الباحث القرآني
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ﴾ أيْ فِيما نَزَّلَهُ عَلَيْكَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وإيثارُ صِيغَةِ الِاسْتِقْبالِ فِيهِ وفِيما بَعْدَهُ لِإفادَةِ التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ ﴿بِالعَدْلِ﴾ أيْ بِمُراعاةِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ وهو رَأْسُ الفَضائِلِ كُلِّها يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ فَضِيلَةُ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ المَلَكِيَّةِ مِنَ الحِكْمَةِ المُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الجَهْبَذَةِ والبَلادَةِ، وفَضِيلَةُ القُوَّةِ الشَّهَوِيَّةِ البَهِيمِيَّةِ مِنَ العِفَّةِ المُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الخَلاعَةِ والجُمُودِ، وفَضِيلَةُ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ السَّبْعِيَّةِ مِنَ الشَّجاعَةِ المُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ التَّهَوُّرِ والجُبْنِ. فَمِنَ الحِكَمِ الِاعْتِقادِيَّةِ التَّوْحِيدُ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ التَّعْطِيلِ ونَفْيِ الصَّنائِعِ كَما تَقُولُهُ الدَّهْرِيَّةُ والتَّشْرِيكُ كَما تَقُولُهُ الثَّنَوِيَّةُ والوَثَنِيَّةُ، وعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ عَبّاسٍ في تَفْسِيرِ العَدْلِ عَلى ما رَواهُ عَنْهُ البَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ. وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُمْ، وضَمَّ إلَيْهِ بَعْضُهُمُ القَوْلَ بِالكَسْبِ المُتَوَسِّطِ بَيْنَ مَحْضِ الجَبْرِ والقَدَرِ. ومِنَ الحِكَمِ العَمَلِيَّةِ التَّعَبُّدُ بِأداءِ الواجِباتِ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ الباطِلَةِ وتَرْكِ العَمَلِ لِزَعْمِ أنَّهُ لا فائِدَةَ فِيهِ إذِ الشَّقِيُّ والسَّعِيدُ مُتَعَيَّنانِ في الأزَلِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المَلاحِدَةِ والتَّرَهُّبُ بِتَرْكِ المُباحاتِ تَشْبِيهًا بِالرُّهْبانِ. ومِنَ الحِكَمِ الخُلُقِيَّةِ الجُودُ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ البُخْلِ والتَّبْذِيرِ. وعَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أنَّ العَدْلَ اسْتِواءُ السَّرِيرَةِ والعَلانِيَةِ في العَمَلِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّهُ قالَ: دَعانِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فَقالَ لِي: صِفْ لِي العَدْلَ فَقُلْتُ: بَخٍ سَألْتَ عَنْ أمْرٍ جَسِيمٍ كُنْ لِصَغِيرِ النّاسِ أبًا ولِكَبِيرِهِمُ ابْنًا ولِلْمِثْلِ مِنهم أخًا ولِلنِّساءِ كَذَلِكَ وعاقِبِ النّاسَ عَلى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ وعَلى قَدْرِ أجْسادِهِمْ ولا تَضْرِبَنَّ لِغَضَبِكَ سَوْطًا واحِدًا فَتَكُونَ مِنَ العادِينَ، ولَعَلَّ اخْتِيارَ ذَلِكَ لِأنَّهُ الأوْفَقُ بِمَقامِ السّائِلِ وإلّا فَما تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِهِ أوْلى ﴿والإحْسانِ﴾ أيْ إحْسانِ الأعْمالِ والعِبادَةِ أيِ الإتْيانُ بِها عَلى الوَجْهِ اللّائِقِ، وهو إمّا بِحَسَبِ الكَيْفِيَّةِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ ما رَواهُ البُخارِيُّ مِن قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ»». أوْ بِحَسَبِ الكَمِّيَّةِ كالتَّطَوُّعِ بِالنَّوافِلِ الجابِرَةِ لِما في الواجِباتِ مِنَ النَّقْصِ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالإحْسانِ المُتَعَدِّي بِإلى لا المُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ فَإنَّهُ يُقالُ: أحْسَنَهُ وأحْسَنَ إلَيْهِ أيِ الإحْسانُ إلى النّاسِ والتَّفَضُّلُ عَلَيْهِمْ،
فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ النَّجّارِ في تارِيخِهِ مِن طَرِيقِ العُكْلِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ بِقَوْمٍ يَتَحَدَّثُونَ فَقالَ: فِيمَ أنْتُمْ؟ فَقالُوا: نَتَذاكَرُ المُرُوءَةَ فَقالَ: أوَما كَفاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذاكَ في كِتابِهِ إذْ يَقُولُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ فالعَدْلُ الإنْصافُ والإحْسانُ التَّفَضُّلُ فَما بَقِيَ بَعْدَ هَذا.
وأعْلى مَراتِبِ الإحْسانِ عَلى هَذا الإحْسانُ إلى المُسِيءِ وقَدْ أمَرَ بِهِ نَبِيُّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنَّما الإحْسانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَن أساءَ إلَيْكَ لَيْسَ الإحْسانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَن أحْسَنَ إلَيْكَ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما بَعْدَ ما فَسَّرَ (p-218)العَدْلَ بِالتَّوْحِيدِ فَسَّرَ الإحْسانَ بِأداءِ الفَرائِضِ، وفِيهِ اعْتِبارُ الإحْسانِ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، وقِيلَ: العَدْلُ أنْ يُنْصِفَ ويَنْتَصِفَ والإحْسانُ أنْ يُنْصِفَ ولا يَنْتَصِفَ وقِيلَ العَدْلُ في الأفْعالِ والإحْسانُ في الأقْوالِ.
﴿وإيتاءِ ذِي القُرْبى﴾ أيْ إعْطاءِ الأقارِبِ حَقَّهم مِنَ الصِّلَةِ والبِرِّ، وهَذا داخِلٌ في العَدْلِ أوِ الإحْسانِ وصُرِّحَ بِهِ اهْتِمامًا بِشَأْنِهِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِذِي القُرْبى ما يَعُمُّ سائِرَ الأقارِبِ سَواءٌ كانُوا مِن جِهَةِ الأُمِّ أوْ مِن جِهَةِ الأبِ، وهَذا هو المُرادُ بِذَوِي الأرْحامِ الَّذِينَ حَثَّ الشّارِعُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى صِلَتِهِمْ عَلى الأصَحِّ، وقِيلَ: ذَوُو الأرْحامِ الأقارِبُ مِن جِهَةِ الأُمِّ، وذَكَرَ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ المَرْوِيَّ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ أنَّ المُرادَ مِن ذِي القُرْبى هُنا قَرابَتُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ المُرادُونَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى﴾ .
﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ الإفْراطِ في مُتابَعَةِ القُوَّةِ الشَّهَوِيَّةِ كالزِّنا مَثَلًا، وفَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما الفَحْشاءَ بِهِ، ولَعَلَّهُ تَمْثِيلٌ لا تَخْصِيصٌ (والمُنْكَرِ) ما يُنْكَرُ عَلى مُتَعاطِيهِ مِنَ الإفْراطِ في إظْهارِ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُقاتِلٍ تَفْسِيرُهُ بِالشِّرْكِ، وعَنِ ابْنِ السّائِبِ أنَّهُ ما وُعِدَ عَلَيْهِ بِالنّارِ، وعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ مُخالَفَةُ السَّرِيرَةِ لِلْعَلانِيَةِ، وقِيلَ: ما لا يُوجِبُ الحَدَّ في الدُّنْيا لَكِنْ يُوجِبُ العَذابَ في الآخِرَةِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما تُنْكِرُهُ العُقُولُ. وتَعَقَّبَهُ ابْنُ المُنِيرِ فَقالَ: إنَّهُ لَفْتَةٌ إلى الِاعْتِزالِ ولَوْ قالَ: المُنْكَرُ ما أنْكَرَهُ الشَّرْعُ لَوافَقَ الحَقَّ لَكِنَّهُ لا يَدَعْ بِدْعَةَ المُعْتَزِلَةِ في التَّحْسِينِ والتَّقْبِيحِ بِالعَقْلِ، وقالَ في الكَشْفِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ما تُنْكِرُهُ العُقُولُ أيْ بَعْدَ رَدِّهِ إلى قَوانِينِ الشَّرْعِ فالإنْكارُ بِالعَقْلِ بِالضَّرُورَةِ، وإنَّما الخِلافُ في مَأْخَذِهِ والمَقْصُودُ أنَّ ما يُمْكِنُ أنْ يَجْرِيَ عَلى المَذْهَبَيْنِ لا يَحِقُّ المُحاقَّةُ فِيهِ وهو كالتَّعْرِيضِ بِابْنِ المُنِيرِ، واسْتَظْهَرَ أبُو حَيّانَ أنَّ المُنْكَرَ أعَمُّ مِنَ الفَحْشاءِ قالَ: لِاشْتِمالِهِ عَلى المَعاصِي والرَّذائِلِ، وعَلى أوَّلًا لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ﴿والبَغْيِ﴾ الِاسْتِعْلاءِ والِاسْتِيلاءِ عَلى النّاسِ والتَّجَبُّرِ عَلَيْهِمْ، وهو مِن آثارِ القُوَّةِ الوَهْمِيَّةِ الشَّيْطانِيَّةِ الَّتِي هي حاصِلَةٌ مِن رَذِيلَتَيِ القُوَّتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ الشَّهْوانِيَّةِ والغَضَبِيَّةِ، وأصْلُ مَعْنى البَغْيِ الطَّلَبُ ثُمَّ اخْتُصَّ بِطَلَبِ التَّطاوُلِ بِالظُّلْمِ والعُدْوانِ، ومِن ثَمَّ فُسِّرَ بِما فُسِّرَ وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما وتَخْصِيصُ كُلٍّ مِنَ المُتَعاطِفاتِ الثَّلاثَةِ المَنهِيِّ عَنْها بِالإشارَةِ إلى قُوَّةٍ مِنَ القُوى الثَّلاثَةِ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ.
واعْتُرِضَ بِأنَّ ذَلِكَ مِمّا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: المُنْكَرُ أعَمُّ الثَّلاثَةِ بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ بِهِ ما يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ ويُقَبِّحُهُ مِنَ الأقْوالِ أوِ الأفْعالِ سَواءٌ عَظُمَ قُبْحُهُ ومَفْسَدَتُهُ أمْ لا وسَواءٌ كانَ مُتَعَدِّيًا إلى الغَيْرِ أمْ لا، وأنَّ المُرادَ بِالفَحْشاءِ ما عَظُمَ قُبْحُهُ مِن ذَلِكَ، ومِنهُ قِيلَ لِمَن عَظُمَ قُبْحُهُ في البُخْلِ فاحِشٌ، وعَلى ذَلِكَ حَمَلَ الرّاغِبُ قَوْلَ الشّاعِرِ:
؎أرى المَوْتَ يَعْتامُ الكِرامَ ويَصْطَفِي عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ
والبَغْيُ التَّطاوُلُ بِالظُّلْمِ والعُدْوانِ فَفي الآيَةِ عَطْفُ العامِّ عَلى الخاصِّ وعَطْفُ الخاصِّ عَلى العامِّ، وقِيلَ: المُرادُ بِالفَحْشاءِ مُقابِلُ العَدْلِ ويُفَسَّرُ بِما خَرَجَ عَنْ سُنَنِ الِاعْتِدالِ إلى جانِبِ الإفْراطِ، وبِالمُنْكَرِ ما يُقابِلُ ما فِيهِ الإحْسانُ ويُفَسَّرُ بِما أتى بِهِ عَلى غَيْرِ الوَجْهِ اللّائِقِ بَلْ عَلى وجْهٍ يُنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ وبِالبَغْيِ ما يُقابِلُ إيتاءَ ذِي القُرْبى (p-219)ويُفَسَّرُ بِما فُسِّرَ ويَكُونُ قَدْ قُوبِلَ في الآيَةِ الأمْرُ بِالنَّهْيِ وكُلٌّ مِنَ المَأْمُورِ بِهِ بِكُلٍّ مِنَ المَنهِيِّ عَنْهُ وجَمَعَ بَيْنَ الأمْرِ والنَّهْيِ مَعَ أنَّ الأمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ والنَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أمْرٌ بِضِدِّهِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ والِاعْتِناءِ. والإمامُ الرّازِيُّ قَدْ أطالَ الكَلامَ في هَذا المَقامِ وذَكَرَ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ بَيْنَ الثَّلاثَةِ المَأْمُورِ بِها ويَقْتَضِي أيْضًا المُغايَرَةَ بَيْنَ الثَّلاثَةِ المَنهِيِّ عَنْها وشَرَعَ في بَيانِ المُغايِرَةِ بَيْنَ الأوَّلِ ثُمَّ قالَ: والحاصِلُ أنَّ العَدْلَ عِبارَةٌ عَنِ القَدْرِ الواجِبِ مِنَ الخَيْراتِ والإحْسانَ عِبارَةٌ عَنِ الزِّيادَةِ في الطّاعاتِ بِحَسَبِ الكَمِّيَّةِ وبِحَسَبِ الكَيْفِيَّةِ وبِحَسَبِ الدَّواعِي والصَّوارِفِ وبِحَسَبِ الِاسْتِغْراقِ في شُهُودِ مَقامِ العُبُودِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، ويَدْخُلُ في تَفْسِيرِهِ التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِهِ سُبْحانَهُ، ومِنَ الظّاهِرِ أنَّ الشَّفَقَةَ عَلى الخَلْقِ أقْسامٌ كَثِيرَةٌ أشْرَفُها وأجَلُّها صِلَةُ الرَّحِمِ لا جَرَمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ أفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ، ثُمَّ شَرَعَ في بَيانِ المُغايَرَةِ بَيْنَ الأخِيرَةِ وقالَ: تَفْصِيلُ القَوْلِ في ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى أوْدَعَ في النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ قُوىً أرْبَعَةً وهي الشَّهْوانِيَّةُ البَهِيمِيَّةُ والغَضَبِيَّةُ السَّبْعِيَّةُ والوَهْمِيَّةُ الشَّيْطانِيَّةُ والعَقْلِيَّةُ المَلَكِيَّةُ، وهَذِهِ الأخِيرَةُ لا يَحْتاجُ الإنْسانُ إلى تَهْذِيبِها لِأنَّها مِن جَوْهَرِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ونَتائِجِ الأرْواحِ القُدْسِيَّةِ العُلْوِيَّةِ وإنَّما المُحْتاجُ إلى التَّهْذِيبِ الثَّلاثَةُ قَبْلَها، ولَمّا كانَتِ الأُولى أعْنِي القُوَّةَ الشَّهْوانِيَّةَ إنَّما تَرْغَبُ في تَحْصِيلِ اللَّذّاتِ الشَّهْوانِيَّةِ وكانَ هَذا النَّوْعُ مَخْصُوصًا بِاسْمِ الفُحْشِ- ألا تَرى أنَّهُ تَعالى سَمّى الزِّنا فاحِشَةً- أشارَ إلى تَهْذِيبِها بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ﴾ المُرادُ مِنهُ المَنعُ مِن تَحْصِيلِ الذّاتِ الشَّهْوانِيَّةِ الخارِجَةِ عَنْ إذَنِ الشَّرِيعَةِ، ولَمّا كانَتِ الثّانِيَةُ أعْنِي القُوَّةَ الغَضَبِيَّةَ السَّبْعِيَّةَ تَسْعى أبَدًا في إيصالِ الشَّرِّ والبَلاءِ والإيذاءِ إلى سائِرِ النّاسِ أشارَ سُبْحانَهُ إلى تَهْذِيبِها بِنَهْيِهِ تَعالى عَنِ المُنْكَرِ إذْ لا شَكَّ أنَّ النّاسَ يُنْكِرُونَ تِلْكَ الحالَةَ فالمُنْكَرُ عِبارَةٌ عَنِ الإفْراطِ الحاصِلِ في آثارِ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ، ولَمّا كانَتِ الثّالِثَةُ أعْنِي القُوَّةَ الوَهْمِيَّةَ الشَّيْطانِيَّةَ تَسْعى أبَدًا في الِاسْتِعْلاءِ عَلى النّاسِ والتَّرَفُّعِ وإظْهارِ الرِّياسَةِ والتَّقَدُّمِ أشارَ سُبْحانَهُ إلى تَهْذِيبِها بِالنَّهْيِ عَنِ البَغْيِ إذْ لا مَعْنى لَهُ إلّا التَّطاوُلُ والتَّرَفُّعُ عَلى النّاسِ، ثُمَّ قالَ: ومِنَ العَجائِبِ في هَذا البابِ أنَّ العُقَلاءَ قالُوا: أخَسُّ هَذِهِ القُوى الثَّلاثِ الشَّهْوانِيَّةُ وأوْسَطُها الغَضَبِيَّةُ وأعْلاها الوَهْمِيَّةُ، واللَّهُ تَعالى راعى هَذا التَّرْتِيبَ فَبَدَأ سُبْحانَهُ بِذِكْرِ الفَحْشاءِ الَّتِي هي نَتِيجَةُ القُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ ثُمَّ بِالمُنْكَرِ الَّذِي هو نَتِيجَةُ القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ ثُمَّ بِالبَغْيِ الَّذِي هي نَتِيجَةُ القُوَّةِ الوَهْمِيَّةِ اه. وما تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مَأْخُوذٌ مِن هَذا، ولْيُنْظَرْ هَلْ يَثْبُتُ بِما قَرَّرَهُ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَيَنْدَفِعُ الِاعْتِراضُ السّابِقُ أمْ لا، ثُمَّ إنَّ الظّاهِرَ عَلَيْهِ أنَّ عَطْفَ البَغْيِ عَلى ما قَبْلَهُ كَعَطْفِ (إيتاءِ ذِي القُرْبى) عَلى ما قَبْلَهُ.
وبِالجُمْلَةِ أنَّ الآيَةَ كَما أخْرَجَ البُخارِيُّ في الأدَبِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أجْمَعُ آيَةٍ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ، وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنِ الحَسَنِ نَحْوَ ذَلِكَ، وأخْرَجَ الباوَرْدِيُّ وأبُو نُعَيْمٍ في مَعْرِفَةِ الصَّحابَةِ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ: «بَلَغَ أكْتَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَأرادَ أنْ يَأْتِيَهُ فَأتى قَوْمَهُ فانْتُدِبَ رَجُلانِ فَأتَيا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالا: نَحْنُ رُسُلُ أكْتَمَ يَسْألُكَ مَن أنْتَ وما جِئْتَ بِهِ؟ فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ورَسُولُهُ ثُمَّ تَلا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ﴾ إلَخْ قالُوا: رَدِّدْ عَلَيْنا هَذا القَوْلَ فَرَدَّدَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَيْهِمْ حَتّى حَفِظُوهُ فَأتَيا أكْتَمَ فَأخْبَراهُ فَلَمّا سَمِعَ الآيَةَ قالَ: إنِّي لَأُراهُ يَأْمُرُ بِمَكارِمِ الأخْلاقِ ويَنْهى عَنْ مَذامِّها فَكُونُوا في هَذا الأمْرِ رَأْسًا ولا تَكُونُوا فِيهِ أذْنابًا».
وقَدْ صارَتْ هَذِهِ الآيَةُ أيْضًا كَما أخْرَجَ أحْمَدُ والطَّبَرانِيُّ والبُخارِيُّ في الأدَبِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ سَبَبَ اسْتِقْرارِ الإيمانِ في قَلْبِ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ ومَحَبَّتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولِجَمْعِها ما جَمَعَتْ أقامَها عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ حِينَ آلَتِ (p-220)الخِلافَةُ إلَيْهِ مَقامَ ما كانَ بَنُو أُمَيَّةَ غَضِبَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ يَجْعَلُونَهُ في أواخِرِ خُطَبِهِمْ مِن سَبِّ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ ولَعَنَ كُلَّ مَن بَغَّضَهُ وسَبَّهُ وكانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ مَآثِرِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: لَوْ لَمْ يَكُنْ في القُرْآنِ غَيْرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ لَكَفَتْ في كَوْنِهِ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى. ولَعَلَّ إيرادَها عُقَيْبَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فَإنَّها إذا نُظِرَ إلى أنَّها قَدْ جَمَعَتْ ما جَمَعَتْ مَعَ وجازَتْها اسْتَيْقَظَتْ عُيُونُ البَصائِرِ وتَحَرَّكَتْ لِلنَّظَرِ فِيما عَداها.
وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي العاصِ قالَ: «كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ جالِسًا إذْ شَخَصَ بَصَرُهُ فَقالَ: أتانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأمَرَنِي أنْ أضَعَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذا المَوْضِعِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ إلَخْ».
واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّ صِيغَةَ أ م ر تَتَناوَلُ الواجِبَ والمَندُوبَ ومَوْضُوعُها القَدْرُ المُشْتَرَكُ وتَحْقِيقُ ذَلِكَ في الأُصُولِ.
﴿يَعِظُكُمْ﴾ أيْ يُنَبِّهُكم بِما يَأْمُرُ ويَنْهى سُبْحانَهُ أحْسَنَ تَنْبِيهٍ، وهو إمّا اسْتِئْنافٌ وإمّا حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في الفِعْلَيْنِ ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ طَلَبًا لِأنْ تَتَّعِظُوا بِذَلِكَ وتَنْتَبِهُوا.
{"ayah":"۞ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ وَإِیتَاۤىِٕ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَیَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡیِۚ یَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق