الباحث القرآني

لَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ مِن حالِ هَؤُلاءِ أنَّهم عَرَفُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ أنْكَرُوها، وأنَّ أكْثَرَهم كافِرُونَ أتْبَعَهُ بِأصْنافِ وعِيدِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَقالَ: ﴿ويَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ أيْ واذْكُرْ يَوْمَ نَبْعَثُ، أوْ يَوْمَ نَبْعَثُ وقَعُوا فِيما وقَعُوا فِيهِ، وشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ نَبِيُّها يَشْهَدُ لَهم بِالإيمانِ والتَّصْدِيقِ، وعَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ والجُحُودِ والتَّكْذِيبِ ﴿ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ في الِاعْتِذارِ، إذْ لا حُجَّةَ لَهم ولا عُذْرَ كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] أوْ في كَثْرَةِ الكَلامِ، أوْ في الرُّجُوعِ إلى دارِ الدُّنْيا، وإيرادُ ( ثُمَّ ) هاهُنا لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ابْتِلاءَهم بِالمَنعِ عَنِ الِاعْتِذارِ المُنْبِئِ عَنِ الإقْناطِ الكُلِّيِّ أشَدُّ مِنِ ابْتِلائِهِمْ بِشَهادَةِ الأنْبِياءِ ﴿ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ﴾ لِأنَّ العِتابَ إنَّما يُطْلَبُ لِأجْلِ العَوْدِ إلى الرِّضا، فَإذا كانَ عَلى عَزْمِ السُّخْطِ فَلا فائِدَةَ في العِتابِ. والمَعْنى: أنَّهم لا يُسْتَرْضَوْنَ، أيْ: لا يُكَلَّفُونَ أنْ يُرْضُوا رَبَّهم، لِأنَّ الآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدارِ تَكْلِيفٍ، ولا يُتْرَكُونَ إلى رُجُوعِ الدُّنْيا فَيَتُوبُونَ، وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ العَتَبِ وهو المُوجَدُ، يُقالُ عَتَبَ عَلَيْهِ يَعْتِبُ: إذا وجِدَ عَلَيْهِ، فَإذا أفاضَ عَلَيْهِ ما عَتَبَ فِيهِ عَلَيْهِ قِيلَ عاتَبَهُ، فَإذا رَجَعَ إلى مَسَرَّتِهِ قِيلَ أعْتَبَهُ، والِاسْمُ العُتْبى، وهو رُجُوعُ المَعْتُوبِ عَلَيْهِ إلى ما يُرْضِي العاتِبَ. قالَهُ الهَرَوِيُّ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎فَإنْ كُنْتُ مَظْلُومًا فَعَبْدًا ظَلَمْتَهُ وإنْ كُنْتُ ذا عُتْبى فَمِثْلُكَ يَعْتِبُ ﴿وإذا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا العَذابَ﴾ أيْ وإذا رَأى الَّذِينَ أشْرَكُوا العَذابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِشِرْكِهِمْ، وهو عَذابُ جَهَنَّمَ فَلا يُخَفَّفُ ذَلِكَ العَذابُ ﴿عَنْهم ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ أيْ ولا هم يُمْهَلُونَ لِيَتُوبُوا إذْ لا تَوْبَةَ هُنالِكَ. ﴿وإذا رَأى الَّذِينَ أشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ﴾ أيْ أصْنامَهم وأوْثانَهُمُ الَّتِي عَبَدُوها، لِما تَقَرَّرَ مِن أنَّهم يُبْعَثُونَ مَعَ المُشْرِكِينَ لِيُقالَ لَهم مَن كانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن قَوْلِهِ ﷺ . ﴿قالُوا رَبَّنا هَؤُلاءِ شُرَكاؤُنا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ﴾ أيِ الَّذِينَ كُنّا نَعْبُدُهم مِن دُونِكَ. قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: مَقْصُودُ المُشْرِكِينَ بِهَذا القَوْلِ إحالَةُ الذَّنْبِ عَلى تِلْكَ الأصْنامِ تَعَلُّلًا بِذَلِكَ واسْتِرْواحًا مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أنَّ العَذابَ واقِعٌ بِهِمْ لا مَحالَةَ، ولَكِنَّ الغَرِيقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ ما تَقَعُ يَدُهُ عَلَيْهِ ﴿فَألْقَوْا إلَيْهِمُ القَوْلَ﴾ أيْ ألْقى أُولَئِكَ الأصْنامُ والأوْثانُ والشَّياطِينُ ونَحْوُهم إلى المُشْرِكِينَ القَوْلَ ﴿إنَّكم لَكاذِبُونَ﴾ أيْ قالُوا لَهم: إنَّكم أيُّها المُشْرِكُونَ لَكاذِبُونَ فِيما تَزْعُمُونَ مِن إحالَةِ الذَّنْبِ عَلَيْنا الَّذِي هو مَقْصُودُكم مِن هَذا القَوْلِ. فَإنْ قِيلَ: إنَّ المُشْرِكِينَ أشارُوا إلى الأصْنامِ ونَحْوِها أنَّ هَؤُلاءِ شُرَكاؤُنا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُو مِن دُونِكَ، وقَدْ كانُوا صادِقِينَ في ذَلِكَ، فَكَيْفَ كَذَّبَتْهُمُ الأصْنامُ ونَحْوُها ؟ فالجَوابُ بِأنَّ مُرادَهم مِن قَوْلِهِمْ ( هَؤُلاءِ شُرَكاؤُنا ): هَؤُلاءِ شُرَكاءُ اللَّهِ في المَعْبُودِيَّةِ، فَكَذَّبَتْهُمُ الأصْنامُ في دَعْوى هَذِهِ الشَّرِكَةِ، والأصْنامُ والأوْثانُ وإنْ كانَتْ لا تَقْدِرُ عَلى النُّطْقِ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يُنْطِقُها في تِلْكَ الحالِ لِتَخْجِيلِ المُشْرِكِينَ وتَوْبِيخِهِمْ، وهَذا كَما قالَتِ المَلائِكَةُ ﴿بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ﴾ [سبأ: ٤١]، يَعْنُونَ أنَّ الجِنَّ هُمُ الَّذِينَ كانُوا راضِينَ بِعِبادَتِهِمْ لَهم. ﴿وألْقَوْا إلى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ أيْ ألْقى المُشْرِكُونَ يَوْمَ القِيامَةِ الِاسْتِسْلامَ والِانْقِيادَ لِعَذابِهِ والخُضُوعَ لِعِزَّتِهِ، وقِيلَ اسْتَسْلَمَ العابِدُ والمَعْبُودُ وانْقادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أيْ ضاعَ وبَطَلَ ما كانُوا يَفْتَرُونَهُ مِن أنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ شُرَكاءَ وما كانُوا يَزْعُمُونَ مِن شَفاعَتِهِمْ لَهم، وأنَّ عِبادَتَهم لَهم تُقَرِّبُهم إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ. الَّذِينَ كَفَرُوا في أنْفُسِهِمْ وصَدُّوا غَيْرَهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، وهي طَرِيقُ الإسْلامِ والإيمانِ بِأنْ مَنَعُوهم مِن سُلُوكِها وحَمَلُوهم عَلى الكُفْرِ، وقِيلَ المُرادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: الصَّدُّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، والأوْلى العُمُومُ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ صَنَعُوا هَذا الصُّنْعَ بِقَوْلِهِ: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ أيْ زادَهُمُ اللَّهُ عَذابًا لِأجْلِ الإضْلالِ لِغَيْرِهِمْ فَوْقَ العَذابِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ لِأجْلِ ضَلالِهِمْ، وقِيلَ المَعْنى: زِدْنا القادَةَ عَذابًا فَوْقَ عَذابِ أتْباعِهِمْ أيْ أشَدَّ مِنهُ، وقِيلَ إنَّ هَذِهِ الزِّيادَةَ هي إخْراجُهم مِنَ النّارِ إلى الزَّمْهَرِيرِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. ﴿ويَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ﴾ أيْ نَبِيًّا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مِن أنْفُسِهِمْ مِن جِنْسِهِمْ، إتْمامًا لِلْحُجَّةِ وقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ، وهَذا تَكْرِيرٌ لِما سَبَقَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ والتَّهْدِيدِ ﴿وجِئْنا بِكَ﴾ يا مُحَمَّدُ ﴿شَهِيدًا عَلى هَؤُلاءِ﴾ أيْ تَشْهَدُ عَلى هَذِهِ الأُمَمِ وتَشْهَدُ لَهم، وقِيلَ عَلى أُمَّتِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذا في البَقَرَةِ والنِّساءِ ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ أيِ القُرْآنَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ ﴿تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ بَيانًا لَهُ، والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ، ونَظِيرُهُ مِنَ المَصادِرِ التِّلْقاءُ، ولَمْ يَأْتِ غَيْرُهُما، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، ومَعْنى كَوْنِهِ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ أنَّ فِيهِ البَيانَ لِكَثِيرٍ مِنَ الأحْكامِ، والإحالَةُ فِيما بَقِيَ مِنها عَلى السُّنَّةِ، وأمَرَهم بِاتِّباعِ رَسُولِهِ ﷺ فِيما يَأْتِي بِهِ مِنَ الأحْكامِ، وطاعَتِهِ كَما في الآياتِ القُرْآنِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ ومِثْلَهُ مَعَهُ» وهُدًى لِلْعِبادِ ورَحْمَةً لَهم (p-٧٩٨)﴿وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ خاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، أوْ يَكُونُ الهُدى والرَّحْمَةُ والبُشْرى خاصَّةً بِهِمْ، لِأنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّ في القُرْآنِ تِبْيانَ كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرَ عَقِبَهُ آيَةً جامِعَةً لِأُصُولِ التَّكْلِيفِ كُلِّها تَصْدِيقًا لِذَلِكَ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ . وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في تَفْسِيرِ العَدْلِ والإحْسانِ، فَقِيلَ: العَدْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والإحْسانُ أداءُ الفَرائِضِ، وقِيلَ العَدْلُ الفَرْضُ، والإحْسانُ النّافِلَةُ. وقِيلَ العَدْلُ اسْتِواءُ العَلانِيَةِ والسَّرِيرَةِ، والإحْسانُ أنْ تَكُونَ السَّرِيرَةُ أفْضَلَ مِنَ العَلانِيَةِ. وقِيلَ العَدْلُ الإنْصافُ، والإحْسانُ التَّفَضُّلُ. والأوْلى تَفْسِيرُ العَدْلِ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ وهو التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ، فَمَعْنى أمْرِهِ سُبْحانَهُ بِالعَدْلِ أنْ يَكُونَ عِبادُهُ في الدِّينِ عَلى حالَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ، لَيْسَتْ بِمائِلَةٍ إلى جانِبِ الإفْراطِ وهو الغُلُوُّ المَذْمُومُ في الدِّينِ، ولا إلى جانِبِ التَّفْرِيطِ وهو الإخْلالُ بِشَيْءٍ مِمّا هو مِنَ الدِّينِ، وأمّا الإحْسانُ فَمَعْناهُ اللُّغَوِيُّ يُرْشِدُ إلى أنَّهُ التَّفَضُّلُ بِما لَمْ يَجِبْ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، ومِنَ الإحْسانِ فِعْلُ ما يُثابُ عَلَيْهِ العَبْدُ مِمّا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ في العِباداتِ وغَيْرِها، وقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ فَسَّرَ الإحْسانَ بِأنْ يَعْبُدَ اللَّهَ العَبْدُ حَتّى كَأنَّهُ يَراهُ، فَقالَ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثّابِتِ في الصَّحِيحَيْنِ «والإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» وهَذا هو مَعْنى الإحْسانِ شَرْعًا ﴿وإيتاءِ ذِي القُرْبى﴾ أيْ إعْطاءِ القَرابَةِ ما تَدْعُو إلَيْهِ حاجَتُهم، وفي الآيَةِ إرْشادٌ إلى صِلَةِ الأقارِبِ وتَرْغِيبٌ في التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، وهو مِن بابِ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ إنْ كانَ إعْطاءُ الأقارِبِ قَدْ دَخَلَ تَحْتَ العَدْلِ والإحْسانِ، وقِيلَ مِن بابِ عَطْفِ المَندُوبِ عَلى الواجِبِ، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ وإنَّما خَصَّ ذَوِي القُرْبى لِأنَّ حَقَّهم آكِدُ، فَإنَّ الرَّحِمَ قَدِ اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَها مِنِ اسْمِهِ، وجَعَلَ صِلَتَها مِن صِلَتِهِ وقَطِيعَتَها مِن قَطِيعَتِهِ ﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ هي الخَصْلَةُ المُتَزايِدَةُ في القُبْحِ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ، وقِيلَ هي الزِّنا، وقِيلَ البُخْلُ والمُنْكَرِ ما أنْكَرَهُ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وهو يَعُمُّ جَمِيعَ المَعاصِي عَلى اخْتِلافِ أنْواعِها وقِيلَ هو الشِّرْكُ وأمّا البَغْيُ فَقِيلَ هو الكِبْرُ، وقِيلَ الظُّلْمُ، وقِيلَ الحِقْدُ وقِيلَ التَّعَدِّي، وحَقِيقَتُهُ تَجاوُزُ الحَدِّ فَيَشْمَلُ هَذِهِ المَذْكُورَةَ ويَنْدَرِجُ بِجَمِيعِ أقْسامِهِ تَحْتَ المُنْكَرِ، وإنَّما خُصَّ بِالذِّكْرِ اهْتِمامًا بِهِ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِ ووَبالِ عاقِبَتِهِ، وهو مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَرْجِعُ عَلى فاعِلِها لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: ٢٣]، وهَذِهِ الآيَةُ هي مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى وُجُوبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ثُمَّ خَتَمَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ أيْ يَعِظُكم بِما ذَكَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ مِمّا أمَرَكم بِهِ ونَهاكم عَنْهُ، فَإنَّها كافِيَةٌ في بابِ الوَعْظِ والتَّذْكِيرِ، ( لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ ) إرادَةَ أنْ تَتَذَكَّرُوا ما يَنْبَغِي تَذَكُّرُهُ فَتَتَّعِظُوا بِما وعَظَكُمُ اللَّهُ بِهِ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ويَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ قالَ: شَهِيدُها نَبِيُّها عَلى أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسالاتِ رَبِّهِ، قالَ اللَّهُ: ﴿وجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هَؤُلاءِ﴾ قالَ: ذُكِرَ لَنا أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كانَ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ فاضَتْ عَيْناهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَألْقَوْا إلَيْهِمُ القَوْلَ﴾ قالَ: حَدَّثُوهم. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ﴿وألْقَوْا إلى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ قالَ: اسْتَسْلَمُوا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، والفِرْيابِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وهَنّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وأبُو يَعْلى، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ والنُّشُورِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ قالَ: زِيدُوا عَقارِبَ لَها أنْيابٌ كالنَّخْلِ الطِّوالِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والخَطِيبُ عَنِ البَراءِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾، «فَقالَ: عَقارِبُ أمْثالُ النَّخْلِ الطِّوالِ يَنْهَشُونَهم في جَهَنَّمَ» وأخْرَجَ أبُو يَعْلى، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ قالَ: خَمْسَةُ أنْهارٍ مِن نارٍ صَبَّها اللَّهُ عَلَيْهِمْ يُعَذَّبُونَ بِبَعْضِها بِاللَّيْلِ، وبِبَعْضِها بِالنَّهارِ. وقَدْ رَوى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «الزِّيادَةُ خَمْسَةُ أنْهارٍ تَجْرِي مِن تَحْتِ العَرْشِ عَلى رُءُوسِ أهْلِ النّارِ: ثَلاثَةُ أنْهارٍ عَلى مِقْدارِ اللَّيْلِ، ونَهْرانِ عَلى مِقْدارِ النَّهارِ فَلِذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ أنْزَلَ في هَذا الكِتابِ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، ولَكِنَّ عِلْمَنا يَقْصُرُ عَمّا بُيِّنَ لَنا في القُرْآنِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ . وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ وابْنُ الضُّرَيْسِ في فَضائِلِ القُرْآنِ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ في كِتابِ الصَّلاةِ والطَّبَرانِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: مَن أرادَ العِلْمَ فَلْيُثَوِّرَ القُرْآنَ، فَإنَّ فِيهِ عِلْمَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ. وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي العاصِ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جالِسًا إذْ شَخَصَ بَصَرُهُ فَقالَ: «أتانِي جِبْرِيلُ فَأمَرَنِي أنْ أضَعَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذا المَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ» ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ الآيَةَ. وفِي إسْنادِهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: إسْنادُهُ لا بَأْسَ بِهِ. وقَدْ أخْرَجَهُ مُطَوَّلًا أحْمَدُ، والبُخارِيُّ في الأدَبِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، وحَسَّنَ ابْنُ كَثِيرٍ إسْنادَهُ. وأخْرَجَ الباوَرْدِيُّ، وابْنُ السَّكَنِ، وابْنُ مَندَهْ، وأبُو نُعَيْمٍ في مَعْرِفَةِ الصَّحابَةِ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمّا بَلَغَتْ أكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ حَكِيمَ العَرَبِ قالَ: إنِّي أراهُ يَأْمُرُ بِمَكارِمِ الأخْلاقِ ويَنْهى عَنْ مَلائِمِها، ثُمَّ قالَ لِقَوْمِهِ: كُونُوا في هَذا الأمْرِ رُءُوسًا ولا تَكُونُوا فِيهِ أذْنابًا، وكُونُوا فِيهِ أوَّلًا ولا تَكُونُوا فِيهِ آخِرًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ (p-٧٩٩)عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ﴾ قالَ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والإحْسانُ أداءُ الفَرائِضِ ﴿وإيتاءِ ذِي القُرْبى﴾ قالَ: إعْطاءُ ذَوِي الأرْحامِ الحَقَّ الَّذِي أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ القَرابَةِ والرَّحِمِ ﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ قالَ: الزِّنا والمُنْكَرِ قالَ الشِّرْكُ والبَغْيِ قالَ: الكِبْرُ والظُّلْمُ يَعِظُكم قالَ: يُوصِيكم ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾، وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، والبُخارِيُّ في الأدَبِ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ في الصَّلاةِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ قالَ: أعْظَمُ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وأجْمَعُ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ الآيَةُ الَّتِي في النَّحْلِ ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ وأكْثَرُ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ تَفْوِيضًا ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢، ٣] وأشَدُّ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ رَجاءً ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣]، الآيَةَ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ إلى آخِرِها ثُمَّ قالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ جَمَعَ لَكُمُ الخَيْرَ كُلَّهُ والشَّرَّ كُلَّهُ في آيَةٍ واحِدَةٍ، فَواللَّهِ ما تَرَكَ العَدْلُ والإحْسانُ مِن طاعَةِ اللَّهِ شَيْئًا إلّا جَمَعَهُ، ولا تَرَكَ الفَحْشاءُ والمُنْكَرُ والبَغْيُ مِن مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْئًا إلّا جَمَعَهُ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ بِقَوْمٍ يَتَحَدَّثُونَ فَقالَ: فِيمَ أنْتُمْ ؟ قالُوا: نَتَذاكَرُ المُرُوءَةَ، فَقالَ: أوَما كَفاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ في كِتابِهِ إذْ يَقُولُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ فالعَدْلُ الإنْصافُ، والإحْسانُ التَّفَضُّلُ، فَما بَقِيَ بَعْدَ هَذا ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب