألْتُهُ، فَقالَ: ”بَيْنَما أنا أُحَدِّثُكَ إذا بِجِبْرِيلَ نَزَلَ عَنْ يَمِينِي فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ، العَدْلُ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والإحْسانُ: القِيامُ بِالفَرائِضِ وإيتاءُ ذِي القُرْبى - أيْ صِلَةُ ذِي القَرابَةِ - ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ - الزِّنا - والمُنْكَرِ -ما لا يُعْرَفُ في شَرِيعَةٍ ولا سُنَّةٍ - والبَغْيِ - الِاسْتِطالَةِ“ . قالَ عُثْمانُ: فَوَقَعَ الإيمانُ في قَلْبِي فَأتَيْتُ أبا طالِبٍ فَأخْبَرْتُهُ فَقالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اتَّبِعُوا ابْنَ أخِي تَرْشُدُوا ولَئِنْ كانَ صادِقًا أوْ كاذِبًا فَإنَّهُ ما يَأْمُرُكم إلّا بِمَكارِمِ الأخْلاقِ، فَلَمّا رَأىَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن عَمِّهِ اللِّينَ قالَ: يا عَمّاهُ أتَأْمُرُ النّاسَ أنْ يَتَّبِعُونِي وتَدَعُ نَفْسَكَ، وجَهَدَ عَلَيْهِ، فَأبى أنْ يُسْلِمَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ»﴾ [القَصَصِ: ٥٦] . وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ أجْمَعَ آيَةٍ في القُرْآنِ لِخَيْرٍ وشَرٍّ هَذِهِ الآيَةُ، وعَنْ قَتادَةَ: لَيْسَ مِن خُلُقٍ حَسَنٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يُعْمَلُ ويُسْتَحَبُّ إلّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ، ولَيْسَ مِن خُلُقٍ سَيِّئٍ إلّا نَهى اللَّهُ عَنْهُ في هَذِهِ الآيَةِ، ورَوى القاضِي في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ ماجَهْ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: «أمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلى قَبائِلِ العَرَبِ، فَخَرَجَ وأنا مَعَهُ وأبُو بَكْرٍ، فَوَقَفْنا عَلى مَجْلِسٍ عَلَيْهِمُ الوَقارُ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: مِمَّنِ القَوْمُ ؟ فَقالُوا: مِن شَيْبانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَدَعاهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الشَّهادَتَيْنِ وإلى أنْ يَنْصُرُوهُ، فَإنَّ قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ، فَقالَ مَقْرُونُ بْنُ عَمْرٍو: إلامَ تَدْعُونا أخا قُرَيْشٍ ؟ فَتَلا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ الآيَةَ، فَقالَ مَقْرُونُ بْنُ عَمْرٍو: دَعَوْتَ واللَّهِ إلى مَكارِمِ الأخْلاقِ ومَحاسِنِ الأعْمالِ، ولَقَدْ أفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وظاهَرُوا عَلَيْكَ» . وعَنْ عِكْرِمَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ عَلى الوَلِيدِ فاسْتَعادَهُ، ثم قال: إنَّ لَهُ لَحَلاوَةً وإنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً»، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ فَإذا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» “ . واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: أكْثَرَ النّاسُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في بَعْضِ الرِّواياتِ العَدْلُ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والإحْسانُ أداءُ الفَرائِضِ. وقالَ في رِوايَةٍ أُخْرى: العَدْلُ خَلْعُ الأنْدادِ، والإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، وأنْ تُحِبَّ لِلنّاسِ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، فَإنْ كانَ مُؤْمِنًا أحْبَبْتَ أنْ يَزْدادَ إيمانًا، وإنْ (p-٨٢)كانَ كافِرًا أحْبَبْتَ أنْ يَصِيرَ أخاكَ في الإسْلامِ. وقالَ في رِوايَةٍ ثالِثَةٍ: العَدْلُ هو التَّوْحِيدُ، والإحْسانُ الإخْلاصُ فِيهِ. وقالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِالعَدْلِ في الأفْعالِ والإحْسانِ في الأقْوالِ، فَلا تَفْعَلْ إلّا ما هو عَدْلٌ ولا تَقُلْ إلّا ما هو إحْسانٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وإيتاءِ ذِي القُرْبى﴾ يُرِيدُ صِلَةَ الرَّحِمِ بِالمالِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالدُّعاءِ، رَوى أبُو مُسْلِمٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«إنَّ أعْجَلَ الطّاعَةِ ثَوابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، إنَّ أهْلَ البَيْتِ لَيَكُونُونَ فُجّارًا فَتَنْمى أمْوالُهم ويَكْثُرُ عَدَدُهم؛ إذا وصَلُوا أرْحامَهم» “، وقَوْلُهُ: ﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ قِيلَ: الزِّنا، وقِيلَ: البُخْلُ، وقِيلَ: كُلُّ الذُّنُوبِ، سَواءٌ كانَتْ صَغِيرَةً أوْ كَبِيرَةً، وسَواءٌ كانَتْ في القَوْلِ أوْ في الفِعْلِ، وأمّا المُنْكَرُ فَقِيلَ: إنَّهُ الكُفْرُ بِاللَّهِ تَعالى، وقِيلَ: المُنْكَرُ ما لا يُعْرَفُ في شَرِيعَةٍ ولا سُنَّةٍ، وأمّا البَغْيُ فَقِيلَ: الكِبْرُ والظُّلْمُ، وقِيلَ: أنْ تَبْغِيَ عَلى أخِيكَ. واعْلَمْ أنَّ في المَأْمُوراتِ كَثْرَةً وفي المَنهِيّاتِ أيْضًا كَثْرَةً، وإنَّما حَسُنَ تَفْسِيرُ لَفْظٍ مُعَيَّنٍ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، إذا حَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ وبَيْنَ ذَلِكَ المَعْنى مُناسَبَةٌ. أمّا إذا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الحالَةُ كانَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ فاسِدًا، فَإذا فَسَّرْنا العَدْلَ بِشَيْءٍ والإحْسانَ بِشَيْءٍ آخَرَ وجَبَ أنْ نُبَيِّنَ أنَّ لَفْظَ العَدْلِ يُناسِبُ ذَلِكَ المَعْنى، ولَفْظُ الإحْسانِ يُناسِبُ هَذا المَعْنى، فَلَمّا لَمْ نُبَيِّنْ هَذا المَعْنى كانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّحَكُّمِ، ولَمْ يَكُنْ جَعْلُ بَعْضِ تِلْكَ المَعانِي تَفْسِيرًا لِبَعْضِ تِلْكَ الألْفاظِ أوْلى مِنَ العَكْسِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْناها لَيْسَتْ قَوِيَّةً في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وأقُولُ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: وهي العَدْلُ والإحْسانُ وإيتاءُ ذِي القُرْبى، ونَهى عَنْ ثَلاثَةِ أشْياءَ: وهي الفَحْشاءُ والمُنْكَرُ والبَغْيُ. فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ العَدْلُ والإحْسانُ وإيتاءُ ذِي القُرْبى ثَلاثَةَ أشْياءَ مُتَغايِرَةً. ووَجَبَ أنْ تَكُونَ الفَحْشاءُ والمُنْكَرُ والبَغْيُ ثَلاثَةَ أشْياءَ مُتَغايِرَةً؛ لِأنَّ العَطْفَ يُوجِبُ المُغايَرَةَ، فَنَقُولُ: أمّا العَدْلُ فَهو عِبارَةٌ عَنِ الأمْرِ المُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ، وذَلِكَ أمْرٌ واجِبُ الرِّعايَةِ في جَمِيعِ الأشْياءِ، ولا بُدَّ مِن تَفْصِيلِ القَوْلِ فِيهِ. فَنَقُولُ: الأحْوالُ الَّتِي وقَعَ التَّكْلِيفُ بِها؛ إمّا الِاعْتِقاداتُ وإمّا أعْمالُ الجَوارِحِ. أمّا الِاعْتِقاداتُ: فالعَدْلُ في كُلِّها واجِبُ الرِّعايَةِ: فَأحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ المُرادَ بِالعَدْلِ هو قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ نَفْيَ الإلَهِ تَعْطِيلٌ مَحْضٌ، وإثْباتَ أكْثَرِ مِن إلَهٍ واحِدٍ تَشْرِيكٌ وتَشْبِيهٌ، وهُما مَذْمُومانِ، والعَدْلُ: هو إثْباتُ الإلَهِ الواحِدِ، وهو قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وثانِيها: أنَّ القَوْلَ بِأنَّ الإلَهَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ ولا شَيْءَ - تَعْطِيلٌ مَحْضٌ. والقَوْلُ بِأنَّهُ جِسْمٌ وجَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الأعْضاءِ، ومُخْتَصٌّ بِالمَكانِ - تَشْبِيهٌ مَحْضٌ. والعَدْلُ إثْباتُ إلَهٍ مَوْجُودٍ مُتَحَقِّقٍ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الجِسْمِيَّةِ والجَوْهَرِيَّةِ والأعْضاءِ والأجْزاءِ والمَكانِ. وثالِثُها: أنَّ القَوْلَ بِأنَّ الإلَهَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالصِّفاتِ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ تَعْطِيلٌ مَحْضٌ. والقَوْلُ بِأنَّ صِفاتَهُ حادِثَةٌ مُتَغَيِّرَةٌ - تَشْبِيهٌ مَحْضٌ. والعَدْلُ: هو إثْباتُ أنَّ الإلَهَ عالِمٌ قادِرٌ حَيٌّ؛ مَعَ الِاعْتِرافِ بِأنَّ صِفاتَهُ لَيْسَتْ حادِثَةً ولا مُتَغَيِّرَةً. ورابِعُها: أنَّ القَوْلَ بِأنَّ العَبْدَ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ ولا اخْتِيارٌ - جَبْرٌ مَحْضٌ. والقَوْلُ بِأنَّ العَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِأفْعالِهِ - قَدَرٌ مَحْضٌ، وهُما مَذْمُومانِ، والعَدْلُ أنْ يُقالَ: إنَّ العَبْدَ يَفْعَلُ الفِعْلَ لَكِنْ بِواسِطَةِ قُدْرَةٍ وداعِيَةٍ، يَخْلُقُهُما اللَّهُ تَعالى فِيهِ. وخامِسُها: القَوْلُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُؤاخِذُ عَبْدَهُ عَلى شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ مُساهَلَةٌ عَظِيمَةٌ، والقَوْلُ بِأنَّهُ تَعالى يُخَلِّدُ في النّارِ عَبْدَهُ العارِفَ بِالمَعْصِيَةِ الواحِدَةِ تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ، والعَدْلُ أنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ النّارِ كُلَّ مَن قالَ واعْتَقَدَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَهَذِهِ أمْثِلَةٌ ذَكَرْناها في رِعايَةِ مَعْنى العَدْلِ في الِاعْتِقاداتِ. وأمّا رِعايَةُ العَدْلِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأفْعالِ الجَوارِحِ، فَنَذْكُرُ سِتَّةَ أمْثِلَةٍ مِنها: أحَدُها: أنَّ قَوْمًا مِن نُفاةِ التَّكالِيفِ يَقُولُونَ: لا يَجِبُ عَلى العَبْدِ الِاشْتِغالُ بِشَيْءٍ مِنَ الطّاعاتِ، ولا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرازُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ المَعاصِي، ولَيْسَ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ أصْلًا، وقالَ قَوْمٌ مِنَ الهِنْدِ، ومِنَ المانَوِيَّةِ: إنَّهُ يَجِبُ عَلى الإنْسانِ أنْ يَجْتَنِبَ عَنْ كُلِّ الطَّيِّباتِ وأنْ يُبالِغَ في تَعْذِيبِ (p-٨٣)نَفْسِهِ وأنْ يَحْتَرِزَ عَنْ كُلِّ ما يَمِيلُ الطَّبْعُ إلَيْهِ حَتّى أنَّ المانَوِيَّةَ يُخْصُونَ أنْفُسَهم، ويَحْتَرِزُونَ عَنِ التَّزَوُّجِ، ويَحْتَرِزُونَ عَنْ أكْلِ الطَّعامِ الطَّيِّبِ، والهِنْدُ يَحْرِقُونَ أنْفُسَهم ويَرْمُونَ أنْفُسَهم مِن شاهِقِ الجِبَلِ، فَهَذانِ الطَّرِيقانِ مَذْمُومانِ، والوَسَطُ المُعْتَدِلُ هو هَذا الشَّرْعُ الَّذِي جاءَنا بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ . وثانِيها: أنَّ التَّشْدِيدَ في دِينِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - غالِبٌ جِدًّا، والتَّساهُلَ في دِينِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - غالِبٌ جِدًّا، والوَسَطُ العَدْلُ شَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ . قِيلَ: كانَ شَرْعُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في القَتْلِ العَمْدِ اسْتِيَفاءَ القَصاصِ لا مَحالَةَ، وفي شَرْعِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - العَفْوُ. أمّا في شَرْعِنا فَإنْ شاءَ اسْتَوْفى القَصاصَ عَلى سَبِيلِ المُماثَلَةِ، وإنْ شاءَ اسْتَوْفى الدِّيَةَ، وإنْ شاءَ عَفا. وأيْضًا شَرْعُ مُوسى يَقْتَضِي الِاحْتِرازَ العَظِيمَ عَنِ المَرْأةِ حالَ حَيْضِها، وشَرْعُ عِيسى يَقْتَضِي حِلَّ وطْءِ الحائِضِ، والعَدْلُ ما حَكَمَ بِهِ شَرْعُنا، وهو أنَّهُ يَحْرُمُ وطْؤُها؛ احْتِرازًا عَنِ التَّلَطُّخِ بِتِلْكَ الدِّماءِ الخَبِيثَةِ، أمّا لا يَجِبُ إخْراجُها عَنِ الدّارِ. وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٣] . يَعْنِي مُتَباعِدِينَ عَنْ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ في كُلِّ الأُمُورِ، وقالَ: ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا﴾ [الفُرْقانِ: ٦٧] . وقالَ: ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ﴾ [الإسْراءِ: ٢٩] . ولَمّا بالَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في العِباداتِ، قالَ تَعالى: ﴿طه﴾ ﴿ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ [طه: ٢] . ولَمّا أخَذَ قَوْمٌ في المُساهَلَةِ قالَ: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١١٥] . والمُرادُ مِنَ الكُلِّ رِعايَةُ العَدْلِ والوَسَطِ. ورابِعُها: أنَّ شَرِيعَتَنا أمَرَتْ بِالخِتانِ؛ والحِكْمَةُ فِيهِ أنَّ رَأْسَ العُضْوِ جِسْمٌ شَدِيدُ الحِسِّ ولِأجْلِهِ عَظُمَ الِالتِذاذُ عِنْدَ الوِقاعِ، فَلَوْ بَقِيَتِ الجِلْدَةُ عَلى ذَلِكَ العُضْوِ بَقِيَ ذَلِكَ العُضْوُ عَلى كَمالِ القُوَّةِ وشِدَّةِ الإحْساسِ؛ فَيَعْظُمُ الِالتِذاذُ. أمّا إذا قُطِعَتْ تِلْكَ الجِلْدَةُ وبَقِيَ ذَلِكَ العُضْوُ عارِيًا فَيَلْقى الثِّيابَ وسائِرَ الأجْسامِ فَيَتَصَلَّبُ ويَضْعُفُ حِسُّهُ ويَقِلُّ شُعُورُهُ؛ فَيَقِلُّ الِالتِذاذُ بِالوِقاعِ فَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَكَأنَّ الشَّرِيعَةَ إنَّما أمَرَتْ بِالخِتانِ سَعْيًا في تَقْلِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، حَتّى يَصِيرَ مَيْلُ الإنْسانِ إلى قَضاءِ شَهْوَةِ الجِماعِ إلى حَدِّ الِاعْتِدالِ، وأنْ لا تَصِيرَ الرَّغْبَةُ فِيهِ غالِبَةً عَلى الطَّبْعِ، فالإخْصاءُ وقَطْعُ الآلاتِ عَلى ما تَذْهَبُ إلَيْهِ المانَوِيَّةُ مَذْمُومٌ؛ لِأنَّهُ إفْراطٌ، وإبْقاءُ تِلْكَ الجِلْدَةِ مُبالَغَةٌ في تَقْوِيَةِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، والعَدْلُ الوَسَطُ هو الإتْيانُ بِالخِتانِ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الأمْثِلَةِ أنَّ العَدْلَ واجِبُ الرِّعايَةِ في جَمِيعِ الأحْوالِ، ومِنَ الكَلِماتِ المَشْهُورَةِ قَوْلُهم: وبِالعَدْلِ قامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ، ومَعْناهُ: أنَّ مَقادِيرَ العَناصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعادِلَةً مُتَكافِئَةً، بَلْ كانَ بَعْضُها أزْيَدَ بِحَسَبِ الكِمِّيَّةِ وبِحَسَبِ الكَيْفِيَّةِ مِنَ الآخَرِ، لاسْتَوْلى الغالِبُ عَلى المَغْلُوبِ ووَهى المَغْلُوبُ، وتَنْقَلِبُ الطَّبائِعُ كُلُّها إلى طَبِيعَةِ الجُرْمِ الغالِبِ، ولَوْ كانَ بُعْدُ الشَّمْسِ مِنَ الأرْضِ أقَلَّ مِمّا هو الآنَ، لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ في هَذا العالَمِ، واحْتَرَقَ كُلُّ ما في هَذا العالَمِ، ولَوْ كانَ بُعْدُها أزْيَدَ مِمّا هو الآنَ لاسْتَوْلى البَرْدُ والجُمُودُ عَلى هَذا العالَمِ، وكَذا القَوْلُ في مَقادِيرِ حَرَكاتِ الكَواكِبِ ومَراتِبِ سُرْعَتِها وبُطْئِها، فَإنَّ الواحِدَ مِنها لَوْ كانَ أزْيَدَ مِمّا هو الآنَ أوْ كانَ أنْقَصَ مِمّا هو الآنَ لاخْتَلَّتْ مَصالِحُ هَذا العالَمِ؛ فَظَهَرَ بِهَذا السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْناهُ صِدْقُ قَوْلِهِمْ: وبِالعَدْلِ قامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ، فَهَذِهِ إشارَةٌ مُخْتَصَرَةٌ إلى شَرْحِ حَقِيقَةِ العَدْلِ. وأمّا الإحْسانُ فاعْلَمْ أنَّ الزِّيادَةَ عَلى العَدْلِ قَدْ تَكُونُ إحْسانًا، وقَدْ تَكُونُ إساءَةً. مِثالُهُ: أنَّ العَدْلَ في الطّاعاتِ هو أداءُ الواجِباتِ. أمّا الزِّيادَةُ عَلى الواجِباتِ فَهي أيْضًا طاعاتٌ وذَلِكَ مِن بابِ الإحْسانِ، وبِالجُمْلَةِ فالمُبالَغَةُ في أداءِ الطّاعاتِ بِحَسَبِ الكِمِّيَّةِ وبِحَسَبِ الكَيْفِيَّةِ هو الإحْسانُ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: «أنَّ جِبْرِيلَ لَمّا سَألَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الإحْسانِ قالَ: ”الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ“» . (p-٨٤)فَإنْ قالُوا: لِمَ سُمِّيَ هَذا المَعْنى بِالإحْسانِ ؟ قُلْنا: كَأنَّهُ بِالمُبالَغَةِ في الطّاعَةِ يُحْسِنُ إلى نَفْسِهِ ويُوصِلُ الخَيْرَ والفِعْلَ الحَسَنَ إلى نَفْسِهِ، والحاصِلُ أنَّ العَدْلَ عِبارَةٌ عَنِ القَدْرِ الواجِبِ مِنَ الخَيْراتِ، والإحْسانَ عِبارَةٌ عَنِ الزِّيادَةِ في تِلْكَ الطّاعاتِ بِحَسَبِ الكِمِّيَّةِ وبِحَسَبِ الكَيْفِيَّةِ، وبِحَسَبِ الدَّواعِي والصَّوارِفِ، وبِحَسَبِ الِاسْتِغْراقِ في شُهُودِ مَقاماتِ العُبُودِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، فَهَذا هو الإحْسانُ. واعْلَمْ أنَّ الإحْسانَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْناهُ دَخَلَ فِيهِ التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، ومِنَ الظّاهِرِ أنَّ الشَّفَقَةَ عَلى خَلْقِ اللَّهِ أقْسامٌ كَثِيرَةٌ، وأشْرَفُها وأجَلُّها صِلَةُ الرَّحِمِ، لا جَرَمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ أفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فَقالَ: ﴿وإيتاءِ ذِي القُرْبى﴾ فَهَذا تَفْصِيلُ القَوْلِ في هَذِهِ الثَّلاثَةِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِها. وأمّا الثَّلاثَةُ الَّتِي نَهى اللَّهُ عَنْها، وهي الفَحْشاءُ والمُنْكَرُ والبَغْيُ فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في النَّفْسِّ البَشَرِيَّةِ قُوًى أرْبَعَةً؛ وهي الشَّهْوانِيَّةُ البَهِيمِيَّةُ، والغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ، والوَهْمِيَّةُ الشَّيْطانِيَّةُ، والعَقْلِيَّةُ المَلَكِيَّةُ. وهَذِهِ القُوَّةُ الرّابِعَةُ؛ أعْنِي العَقْلِيَّةَ المَلَكِيَّةَ - لا يَحْتاجُ الإنْسانُ إلى تَأْدِيبِها وتَهْذِيبِها؛ لِأنَّها مِن جَواهِرِ المَلائِكَةِ، ومِن نَتائِجِ الأرْواحِ القُدْسِيَّةِ العُلْوِيَّةِ، إنَّما المُحْتاجُ إلى التَّأْدِيبِ والتَّهْذِيبِ تِلْكَ القُوى الثَّلاثَةُ الأُوَلُ. أمّا القُوَّةُ الشَّهْوانِيَّةُ فَهي إنَّما تُرَغِّبُ في تَحْصِيلِ اللَّذّاتِ الشَّهْوانِيَّةِ، وهَذا النوع مَخْصُوصٌ بِاسْمِ الفُحْشِ. ألا تَرى أنَّهُ تَعالى سَمّى الزِّنا فاحِشَةً، فَقالَ: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾ [الإسْراءِ: ٣٢ ] . فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ المُرادُ مِنهُ المَنعُ مِن تَحْصِيلِ اللَّذّاتِ الشَّهْوانِيَّةِ الخارِجَةِ عَنْ إذْنِ الشَّرِيعَةِ. وأمّا القُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ فَهي أبَدًا تَسْعى في إيصالِ الشَّرِّ والبَلاءِ والإيذاءِ إلى سائِرِ النّاسِ، ولا شَكَّ أنَّ النّاسَ يُنْكِرُونَ تِلْكَ الحالَةَ، فالمُنْكَرُ عِبارَةٌ عَنِ الإفْراطِ الحاصِلِ في آثارِ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ. وأمّا القُوَّةُ الوَهْمِيَّةُ الشَّيْطانِيَّةُ فَهي أبَدًا تَسْعى في الِاسْتِعْلاءِ عَلى النّاسِ والتَّرَفُّعِ وإظْهارِ الرِّياسَةِ والتَّقَدُّمِ، وذَلِكَ هو المُرادُ مِنَ البَغْيِ، فَإنَّهُ لا مَعْنى لِلْبَغْيِ إلّا التَّطاوُلُ عَلى النّاسِ والتَّرَفُّعُ عَلَيْهِمْ، فَظَهَرَ بِما ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ الألْفاظَ الثَّلاثَةَ مُنْطَبِقَةٌ عَلى أحْوالِ هَذِهِ القُوى الثَّلاثَةِ، ومِنَ العَجائِبِ في هَذا البابِ أنَّ العُقَلاءَ قالُوا: أخَسُّ هَذِهِ القُوى الثَّلاثَةِ هي الشَّهْوانِيَّةُ، وأوْسَطُها الغَضَبِيَّةُ وأعْلاها الوَهْمِيَّةُ. واللَّهُ تَعالى راعى هَذا التَّرْتِيبَ، فَبَدَأ بِالفَحْشاءِ الَّتِي هي نَتِيجَةُ القُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ، ثُمَّ بِالمُنْكَرِ الَّذِي هو نَتِيجَةُ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ، ثُمَّ بِالبَغْيِ الَّذِي هو نَتِيجَةُ القُوَّةِ الوَهْمِيَّةِ. فَهَذا ما وصَلَ إلَيْهِ عَقْلِي وخاطِرِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الألْفاظِ، فَإنْ يَكُ صَوابًا فَمِنَ الرَّحْمَنِ، وإنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي ومِنَ الشَّيْطانِ، واللَّهُ ورَسُولُهُ عَنْهُ بَرِيئانِ، والحَمْدُ لِلَّهِ عَلى ما خَصَّنا بِهَذا النوع مِنَ الفَضْلِ والإحْسانِ، إنَّهُ المَلِكُ الدَّيّانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب