الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكم أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ ولَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٣] ﴿ولا تَتَّخِذُوا أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ولَكم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ٩٤] ﴿ولا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إنَّما عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٩٥] ﴿ما عِنْدَكم يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ولَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٦] ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩] ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠] ﴿وإذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللَّهُ أعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٠١] ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وهُدًى وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ١٠٢] ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهم يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌّ وهَذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]: النَّقْضُ ضِدُّ الإبْرامِ، وفي الجِرْمِ فَكُّ أجْزائِهِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ. التَّوْكِيدُ: التَّثْبِيتُ، ويُقالُ: تَوْكِيدٌ، وتَأْكِيدٌ، وهُما لُغَتانِ. وزَعَمَ الزَّجّاجُ أنَّ الهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الواوِ، ولَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّ التَّصْرِيفَ جاءَ في التَّرْكِيبَيْنِ فَدَلَّ عَلى أنَّهُما أصْلانِ. الغَزْلُ: مَعْرُوفٌ، وفِعْلُهُ غَزَلَ يَغْزِلُ، بِكَسْرِ الزّايِ، غَزْلًا، وأُطْلِقَ المَصْدَرُ عَلى المَغْزُولِ. نَفِدَ الشَّيْءُ يَنْفَدُ فَنِيَ. الأعْجَمِيُّ: الَّذِي لا يَتَكَلَّمُ بِالعَرَبِيَّةِ (p-٥٢٩)﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ): عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ مِنهُ: «إنَّ عُثْمانَ بْنَ مَظْعُونٍ كانَ جَلِيسَ النَّبِيِّ ﷺ وقْتًا فَقالَ لَهُ: عُثْمانُ ما رَأيْتُكَ تَفْعَلُ فِعْلَتَكَ الغَداةَ ؟ قالَ: ”وما رَأيْتَنِي فَعَلْتُ ؟“ قالَ: شَخَصَ بَصَرُكَ إلى السَّماءِ ثُمَّ وضَعْتَهُ عَلى يَمِينِك فَتَحَرَّفْتَ عَنِّي إلَيْهِ وتَرَكْتَنِي، فَأخَذْتَ تَنْغُضُ رَأْسَكَ كَأنَّكَ تَسْتَفِقْهُ شَيْئًا يُقالُ لَكَ، قالَ: ”أوَفَطِنْتَ لِذَلِكَ ؟ أتانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وأنْتَ جالِسٌ“ قالَ: فَماذا قالَ لَكَ ؟ قالَ لِي: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ﴾ الآيَةَ. قالَ عُثْمانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الإيمانُ في قَلْبِي، فَأحْبَبْتُ مُحَمَّدًا ﷺ» - لَمّا ذَكَرَ اللَّهَ تَعالى ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]، وصَلَ بِهِ ما يَقْتَضِي التَّكالِيفَ فَرْضًا ونَفْلًا وأخْلاقًا وآدابًا. والعَدْلُ: فِعْلُ كُلِّ مَفْرُوضٍ مِن عَقائِدَ، وشَرائِعَ، وسَيْرٍ مَعَ النّاسِ في أداءِ الأماناتِ، وتَرْكِ الظُّلْمِ والإنْصافُ، وإعْطاءُ الحَقِّ؛ والإحْسانُ: فِعْلُ كُلِّ مَندُوبٍ إلَيْهِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: العَدْلُ هو الواجِبُ، لِأنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - عَدَلَ فِيهِ عَلى عِبادِهِ، فَجَعَلَ ما فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ واقِعًا تَحْتَ طاقَتِهِمْ. والإحْسانُ النَّدْبُ، وإنَّما عُلِّقَ أمْرُهُ بِهِمْ جَمِيعًا، لِأنَّ الفَرْضَ لا بُدَّ أنْ يَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ فَيَجْبُرُهُ النَّدْبُ؛ انْتَهى. وفي قَوْلِهِ: تَحْتَ طاقَتِهِمْ، نَزْغَةُ الِاعْتِزالِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: العَدْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والإحْسانُ: أداءُ الفَرائِضِ. وعَنْهُ أيْضًا أنَّ العَدْلَ هو الحَقُّ. وعَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أنَّهُ اسْتِواءُ السَّرِيرَةِ والعَلانِيَةِ في العَمَلِ. وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ أنَّهُ القَضاءُ بِالحَقِّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨] وقالَ أبُو سُلَيْمانَ: العَدْلُ في لِسانِ العَرَبِ: الإنْصافُ. وقِيلَ: خَلْعُ الأنْدادِ. وقِيلَ: العَدْلُ في الأفْعالِ والإحْسانُ في الأقْوالِ. وإيتاءُ ذِي القُرْبى: هو صِلَةُ الرَّحِمِ، وهو مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الإحْسانِ، لَكِنَّهُ نُبِّهَ عَلَيْهِ اهْتِمامًا بِهِ وحَضًّا عَلى الإحْسانِ إلَيْهِ. والفَحْشاءُ: الزِّنا، أوْ ما شُنْعَتُهُ ظاهِرَةٌ مِنَ المَعاصِي. وفاعِلُها أبَدًا مُسْتَتِرٌ (p-٥٣٠)بِها، أوِ القَبِيحُ مِن فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ، أوِ البُخْلُ، أوْ مُوجَبُ الحَدِّ في الدُّنْيا والعَذابِ في الآخِرَةِ، أوْ مُجاوَزَةُ حُدُودِ اللَّهِ، أقْوالٌ، أوَّلُها لِابْنِ عَبّاسٍ. والمُنْكَرُ: الشِّرْكُ عَنْ مُقاتِلٍ، أوْ ما وُعِدَ عَلَيْهِ بِالنّارِ عَنِ ابْنِ السّائِبِ، أوْ مُخالَفَةُ السَّرِيرَةِ لِلْعَلانِيَةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أوْ ما لا يُوجِبُ الحَدَّ في الدُّنْيا لَكِنَّ العَذابَ في الآخِرَةِ. أوْ ما تُنْكِرُهُ العُقُولُ أقْوالٌ، ويَظْهَرُ أنَّهُ أعَمُّ مِنَ الفَحْشاءِ لِاشْتِمالِهِ عَلى المَعاصِي والرَّذائِل والبَغْيِ: التَّطاوُلُ بِالظُّلْمِ والسِّعايَةِ فِيهِ، وهو داخِلٌ في المُنْكَرِ، ونَبَّهَ عَلَيْهِ اهْتِمامًا بِاجْتِنابِهِ. وجَمَعَ في المَأْمُورِ بِهِ والمَنهِيِّ عَنْهُ بَيْنَ ما يَجِبُ ويُنْدَبُ، وما يَحْرُمُ ويُكْرَهُ، لِاشْتِراكِ ذَلِكَ في قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وهو الطَّلَبُ في الأمْرِ، والتَّرْكُ في النَّهْيِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: أمَرَ بِثَلاثَةٍ، ونَهى عَنْ ثَلاثَةٍ. فالعَدْلُ: التَّوَسُّطُ بَيْنَ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ، وذَلِكَ في العَقائِدِ وأعْمالِ الرُّعاةِ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: العَدْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وهو إثْباتُ الإلَهِ الواحِدِ، فَلَيْسَ تَعْطِيلًا مَحْضًا ولا إثْباتَ أكْثَرَ مِن إلَهٍ. وإثْباتُ كَوْنِهِ عالِمًا قادِرًا واجِبَ الصِّفاتِ فَلَيْسَ نَفْيًا لِلصِّفاتِ، ولا إثْباتَ صِفَةٍ حادِثَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ. وكَوْنُ فِعْلِ العَبْدِ بِواسِطَةِ قُدْرَتِهِ تَعالى، والدّاعِيَةُ الَّتِي جَعَلَها فِيهِ فَلَيْسَ جَبْرًا مَحْضًا، ولا اسْتِقْلالًا بِالفِعْلِ. وكَوْنُهُ تَعالى يُخْرِجُ مِنَ النّارِ مَن دَخَلَها مِن أهْلِ التَّوْحِيدِ، فَلَيْسَ إرْجاءً ولا تَخْلِيدًا بِالمَعْصِيَةِ. وأمّا أعْمالُ الرُّعاةِ: فالتَّكالِيفُ اللّازِمَةُ لَهم، فَلَيْسَ قَوْلًا بِأنَّهُ لا تَكْلِيفَ، ولا قَوْلًا بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ واجْتِنابِ ما يَمِيلُ الطَّبْعُ إلَيْهِ مِن: أكْلِ الطَّيِّبِ، والتَّزَوُّجِ، ورَمْيِ نَفْسِهِ مِن شاهِقٍ، والقِصاصِ، أوِ الدِّيَةِ، أوِ العَفْوِ، فَلَيْسَ تَشْدِيدًا في تَعْيِينِ القِصاصِ كَشَرِيعَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا عَفْوًا حَتْمًا كَشَرِيعَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَجَنُّبِ الحائِضِ في اجْتِنابِ وطْئِها فَقَطْ فَلَيْسَ اجْتِنابًا مُطْلَقًا كَشَرِيعَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا حَلَّ وطْئِها حالَةَ الحَيْضِ كَشَرِيعَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والِاخْتِتانِ، فَلَيْسَ إبْقاءً لِلْقُلْفَةِ ولا قَطْعًا لِلْآلَةِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ المانَوِيَّةُ. وقالَ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]؛ ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا﴾ [الفرقان: ٦٧] ولا تَجْعَلِ الآيَتَيْنِ. ومِنَ المَشْهُورِ قَوْلُهم بِالعَدْلِ: قامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ، ومَعْناهُ: إنَّ مَقادِيرَ العَناصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعادِلَةً، وكانَ بَعْضُها أزْيَدَ، لَغَلَبَ الِازْدِيادُ وانْقَلَبَتِ الطَّبائِعُ. فالشَّمْسُ لَوْ قَرُبَتْ مِنَ العالَمِ لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ واحْتَرَقَ ما فِيهِ، ولَوْ زادَ بَعْدَها لاسْتَوى الحَرُّ والبَرْدُ. وكَذا مَقادِيرُ حَرَكاتِ الكَواكِبِ، ومَراتِبُ سُرْعَتِها، وبُطْئِها. والإحْسانُ: الزِّيادَةُ عَلى الواجِبِ مِنَ الطّاعاتِ بِحَسْبِ الكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ، والدَّواعِي، والصَّوارِفِ، والِاسْتِغْراقِ في شُهُودِ مَقاماتِ العُبُودِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ. ومِنَ الإحْسانِ الشَّفَقَةُ عَلى الخَلْقِ، وأصْلُها صِلَةُ الرَّحِمِ، والمَنهِيُّ عَنْهُ ثَلاثَةٌ. وذَلِكَ أنَّهُ أوْدَعَ في النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ قُوًى أرْبَعَةً: الشَّهْوانِيَّةَ: وهي تَحْصِيلُ اللَّذّاتِ، والغَضَبِيَّةَ: وهي: إيصالُ الشَّرِّ، ووَهْمِيَّةً: وهي شَيْطانِيَّةٌ تَسْعى في التَّرَفُّعِ والتَّراوُسِ عَلى النّاسِ. فالفَحْشاءُ ما نَشَأ عَنِ القُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ الخارِجَةِ عَنْ أدَبِ الشَّرِيعَةِ، والمُنْكَرُ ما نَشَأ عَنِ الغَضَبِيَّةِ، والبَغْيُ ما نَشَأ عَنِ الوَهْمِيَّةِ؛ انْتَهى. ما تَخَلَّصَ مِن كَلامِهِ عَفا اللَّهُ عَنْهُ. ولَمّا أمَرَ تَعالى بِتِلْكَ الثَّلاثِ، ونَهى عَنْ تِلْكَ الثَّلاثِ قالَ: يَعِظُكم بِهِ، أيْ: بِما ذَكَرَ تَعالى مِن أمْرٍ ونَهْيٍ، والمَعْنى: يُنَبِّهُكم أحْسَنَ تَنْبِيهٍ لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ، أيْ: تَتَنَبَّهُونَ لِما أُمِرْتُمْ بِهِ ونُهِيتُمْ عَنْهُ، وعَقْدُ اللَّهِ عِلْمٌ لِما عَقَدَهُ الإنْسانُ والتَزَمَهُ مِمّا يُوافِقُ الشَّرِيعَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي البَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى الإسْلامِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: ١٠] . وكَأنَّهُ لَحَظَ ما قِيلَ إنَّها نَزَلَتْ في الَّذِينَ بايَعُوا الرَّسُولَ ﷺ عَلى الإسْلامِ، رَواهُ عَنْ بُرَيْدَةَ. وقالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ: فِيما كانَ مِن تَحالُفِ الجاهِلِيَّةِ في أمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وقالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ: الوَفاءُ لِمَن عاهَدْتَهُ مُسْلِمًا كانَ أوْ كافِرًا، فَإنَّما العَهْدُ لِلَّهِ. وقالَ الأصَمُّ: الجِهادُ وما فُرِضَ في الأمْوالِ مِن حَقٍّ. وقِيلَ: اليَمِينُ بِاللَّهِ، ولا تَنْقُضُوا العُهُودَ المُوَثَّقَةَ بِالأيْمانِ، نَهى عَنْ نَقْضِها تَهَمُّمًا بِها بَعْدَ تَوْكِيدِها، أيْ: (p-٥٣١)تَوْثِيقِها بِاسْمِ اللَّهِ وكَفالَةِ اللَّهِ وشَهادَتِهِ، ومُراقَبَتِهِ، لِأنَّ الكَفِيلَ مُراعٍ لِحالِ المَكْفُول بِهِ. ولا تَكُونُوا، أيْ: في نَقْضِ العَهْدِ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ بِاللَّهِ كالمَرْأةِ الوَرْهاءِ تُبْرِمُ فَتْلَ غَزْلِها ثُمَّ تَنْقُضُهُ نَكْثًا، وهو ما يُحَلُّ فَتْلُهُ. والتَّشْبِيهُ لا يَقْتَضِي تَعْيِينَ المُشَبَّهِ بِهِ. وقالَ السُّدِّيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هي امْرَأةٌ حَمْقاءُ كانَتْ بِمَكَّةَ. وعَنِ الكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ: هي مِن قُرَيْشٍ خَرْقاءُ اسْمُها رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، تُلَقَّبُ بِجَفْراءَ، اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا قَدْرَ ذِراعٍ، وصِنّارَةً مِثْلَ أُصْبُعٍ، وفَلْكَةً عَظِيمَةً عَلى قَدْرِها، فَكانَتْ تَغْزِلُ هي وجَوارِيها مِنَ الغَداةِ إلى الظُّهْرِ، ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَيَنْقُضْنَ ما غَزَلْنَ. وعَنْ مُجاهِدٍ: هَذا فِعْلُ نِساءِ أهْلِ نَجْدٍ، تَنْقُضُ إحْداهُنَّ غَزْلَها ثُمَّ تَنْفُشُهُ، وتَخْلِطُهُ بِالصُّوفِ فَتَغْزِلُهُ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرٍو المُرِّيَّةُ، ولَقَبُها الجَفْراءُ مِن أهْلِ مَكَّةَ، وكانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ المُخاطَبِينَ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: مِن بَعْدِ قُوَّةٍ، أيْ: شِدَّةٍ حَدَثَتْ مِن تَرْكِيبِ قُوى الغَزْلِ. ولَوْ قَدَّرْناها واحِدَةَ القُوى لَمْ تَكُنْ تَنْتَقِضُ أنْكاثًا. والنِّكْثُ في اللُّغَةِ الحَبْلُ إذا انْتَقَضَتْ قُواهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى مِن بَعْدِ إمْرارِ قُوَّةً. والدَّخَلُ: الفَسادُ والدَّغَلُ، جَعَلُوا الإيمانَ ذَرِيعَةً إلى الخِدَعِ والغَدْرِ، وذَلِكَ أنَّ المَحْلُوفَ لَهُ مُطَمْئِنٌّ، فَيُمْكِنُ الحالِفَ ضَرُّهُ بِما يُرِيدُهُ. قالُوا: نَزَلَتْ في العَرَبِ كانُوا إذا حالَفُوا قَبِيلَةً فَجاءَ أكْثَرُ مِنها عَدَدًا حالَفُوهُ وغَدَرُوا بِالَّتِي كانَتْ أقَلَّ. وقِيلَ: أنْ تَكُونُوا أنْتُمْ أزْيَدَ خَبَرًا، فَأُسْنِدَ إلى أُمَّةٍ، والمُرادُ المُخاطَبُونَ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّخَلُ والدّاخِلُ في الشَّيْءِ لَمْ تَكُنْ مِنهُ، ودَخَلًا مَفْعُولٌ ثانٍ. وقِيلَ: مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وأنْ تَكُونَ، أيْ: بِسَبَبِ أنْ تَكُونَ، وهي أرْبى مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ. وأجازَ الكُوفِيُّونَ أنْ تَكُونَ هي عِمادًا، يَعْنُونَ فَضْلًا، فَيَكُونُ ﴿أرْبى﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ لِتَنْكِيرِ أُمَّةٍ. والضَّمِيرُ في (بِهِ) عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِن أنْ تَكُونَ، أيْ: بِسَبَبِ كَوْنِ أُمَّةٍ أرْبى مِن أُمَّةٍ يَخْتَبِرُكم بِذَلِكَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَنْظُرَ أتَتَمَسَّكُونَ بِحَبْلِ الوَفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وما عَقَّدْتُمْ عَلى أنْفُسِكم ووَكَّدْتُمْ مِن أيْمانِ البَيْعَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ أمْ تَغْتَرُّونَ بِكَثْرَةِ قُرَيْشٍ وثَرْوَتِهِمْ وقُوَّتِهِمْ وقِلَّةِ المُؤْمِنِينَ وفَقْرِهِمْ وضَعْفِهِمْ؛ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم: إنْذارٌ وتَحْذِيرٌ مِن مُخالَفَةِ مِلَّةِ الإسْلامِ؛ انْتَهى. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الوَفاءِ بِالعَهْدِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ السّائِبِ، ومُقاتِلٌ: يَعُودُ عَلى الكَثْرَةِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: لَمّا كانَ تَأْنِيثُها غَيْرَ حَقِيقِيٍّ حُمِلَ عَلى مَعْنى التَّذْكِيرِ، كَما حُمِلَتِ الصَّيْحَةُ عَلى الصِّياحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب