الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ يَأْمُرُ خَلْقَهُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ، وإيتاءِ ذِي القُرْبى، وأنَّهُ يَنْهاهم عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ؛ لِأجْلِ أنْ يَتَّعِظُوا بِأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، فَيَمْتَثِلُوا أمْرَهُ، ويَجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وحُذِفَ مَفْعُولُ ”يَأْمُرُ“، ”وَيَنْهى“؛ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَمِنَ الآياتِ الَّتِي أمَرَ فِيها بِالعَدْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ألّا (p-٤٣٦)تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨]، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكم بِهِ﴾ [النساء: ٥٨] . وَمِنَ الآياتِ الَّتِي أمَرَ فِيها بِالإحْسانِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ وأحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وقَوْلُهُ: ﴿وَبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [الإسراء: ٢٣]، وقَوْلُهُ: ﴿وَأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسادَ في الأرْضِ﴾ [القصص: ٧٧]، وقَوْلُهُ: ﴿وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: ٨٣]، وقَوْلُهُ: ﴿ما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ [التوبة: ٩١] . وَمِنَ الآياتِ الَّتِي أمَرَ فِيها بِإيتاءِ ذِي القُرْبى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الروم: ٣٨]، وقَوْلُهُ: ﴿وَآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦]، وقَوْلُهُ: ﴿وَآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٧٧]، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ ﴿يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤، ١٥]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَمِنَ الآياتِ الَّتِي نَهى فِيها عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكِرِ والبَغْيِ قَوْلُهُ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ . . . الآيَةَ [الأنعام: ١٥١]، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ . . . الآيَةَ [الأعراف: ٣٣]، وقَوْلُهُ: ﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الإثْمِ وباطِنَهُ إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٠]، والمُنْكَرُ وإنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ في هَذِهِ الآياتِ، فَهو داخِلٌ فِيها. وَمِنَ الآياتِ الَّتِي جَمَعَ فِيها بَيْنَ الأمْرِ بِالعَدْلِ والتَّفَضُّلِ بِالإحْسانِ، قَوْلُهُ: ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، فَهَذا عَدْلٌ، ثُمَّ دَعا إلى الإحْسانِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهو خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦]، وقَوْلُهُ:، ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، فَهَذا عَدْلٌ ‌‌ . ثُمَّ دَعا إلى الإحْسانِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ [الشورى: ٤٠] . وَقَوْلُهُ: ﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥]، فَهَذا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعا إلى الإحْسانِ بِقَوْلِهِ، ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥]، وقَوْلُهُ ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ ما (p-٤٣٧)عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ . . . الآيَةَ [الشورى: ٤٣]، فَهَذا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعا إلى الإحْسانِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤٣]، وقَوْلُهُ: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨]، فَهَذا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعا إلى الإحْسانِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: ١٤٩]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. فَإذا عَرَفْتَ هَذا، فاعْلَمْ أنَّ العَدْلَ في اللُّغَةِ: القِسْطُ والإنْصافُ، وعَدَمُ الجَوْرِ. وأصْلُهُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ المَرْتَبَتَيْنِ؛ أيْ: الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ. فَمَن جانَبَ الإفْراطَ والتَّفْرِيطَ فَقَدْ عَدَلَ. والإحْسانُ مَصْدَرُ أحْسَنَ، وهي تُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً بِالحَرْفِ نَحْوَ: أحْسِنْ إلى والِدَيْكَ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى عَنْ يُوسُفَ: ﴿وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ الآيَةَ [يوسف: ١٠٠]، وتُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً بِنَفْسِها. كَقَوْلِكَ: أحْسَنَ العامِلُ عَمَلَهُ، أيْ: أجادَهُ وجاءَ بِهِ حَسَنًا. واللَّهُ - جَلَّ وعَلا - يَأْمُرُ بِالإحْسانِ بِمَعْنَيَيْهِ المَذْكُورَيْنِ، فَهُما داخِلانِ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ؛ لِأنَّ الإحْسانَ إلى عِبادِ اللَّهِ لِوَجْهِ اللَّهِ عَمَلٌ أحْسَنَ فِيهِ صاحِبُهُ. وقَدْ «فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الإحْسانَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ: ”أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ. فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ»“، وقَدْ قَدَّمْنا إيضاحَ ذَلِكَ في (سُورَةِ هُودٍ) . فَإذا عَرَفْتَ هَذا، فاعْلَمْ أنَّ أقْوالَ المُفَسِّرِينَ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ راجِعَةٌ في الجُمْلَةِ إلى ما ذَكَرْنا؛ كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: العَدْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والإحْسانُ: أداءُ الفَرائِضِ؛ لِأنَّ عِبادَةَ الخالِقِ دُونَ المَخْلُوقِ هي عَيْنُ الإنْصافِ والقِسْطِ، وتَجَنُّبُ التَّفْرِيطِ والإفْراطِ. ومَن أدّى فَرائِضَ اللَّهِ عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ فَقَدْ أحْسَنَ؛ ولِذا قالَ النَّبِيُّ ﷺ في الرَّجُلِ الَّذِي حَلَفَ لا يَزِيدُ عَلى الواجِباتِ: «أفْلَحَ إنْ صَدَقَ»، وكَقَوْلِ سُفْيانَ: العَدْلُ: اسْتِواءُ العَلانِيَةِ والسَّرِيرَةِ. والإحْسانُ: أنْ تَكُونَ السَّرِيرَةُ أفْضَلَ مِنَ العَلانِيَةِ. وكَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: العَدْلُ: الإنْصافُ. والإحْسانُ: التَّفَضُّلُ. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أقْوالِ السَّلَفِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وقَوْلُهُ، ﴿يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠]، الوَعْظُ:: الكَلامُ الَّذِي تَلِينُ لَهُ القُلُوبُ. تَنْبِيهٌ. فَإنْ قِيلَ: يَكْثُرُ في القُرْآنِ إطْلاقُ الوَعْظِ عَلى الأوامِرِ والنَّواهِي؛ • كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠]، مَعَ أنَّهُ ما ذَكَرَ إلّا الأمْرَ والنَّهْيَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ (p-٤٣٨)يَأْمُرُ بِالعَدْلِ﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿وَيَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ . . . الآيَةَ [النحل: ٩٠]، • وكَقَوْلِهِ في (سُورَةِ البَقَرَةِ) بَعْدَ أنْ ذَكَرَ أحْكامَ الطَّلاقِ والرَّجْعَةِ: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كانَ مِنكم يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ٢٣٢]، • وقَوْلِهِ (في الطَّلاقِ) في نَحْوِ ذَلِكَ أيْضًا: ﴿ذَلِكم يُوعَظُ بِهِ مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾، • وقَوْلِهِ في النَّهْيِ عَنْ مِثْلِ قَذْفِ عائِشَةَ: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبَدًا﴾ . . . الآيَةَ [النور: ١٧]، مَعَ أنَّ المَعْرُوفَ عِنْدَ النّاسِ: أنَّ الوَعْظَ يَكُونُ بِالتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ ونَحْوَ ذَلِكَ، لا بِالأمْرِ والنَّهْيِ. فالجَوابُ: أنَّ ضابِطَ الوَعْظِ: هو الكَلامُ الَّذِي تَلِينُ لَهُ القُلُوبُ، وأعْظَمُ ما تَلِينُ لَهُ قُلُوبُ العُقَلاءِ أوامِرُ رَبِّهِمْ ونَواهِيهِ؛ فَإنَّهم إذا سَمِعُوا الأمْرَ خافُوا مِن سُخْطِ اللَّهِ في عَدَمِ امْتِثالِهِ، وطَمِعُوا فِيما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوابِ في امْتِثالِهِ. وإذا سَمِعُوا النَّهْيَ خافُوا مِن سُخْطِ اللَّهِ في عَدَمِ اجْتِنابِهِ، وطَمِعُوا فِيما عِنْدَهُ مِنَ الثَّوابِ في اجْتِنابِهِ؛ فَحَداهم حادِي الخَوْفِ والطَّمَعِ إلى الِامْتِثالِ، فَلانَتْ قُلُوبُهم لِلطّاعَةِ خَوْفًا وطَمَعًا. والفَحْشاءُ في لُغَةِ العَرَبِ: الخَصْلَةُ المُتَناهِيَةُ في القُبْحِ. ومِنهُ قِيلَ لِشَدِيدِ البُخْلِ: فاحِشٌ؛ كَما في قَوْلِ طُرْفَةَ في مُعَلَّقَتِهِ: ؎أرى المَوْتَ يَعْتامُ الكِرامَ ويَصْطَفِي عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ والمُنْكَرُ اسْمُ مَفْعُولِ أنْكَرَ؛ وهو في الشَّرْعِ: ما أنْكَرَهُ الشَّرْعُ ونَهى عَنْهُ، وأوْعَدَ فاعِلَهُ العِقابَ. والبَغْيُ: الظُّلْمُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعالى: أنَّ الباغِيَ يَرْجِعُ ضَرَرُ بَغْيِهِ عَلى نَفْسِهِ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: ٢٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿ذِي القُرْبى﴾ [النحل: ٩٠]، أيْ: صاحِبُ القَرابَةِ مِن جِهَةِ الأبِ أوِ الأُمِّ، أوْ هُما مَعًا؛ لِأنَّ إيتاءَ ذِي القُرْبى صَدَقَةٌ وصِلَةُ رَحِمٍ. والإيتاءُ: الإعْطاءُ. وأحَدُ المَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ أُضِيفَ إلى المَفْعُولِ الأوَّلِ: وحُذِفَ الثّانِي. والأصْلُ وإيتاءُ صاحِبِ القَرابَةِ؛ • كَقَوْلِهِ: ﴿وَآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى﴾ . . . الآيَةَ [البقرة: ١٧٧]،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب