الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ (تَعالى) فَضْلَ هَذا القُرْآنِ؛ بِما يَقْطَعُ حُجَّتَهُمْ؛ وكانَ قَدْ قَدَّمَ فَضْلَ مَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ؛ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ أخَذَ يُبَيِّنُ اتِّصافَ القُرْآنِ بِبَيانِ كُلِّ شَيْءٍ؛ وتَضَمُّنَهُ لِذَلِكَ الطَّرِيقِ الأقْوَمِ؛ فَقالَ (تَعالى) - جامِعًا لِما يَتَّصِلُ بِالتَّكالِيفِ؛ فَرْضًا ونَفْلًا؛ وما يَتَّصِلُ بِالأخْلاقِ والآدابِ؛ عُمُومًا وخُصُوصًا -: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المَلِكَ المُسْتَجْمِعَ لِصِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿يَأْمُرُ بِالعَدْلِ﴾؛ وهو الإنْصافُ؛ الَّذِي لا يُقْبَلُ عَمَلٌ بِدُونِهِ؛ (p-٢٣٦)وأوَّلُ دَرَجاتِهِ التَّوْحِيدُ؛ الَّذِي بُنِيَتِ السُّورَةُ عَلَيْهِ؛ والعَدْلُ يُعْتَبَرُ تارَةً في المَعْنى؛ فَيُرادُ بِهِ هَيْئَةٌ في الإنْسانِ تُطْلَبُ بِها المُساواةَ؛ وتارَةً في العَقْلِ؛ فَيُرادُ بِهِ التَّقْسِيطُ القائِمُ عَلى الِاسْتِواءِ؛ وتارَةً يُقالُ: هو الفَضْلُ كُلُّهُ؛ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ الفَضائِلِ عَنْهُ؛ وتارَةً يُقالُ: هو أكْمَلُ الفَضائِلِ؛ مِن حَيْثُ إنَّ صاحِبَهُ يَقْدِرُ عَلى اسْتِعْمالِهِ في نَفْسِهِ؛ وفي غَيْرِهِ؛ وهو مِيزانُ اللَّهِ المُبَرَّأُ مِن كُلِّ زَلَّةٍ؛ وبِهِ يَسْتَتِبُّ أمْرُ العالَمِ؛ وبِهِ قامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ؛ وهو وسَطٌ؛ كُلُّ أطْرافِهِ جَوْرٌ؛ وبِالجُمْلَةِ الشَّرْعُ مَجْمَعُ العَدْلِ؛ وبِهِ تُعْرَفُ حَقائِقُهُ؛ ومَنِ اسْتَقامَ عَلى نَهْجِ الحَقِّ فَقَدِ اسْتَتَبَّ عَلى مَنهَجِ العَدْلِ؛ ذَكَرَهُ الرّازِيُّ في ”اللَّوامِعُ“؛ وفِيهِ تَلْخِيصٌ؛ وفي آخِرِ الجُزْءِ الخامِسَ عَشَرَ مِنَ الثَّقَفِيّاتِ أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صِفْ لِيَ العَدْلَ؛ فَقالَ: كُنْ لِصَغِيرِ النّاسِ أبًا؛ ولِكَبِيرِهِمُ ابْنًا؛ ولِلْمِثْلِ أخًا؛ ولِلنِّساءِ كَذَلِكَ؛ وعاقِبِ النّاسَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ عَلى قَدْرِ أجْسامِهِمْ؛ ولا تَضْرِبَنَّ (p-٢٣٧)لِغَضَبِكَ سَوْطًا واحِدًا فَتَعْدِيَ فَتَكُونَ مِنَ العادِينَ؛ انْتَهى. ﴿والإحْسانِ﴾؛ وهو فِعْلُ الطّاعَةِ عَلى أعْلى الوُجُوهِ؛ فالعَدْلُ فَرْضٌ؛ والإحْسانُ فَضْلٌ؛ وهو مُجاوَزَةُ النَّصَفَةِ إلى التَّحامُلِ عَلى النَّفْسِ؛ لِأنَّهُ رُبَّما وقَعَ في الفَرْضِ نَقْصٌ فَجُبِرَ بِالنَّفْلِ؛ وهو في التَّوْحِيدِ الِارْتِقاءُ عَنْ أوَّلِ الدَّرَجاتِ؛ ومِن أعْلاهُ الغِنى عَنِ الأكْوانِ؛ وتَكُونُ الأكْوانُ في غَيْبَتِها عِنْدَ انْبِساطِ نُورِ الحَقِّ؛ كالنُّجُومِ في انْطِماسِها عِنْدَ انْتِشارِ نُورِ الشَّمْسِ؛ وغايَتُهُ الفَناءُ؛ حَتّى عَنْ هَذا الغِنى؛ وشُهُودُ اللَّهِ وحْدَهُ؛ وهو التَّوْحِيدُ عَلى الحَقِيقَةِ؛ كَما في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «”الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ“؛» وهو رُوحُ الإنْسانِيَّةِ؛ فَفي الجُزْءِ الثّامِنِ مِنَ الثَّقَفِيّاتِ؛ عَنْ عاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الجَرْمِيِّ قالَ: «حَدَّثَنِي أبِي كُلَيْبٌ أنَّهُ شَهِدَ مَعَ أبِيهِ جِنازَةً شَهِدَها رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ -؛ قالَ: وأنا غُلامٌ أعْقِلُ وأفْهَمُ؛ قالَ: فانْتَهى بِالجِنازَةِ إلى القَبْرِ؛ ولَمّا يُمَكَّنْ لَها؛ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ – يَقُولُ: ”سَوِّ ذا“؛ أوْ: ”خُذْ ذا“؛ قالَ: حَتّى ظَنَّ النّاسُ أنَّها سُنَّةٌ؛ فالتَفَتَ إلَيْهِمْ فَقالَ: ”إنَّ هَذا لا يَنْفَعُ المَيِّتَ؛ ولا يَضُرُّهُ؛ ولَكِنَّ اللَّهَ (تَعالى) يُحِبُّ مِنَ العامِلِ إذا (p-٢٣٨)عَمِلَ أنْ يُحْسِنَ“». ﴿وإيتاءِ ذِي القُرْبى﴾؛ فَإنَّهُ مِنَ الإحْسانِ؛ وهو أوْلى النّاسِ بِالبَرِّ؛ وذَلِكَ جامِعٌ لِلْإحْسانِ في صِلَةِ الرَّحِمِ. ولَمّا أمَرَ بِالمَكارِمِ؛ نَهى عَنِ المَساوِئِ؛ والمَلائِمِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾؛ وهي ما اشْتَدَّ تَقْصِيرُهُ عَنِ العَدْلِ؛ فَكانَ ضِدَّ الإحْسانِ؛ ﴿والمُنْكَرِ﴾؛ وهو ما قَصَّرَ عَنِ العَدْلِ في الجُمْلَةِ؛ ﴿والبَغْيِ﴾؛ وهو الِاسْتِعْلاءُ عَلى الغَيْرِ ظُلْمًا؛ وقالَ البَيْضاوِيُّ في سُورَةِ ”الشُّورى“: هو طَلَبُ تَجاوُزِ الِاقْتِصادِ فِيما يَتَجَزَّأُ؛ كَمِّيَّةً؛ أوْ كَيْفِيَّةً؛ وهو مِنَ المُنْكَرِ؛ صَرَّحَ بِهِ اهْتِمامًا؛ وهو أخُو قَطِيعَةِ الرَّحِمِ؛ ومُشارِكٌ لَها في تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ: ”ما مِن ذَنْبٍ أحْرى أنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصاحِبِهِ العُقُوبَةَ؛ مَعَ ما يَدَّخِرُ لَهُ في الآخِرَةِ؛ مِنَ البَغْيِ؛ وقَطِيعَةِ الرَّحِمِ“؛ رَواهُ أحْمَدُ؛ وأبُو داوُدَ؛ والتِّرْمِذِيُّ؛ عَنْ أبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورَفَعَهُ؛ وأصْلُ البَغْيِ: الإرادَةُ؛ كَأنَّهُ صارَ - بِفَهْمِ هَذا المَعْنى المَحْظُورِ - المَحْذُورَ؛ عِنْدَ حَذْفِ مَفْعُولِهِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ - لِكَوْنِهِ مَجْبُولًا عَلى النُّقْصانِ - لا يَكادُ يَصْلُحُ مِنهُ إرادَةٌ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الِاخْتِيارِ؛ مَعَ المَلِكِ الجَبّارِ؛ الواحِدِ القَهّارِ؛ فَتَكُونَ إرادَتُهُ تابِعَةً لِإرادَتِهِ؛ واخْتِيارِهِ؛ مِن وراءِ طاعَتِهِ؛ وعَنِ الحَسَنِ أنَّ الخُلُقَيْنِ (p-٢٣٩)الأوَّلَيْنِ ما تَرَكا طاعَةً إلّا جَمْعاها؛ والأخِيرَيْنِ ما تَرَكا مَعْصِيَةً إلّا جَمَعاها. ولَمّا دَعا هَذا الكَلامُ؛ عَلى وجازَتِهِ؛ إلى أُمَّهاتِ الفَضائِلِ الَّتِي هي العِلْمُ؛ والعَدْلُ؛ والعِفَّةُ؛ والشَّجاعَةُ؛ وزادَ مِنَ الحُسْنِ ما شاءَ؛ فَإنَّ الإحْسانَ مِن ثَمَراتِ العِفَّةِ؛ والنَّهْيَ عَنِ البَغْيِ؛ الَّذِي هو مِن ثَمَراتِ الشَّجاعَةِ المَذْمُومَةِ؛ إذَنْ فِيما سِواهُ مِنها؛ ولا يَقُومُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ إلّا بِالعِلْمِ؛ وكانَ هَذا أبْلَغَ وعْظٍ؛ نَبَّهَ عَلَيْهِ - سُبْحانَهُ - بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يَعِظُكُمْ﴾؛ أيْ: يَأْمُرُكم بِما يُرَقِّقُ قُلُوبَكم مِن مُصاحَبَةِ ثَلاثَةٍ؛ ومُجانَبَةِ ثَلاثَةٍ؛ ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾؛ أيْ: لِيَكُونَ حالُكم حالَ مَن يُرْجى تَذَكُّرُهُ؛ لِما في ذَلِكَ مِنَ المَعالِي بِما وهَبَ اللَّهُ مِنَ العَقْلِ؛ الدّاعِي إلى كُلِّ خَيْرٍ؛ النّاهِي عَنْ كُلِّ ضَيْرٍ؛ فَإنَّ كُلَّ أحَدٍ؛ مِن طِفْلٍ وغَيْرِهِ؛ يَكْرَهُ أنْ يُفْعَلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِن هَذِهِ المَنهِيّاتِ؛ فَمَن كانَ لَهُ عَقْلٌ؛ واعْتَبَرَ بِعَقْلِهِ؛ عَلِمَ أنَّ غَيْرَهُ يَكْرَهُ مِنهُ ما يَكْرَهُ هو مِنهُ؛ ويَعْلَمُ أنَّهُ إنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْ فِعْلِ ما يَكْرَهُ أخُوهُ؛ وقَعَ التَّشاجُرُ؛ فَيَحْصُلَ الفَسادُ المُؤَدِّي إلى خَرابِ الأرْضِ؛ هَذا في الفِعْلِ مَعَ أمْثالِهِ مِنَ المَخْلُوقِينَ؛ فَكَيْفَ بِالخالِقِ بِأنْ يَصِفَهُ بِما لا يَلِيقُ بِهِ - سُبْحانَهُ؛ وعَزَّ اسْمُهُ؛ وتَعالى جَدُّهُ؛ وعَظُمَ أمْرُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب