الباحث القرآني
بابُ أكْلِ الجَرادِ قالَ أصْحابُنا والشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لا بَأْسَ بِأكْلِ الجَرادِ كُلِّهِ ما أخَذْتَهُ وما وجَدْتَهُ مَيِّتًا.
ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ إذا أخَذَهُ حَيًّا ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ وشَواهُ أُكِلَ، وما أُخِذَ حَيًّا فَغَفَلَ عَنْهُ حَتّى ماتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وإنَّما هو بِمَنزِلَةِ ما لَوْ وجَدَهُ مَيِّتًا قَبْلَ أنْ يَصْطادَهُ فَلا يُؤْكَلُ، وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ورَبِيعَةَ. وقالَ مالِكٌ: " وما قَتَلَهُ مَجُوسِيٌّ لَمْ يُؤْكَلْ " .
وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " أكْرَهُ أكْلَ الجَرادِ مَيِّتًا، فَأمّا الَّذِي أخَذْتَهُ حَيًّا فَلا بَأْسَ بِهِ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ السَّمَكُ والجَرادُ» يُوجِبُ إباحَتَهُ جَمِيعَهُ، مِمّا وُجِدَ مَيِّتًا ومِمّا قَتَلَهُ آخِذُهُ.
وقَدِ اسْتَعْمَلَ النّاسُ جَمِيعُهم هَذا الخَبَرَ في إباحَةِ أكْلِ الجَرادِ فَوَجَبَ اسْتِعْمالُهُ عَلى عُمُومِهِ مِن غَيْرِ شَرْطٍ لِقَتْلِ آخِذِهِ؛ إذْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ النَّبِيُّ ﷺ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا (p-١٣٦)الحَسَنُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا زَكَرِيّا بْنُ يَحْيى بْنِ عُمارَةَ الأنْصارِيُّ قالَ: حَدَّثَنا فائِدُ أبُو العَوّامِ، عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمانَ «، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الجَرادِ قالَ: أكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ، لا آكُلُهُ ولا أُحَرِّمُهُ» .
وما لَمْ يُحَرِّمْهُ النَّبِيُّ ﷺ فَهو مُباحٌ وتَرْكُ أكْلِهِ لا يُوجِبُ حَظْرَهُ؛ إذْ جائِزٌ تَرْكُ أكْلِ المُباحِ وغَيْرُ جائِزٍ نَفْيُ التَّحْرِيمِ عَمّا هو مُحَرَّمٌ، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ما ماتَ وبَيْنَ ما قَتَلَهُ آخِذُهُ.
وقالَ عَطاءٌ عَنْ جابِرٍ: «غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأصَبْنا جَرادًا فَأكَلْناهُ» . وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أوْفى: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ غَزَواتٍ نَأْكُلُ الجَرادَ ولا نَأْكُلُ غَيْرَهُ»
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَيِّتِهِ وبَيْنَ مَقْتُولِهِ، حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ زَكَرِيّا التُّسْتَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الخَطّابِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عَتّابٍ: حَدَّثَنا النُّعْمانُ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إبْراهِيمَ، عَنْ الأسْوَدِ، عَنْ عائِشَةَ: «أنَّها كانَتْ تَأْكُلُ الجَرادَ وتَقُولُ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْكُلُهُ»
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَهَذِهِ الآثارُ الوارِدَةُ في الجَرادِ لَمْ يُفَرَّقْ في شَيْءٍ مِنها بَيْنَ مَيِّتِهِ وبَيْنَ مَقْتُولِهِ.
فَإنْ قِيلَ: ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ يَقْتَضِي حَظْرَ جَمِيعِها فَلا يُخَصُّ مِنها إلّا ما أجْمَعُوا عَلَيْهِ، وهو ما يَقْتُلُهُ آخِذُهُ، وما عَداهُ فَهو مَحْمُولٌ عَلى ظاهِرِ الآيَةِ في إيجابِ تَحْرِيمِهِ قِيلَ لَهُ: تَخُصُّهُ الأخْبارُ الوارِدَةُ في إباحَتِهِ وهي مُسْتَعْمَلَةٌ عِنْدَ الجَمِيعِ في تَخْصِيصِ الآيَةِ.
ولَمْ تُفَرِّقْ هَذِهِ الأخْبارُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنها، فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنها ولا الِاعْتِراضُ عَلَيْها بِالآيَةِ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّها قاضِيَةٌ عَلى الآيَةِ مُخَصِّصَةٌ لَها.
ولَيْسَ الجَرادُ عِنْدَنا مِثْلَ السَّمَكِ في حَظْرِنا لِلطّافِي مِنهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأنَّ الأخْبارَ الوارِدَةَ في تَخْصِيصِ السَّمَكِ بِالإباحَةِ مِن جُمْلَةِ المَيْتَةِ بِإزائِها أخْبارٌ أُخَرُ في حَظْرِ الطّافِي مِنهُ، فاسْتَعْمَلْناها جَمِيعًا وقَضَيْنا بِالخاصِّ مِنها عَلى العامِّ مَعَ مُعاضَدَةِ الآيَةِ لِأخْبارِ الحَظْرِ. وأيْضًا فَإنَّهُ لَمّا وافَقَنا مالِكٌ ومَن تابَعَهُ عَلى إباحَةِ المَقْتُولِ مِنهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَيِّتِ مِن غَيْرِ قَتْلٍ؛ وذَلِكَ لِأنَّ القَتْلَ لَيْسَ بِذَكاةٍ في حَقِّهِ؛ لِأنَّ الذَّكاةَ في الأصْلِ عَلى وجْهَيْنِ وهي فِيما لَهُ دَمٌ سائِلٌ:
أحَدُهُما قَطْعُ الحُلْقُومِ والأوْداجِ في حالِ إمْكانِهِ، والآخَرُ: إسالَةُ دَمِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ، ألا تَرى أنَّ الصَّيْدَ لا يَكُونُ مُذَكًّى بِإصابَتِهِ إلّا أنْ يَجْرَحَهُ ويَسْفَحَ دَمَهُ ؟ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ لِلْجَرادِ دَمٌ سائِلٌ كانَ قَتْلُهُ ومَوْتُهُ حَتْفَ أنْفِهِ سَواءً، كَما كانَ قَتْلُ ما لَهُ دَمٌ سائِلٌ مِن غَيْرِ سَفْحِ دَمِهِ ومَوْتِهِ حَتْفَ أنْفِهِ سَواءً في كَوْنِهِ غَيْرِ مُذَكًّى. فَكَذَلِكَ واجِبٌ أنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَتْلِ الجَرادِ ومَوْتِهِ حَتْفَ أنْفِهِ؛ إذْ لَيْسَ هو مِمّا يُسْفَحُ دَمُهُ.
فَإنْ قِيلِ: قَدْ فَرَّقْتَ بَيْنَ السَّمَكِ (p-١٣٧)الطّافِي وما قَتَلَهُ آخِذُهُ أوْ ماتَ بِسَبَبٍ حادِثٍ، فَما أنْكَرْتَ مِن فَرْقِنا بَيْنَ ما ماتَ مِنَ الجَرادِ وما قُتِلَ مِنهُ ؟ قِيلَ لَهُ: الجَوابُ عَنْ هَذا مِن وجْهَيْنِ:
أحَدِهِما أنَّ هَذا هو القِياسُ في السَّمَكِ لِما لَمْ يَحْتَجْ في صِحَّةِ ذَكاتِهِ إلى سَفْحِ الدَّمِ، إلّا أنّا تَرَكْنا القِياسَ لِلْآثارِ الَّتِي ذَكَرْنا، ومِن أصْلِنا تَخْصِيصُ القِياسِ بِالآثارِ.
ولَيْسَ مَعَكَ الأثَرُ في تَخْصِيصِ بَعْضِ الجَرادِ بِالإباحَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ أخْبارِ الإباحَةِ في الكُلِّ والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ السَّمَكَ لَهُ دَمٌ سائِلٌ فَكانَ لَهُ ذَكاةٌ مِن جِهَةِ القَتْلِ ولَمْ يَحْتَجْ إلى سَفْحِ دَمِهِ في شَرْطِ الذَّكاةِ؛ لِأنَّ دَمَهُ طاهِرٌ وهو يُؤْكَلُ بِدَمِهِ، فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِيهِ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ حادِثٍ يَقُومُ لَهُ مَقامَ الذَّكاةِ في سائِرِ ما لَهُ دَمٌ سائِلٌ، وهَذا المَعْنى غَيْرُ مَوْجُودٍ في الجَرادِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفا، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: " الجَرادُ كُلُّهُ ذَكِيٌّ " وعَنْ عُمَرَ وصُهَيْبٍ والمِقْدادِ إباحَةُ أكْلِ الجَرادِ، ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ شَيْءٍ مِنهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ ذَكاةِ الجَنِينِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في جَنِينِ النّاقَةِ والبَقَرَةِ وغَيْرِهِما إذا خَرَجَ مَيِّتًا بَعْدَ ذَبْحِ الأُمِّ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لا يُؤْكَلُ إلّا أنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذْبَحَ " وهو قَوْلُ حَمّادٍ.
وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: " يُؤْكَلُ أشْعَرَ أوْ لَمْ يُشْعَرْ " وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عُمَرَ قالا ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ. وقالَ مالِكٌ: " إنْ تَمَّ خَلْقُهُ ونَبَتَ شَعْرُهُ أُكِلَ وإلّا فَلا " وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إذا تَمَّ خَلْقُهُ فَذَكاةُ أُمِّهِ ذَكاتُهُ " . قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾ وقالَ في آخِرِها ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ وقالَ: إنَّما ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ فَحَرَّمَ اللَّهُ المَيْتَةَ مُطْلَقًا واسْتَثْنى المُذَكّى مِنها
وبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الذَّكاةَ في المَقْدُورِ عَلى ذَكاتِهِ في النَّحْرِ واللَّبَّةِ وفي غَيْرِ المَقْدُورِ عَلى ذَكاتِهِ بِسَفْحِ دَمِهِ فَقَوْلُهُ: ﷺ «أنْهِرِ الدَّمَ بِما شِئْتَ» .
وقَوْلُهُ في المِعْراضِ: «إذا خَزَقَ فَكُلْ وإذا لَمْ يَخْزِقْ فَلا تَأْكُلْ» فَلَمّا كانَتِ الذَّكاةُ مُنْقَسِمَةً إلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ وحَكَمَ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ المَيْتَةِ حُكْمًا عامًّا واسْتَثْنى مِنهُ المُذَكّى بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنا عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ولَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً في الجَنِينِ، كانَ مُحَرَّمًا بِظاهِرِ الآيَةِ واحْتَجَّ مَن أباحَ ذَلِكَ بِأخْبارٍ رُوِيَتْ مِن طُرُقٍ، مِنها عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبِي الدَّرْداءِ وأبِي أُمامَةَ وكَعْبِ بْنِ مالِكٍ وابْنِ عُمَرَ وأبِي أيُّوبَ وأبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ «ذَكاةُ الجَنِينَ ذَكاةُ أُمِّهِ» . وهَذِهِ الأخْبارُ كُلُّها واهِيَةُ السَّنَدِ عِنْدَ أهْلِ النَّقْلِ
كَرِهْتُ الإطالَةَ بِذِكْرِ أسانِيدِها وبَيانِ ضَعْفِها واضْطِرابِها؛ إذْ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنها دَلالَةٌ عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ، (p-١٣٨)وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: «ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ» يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ أنَّ ذَكاةَ أُمِّهِ ذَكاةٌ لَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ إيجابَ تَذْكِيَتِهِ كَما تُذَكّى أُمُّهُ وأنَّهُ لا يُؤْكَلُ بِغَيْرِ ذَكاةٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ﴾ [آل عمران: ١٣٣] مَعْناهُ كَعَرْضِ السَّمَواتِ والأرْضِ، وكَقَوْلِ القائِلِ: " قَوْلِي قَوْلُكَ ومَذْهَبِي مَذْهَبُكَ " والمَعْنى قَوْلِي كَقَوْلِكَ ومَذْهَبِي كَمَذْهَبِكَ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎فَعَيْناكِ عَيْناها وجِيدُكِ جِيدُها سِوى أنَّ عَظْمَ السّاقِ مِنكِ دَقِيقُ
ومَعْناهُ: فَعَيْناكِ كَعَيْنَيْها وجِيدُكِ كَجِيدِها.
وإذا احْتَمَلَ اللَّفْظُ لِما وصَفْنا ولَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ المَعْنَيانِ جَمِيعًا مُرادَيْنِ بِالخَبَرِ لِتَنافِيهِما؛ إذْ كانَ في أحَدِ المَعْنَيَيْنِ إيجابُ تَذْكِيَتِهِ، فَإنَّهُ لا يُؤْكَلُ غَيْرَ مُذَكًّى في نَفْسِهِ والآخَرُ يُبِيحُ أكْلَهُ بِذَكاةِ أُمِّهِ؛ إذْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ذَكاتُهُ في نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ لَنا أنْ نُخَصِّصَ الآيَةَ بِهِ ووَجَبَ أنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلى مُوافَقَةِ الآيَةِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُ الآيَةِ بِخَبَرِ الواحِدِ واهِيِ السَّنَدِ مُحْتَمِلٍ لِمُوافَقَتِها.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ مُرادَهُ إيجابُ تَذْكِيَتِهِ كَما تُذَكّى الأُمُّ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ إذا خَرَجَ حَيًّا وجَبَ تَذْكِيَتُهُ ولَمْ يَجُزِ الِاقْتِصارُ عَلى تَذْكِيَةِ الأُمِّ، فَكانَ ذَلِكَ مُرادًا بِالخَبَرِ فَلَمْ يَجُزْ أنْ يُرِيدَ بِهِ مَعَ ذَلِكَ ذَكاةَ أُمِّهِ ذَكاةً لَهُ لِتَنافِيهِما وتَضادِّهِما؛ إذْ كانَ في أحَدِ المَعْنَيَيْنِ إيجابُ تَذْكِيَتِهِ وفي الآخَرِ نَفْيُهُ فَإنْ قالَ قائِلٌ: ما أنْكَرْتَ أنْ نُرِيدَ المَعْنَيَيْنِ في حالَيْنِ بِأنْ يَجِبَ ذَكاتُهُ إذا خَرَجَ حَيًّا ويُقْتَصَرُ عَلى ذَكاةِ أُمِّهِ إذا خَرَجَ مَيِّتًا ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذِكْرُ الحالَيْنِ مَوْجُودًا في الخَبَرِ، وهو لَفْظٌ واحِدٌ ولا يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ في إرادَةِ أحَدِ المَعْنَيَيْنِ إثْباتَ زِيادَةِ حَرْفٍ ولَيْسَ في الآخَرِ إثْباتُ زِيادَةِ حَرْفٍ، ولَيْسَ في الجائِزِ أنْ يَكُونَ لَفْظٌ واحِدٌ فِيهِ حَرْفٌ وغَيْرُ حَرْفٍ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ قَوْلُ مَن يَقُولُ بِإرادَتِهِما.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ إرادَةُ أحَدِ المَعْنَيَيْنِ تُوجِبُ زِيادَةَ حَرْفٍ وهو الكافُ ولَيْسَ في الآخَرِ زِيادَةٌ، فَحَمْلُهُ عَلى المَعْنى الَّذِي لا يَفْتَقِرُ إلى زِيادَةٍ أوْلى؛ لِأنَّ حَذْفَ الحَرْفِ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَجازًا، وإذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَذْفُ شَيْءٍ فَهو حَقِيقَةٌ، وحَمْلُ اللَّفْظِ عَلى الحَقِيقَةِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى المَجازِ قِيلَ لَهُ: كَوْنُ الحَرْفِ مَحْذُوفًا أوْ غَيْرَ مَحْذُوفٍ لا يُزِيلُ عَنْهُ الِاحْتِمالَ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ مَجازًا فَهو مَفْهُومُ اللَّفْظِ مُحْتَمِلٌ لَهُ، ولا فَرْقَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ فِيما هو مِن مُقْتَضى اللَّفْظِ، فَلَمْ يَجُزْ مِن أجْلِ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الآيَةِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: لَيْسَ في اللَّفْظِ احْتِمالُ كَوْنِهِ غَيْرَ مُذَكًّى بِذَكاةِ الأُمِّ؛ لِأنَّهُ لا يُسَمّى جَنِينًا إلّا في حالِ كَوْنِهِ في بَطْنِ أُمِّهِ، ومَتى بايَنَها لا يُسَمّى جَنِينًا، والنَّبِيُّ ﷺ إنَّما أثْبَتَ لَهُ الذَّكاةَ في حالِ اتِّصالِهِ بِالأُمِّ، وذَلِكَ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ مُذَكًّى (p-١٣٩)بِتِلْكَ الحالِ في ذَكاتِها قِيلَ لَهُ: الجَوابُ عَنْ هَذا مِن وجْهَيْنِ:
أحَدِهِما: أنَّهُ جائِزٌ أنْ يُسَمّى بَعْدَ الِانْفِصالِ جَنِينًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ مِنَ الِاجْتِنانِ في بَطْنِ أُمِّهِ، ولا يَمْتَنِعُ أحَدٌ مِن إطْلاقِ القَوْلِ بِأنَّ الجَنِينَ لَوْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ كَما تُذَكّى الأُمُّ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَنِينِ بَعْدَ الذَّكاةِ والِانْفِصالِ.
وقالَ حَمَلُ بْنُ مالِكٍ: «كُنْتُ بَيْنَ جارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِعَمُودِ فُسْطاطٍ فَألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضى النَّبِيُّ ﷺ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أوْ أمَةٍ» فَسَمّاهُ جَنِينًا بَعْدَ الإلْقاءِ. وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جازَ أنْ يَكُونَ مُرادُ النَّبِيِّ ﷺ «ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ» أنَّهُ يُذَكّى كَما تُذَكّى أُمُّهُ إذا ألْقَتْهُ حَيًّا.
والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّهُ لَوْ كانَ مُرادُهُ كَوْنَهُ مُذَكًّى وهو جَنِينٌ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُذَكًّى بِذَكاةِ الأُمِّ وإنْ خَرَجَ حَيًّا، وأنَّ مَوْتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ لا يُكْسِبُهُ حُكْمَ المَيْتاتِ كَمَوْتِهِ في بَطْنِ أُمِّهِ، فَلَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ خُرُوجَهُ حَيًّا يَمْنَعُ أنْ يَكُونَ ذَكاةُ الأُمِّ ذَكاتَهُ ثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْباتَ ذَكاةِ الأُمِّ لَهُ في حالِ اتِّصالِهِ بِالأُمِّ فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّما أرادَ إثْباتَ الحُكْمِ بِحالِ خُرُوجِهِ مَيِّتًا قِيلَ لَهُ: هَذِهِ دَعْواكَ لَمْ يَذْكُرْها النَّبِيُّ ﷺ فَإنْ جازَ أنْ تَشْتَرِطَ فِيهِ مَوْتَهُ في حالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وإنْ لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ ﷺ جازَ لَنا أنْ نَشْتَرِطَ إيجابَ ذَكاتِهِ خَرَجَ حَيًّا أوْ مَيِّتًا، فَمَتى لَمْ يُوجَدْ لَهُ ذَكاةٌ في نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أكْلُهُ.
وعَلى أنّا مَتى شَرَطْنا إيجابَ ذَكاتِهِ في نَفْسِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِأُمِّهِ اسْتَعْمَلْنا الخَبَرَ عَلى عُمُومِهِ فَجَعَلْنا إباحَةَ الأكْلِ مُعَلَّقَةً بِوُجُودِ الذَّكاةِ فِيهِ في حالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وبَعْدَ خُرُوجِهِ، وحَمْلُ الخَبَرِ عَلى ذَلِكَ أوْلى مِنَ الِاقْتِصارِ بِهِ عَلى ما ذَكَرْتَ وإثْباتِ ضَمِيرٍ فِيهِ لا ذِكْرَ لَهُ في الخَبَرِ ولا دَلالَةَ عَلَيْهِ فَإنْ قالَ قائِلٌ: حَمْلُ الخَبَرِ عَلى ما ذَكَرْتَ في إيجابِ ذَكاتِهِ إذا خَرَجَ يُسْقِطُ فائِدَتَهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَبْلَ وُرُودِهِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، مِن قِبَلِ أنَّهُ أفادَ أنَّهُ إنْ خَرَجَ حَيًّا فَقَدْ وجَبَتْ ذَكاتُهُ سَواءٌ ماتَ في حالٍ لَمْ يُقْدَرْ عَلى ذَكاتِهِ أوْ بَقِيَ، وبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَن يَقُولُ إنَّهُ إنْ ماتَ في وقْتٍ لا يُقْدَرُ عَلى ذَكاتِهِ كانَ مُذَكًّى بِذَكاةِ الأُمِّ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ حُكْمٌ بِإيجابِ ذَكاتِهِ وأنَّهُ إنْ خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ؛ إذْ هو غَيْرُ مُذَكًّى، فَإنْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ، فَأفادَ أنَّهُ مَيْتَةٌ لا تُؤْكَلُ، وبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَن يَقُولُ إنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى ذَكاةٍ إذا خَرَجَ مَيِّتًا فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِما ذَكَرَهُ زَكَرِيّا بْنُ يَحْيى السّاجِيُّ عَنْ بُنْدارٍ وإبْراهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ قالا: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا مُجالِدٌ عَنْ أبِي الوَدّاكِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ، «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الجَنِينِ يَخْرُجُ مَيِّتًا فَقالَ: إنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ فَإنَّ ذَكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ» .
قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوى هَذا الحَدِيثَ جَماعَةٌ مِنَ الثِّقاتِ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، ولَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا، ورَواهُ جَماعَةٌ عَنْ مُجالِدٍ مِنهم هُشَيْمٌ وأبُو (p-١٤٠)أُسامَةَ وعِيسى بْنُ يُونُسَ ولَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ أنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا، وإنَّما قالُوا: «سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الجَنِينِ يَكُونُ في بَطْنِ الجَزُورِ أوِ البَقَرَةِ أوِ الشّاةِ، فَقالَ: كُلُوهُ فَإنَّ ذَكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ» ورَواهُ أيْضًا ابْنُ أبِي لَيْلى عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وكَذَلِكَ قالَ كُلُّ مَن يَرْوِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِمَّنْ قَدَّمْنا ذِكْرَهُ لَمْ يَذْكُرْ واحِدٌ مِنهم أنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا، ولَمْ تَجِئْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إلّا في رِوايَةِ السّاجِيِّ. ويُشْبِهُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيادَةُ مِن عِنْدِهِ فَإنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ،
فَإنِ احْتَجَّ بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ [المائدة: ١] أنَّها الأجِنَّةُ، قِيلَ لَهُ: إنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها جَمِيعُ الأنْعامِ، وأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١] الخِنْزِيرُ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّ بَهِيمَةَ الأنْعامِ الشّاةُ والبَعِيرُ والبَقَرَةُ. والأوْلى أنْ تَكُونَ عَلى جَمِيعِ الأنْعامِ ولا تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلى الجَنِينِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلا دَلالَةٍ. وأيْضًا فَإنْ كانَ المُرادُ الأجِنَّةَ فَهي عَلى إباحَتِها بِالذَّكاةِ كَسائِرِ الأنْعامِ هي مُباحَةٌ بِشَرْطِ ذَكاتِها، وكالجَنِينِ إذا خَرَجَ حَيًّا هو مُباحٌ بِشَرْطِ الذَّكاةِ.
وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١] إذا كانَ المُرادُ ما سَيُتْلى عَلَيْكم في المُسْتَقْبَلِ مِمّا هو مُحَرَّمٌ في الحالِ، فَهو مُجْمَلٌ لا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِهِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ بِمَنزِلَةِ ما لَوْ قالَ: بَعْضُ الأنْعامِ مُباحٌ وبَعْضُهُ مَحْظُورٌ.
ولَمْ يُبَيِّنْهُ فَلا يَصِحُّ اعْتِبارُ عُمُومِ شَيْءٍ مِنهُ فَإنْ قالَ قائِلٌ: لَمّا كانَ حُكْمُ الجَنِينِ حُكْمَ أُمِّهِ فِيمَن ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأةٍ فَماتَتْ وألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ولَمْ يَنْفَرِدْ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، كانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ في الذَّكاةِ إذا ماتَ في بَطْنِ أُمِّهِ بِمَوْتِها، ولَوْ خَرَجَ الوَلَدُ حَيًّا ثُمَّ ماتَ انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ دُونَ أُمِّهِ في إيجابِ الغُرَّةِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ جَنِينُ الحَيَوانِ إذا ماتَ بِمَوْتِ أُمِّهِ وخَرَجَ مَيِّتًا أُكِلَ، وإذا خَرَجَ حَيًّا لَمْ يُؤْكَلْ حَتّى يُذَكّى قِيلَ لَهُ: هَذا قِياسٌ فاسِدٌ؛ لِأنَّهُ قِياسُ حُكْمٍ عَلى حُكْمٍ غَيْرِهِ، وإنَّما القِياسُ الصَّحِيحُ الجَمْعُ بَيْنَ المَسْألَتَيْنِ في حُكْمٍ واحِدٍ بِعِلَّةٍ تُوجِبُ رَدَّ إحْداهُما إلى الأُخْرى.
فَأمّا في قِياسِ مَسْألَةٍ عَلى مَسْألَةٍ في حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقِياسٍ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّ المَسْألَةَ الَّتِي اسْتَشْهَدْتَ بِها إنَّما حُكْمُها ضَمانُ الجَنِينِ في حالِ انْفِصالِهِ مِنها حَيًّا بَعْدَ مَوْتِها، ومَسْألَتُنا إنَّما هي في إثْباتِ ذَكاةِ الأُمِّ لَهُ في حالِ مَنعِهِ في حالٍ أُخْرى، فَكَيْفَ يَصِحُّ رَدُّ هَذِهِ إلى تِلْكَ ؟ ومَعَ ذَلِكَ فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ شاةٍ أوْ غَيْرِها فَألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يَجِبْ لِلْجَنِينِ أرْشٌ ولا قِيمَةٌ عَلى الضّارِبِ وإنَّما يَجِبُ فِيهِ نُقْصانُ الأُمِّ إنْ حَدَثَ بِها نُقْصانٌ. وإذا لَمْ يَكُنْ لِجَنِينِ البَهائِمِ بَعْدَ الِانْفِصالِ حُكْمٌ في حَياةِ الأُمِّ وثَبَتَ ذَلِكَ لِجَنِينِ (p-١٤١)المَرْأةِ.
فَكَيْفَ يَجُوزُ قِياسُ البَهِيمَةِ عَلى الإنْسانِ وقَدِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُما في نَفْسِ ما ذَكَرْتَ ؟
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ الجَنِينُ في حالِ اتِّصالِهِ بِالأُمِّ في حُكْمِ عُضْوٍ مِن أعْضائِها كانَ بِمَنزِلَةِ العُضْوِ مِنها إذا ذُكِّيَتِ الأُمُّ فَيَحِلُّ بِذَكاتِها قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ بِمَنزِلَةِ عُضْوٍ مِنها لِجَوازِ خُرُوجِهِ حَيًّا تارَةً في حَياةِ الأُمِّ وتارَةً بَعْدَ مَوْتِها، والعُضْوُ لا يَجُوزُ أنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الحَياةِ بَعْدَ انْفِصالِهِ مِنها، فَثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ تابِعٍ لَها في حالِ حَياتِها ولا بَعْدَ مَوْتِها.
فَإنْ قِيلَ: الواجِبُ أنْ يَتْبَعَ الجَنِينُ الأُمَّ في الذَّكاةِ كَما يَتْبَعُ الوَلَدُ الأُمَّ في العِتاقِ والِاسْتِيلادِ والكِتابَةِ ونَحْوِها قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنا في امْتِناعِ قِياسِ حُكْمٍ عَلى حُكْمٍ آخَرَ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إذا أعْتَقَتِ الأمَةُ أنْ يَنْفَصِلَ الوَلَدُ مِنها غَيْرَ حُرٍّ وهو تابِعٌ لِلْأُمِّ في الأحْكامِ الَّتِي ذَكَرْتَ، وجائِزٌ أنْ يُذَكِّيَ الأُمَّ ويَخْرُجَ الوَلَدُ حَيًّا فَلا يَكُونُ ذَكاةُ الأُمِّ ذَكاةً لَهُ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لا يَتْبَعُ الأُمَّ في الذَّكاةِ؛ إذْ لَوْ تَبِعَها في ذَلِكَ لَما جازَ أنْ يَنْفَرِدَ بَعْدَ ذَكاةِ الأُمِّ بِذَكاةِ نَفْسِهِ وأمّا مالِكٌ فَإنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلى ما رُوِيَ في حَدِيثِ سُلَيْمانَ أبِي عِمْرانَ، عَنِ ابْنِ البَراءِ، عَنْ أبِيهِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضى في أجِنَّةِ الأنْعامِ أنَّ ذَكاتَها ذَكاةُ أُمِّها إذا أُشْعِرَتْ» .
ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ قالَ: " كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: إذا أُشْعِرَ الجَنِينُ فَإنَّ ذَكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ " .
ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عُمَرَ مِن قَوْلِهِما مِثْلُ ذَلِكَ. فَيُقالُ لَهُ: إذا ذُكِرَ الإشْعارُ في هَذا الخَبَرِ وأُبْهِمَ في غَيْرِهِ مِنَ الأخْبارِ الَّتِي هي أصَحُّ مِنهُ، وهو خَبَرُ جابِرٍ وأبِي سَعِيدٍ وأبِي الدَّرْداءِ وأبِي أُمامَةَ، ولَمْ يُشْتَرَطْ فِيها الإشْعارُ، فَهَلّا سَوَّيْتَ بَيْنَهُما؛ إذْ لَمْ تَنْفِ هَذِهِ الأخْبارَ ما أوْجَبَهُ خَبَرُ الإشْعارِ؛ إذْ هُما جَمِيعًا يُوجِبانِ حُكْمًا واحِدًا، وإنَّما في أحَدِهِما تَخْصِيصُ ذَلِكَ الحُكْمِ مِن غَيْرِ نَفْيٍ لِغَيْرِهِ وفي الآخَرِ إبْهامُهُ وعُمُومُهُ.
ولَمّا اتَّفَقْنا جَمِيعًا عَلى أنَّهُ إذا لَمْ يُشْعِرْ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ ذَكاةُ الأُمِّ واعْتُبِرَتْ ذَكاةُ نَفْسِهِ وهو في هَذِهِ الحالَةِ أقْرَبُ أنْ يَكُونَ بِمَنزِلَةِ أعْضائِها مِنهُ بَعْدَ مُبايَنَتِهِ لَها، وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذا أُشْعِرَ ويَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: «ذَكاتُهُ ذَكاةُ أُمِّهِ» عَلى أنَّهُ يُذَكّى كَما تُذَكّى أُمُّهُ، ويُقالُ لِأصْحابِ الشّافِعِيِّ: إذا كانَ قَوْلُهُ: " ذَكاتُهُ ذَكاةُ أُمِّهِ " إذا أُشْعِرَ، يَنْفِي ذَكاتَهُ بِأُمِّهِ إذا لَمْ يُشْعِرْ، فَهَلّا خَصَّصْتَ بِهِ الأخْبارَ المُبْهَمَةَ؛ أكانَ عِنْدَكم أنَّ هَذا الضَّرْبَ مِنَ الدَّلِيلِ يُخَصُّ بِهِ العُمُومُ بَلْ هو أوْلى مِنهُ.
ومِمّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلى الشّافِعِيِّ أيْضًا في ذَلِكَ، قَوْلُهُ ﷺ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ» ودَلالَةُ هَذا الخَبَرِ يَقْتَضِي عِنْدَهُ تَحْرِيمَ سائِرِ المَيْتاتِ سِواهُما، فَيَلْزَمُهُ أنْ يَحْمِلَ مَعْنى.
قَوْلِهِ: «ذَكاةُ الجَنِينِ (p-١٤٢)ذَكاةُ أُمِّهِ» عَلى مُوافَقَةِ دَلالَةِ هَذا الخَبَرِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ﴾ الآيَةُ. المَيْتَةُ ما فارَقَتْهُ الرُّوحُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ مِمّا شُرِطَ عَلَيْنا الذَّكاةُ في إباحَتِهِ. وأمّا الدَّمُ فالمُحَرَّمُ مِنهُ هو المَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. والدَّلِيلُ أيْضًا عَلى أنَّ المُحَرَّمَ مِنهُ هو المَسْفُوحُ اتِّفاقُ المُسْلِمِينَ عَلى إباحَةِ الكَبِدِ والطِّحالِ وهُما دَمانِ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتانِ ودَمانِ» يَعْنِي بِالدَّمَيْنِ الكَبِدَ والطِّحالَ؛ فَأباحَهُما وهُما دَمانِ؛ إذْ لَيْسا بِمَسْفُوحٍ، فَدَلَّ عَلى إباحَةِ كُلِّ ما لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ مِنَ الدِّماءِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا حَصَرَ المُباحَ مِنهُ بِعَدَدٍ دَلَّ عَلى حَظْرِ ما عَداهُ. قِيلَ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ الحَصْرَ بِالعَدَدِ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ ما عَداهُ حَرَّمَهُ بِخِلافِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَلا خِلافَ أنَّ مِمّا عَداهُ مِنَ الدِّماءِ ما هو المُباحُ وهو الدَّمُ الَّذِي يَبْقى في خَلَلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ وما يَبْقى مِنهُ في العُرُوقِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ حَصْرَهُ الدَّمَيْنِ بِالعَدَدِ وتَخْصِيصَهُما بِالذِّكْرِ لَمْ يَقْتَضِ حَظْرَ جَمِيعِ ما عَداهُما مِنَ الدِّماءِ. وأيْضًا أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] ثُمَّ قالَ: ﴿والدَّمُ﴾ كانَتِ الألِفُ واللّامُ لِلْمَعْهُودِ، وهو الدَّمُ المَخْصُوصُ بِالصِّفَةِ، وهو أنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا؛ وقَوْلُهُ ﷺ: «أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتانِ ودَمانِ» إنَّما ورَدَ مُؤَكَّدًا لَمُقْتَضى قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] إذْ لَيْسا بِمَسْفُوحَيْنِ؛ ولَوْ لَمْ يُرِدْ لَكانَتْ دَلالَةُ الآيَةِ كافِيَةً في الِاقْتِصارِ بِالتَّحْرِيمِ عَلى المَسْفُوحِ مِنهُ دُونَ غَيْرِهِ وأنَّ الكَبِدَ والطِّحالَ غَيْرُ مُحَرَّمَيْنِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَحْمُ الخِنْزِيرِ﴾ فَإنَّهُ قَدْ تَناوَلَ شَحْمَهُ وعَظْمَهُ وسائِرَ أجْزائِهِ، ألا تَرى أنَّ الشَّحْمَ المُخالِطَ لِلَّحْمِ قَدِ اقْتَضاهُ اللَّفْظُ؛ لِأنَّ اسْمَ (p-٢٩٧)اللَّحْمِ يَتَناوَلُهُ ؟ ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّحْمَ؛ لِأنَّهُ مُعْظَمُ مَنافِعِهِ؛ وأيْضًا فَإنَّ تَحْرِيمَ الخِنْزِيرِ لَمّا كانَ مُبْهَمًا اقْتَضى ذَلِكَ تَحْرِيمَ سائِرِ أجْزائِهِ كالمَيْتَةِ والدَّمِ، وقَدْ ذَكَرْنا حُكْمَ شَعْرِهِ وعَظْمِهِ فِيما تَقَدَّمَ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ فَإنَّ ظاهِرَهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ما سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ؛ لِأنَّ الإهْلالَ هو إظْهارُ الذِّكْرِ والتَّسْمِيَةِ، وأصْلُهُ اسْتِهْلالُ الصَّبِيِّ إذا صاحَ حِينَ يُولَدُ، ومِنهُ إهْلالُ المُحَرَّمِ؛ فَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ تَحْرِيمَ ما سُمِّيَ عَلَيْهِ الأوْثانُ عَلى ما كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُهُ، ويَنْتَظِمُ أيْضًا تَحْرِيمَ ما سُمِّيَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ أيَّ اسْمٍ كانَ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ قالَ عِنْدَ الذَّبْحِ: " بِاسْمِ زَيْدٍ أوْ عَمْرٍو " أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُذَكًّى، وهَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ مُوجِبًا تَحْرِيمَها وذَلِكَ لِأنَّ أحَدًا لا يُفَرِّقُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ زَيْدٍ عَلى الذَّبِيحَةِ وبَيْنَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُنْخَنِقَةُ﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ والضَّحّاكِ أنَّها الَّتِي تَخْتَنِقُ بِحَبْلِ الصّائِدِ أوْ غَيْرِهِ حَتّى تَمُوتَ، ومِن نَحْوِهِ حَدِيثُ عَبايَةِ بْنِ رِفاعَةَ عَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «ذَكُّوا بِكُلِّ شَيْءٍ إلّا السِّنَّ والظُّفُرَ»؛ وهَذا عِنْدَنا عَلى السِّنِّ والظُّفُرِ غَيْرِ المَنزُوعَيْنِ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ في مَعْنى المَخْنُوقِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمَوْقُوذَةُ﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ والسُّدِّيِّ أنَّها المَضْرُوبَةُ بِالخَشَبِ ونَحْوِهِ حَتّى تَمُوتَ، يُقالُ فِيهِ: وقَذَهُ يَقِذُهُ وقْذًا وهو وقِيذٌ إذا ضَرَبَهُ حَتّى يُشْفِيَ عَلى الهَلاكِ. ويَدْخُلُ في المَوْقُوذَةِ كُلُّ ما قُتِلَ مِنها عَلى غَيْرِ وجْهِ الذَّكاةِ، وقَدْ رَوى أبُو عامِرٍ العَقَدِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أنَّهُ كانَ يَقُولُ في المَقْتُولَةِ بِالبُنْدُقَةِ: " تِلْكَ المَوْقُوذَةُ " .
ورَوى شُعْبَةُ عَنْ قَتادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغَفَّلِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهى عَنِ الخَذْفِ وقالَ: إنَّها لا تَنْكَأُ العَدُوَّ ولا تَصِيدُ الصَّيْدَ ولَكِنَّها تَكْسِرُ السِّنَّ وتَفْقَأُ العَيْنَ» .
ونَظِيرُ ذَلِكَ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى قالَ: حَدَّثَنا جَرِيرٌ عَنْ مَنصُورٍ عَنْ إبْراهِيمَ عَنْ هَمّامٍ عَنْ عَدِّي بْنِ حاتِمٍ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرْمِي بِالمِعْراضِ فَأُصِيبُ أفَآكُلُ ؟ قالَ: إذا رَمَيْتَ بِالمِعْراضِ وذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَأصابَ فَخَرَقَ فَكُلْ، وإنْ أصابَ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْ». حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ عَنْ مُجالِدٍ وزَكَرِيّا وغَيْرِهِما، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِّي بْنِ حاتِمٍ قالَ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ المِعْراضِ، فَقالَ: ما أصابَ بِحَدِّهِ فَخَرَقَ فَكُلْ، وما أصابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإنَّهُ وقِيذٌ فَلا تَأْكُلْ»، فَجَعَلَ ما أصابَ بِعَرْضِهِ مِن غَيْرِ جِراحَةٍ مَوْقُوذَةً وإنْ لَمْ يَكُنْ (p-٢٩٨)مَقْدُورًا عَلى ذَكاتِهِ، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ شَرْطَ ذَكاةِ الصَّيْدِ الجِراحَةُ وإسالَةُ الدَّمِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلى ذَبْحِهِ واسْتِيفاءِ شُرُوطِ الذَّكاةِ فِيهِ؛ وعُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿والمَوْقُوذَةُ﴾ عامٌّ في المَقْدُورِ عَلى ذَكاتِهِ وفي غَيْرِهِ مِمّا لا يُقْدَرُ عَلى ذَكاتِهِ.
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ النَّضْرِ قالَ: حَدَّثَنا مُعاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ قالَ: حَدَّثَنا زائِدَةُ قالَ: حَدَّثَنا عاصِمُ بْنُ أبِي النَّجُودُ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ يَقُولُ: " يا أيُّها النّاسُ هاجِرُوا ولا تَهْجُرُوا، وإيّاكم والأرْنَبَ يَحْذِفُها أحَدُكم بِالعَصا أوِ الحَجَرِ يَأْكُلُها، ولَكِنْ لِيُذَكِّ لَكُمُ الأسَلُ الرِّماحُ والنَّبْلُ " .
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُتَرَدِّيَةُ﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ والضَّحّاكِ وقَتادَةَ قالُوا: " هي السّاقِطَةُ مِن رَأْسِ جَبَلٍ أوْ في بِئْرٍ فَتَمُوتُ " . ورَوى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: " إذا رَمَيْتَ صَيْدًا مِن عَلى جَبَلٍ فَماتَ فَلا تَأْكُلْهُ فَإنِّي أخْشى أنْ يَكُونَ التَّرَدِّي هو الَّذِي قَتَلَهُ، وإذا رَمَيْتَ طَيْرًا فَوَقَعَ في ماءٍ فَماتَ فَلا تَطْعَمْهُ فَإنِّي أخْشى أنْ يَكُونَ الغَرَقُ قَتَلَهُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا وجَدَ هُناكَ سَبَبًا آخَرَ وهو التَّرَدِّي وقَدْ يَحْدُثُ عَنْهُ المَوْتُ حُظِرَ أكْلُهُ، وكَذَلِكَ الوُقُوعُ في الماءِ. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْماعِيلَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ عَرَفَةَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ عَنْ عاصِمٍ الأحْوَلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِّي بْنِ حاتِمٍ، أنَّهُ «سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الصَّيْدِ فَقالَ: إذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ وسَمَّيْتَ فَكُلْ إنْ قَتَلَ إلّا أنْ تُصِيبَهُ في الماءِ فَلا تَدْرِي أيُّهُما قَتَلَهُ» .
ونَظِيرُهُ ما رُوِيَ عَنْهُ ﷺ في صَيْدِ الكَلْبِ أنَّهُ قالَ: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وسَمَّيْتَ فَكُلْ، وإنْ خالَطَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلا تَأْكُلْ»، فَحَظَرَ ﷺ أكْلَهُ إذا وُجِدَ مَعَ الرَّمْيِ سَبَبٌ آخَرُ يَجُوزُ حُدُوثُ المَوْتِ مِنهُ مِمّا لا يَكُونُ ذَكاةً، وهو الوُقُوعُ في الماءِ ومُشارَكَةُ كَلْبٍ آخَرَ مَعَهُ.
وكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ في الَّذِي يَرْمِي الصَّيْدَ وهو عَلى الجَبَلِ فَيَتَرَدّى إنَّهُ لا يُؤْكَلُ لِاجْتِماعِ سَبَبِ الحَظْرِ والإباحَةِ في تَلَفِهِ، فَجَعَلَ الحُكْمَ لَلْحَظْرِ دُونَ الإباحَةِ. وكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَكَ مَجُوسِيٌّ ومُسْلِمٌ في قَتْلِ صَيْدٍ أوْ ذَبْحِهِ لَمْ يُؤْكَلْ. وجَمِيعُ ما ذَكَرْنا أصْلٌ في أنَّهُ مَتى اجْتَمَعَ سَبَبُ الحَظْرِ وسَبَبُ الإباحَةِ كانَ الحُكْمُ لِلْحَظْرِ دُونَ الإباحَةِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والنَّطِيحَةُ﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ والضَّحّاكِ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ أنَّها المَنطُوحَةُ حَتّى تَمُوتَ. وقالَ بَعْضُهم: هي النّاطِحَةُ حَتّى تَمُوتَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: هو عَلَيْهِما جَمِيعًا، فَلا فَرْقَ بَيْنَ أنْ تَمُوتَ مِن نَطْحِها لِغَيْرِها وبَيْنَ مَوْتِها مِن نَطْحِ غَيْرِها لَها. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما أكَلَ السَّبُعُ﴾ فَإنَّ مَعْناهُ: (p-٢٩٩)ما أكَلَ مِنهُ السَّبُعُ حَتّى يَمُوتَ، فَحَذَفَ؛ والعَرَبُ تُسَمِّي ما قَتَلَهُ السَّبُعُ وأكَلَ مِنهُ أكِيلَةَ السَّبُعِ، ويُسَمُّونَ الباقِيَ مِنهُ أيْضًا أكِيلَةَ السَّبُعِ؛ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ﴿وما أكَلَ السَّبُعُ﴾ مِمّا أكَلَ السَّبُعُ فَيَأْكُلُ مِنهُ ويَبْقى بَعْضُهُ وإنَّما هو فَرِيسَتُهُ.
وجَمِيعُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ المَوْتُ مِن ذَلِكَ. وقَدْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعالى، ودَلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ سائِرَ الأسْبابِ الَّتِي يَحْدُثُ عَنْها المَوْتُ لِلْأنْعامِ مَحْظُورٌ أكْلُها بَعْدَ أنْ لا يَكُونَ مِن فِعْلِ آدَمِيٍّ عَلى وجْهِ التَّذْكِيَةِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ فَإنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ إلى بَعْضِ المَذْكُورِ دُونَ جَمِيعِهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ لا خِلافَ أنَّ الِاسْتِثْناءَ غَيْرُ راجِعٍ إلَيْهِ، وأنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ تَلْحَقَهُ الذَّكاةُ، وقَدْ كانَ حُكْمُ الِاسْتِثْناءِ أنْ يَرْجِعَ إلى ما يَلِيهِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلى ما قَبْلَ المُنْخَنِقَةِ؛ فَكانَ حُكْمُ العُمُومِ فِيهِ قائِمًا وكانَ الِاسْتِثْناءُ عائِدًا إلى المَذْكُورِ مِن عِنْدِ قَوْلِهِ: ﴿والمُنْخَنِقَةُ﴾ لِما رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ وقالُوا كُلُّهم: " ما أدْرَكْتَ ذَكاتَهُ بِأنْ تُوجَدَ لَهُ عَيْنٌ تَطْرِفُ أوْ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ فَأكْلُهُ جائِزٌ " . وحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: الِاسْتِثْناءُ عائِدٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿وما أكَلَ السَّبُعُ﴾ دُونَ ما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّهُ يَلِيهِ؛ ولَيْسَ هَذا بِشَيْءٍ، لِاتِّفاقِ السَّلَفِ عَلى خِلافِهِ؛ ولِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ سَبُعًا لَوْ أخَذَ قِطْعَةً مِن لَحْمِ البَهِيمَةِ فَأكَلَها أوْ تَرَدّى شاةً مِن جَبَلٍ ولَمْ يَشْفِ بِها ذَلِكَ عَلى المَوْتِ فَذَكّاها صاحِبُها أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ مُباحُ الأكْلِ، وكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وما ذُكِرَ مَعَها، فَثَبَتَ أنَّ الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ مِن عِنْدِ قَوْلِهِ: ﴿والمُنْخَنِقَةُ﴾ وإنَّما قَوْلُهُ: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ فَإنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: " لَكِنْ ما ذَكَّيْتُمْ " كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلا قَوْمَ يُونُسَ﴾ [يونس: ٩٨] ومَعْناهُ: لَكِنْ قَوْمُ يُونُسَ؛ وقَوْلُهُ: ﴿طه﴾ [طه: ١] ﴿ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ [طه: ٢] ﴿إلا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى﴾ [طه: ٣] مَعْناهُ: لَكِنْ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى؛ ونَظائِرُهُ في القُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَكاةِ المَوْقُوذَةِ ونَحْوِها، فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الأصْلِ في المُتَرَدِّيَةِ: إذا أُدْرِكَتْ ذَكاتُها قَبْلَ أنْ تَمُوتَ أُكِلَتِ، وكَذَلِكَ المَوْقُوذَةُ والنَّطِيحَةُ وما أكَلَ السَّبُعُ. وعَنْ أبِي يُوسُفَ في الإمْلاءِ: أنَّهُ إذا بَلَغَ بِهِ ذَلِكَ إلى حالٍ لا يَعِيشُ في مِثْلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ وإنْ ذُكِّيَ قَبْلَ المَوْتِ.
وذَكَرَ ابْنُ سِماعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أنَّهُ إنْ كانَ يَعِيشُ مِنهُ اليَوْمَ ونَحْوَهُ أوْ دُونَهُ فَذَكّاها حَلَّتْ، وإنْ كانَ لا يَبْقى إلّا كَبَقاءِ المَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ وإنْ ذُبِحَ؛ واحْتَجَّ بِأنَّ عُمَرَ كانَتْ بِهِ جِراحَةٌ مُتْلِفَةٌ وصَحَّتْ عُهُودُهُ (p-٣٠٠)وأوامِرُهُ، ولَوْ قَتَلَهُ قاتِلٌ في ذَلِكَ الوَقْتِ كانَ عَلَيْهِ القَوَدُ.
وقالَ مالِكٌ: " إذا أُدْرِكَتْ ذَكاتُها وهي حَيَّةٌ تَطْرِفُ أُكِلَتْ " . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا صارَتْ بِحالٍ لا تَعِيشُ أبَدًا لَمْ تُؤْكَلْ وإنْ ذُبِحَتْ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إذا كانَ فِيها حَياةٌ فَذُبِحَتْ أُكِلَتْ، والمَصْيُودَةُ إذا ذُبِحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ " . وقالَ اللَّيْثُ: " إذا كانَتْ حَيَّةً وقَدْ أخْرَجَ السَّبُعُ ما في جَوْفِها أُكِلَتْ إلّا ما بانَ عَنْها " .
وقالَ الشّافِعِيُّ في السَّبُعِ إذا شَقَّ بَطْنَ الشّاةِ ونَسْتَيْقِنُ أنَّها تَمُوتُ: إنْ لَمْ تُذَكَّ فَذُكِّيَتْ فَلا بَأْسَ بِأكْلِها.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ يَقْتَضِي ذَكاتَها ما دامَتْ حَيَّةً، فَلا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ أنْ تَعِيشَ مِن مِثْلِهِ أوْ لا تَعِيشَ، وأنْ تَبْقى قَصِيرَ المُدَّةِ أوْ طَوِيلَها؛ وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ إذا تَحَرَّكَ شَيْءٌ مِنها صَحَّتْ ذَكاتُها. ولَمْ يَخْتَلِفُوا في الأنْعامِ إذا أصابَتْها الأمْراضُ المُتْلِفَةُ الَّتِي تَعِيشُ مَعَها مُدَّةً قَصِيرَةً أوْ طَوِيلَةً أنَّ ذَكاتَها بِالذَّبْحِ، فَكَذَلِكَ المُتَرَدِّيَةُ ونَحْوُها؛ واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابٌ في شَرْطِ الذَّكاةِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ اسْمٌ شَرْعِيٌّ يَعْتَوِرُهُ مَعانٍ: مِنها مَوْضِعُ الذَّكاةِ وما يُقْطَعُ مِنهُ، ومِنها الآلَةُ، ومِنها الدَّيْنُ، ومِنها التَّسْمِيَةُ في حالِ الذِّكْرِ وذَلِكَ فِيما كانَتْ ذَكاتُهُ بِالذَّبْحِ عِنْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَأمّا السَّمَكُ فَإنَّ ذَكاتَهُ بِحُدُوثِ المَوْتِ فِيهِ عَنْ سَبَبٍ مِن خارِجٍ، وما ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ فَغَيْرُ مُذَكًّى؛ وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الكَلامِ في الطّافِي في سُورَةِ البَقَرَةِ. فَأمّا مَوْضِعُ الذَّكاةِ في الحَيَوانِ المَقْدُورِ عَلى ذَبْحِهِ فَهو اللَّبَّةُ وما فَوْقَ ذَلِكَ إلى اللَّحْيَيْنِ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ في الجامِعِ الصَّغِيرِ: " لا بَأْسَ بِالذَّبْحِ في الحَلْقِ كُلِّهِ أسْفَلَ الحَلْقِ وأوْسَطِهِ وأعْلاهُ " . وأمّا ما يَجِبُ قَطْعُهُ فَهو الأوْداجُ، وهي أرْبَعَةٌ: الحُلْقُومُ، والمَرِيءُ، والعِرْقانِ اللَّذانِ بَيْنَهُما الحُلْقُومُ والمَرِيءُ، فَإذا فَرى المُذَكِّي ذَلِكَ أجْمَعَ فَقَدْ أكْمَلَ الذَّكاةَ عَلى تَمامِها وسُنَّتِها، فَإنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ فَفَرى مِن هَذِهِ الأرْبَعَةِ ثَلاثَةً فَإنَّ بِشْرَ بْنَ الوَلِيدِ رَوى عَنْ أبِي يُوسُفَ أنَّ أبا حَنِيفَةَ قالَ: " إذا قَطَعَ أكْثَرَ الأوْداجِ أكَلَ، وإذا قَطَعَ ثَلاثَةً مِنها أكَلَ مِن أيِّ جانِبٍ كانَ " وكَذَلِكَ قالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ، ثُمَّ قالَ أبُو يُوسُفَ بَعْدَ ذَلِكَ: " لا تَأْكُلْ حَتّى تَقْطَعَ الحُلْقُومَ والمَرِيءَ وأحَدَ العِرْقَيْنِ " .
وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ واللَّيْثُ: " يَحْتاجُ أنْ يَقْطَعَ الأوْداجَ والحُلْقُومَ وإنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنها لَمْ يُجْزِهِ " ولَمْ يَذْكُرِ المَرِيءَ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: " لا بَأْسَ إذا قَطَعَ الأوْداجَ وإنْ لَمْ يَقْطَعِ الحُلْقُومَ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " أقَلُّ ما يُجْزِي مِنَ الذَّكاةِ قَطْعُ الحُلْقُومِ (p-٣٠١)والمَرِيءِ، ويَنْبَغِي أنْ يَقْطَعَ الوَدَجَيْنِ وهُما العِرْقانِ وقَدْ يُسَلّانِ مِنَ البَهِيمَةِ والإنْسانِ ثُمَّ يُحْيِيانِ، فَإنْ لَمْ يُقْطَعِ العِرْقانِ وقُطِعَ الحُلْقُومُ والمَرِيءُ جازَ " .
وإنَّما قُلْنا إنَّ مَوْضِعَ الذَّكاةِ النَّحْرُ واللَّبَّةُ لِما رَوى أبُو قَتادَةَ الحَرّانِيُّ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أبِي العُشَراءِ عَنْ أبِيهِ قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الذَّكاةِ فَقالَ: «فِي اللَّبَّةِ والحَلْقِ، ولَوْ طُعِنَتْ في فَخِذِها أجْزَأ عَنْكَ»، وإنَّما يَعْنِي بِقَوْلِهِ ﷺ: " لَوْ طُعِنَتْ في فَخِذِها أجْزَأ عَنْكَ " فِيما لا تَقْدِرُ عَلى ذَبْحِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّهُ جائِزٌ لَهُ قَطْعُ هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَطْعَها مَشْرُوطٌ في الذَّكاةِ، ولَوْلا أنَّهُ كَذَلِكَ لَما جازَ لَهُ قَطْعُها؛ إذْ كانَ فِيهِ زِيادَةُ ألَمٍ بِما لَيْسَ هو شَرْطًا في صِحَّةِ الذَّكاةِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ عَلَيْهِ قَطْعَ هَذِهِ الأرْبَعِ. إلّا أنَّ أبا حَنِيفَةَ قالَ: " إذا قَطَعَ الأكْثَرَ جازَ مَعَ تَقْصِيرِهِ عَنِ الواجِبِ فِيهِ؛ لِأنَّهُ قَدْ قَطَعَ الأكْثَرَ والأكْثَرُ في مِثْلِها يَقُومُ مَقامَ الكُلِّ، كَما أنَّ قَطْعَ الأكْثَرِ مِنَ الأُذُنِ والذَّنَبِ بِمَنزِلَةِ قَطْعِ الكُلِّ في امْتِناعِ جَوازِهِ عَنِ الأُضْحِيَّةِ " وأبُو يُوسُفَ جَعَلَ شَرْطَ صِحَّةِ الذَّكاةِ قَطْعَ الحُلْقُومِ والمَرِيءِ وأحَدَ العِرْقَيْنِ، ولَمْ يُفَرِّقْ أبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ قَطْعِ العِرْقَيْنِ وأحَدِ شَيْئَيْنِ مِنَ الحُلْقُومِ والمَرِيءِ وبَيْنَ قَطْعِ هَذَيْنِ مَعَ أحَدِ العِرْقَيْنِ؛ إذْ كانَ قَطْعُ الجَمِيعِ مَأْمُورًا بِهِ في صِحَّةِ الذَّكاةِ.
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا هَنّادُ بْنُ السَّرِيِّ والحَسَنُ بْنُ عِيسى مَوْلى ابْنِ المُبارَكِ عَنِ ابْنِ المُبارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ زادَ ابْنُ عِيسى: وأبِي هُرَيْرَةَ، قالا: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطانِ زادَ ابْنُ عِيسى في حَدِيثِهِ: وهي الَّتِي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الجِلْدُ ولا يُفْرى الأوْداجُ ثُمَّ تُتْرَكُ حَتّى تَمُوتَ»؛ وهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَلَيْهِ قَطْعَ الأوْداجِ.
ورَوى أبُو حَنِيفَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبايَةَ بْنِ رِفاعَةَ عَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «كُلُّ ما أنْهَرَ الدَّمَ وأفْرى الأوْداجَ ما خَلا السِّنَّ والظُّفُرَ». ورَوى إبْراهِيمُ عَنْ أبِيهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اذْبَحُوا بِكُلِّ ما أفْرى الأوْداجَ وهَراقَ الدَّمَ ما خَلا السِّنَّ والظُّفُرَ». فَهَذِهِ الأخْبارُ كُلُّها تُوجِبُ أنْ يَكُونَ فَرْيُ الأوْداجِ شَرْطًا في الذَّكاةِ، والأوْداجُ اسْمٌ يَقَعُ عَلى الحُلْقُومِ والمَرِيءِ والعِرْقَيْنِ اللَّذَيْنِ عَنْ جَنْبَيْهِما.
* * *
* فَصْلٌ
وأمّا الآلَةُ فَإنَّ كُلَّ ما فَرى الأوْداجَ وأنْهَرَ الدَّمَ فَلا بَأْسَ بِهِ والذَّكاةُ صَحِيحَةٌ، غَيْرَ أنَّ أصْحابَنا كَرِهُوا الظُّفْرَ المَنزُوعَ والعَظْمَ والقَرْنَ والسِّنَّ لِما رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وأمّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلا بَأْسَ بِهِ؛ ذَكَرَ ذَلِكَ في الجامِعِ الصَّغِيرِ. وقالَ أبُو يُوسُفَ في الإمْلاءِ: " لَوْ أنَّ (p-٣٠٢)رَجُلًا ذَبَحَ بِلِيطَةٍ فَفَرى الأوْداجَ وأنْهَرَ الدَّمَ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، وكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ بِعُودٍ، وكَذَلِكَ لَوْ نَحَرَ بِوَتَدٍ أوْ بِشَظاظٍ أوْ بِمَرْوَةِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ؛ فَأمّا العَظْمُ والسِّنُّ والظُّفْرُ فَقَدْ نُهِيَ أنْ يُذَكّى بِها، وجاءَتْ في ذَلِكَ أحادِيثُ وآثارٌ، وكَذَلِكَ القَرْنُ عِنْدَنا والنّابُ " قالَ: " ولَوْ أنَّ رَجُلًا ذَبَحَ بِسِنِّهِ أوْ بِظُفْرِهِ فَهي مَيْتَةٌ لا تُؤْكَلُ " وقالَ في الأصْلِ: " إذا ذَبَحَ بِسِنِّ نَفْسِهِ أوْ بِظُفْرِ نَفْسِهِ فَإنَّهُ قاتِلٌ ولَيْسَ بِذابِحٍ " .
وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: " كُلُّ ما بُضِعَ مِن عَظْمٍ أوْ غَيْرِهِ فَفَرى الأوْداجَ فَلا بَأْسَ بِهِ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " كُلُّ ما فَرى الأوْداجَ فَهو ذَكاةٌ إلّا السِّنَّ والظُّفْرَ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " لا يُذْبَحُ بِصَدَفِ البَحْرِ " . وكانَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ يَكْرَهُ الذَّبْحَ بِالقَرْنِ والسِّنِّ والظُّفْرِ والعَظْمِ. وقالَ اللَّيْثُ: " لا بَأْسَ بِأنْ يُذْبَحَ بِكُلِّ ما أنْهَرَ الدَّمَ إلّا العَظْمَ والسِّنَّ والظُّفْرَ " . واسْتَثْنى الشّافِعِيُّ الظُّفْرَ والسِّنَّ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: الظُّفْرُ والسِّنُّ المَنهِيُّ عَنِ الذَّبِيحَةِ بِهِما، إذا كانَتا قائِمَتَيْنِ في صاحِبِهِما وذَلِكَ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في الظُّفْرِ: «إنَّها مُدى الحَبَشَةِ» وهم إنَّما يَذْبَحُونَ بِالظُّفُرِ القائِمِ في مَوْضِعِهِ غَيْرِ المَنزُوعِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " ذَلِكَ الخَنْقُ " .
وعَنْ أبِي بِشْرٍ قالَ: سَألْتُ عِكْرِمَةَ عَنِ الذَّبِيحَةِ بِالمَرْوَةِ، قالَ: " إذا كانَتْ حَدِيدَةً لا تَثْرِدُ الأوْداجَ فَكُلْ " فَشَرَطَ في ذَلِكَ أنْ لا تَثْرِدَ الأوْداجَ، وهو أنْ لا تَفْرِيَها، ولَكِنَّهُ يَقْطَعُها قِطْعَةً قِطْعَةً، والذَّبْحُ بِالظُّفْرِ والسِّنِّ غَيْرُ المَنزُوعِ يَثْرُدُ ولا يَفْرِي فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الذَّكاةُ بِهِما، وأمّا إذا كانا مَنزُوعَيْنِ فَفَرَيا الأوْداجَ فَلا بَأْسَ؛ وإنَّما كَرِهَ أصْحابُنا مِنها ما كانَ بِمَنزِلَةِ السِّكِّينِ الكالَّةِ، ولِهَذا المَعْنى كَرِهُوا الذَّبْحَ بِالقَرْنِ والعَظْمِ وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنْ خالِدٍ الحَذّاءِ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أبِي الأشْعَثِ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ قالَ: «خَصْلَتانِ سَمِعْتُهُما مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ فَإذا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا قالَ غَيْرُ مُسْلِمٍ: فَأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذَّبْحَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» فَكانَتْ كَراهَتُهم لِلذَّبْحِ بِسِنٍّ مَنزُوعٍ أوْ عَظْمٍ أوْ قَرْنٍ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِن جِهَةِ كَلالَةٍ لِما يَلْحَقُ البَهِيمَةَ مِنَ الألَمِ الَّذِي لا يُحْتاجُ إلَيْهِ في صِحَّةِ الذَّكاةِ.
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِماكٍ بْنِ حَرْبٍ عَنْ مَرِّي بْنِ قَطَرِيٍّ عَنْ عَدِّي بْنِ حاتِمٍ أنَّهُ قالَ: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ إنْ أحَدُنا أصابَ صَيْدًا ولَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ أيَذْبَحُ بِالمَرْوَةِ وشِقَّةِ العَصا ؟ قالَ: أمْرِرِ الدَّمَ بِما شِئْتَ واذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ» .
وفِي (p-٣٠٣)حَدِيثِ نافِعٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ عَنْ أبِيهِ: «أنَّ جارِيَةً سَوْداءَ ذَكَّتْ شاةً بِمَرْوَةٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ كَعْبٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَأمَرَهم بِأكْلِها» .
ورَوى سُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ.
وفِي حَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا إلّا ما كانَ مِن سِنٍّ أوْ ظُفُرٍ».
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ وابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ النُّصُبَ أحْجارٌ مَنصُوبَةٌ كانُوا (p-٣٠٦)يَعْبُدُونَها ويُقَرِّبُونَ الذَّبائِحَ لَها فَنَهى اللَّهُ عَنْ أكْلِ ما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ؛ لِأنَّهُ مِمّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. والفَرْقُ بَيْنَ النُّصُبِ والصَّنَمِ أنَّ الصَّنَمَ يُصَوَّرُ ويُنْقَشُ، ولَيْسَ كَذَلِكَ النُّصُبُ؛ لِأنَّ النُّصُبَ حِجارَةٌ مَنصُوبَةٌ والوَثَنُ كالنُّصُبِ سَواءٌ.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ الوَثَنَ اسْمٌ يَقَعُ عَلى ما لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِعَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ حِينَ جاءَهُ وفي عُنُقِهِ صَلِيبٌ: ألْقِ هَذا الوَثَنَ مِن عُنُقِكَ» فَسَمّى الصَّلِيبَ وثَنًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ النُّصُبَ والوَثَنَ اسْمٌ لِما نُصِبَ لِلْعِبادَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا ولا مَنقُوشًا. وهَذِهِ ذَبائِحُ قَدْ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَها، فَحَرَّمَها اللَّهُ تَعالى مَعَ ما حَرَّمَ مِنَ المَيْتَةِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ وما ذُكِرَ في الآيَةِ مِمّا كانَ المُشْرِكُونَ يَسْتَبِيحُونَهُ. وقَدْ قِيلَ إنَّها المُرادَةُ بِالِاسْتِثْناءِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١]
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾ قِيلَ في الِاسْتِقْسامِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: طَلَبُ عِلْمِ ما قُسِمَ لَهُ بِالأزْلامِ، والثّانِي: إلْزامُ أنْفُسِهِمْ بِما تَأْمُرُهم بِهِ القِداحُ كَقَسَمِ اليَمِينِ.
والِاسْتِقْسامُ بِالأزْلامِ أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا إذا أرادَ أحَدُهم سَفَرًا أوْ غَزْوًا أوْ تِجارَةً أوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الحاجاتِ أجالَ القِداحَ وهي الأزْلامُ، وهي عَلى ثَلاثَةِ أضْرُبٍ: مِنها ما كُتِبَ عَلَيْهِ: أمَرَنِي رَبِّي " ومِنها ما كُتِبَ عَلَيْهِ: " نَهانِي رَبِّي " ومِنها غُفْلٌ لا كِتابَةَ عَلَيْهِ يُسَمّى: " المَنِيحُ " . فَإذا خَرَجَ " أمَرَنِي رَبِّي " مَضى في الحاجَةِ، وإذا خَرَجَ: " نَهانِي رَبِّي " قَعَدَ عَنْها، وإذا خَرَجَ الغُفْلُ أجالَها ثانِيَةً.
قالَ الحَسَنُ: كانُوا يَعْمِدُونَ إلى ثَلاثَةِ قِداحٍ؛ نَحْوِ ما وصَفْنا. وكَذَلِكَ قالَ سائِرُ أهْلِ العِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وواحِدُ الأزْلامِ " زَلَمٌ " وهي القِداحُ فَحَظَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ، وكانَ مَن فِعْلِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، وجَعَلَهُ فِسْقًا بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكم فِسْقٌ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ القُرْعَةِ في عِتْقِ العَبِيدِ؛ لِأنَّها في مَعْنى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ؛ إذْ كانَ فِيهِ اتِّباعُ ما أخْرَجَتْهُ القُرْعَةُ مِن غَيْرِ اسْتِحْقاقٍ؛ لِأنَّ مَن أعْتَقَ عَبْدَيْهِ أوْ عَبِيدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ ولَمْ يَخْرُجُوا مِنَ الثُّلُثِ فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهم مُتَساوُونَ في اسْتِحْقاقِ الحُرِّيَّةِ، فَفي اسْتِعْمالِ القُرْعَةِ إثْباتُ حُرِّيَّةٍ غَيْرِ مُسْتَحَقَّةٍ وحِرْمانُ مَن هو مُساوٍ لَهُ فِيها، كَما يَتْبَعُ صاحِبُ الأزْلامِ ما يُخْرِجُهُ الأمْرُ والنَّهْيُ لا سَبَبَ لَهُ غَيْرَهُ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ جازَتِ القُرْعَةُ في قِسْمَةِ الغَنائِمِ وغَيْرِها في إخْراجِ النِّساءِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما القُرْعَةُ فِيها لِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وبَراءَةً لِلتُّهْمَةِ مِن إيثارِ بَعْضِهِمْ بِها، ولَوِ اصْطَلَحُوا عَلى ذَلِكَ جازَ مِن غَيْرِ قُرْعَةٍ؛ وأمّا الحُرِّيَّةُ الواقِعَةُ عَلى واحِدٍ مِنهم فَغَيْرُ جائِزٍ نَقْلُها عَنْهُ إلى غَيْرِهِ، وفي اسْتِعْمالِ القُرْعَةِ نَقْلُ الحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وقَعَتْ عَلَيْهِ إخْراجُهُ مِنها مَعَ مُساواتِهِ لِغَيْرِهِ فِيها.
* * *
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ قالَ ابْنُ (p-٣٠٧)عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ: " يَئِسُوا أنْ يَرْتَدُّوا راجِعِينَ إلى دِينِهِمْ " . وقَدِ اخْتُلِفَ في اليَوْمِ، فَقالَ مُجاهِدٌ: هو يَوْمُ عَرَفَةَ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ. ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ أنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم؛ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وقالَ الحَسَنُ: " ذَلِكَ اليَوْمُ يَعْنِي بِهِ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ وهو زَمانُ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُ " . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وكانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: اسْمُ اليَوْمِ يُطْلَقُ عَلى الزَّمانِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: ١٦] إنَّما عَنى بِهِ وقْتًا مُبْهَمًا.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ﴾ فَإنَّ الِاضْطِرارَ هو الضَّرَرُ الَّذِي يُصِيبُ الإنْسانَ مِن جُوعٍ أوْ غَيْرِهِ ولا يُمْكِنُهُ الِامْتِناعُ مِنهُ؛ والمَعْنى هَهُنا مِن إصابَةِ ضُرِّ الجُوعِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى إباحَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الخَوْفِ عَلى نَفْسِهِ أوْ عَلى بَعْضِ أعْضائِهِ؛ وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ وقَتادَةُ: " المَخْمَصَةُ المَجاعَةُ " .
فَأباحَ اللَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أكْلَ جَمِيعَ ما نَصَّ عَلى تَحْرِيمِهِ في الآيَةِ، ولَمْ يَمْنَعْ ما عَرَضَ مِن قَوْلِهِ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ مَعَ ما ذُكِرَ مَعَهُ مِن عَوْدِ التَّخْصِيصِ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ المُحَرَّماتِ، فاَلَّذِي تَضَمَّنَهُ الخِطابُ في أوَّلِ السُّورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ [المائدة: ١] إباحَةُ الأنْعامِ. ﴿إلا ما يُتْلى عَلَيْكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] فِيهِ بَيانُ إباحَةِ الصَّيْدِ في حالِ الإحْلالِ وغَيْرُ داخِلٍ في قَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ [المائدة: ١] ثُمَّ بَيَّنَ ما حُرِّمَ عَلَيْنا في قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ إلى آخِرِ ما ذُكِرَ، ثُمَّ خَصَّ مِن ذَلِكَ حالَ الضَّرُورَةِ وأبانَ أنَّها غَيْرُ داخِلَةٍ في التَّحْرِيمِ، وذَلِكَ عامٌّ في الصَّيْدِ في حالِ الإحْرامِ وفي جَمِيعِ المُحَرَّماتِ، فَمَتى اضْطُرَّ إلى شَيْءٍ مِنها حَلَّ لَهُ أكْلُهُ بِمُقْتَضى الآيَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: " غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ " فَكَأنَّهُ قالَ: غَيْرَ مُعْتَمِدٍ بِهَواهُ إلى إثْمٍ، وذَلِكَ بِأنْ يَتَناوَلَ مِنهُ بَعْدَ زَوالِ الضَّرُورَةِ.
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّیَةُ وَٱلنَّطِیحَةُ وَمَاۤ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّیۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُوا۟ بِٱلۡأَزۡلَـٰمِۚ ذَ ٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡیَوۡمَ یَىِٕسَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن دِینِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِی مَخۡمَصَةٍ غَیۡرَ مُتَجَانِفࣲ لِّإِثۡمࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق