الباحث القرآني

فِيهِ سِتٌّ وَعِشْرُونَ [[كذا في الأصول وهي سبع وعشرون.]] مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَقَرَةِ [[راجع ج ٢ ص ٢١٦ وما بعدها.]]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا، وَهُوَ حَبْسُ النَّفَسِ سَوَاءٌ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ آدَمِيٌّ أَوِ اتَّفَقَ لَهَا ذَلِكَ فِي حَبْلٍ أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ أَوْ نَحْوُهُ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ وَغَيْرَهَا فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي تُرْمَى أَوْ تُضْرَبُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، يقال منه: وقذه يقده وَقْذًا وَهُوَ وَقِيذٌ. وَالْوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَفُلَانٌ وَقِيذٌ أَيْ مُثْخَنٌ ضَرْبًا. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُونَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا فَيَأْكُلُوهَا، وَمِنْهُ الْمَقْتُولَةُ بِقَوْسِ الْبُنْدُقِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: شَغَّارَةٌ [[الشغارة: هي الناقة ترفع قوائهما لتضرب. الفطر: الحلب بالسبابة والوسطى ويستعين بطرف الإبهام. وخلفا الضرع المقدمان: هما القادمان وجمعه القوادم. والأبكار تحلب فطرا لأنه لا يستمكن أن يحلبها ضبا لقصر الخلف لأنها صغار.]] تَقِذُ الْفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ... فَطَّارَةٌ لِقَوَادِمِ الْأَبْكَارِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ [[المعراض: سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده.]] الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، فَقَالَ: (إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ [[خزق السهم: نفذ في الرمية والمعنى: نفذ وأسال الدم لأنه ربما قتال بعرضه ولا يجوز.]] فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ (فَإِنَّهُ وَقِيذٌ). قَالَ أَبُو عُمَرَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الصَّيْدِ بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَقِيذٌ لَمْ يُجِزْهُ إِلَّا مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَخَالَفَهُمُ الشَّامِيُّونَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمِعْرَاضِ، كُلْهُ خَزَقَ أَوْ لَمْ يَخْزِقْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عمر وَمَكْحُولٌ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا ذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَفِيهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَفِيهِ (وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ) الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ فَتَمُوتُ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَهِيَ مُتَفَعِّلَةٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بِنَفْسِهَا أَوْ رَدَّاهَا غَيْرُهَا. وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ إِلَى الْأَرْضِ حَرُمَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ بِالصَّدْمَةِ وَالتَّرَدِّي لَا بِالسَّهْمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَأْكُلُ الْمُتَرَدِّيَ وَلَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ مَيْتَةً إِلَّا مَا مَاتَ بِالْوَجَعِ وَنَحْوِهِ دُونَ سَبَبٍ يُعْرَفُ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْبَابُ فَكَانَتْ عِنْدَهَا كَالذَّكَاةِ، فَحَصَرَ الشَّرْعُ الذَّكَاةَ فِي صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهَا، وَبَقِيَتْ هَذِهِ كُلُّهَا مَيْتَةً، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ الَّتِي فَاتَ نَفَسُهَا بِالنَّطْحِ وَالْأَكْلِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ النَّطِيحَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ، وَهِيَ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَمُوتُ قَبْلَ أَنْ تُذَكَّى. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ النَّطِيحَةَ بِمَعْنَى النَّاطِحَةِ، لِأَنَّ الشَّاتَيْنِ قَدْ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ. وَقِيلَ: نَطِيحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ نَطِيحٌ، وَحَقُّ فَعِيلٍ لَا يُذْكَرُ فِيهِ الْهَاءُ كَمَا يُقَالُ: كَفٌّ خَضِيبٌ وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، لَكِنْ ذَكَرَ الْهَاءَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْهَاءَ إِنَّمَا تُحْذَفُ مِنَ الْفَعِيلَةِ إِذَا كَانَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَنْطُوقٍ بِهِ، يُقَالُ: شَاةٌ نَطِيحٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ أَثْبَتَّ الْهَاءَ فَتَقُولُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلَانٍ وَهَذِهِ نَطِيحَةُ الْغَنَمِ، لِأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَذْكُرِ الْهَاءَ فَقُلْتَ: رَأَيْتُ قَتِيلَ بَنِي فُلَانٍ لَمْ يُعْرَفْ أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ "وَالْمَنْطُوحَةُ". السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما أَكَلَ السَّبُعُ﴾ يُرِيدُ كُلَّ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ وَأَظْفَارٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبْعِ وَنَحْوِهَا، هَذِهِ كُلُّهَا سِبَاعٌ. يُقَالُ: سَبَعَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ عَضَّهُ بِسِنِّهِ، وَسَبَعَهُ أَيْ عَابَهُ وَوَقَعَ فِيهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ فَقَدْ فَنِيَ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُوقِفُ اسْمَ السَّبُعِ عَلَى الْأَسَدِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَخَذَ السَّبُعُ شَاةً ثُمَّ خَلَصَتْ مِنْهُ أَكَلُوهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ أَكَلَ بَعْضَهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ "السَّبْعُ" بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ نَجْدٍ. وَقَالَ حَسَّانٌ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ" وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: "وَأَكِيلُ السَّبُعِ". السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ. وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى كُلِّ مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ وَفِيهِ حَيَاةٌ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ عَامِلَةٌ فِيهِ، لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يُجْعَلُ مُنْقَطِعًا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ وَشَرِيكٌ وَجَرِيرٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَسَدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذِئْبٍ عَدَا عَلَى شَاةٍ فَشَقَّ بَطْنَهَا حَتَّى انْتَثَرَ قُصْبُهَا [[في ا: ثم انتثر. والقصب: المعى، والجمع أقصاب.]] فَأَدْرَكْتُ ذَكَاتَهَا فَذَكَّيْتُهَا فَقَالَ: كُلْ وَمَا انْتَثَرَ مِنْ قُصْبِهَا فَلَا تَأْكُلْ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: السُّنَّةُ فِي الشَّاةِ عَلَى مَا وَصَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مَصَارِينُهَا فَإِنَّهَا حَيَّةٌ بَعْدُ، وَمَوْضِعُ الذَّكَاةِ مِنْهَا سَالِمٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَحَيَّةٌ هِيَ أَمْ مَيِّتَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى فِعْلٍ هَلْ يَعِيشُ مِثْلُهَا؟ فَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ وَذُكِرَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَالْأَشْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَأَحْفَظُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ إِذَا بَلَغَ مِنْهَا السَّبُعُ أَوِ التَّرَدِّيُ إِلَى مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي تَلْقِينِهِ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَجَمَاعَةُ الْمَالِكِيِّينَ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يُحَرَّمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَا ذُكِّيَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ، وَالَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي، وَهِيَ تَضْطَرِبُ فَلْيَأْكُلْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ طُولَ عُمْرِهُ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْمَرِيضَةِ أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ تَذْكِيَتِهَا وَلَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ إِذَا كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةُ حَيَاةٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ مَرَضٍ، وَبَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ سَبُعٍ لَوِ اتَّسَقَ النَّظَرُ، وَسَلِمَتْ مِنَ الشُّبْهَةِ الْفِكَرُ!. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: قَدْ أَجْمَعُوا فِي الْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تُرْجَى حَيَاتُهَا أَنَّ ذَبْحَهَا ذَكَاةٌ لَهَا إِذَا كَانَتْ فِيهَا الْحَيَاةُ فِي حِينِ ذَبْحِهَا، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَا ذَكَرُوا مِنْ حَرَكَةِ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا إِذَا صَارَتْ فِي حَالِ النَّزْعِ وَلَمْ تُحَرِّكْ يَدًا وَلَا رِجْلًا أَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُتَرَدِّيَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْآيَةِ.] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [[[من ج وز وك.]] . الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَكَّيْتُمْ﴾ الذَّكَاةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الذَّبْحُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي] الْمُحْكَمِ [وَالْعَرَبُ تَقُولُ (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ)، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ. وَذَكَّى الْحَيَوَانَ ذَبَحَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يُذَكِّيهَا الْأَسَلْ [[الأسل هنا: الرماح والنبل.]] قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ). وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ ذَكَاةَ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ الْأُمِّ، وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُعْتِقَتْ أَمَةٌ حَامِلٌ إِنَّ عِتْقَهُ عِتْقُ أُمِّهِ، وَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِتْقُ وَاحِدٍ عِتْقَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةُ وَاحِدٍ ذَكَاةَ اثْنَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا عَلَيْهِ جُلُّ النَّاسِ مُسْتَغْنًى بِهِ عَنْ] قَوْلِ كُلِّ [[من ك.]] قَائِلٍ [. وَأَجْمَعَ أَهْلُ العلم على أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ لَيْسَتْ بِذَكَاةٍ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا ذُكِّيَتِ الْأُمُّ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ: ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِذَا كَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا أَوْ خَرَجَ بِهِ رَمَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُذْبَحَ إِنْ خَرَجَ يَتَحَرَّكُ، فَإِنْ سَبَقَهُمْ بِنَفْسِهِ أُكِلَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ضَحَّيْتُ بِنَعْجَةٍ فَلَمَّا ذَبَحْتُهَا جَعَلَ يَرْكُضُ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهَا حَتَّى يَمُوتَ فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ أَمَرْتُهُمْ فَشَقُّوا جَوْفَهَا فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَذَبَحْتُهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ، فَأَمَرْتُ أَهْلِي أَنْ يَشْوُوهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: إِذَا أَشْعَرَ الْجَنِينُ فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ قَالَ ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعَرْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عنه وسعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعَرْ "إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَكَّيْتُمْ﴾ الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا التَّمَامُ، وَمِنْهُ تَمَامُ السِّنِّ. وَالْفَرَسُ الْمُذَكَّى الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْقُرُوحِ [[قرح الفرس قروحا: إذا انتهت أسنانه، وإنما تنتهي في خمس سنين.]] بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ تَمَامُ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ. وَيُقَالُ: ذَكَّى يُذَكِّي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَرْيُ [[المعنى: جرى للسان القرح من الخيل أن تغالب الجري غلابا.]] الْمُذَكِّيَاتِ غِلَابٌ. وَالذَّكَاءُ حدة القلب، وقال الشاعر [[هو زهير.]] : يُفَضِّلُهُ إِذَا اجْتَهَدُوا عَلَيْهِ ... تَمَامُ السِّنِّ مِنْهُ وَالذَّكَاءُ وَالذَّكَاءُ سُرْعَةُ الْفِطْنَةِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ ذَكِيَ يَذْكَى ذَكًا، وَالذَّكْوَةُ مَا تَذْكُو بِهِ النَّارُ، وَأَذْكَيْتُ الْحَرْبَ وَالنَّارَ أَوْقَدْتُهُمَا. وَذُكَاءُ اسْمُ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَذْكُو كَالنَّارِ، وَالصُّبْحُ ابْنُ ذُكَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ ضَوْئِهَا. فَمَعْنَى "ذَكَّيْتُمْ" أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ عَلَى التَّمَامِ. ذَكَّيْتُ الذَّبِيحَةَ أُذَكِّيهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّطَيُّبِ، يُقَالُ: رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ، فَالْحَيَوَانُ إِذَا أُسِيلَ دَمُهُ فَقَدْ طُيِّبَ، لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ التَّجْفِيفُ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما "ذكاة الأرض يبسها" يريد طهارتها من النجاسة، فالذكاة في الذبيحة لَهَا، وَإِبَاحَةٌ] لِأَكْلِهَا فَجُعِلَ يُبْسُ الْأَرْضِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ تَطْهِيرًا لَهَا وَإِبَاحَةُ [[[من ج وز وك.]] الصَّلَاةِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاةِ لِلذَّبِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ، مَقْرُونًا بِنِيَّةِ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَذِكْرِهِ عَلَيْهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الذَّكَاةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَهُوَ مِنْ آلَاتِ الذَّكَاةِ مَا خَلَا السِّنَّ وَالْعَظْمَ، عَلَى هَذَا تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ، وَقَالَ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا فِي التَّذْكِيَةِ هُمَا غَيْرُ الْمَنْزُوعَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ خَنْقًا، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْخَنْقُ، فَأَمَّا الْمَنْزُوعَانِ فَإِذَا فَرَيَا الْأَوْدَاجَ فَجَائِزٌ الذَّكَاةُ بِهِمَا عِنْدَهُمْ. وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مَنْزُوعَةً أَوْ غَيْرَ مَنْزُوعَةٍ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنا لاقوا الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى- فِي رِوَايَةٍ- فندكي بِاللِّيطِ؟. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رجل من الأنصار عن معاذ ابن سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِسَلْعٍ [[السلع: الشق في الجبل.]] فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (لَا بَأْسَ بِهَا وَكُلُوهَا). وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ [[المروة: حجر أبيض براق يجعل منه كالسكين.]] وَشِقَّةِ [[في ج وك وز: شعبة.]] الْعَصَا؟ قَالَ: (أَعْجِلْ وَأَرِنْ [[أرن: أعجل، قال النووي: أرن (بفتح الهمزة وكسر الراء وإسكان النون) وروى (بإسكان الراء وكسر النون) وروى أرني (بإسكان الراء وزيادة ياء). وقال الخطابي: أرن على وزن أعجل وهو بمعناه، وهو من النشاط والخفة، أي أعجل ذبحها لئلا تموت حتفا.]] مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَسَأُحَدِّثُكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَا ذُبِحَ بِاللِّيطَةِ وَالشَّطِيرِ وَالظُّرَرِ فَحِلٌّ ذَكِيٌّ. اللِّيطَةُ فِلْقَةُ القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير فِلْقَةُ الْعُودِ، وَقَدْ يُمْكِنُ بِهَا الذَّبْحُ لِأَنَّ لَهَا جَانِبًا دَقِيقًا. وَالظُّرَرُ فِلْقَةُ الْحَجَرِ يُمْكِنُ الذَّكَاةُ بِهَا وَلَا يُمْكِنُ النَّحْرُ، وَعَكْسُهُ الشِّظَاظُ [[الشظاظ: خشيبة محددة الطرف تدخل في عروتي الجوالقين لتجمع بينهما عند حملهما على البعير.]] يُنْحَرُ بِهِ، لِأَنَّهُ كَطَرَفِ السِّنَانِ وَلَا يُمْكِنُ بِهِ الذَّبْحُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمري وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَدَجَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُمَا حَيَاةٌ، وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ. وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ اعْتَبَرُوا الْمَوْتَ عَلَى وَجْهٍ يَطِيبُ مَعَهُ اللَّحْمُ، وَيَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَلَالُ- وَهُوَ اللَّحْمُ- مِنَ الْحَرَامِ الَّذِي يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي قَوْلِهِ: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ). وَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والودجين والمري، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ [[في ك: ابن أبي ثور.]] ، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ هَلْ هُوَ ذَكَاةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَهْمَا كَانَ فِي الْحَلْقِ تَحْتَ الْغَلْصَمَةِ فَقَدْ تَمَّتِ الذَّكَاةُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا ذُبِحَ فَوْقَهَا وَجَازَهَا [[في ج وك وز: حازها.]] إِلَى الْبَدَنِ هَلْ ذَلِكَ ذَكَاةٌ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَهَا مِنَ الْقَفَا وَاسْتَوْفَى الْقَطْعَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ لَمْ تُؤْكَلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُؤْكَلُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِنْهَارُ الدَّمِ فَفِيهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعَبُّدِ، وَقَدْ ذَبَحَ ﷺ فِي الْحَلْقِ وَنَحَرَ فِي اللَّبَّةِ [[اللبة: اللهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الإبل.]] وَقَالَ: (إِنَّمَا الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) فَبَيَّنَ مَحِلَّهَا وَعَيَّنَ مَوْضِعَهَا، وَقَالَ مُبَيِّنًا لِفَائِدَتِهَا: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ). فَإِذَا أُهْمِلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَقَعْ بِنِيَّةٍ وَلَا بِشَرْطٍ وَلَا بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ زَالَ مِنْهَا حَظُّ التَّعَبُّدِ، فَلَمْ تُؤْكَلْ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الذَّكَاةِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْفَوْرِ وَأَكْمَلَ الذَّكَاةَ، فَقِيلَ: يُجْزِئُهُ. وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ جَرَحَهَا ثُمَّ ذَكَّاهَا بَعْدُ وَحَيَاتُهَا مُسْتَجْمَعَةٌ فيها. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يَذْبَحَ إِلَّا مَنْ تُرْضَى حَالُهُ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاقَهُ وَجَاءَ بِهِ عَلَى سُنَّتِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَالِغٍ أَوْ غَيْرِ بَالِغٍ جَازَ ذَبْحُهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَذَبْحُ الْمُسْلِمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ، وَلَا يَذْبَحُ نُسُكًا إِلَّا مُسْلِمٌ، فَإِنْ ذَبَحَ النُّسُكَ كِتَابِيٌّ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي تَحْصِيلِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ أَجَازَهُ أَشْهَبُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَمَا اسْتَوْحَشَ مِنَ الْإِنْسِيِّ لَمْ يَجُزْ فِي ذَكَاتِهِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي ذَكَاةِ الْإِنْسِيِّ، فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّيُ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ الذَّكَاةُ فِيهِ إِلَّا فِيمَا بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ عَلَى سُنَّةِ الذَّكَاةِ. وَقَدْ خَالَفَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَتَمَامُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (فَمُدَى الْحَبَشَةِ) قَالَ: وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ [[الأوابد (جمع آبده): وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنسي.]] كَأَوَابِدَ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شي فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا- وَفِي رِوَايَةٍ- فَكُلُوهُ). وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَسْلِيطُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ذَكَاةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ قَالَ: (لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ). قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَعْجَبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَرَوَاهُ عَنْ [[في ز: رواه أبو داود. لكن في التهذيب: قال أبو داود سمعه منى أحمد بن حنبل.]] أَبِي دَاوُدَ، وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنْ يَكْتُبَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا يَصْلُحُ هَذَا إِلَّا فِي الْمُتَرَدِّيَةِ وَالْمُسْتَوْحِشِ. وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ حَبِيبٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَقَطَ فِي مَهْوَاةٍ فَلَا يُوصَلُ إِلَى ذَكَاتِهِ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلٌ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الْوَحْشِيُّ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لَمَّا كَانَ الْوَحْشِيُّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْإِنْسِيُّ، لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ إِذَا تَوَحَّشَ أَوْ صَارَ فِي مَعْنَى الْوَحْشِيِّ مِنِ الِامْتِنَاعِ أَنْ يَحِلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْوَحْشِيُّ. قُلْتُ: أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِأَنْ قَالُوا: تَسْلِيطُ النَّبِيِّ ﷺ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَبْسِهِ لَا عَلَى ذَكَاتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَظَاهِرِهِ، لِقَوْلِهِ: (فَحَبَسَهُ) وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ السَّهْمَ قَتَلَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَلَا يُرَاعَى النَّادِرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ السَّهْمَ حَبَسَهُ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ مَحْبُوسًا صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْكَلُ إِلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: "حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِ أَبِي الْعُشَرَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ أسامة ابن قِهْطِمٍ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ يَسَارُ بْنُ بَرْزٍ- وَيُقَالُ: بَلْزٍ- وَيُقَالُ: اسْمُهُ عُطَارِدٌ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ". فَهَذَا سَنَدٌ مَجْهُولٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَمَتْ صِحَّتُهُ كَمَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ، إِذْ مُقْتَضَاهُ جَوَازُ الذَّكَاةِ فِي أَيِّ عُضْوٍ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْمَقْدُورِ وَغَيْرِهِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ فِي الْمَقْدُورِ، فَظَاهِرُهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ قَطْعًا. وَتَأْوِيلُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حَبِيبٍ لَهُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ [[كذا في الأصول. لعل أصل العبارة: لوند. إلخ.]] يَنِدَّ الْإِنْسِيُّ أَنَّهُ لَا يُذَكَّى إِلَّا بِمَا يُذَكَّى بِهِ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كل شي فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) فَذَكَرَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِحْسَانُ الذَّبْحِ فِي الْبَهَائِمِ الرِّفْقُ بِهَا، فَلَا يَصْرَعُهَا بِعُنْفٍ وَلَا يَجُرُّهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَإِحْدَادُ الْآلَةِ، وَإِحْضَارُ نِيَّةِ الْإِبَاحَةِ وَالْقُرْبَةِ وَتَوْجِيهُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالْإِجْهَازُ [[أجهزت على الجريح: إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه.]] ، وَقَطْعُ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ، وَإِرَاحَتُهَا وَتَرْكُهَا إِلَى أَنْ تَبْرُدَ، وَالِاعْتِرَافُ لِلَّهِ بِالْمِنَّةِ، وَالشُّكْرُ لَهُ بِالنِّعْمَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا مَا لَوْ شَاءَ لَسَلَّطَهُ عَلَيْنَا، وَأَبَاحَ لنا ما لو شاء لَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مِنْ إِحْسَانِ الذَّبْحِ أَلَّا يَذْبَحَ بَهِيمَةً وَأُخْرَى تَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَحُكِيَ جَوَازُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَأَمَّا حُسْنُ القتلة فعام في كل شي مِنَ التَّذْكِيَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ، زَادَ ابْنُ عِيسَى فِي حَدِيثِهِ (وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَتُقْطَعُ وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ ثُمَّ تُتْرَكُ فَتَمُوتُ). السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: "النُّصُبِ" حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ وَتُصَبُّ عَلَيْهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ، وَهُوَ النَّصْبُ أَيْضًا. وَالنَّصَائِبُ حِجَارَةٌ تُنْصَبُ حَوَالَيْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَتُجْعَلُ عَضَائِدَ، وَغُبَارٌ مُنْتَصِبٌ مُرْتَفِعٌ. وَقِيلَ: "النُّصُبِ" جَمْعٌ، وَاحِدُهُ نِصَابٌ كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، وَكَانَتْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتِّينَ حَجَرًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ "النُّصْبُ" بِجَزْمِ الصَّادِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ "النَّصْبُ" بِفَتْحِ النُّونِ وَجَزْمِ الصَّادِ. الْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ جَعَلَهُ اسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَلِ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، كَالْأَجْمَالِ وَالْأَجْبَالُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها" [[راجع ج ١٢ ص ٦٥.]] ] الحج: ٣٧] وَنَزَلَتْ "وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" الْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ فِيهَا تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ [[في ك وز: لان الذبح عليها غير جائز.]] الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْأَعْشَى: وَذَا النُّصُبَ [[وذا النصب بمعنى إياك وذا النصب. (اللسان).]] الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ... لِعَافِيَةٍ [[في اوج: لعاقبة، وفي الديوان: بعاقبة.]] وَاللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا وَقِيلَ: "عَلَى" بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ لِأَجْلِهَا، قَالَ قُطْرُبٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أهل به لغير الله شي وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ﴾ معطوف على ما قبله، و "أن" فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامُ. وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَاحِدُهَا زَلَمٌ وَزُلَمٌ، قَالَ: بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ [[تقدم الكلام عليه في غير موضع، راجع قداح الميسر في ج ٣ ص ٥٨.]] وَقَالَ آخَرُ، فَجَمَعَ: فَلَئِنْ جَذِيمَةَ قَتَّلَتْ سَرَوَاتِهَا ... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ ابْنَ وَكِيعٍ حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَزْلَامَ حَصًى بِيضٌ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: قَالَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ. فَأَمَّا قَوْلُ لَبِيَدٍ: تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلَامُهَا [[البيت بتمامه: حتى إذا حسر الظلام وأسفرت ... بكرت تزل عن الثرى (أزلامها)]] فَقَالُوا: أَرَادَ أَظْلَافَ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ. والأزلام العرب ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي كَانَ يَتَّخِذُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ، عَلَى أَحَدِهَا افْعَلْ، وَعَلَى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شي عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُهَا فِي خَرِيطَةٍ مَعَهُ، فَإِذَا أَرَادَ فعل شي أَدْخَلَ يَدَهُ- وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ- فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهَا ائْتَمَرَ وَانْتَهَى بِحَسَبِ مَا يَخْرُجُ لَهُ، وَإِنْ خرج القدح الذي لا شي عَلَيْهِ أَعَادَ الضَّرْبَ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ اتَّبَعَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْلِ: اسْتِقْسَامٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ، كَمَا يُقَالُ: الِاسْتِسْقَاءُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ لِلسَّقْيِ. وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ الْمُنَجِّمِ: لَا تَخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا، وَاخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا. وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: "وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً" [[راجع ج ١٤ ص ٨٢.]] الآية] لقمان: ٣٤]. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي- سَبْعَةُ قِدَاحٍ كَانَتْ عِنْدَ هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا مَا يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ النَّوَازِلِ، كُلُّ قِدْحٍ مِنْهَا فيه كتاب، قدح فيه العقل من أم الدِّيَاتِ، وَفِي آخَرَ "مِنْكُمْ" وَفِي آخَرَ "مِنْ غَيْرِكُمْ"، وَفِي آخَرَ "مُلْصَقٌ" [[كان العرب إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه (منكم) كان منهم وسيطا، وإن خرج (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف. (سيرة ابن هشام).]] ، وَفِي سَائِرِهَا أَحْكَامُ المياه وغير ذلك، وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى بَنِيهِ إِذْ كَانَ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِهِمْ إِذَا كَمَلُوا عَشَرَةً، الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَهَذِهِ السَّبْعَةُ أَيْضًا كَانَتْ عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ الْعَرَبِ وَحُكَّامِهِمْ، عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ عِنْدَ هُبَلَ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: هو قداح المسير وَهِيَ عَشَرَةٌ، سَبْعَةٌ مِنْهَا فِيهَا حُظُوظٌ، وَثَلَاثَةٌ أَغْفَالٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا مُقَامَرَةً لَهْوًا وَلَعِبًا، وَكَانَ عُقَلَاؤُهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا إِطْعَامَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُعْدَمِ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّفِ [[في ك: لمتحرف.]] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَزْلَامُ هِيَ كِعَابُ [[كعاب (جمع كعب): وهو فص كفص النرد.]] فَارِسٍ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ وَوَكِيعٌ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ، فَالِاسْتِقْسَامُ بِهَذَا كُلِّهِ هُوَ طَلَبُ الْقَسْمِ وَالنَّصِيبِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَكُلُّ مُقَامَرَةٍ بِحَمَامٍ أَوْ بِنَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْجٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْعَابِ فَهُوَ اسْتِقْسَامٌ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَزْلَامِ حَرَامٌ كُلُّهُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّكَهُّنِ وَالتَّعَرُّضِ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلِهَذَا نَهَى أَصْحَابُنَا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُنَجِّمُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي مَعَهُمْ، وَرِقَاعُ الْفَأْلِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْغَيْبِ، فَإِنَّهُ لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا يُصِيبُهَا غَدًا، فَلَيْسَ لِلْأَزْلَامِ فِي تَعْرِيفِ الْمُغَيَّبَاتِ أَثَرٌ، فَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنْ هَذَا الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَاعِ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ فِي الْعِتْقِ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْجَاهِلُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بُنِيَ عَلَى الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلَيْسَ مِمَّا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ خُرُوجَ الْقُرْعَةِ عَلَمًا عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمِ الْعِتْقِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَلَا يُسَاوِي ذَلِكَ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا فَعَلْتَ كَذَا أَوْ قُلْتَ كَذَا فَذَلِكَ يَدُلُّكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الْقِدَاحِ عَلَمًا عَلَى شي يَتَجَدَّدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الْقُرْعَةِ عَلَمًا عَلَى الْعِتْقِ قَطْعًا، فَظَهَرَ افْتِرَاقُ الْبَابَيْنِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ طَلَبُ الْفَأْلِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْجِبُهُ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يعجبه الفأل لأنه تَنْشَرِحُ لَهُ النَّفْسُ وَتَسْتَبْشِرُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغِ الْأَمَلِ، فَيَحْسُنُ الظَّنُّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ قَالَ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي). وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهَا تَجْلِبُ ظَنَّ السُّوءِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ أَنَّ الْفَأْلَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَالطِّيَرَةُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ طريق الاتكال على شي سِوَاهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَوْنٍ عَنِ الْفَأْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَسْمَعُ يَا سَالِمٌ، أَوْ يَكُونَ بَاغِيًا [[الباغي: الذي يطلب الشيء الضال.]] فَيَسْمَعُ يَا وَاجِدٌ، وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ). وَسَيَأْتِي لِمَعْنَى الطِّيَرَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَنَالُونَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا، مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ مِنْ طِيَرَةٍ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكُمْ فِسْقٌ﴾ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. وَالْفِسْقُ الْخُرُوجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ١ ص ٢٤٤ وما بعدها.]] . وَقِيلَ يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنِ الِاسْتِحْلَالِ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وكل شي مِنْهَا فِسْقٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ، وَالِانْكِفَافُ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، إذ قال: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"] المائدة: ١]. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ يَعْنِي أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ كُفَّارًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَتَحَ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَيُقَالُ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَدَخَلَهَا وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ "أَلَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمن". وفي "يئس" لغتان، يئس ييئس يأسا، وأيس يأيس إِيَاسًا وَإِيَاسَةً، قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) ١٥٠ أَيْ لَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي فَإِنِّي أَنَا الْقَادِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَى أَنْ حَجَّ، فَلَمَّا حَجَّ وَكَمُلَ الدِّينُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" الْآيَةَ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا أُنْزِلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ] وَالْمَكَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ [[[من ج وك وز. العضباء: اسم ناقة النبي ﷺ.]] ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ما يُبْكِيكَ)؟ فَقَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا فَأَمَّا إِذْ كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يكمل شي إِلَّا نَقَصَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (صَدَقْتَ). وَرَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَكَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ [[من ج وك وز. العضباء: اسم ناقة النبي ﷺ.]]، فَكَادَ [[في ز: كادت. وهي لغة تهامة.]] عَضُدُ النَّاقَةِ يَنْقَدُّ مِنْ ثِقَلِهَا فَبَرَكَتْ. و "الْيَوْمَ" قَدْ يُعَبَّرُ بِجُزْءٍ مِنْهُ عَنْ جَمِيعِهِ، وَكَذَلِكَ عَنِ الشَّهْرِ بِبَعْضِهِ، تَقُولُ: فَعَلْنَا فِي شَهْرِ كذا كذا وَفِي سَنَةِ كَذَا كَذَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّكَ لَمْ تَسْتَوْعِبِ الشَّهْرَ وَلَا السَّنَةَ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَالدِّينُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَ وَفَتَحَ لَنَا، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ نُجُومًا وَآخِرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حُكْمٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ مُعْظَمُ الْفَرَائِضِ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ، قالوا: وقد نزل بَعْدَ ذَلِكَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَنَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كمل معظم الدين وأمر الحج، إذا لَمْ يَطُفْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُشْرِكٌ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَوَقَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِعَرَفَةَ. وَقِيلَ: "أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" بِأَنْ أَهْلَكْتُ] لَكُمْ [[[من ك.]] عَدُوَّكُمْ وَأَظْهَرْتُ دِينَكُمْ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كَمَا تَقُولُ: قَدْ تَمَّ لَنَا مَا نُرِيدُ إِذَا كُفِيتَ عَدُوَّكَ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ أَيْ بِإِكْمَالِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَإِظْهَارِ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا وَعَدْتُكُمْ، إِذْ قُلْتُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ١٥٠] البقرة: ١٥٠] وَهِيَ دُخُولُ مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا انْتَظَمَتْهُ هَذِهِ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَانَ غَيْرَ كَامِلٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ وَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْبَيْعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ مَعَ عَظِيمِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحَنِ مَاتُوا عَلَى دِينٍ نَاقِصٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينٍ نَاقِصٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّقْصَ عَيْبٌ، وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى قِيَمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "دِيناً قِيَماً" [[راجع ج ٧ ص ١٥٣.]]] الانعام: ١٦١] فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ إِنَّ كُلَّ نَقْصٍ فَهُوَ عَيْبٌ وَمَا دَلِيلُكُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ نُقْصَانَ الشَّهْرِ هَلْ كون عَيْبًا، وَنُقْصَانَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَهُوَ عَيْبٌ لَهَا، وَنُقْصَانَ الْعُمْرِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ" [[راجع ج ١٤ ص ٣٣٢.]]] فاطر: ١١] أَهُوَ عَيْبٌ لَهُ، وَنُقْصَانُ أَيَّامِ الْحَيْضِ عَنِ الْمَعْهُودِ، وَنُقْصَانَ أَيَّامِ الْحَمْلِ، وَنُقْصَانَ الْمَالِ بِسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ صَاحِبُهُ، فَمَا أَنْكَرْتَ أَنَّ نُقْصَانَ أَجْزَاءِ الدِّينِ فِي الشَّرْعِ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ الْأَجْزَاءُ الْبَاقِيَةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَيْنٍ وَلَا عَيْبٍ، وَمَا أَنْكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَلَّغْتُهُ أَقْصَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدِي فِيمَا قَضَيْتُهُ وَقَدَّرْتُهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا نُقْصَانَ عَيْبٍ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فَيُقَالُ] لَهُ [[[من ك.]]: إِنَّهُ كَانَ نَاقِصًا عَمَّا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُلْحِقُهُ بِهِ وَضَامُّهُ إِلَيْهِ، كَالرَّجُلِ يُبَلِّغُهُ اللَّهُ مِائَةَ سَنَةٍ فَيُقَالُ: أَكْمَلَ اللَّهُ عُمُرَهُ، وَلَا يَجِبُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ حِينَ كَانَ ابْنَ سِتِّينَ كَانَ نَاقِصًا نَقْصَ قُصُورٍ وَخَلَلٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: (مَنْ عَمَّرَهُ اللَّهُ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ). وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِنُقْصَانٍ مُقَيَّدٍ فَيُقَالُ: كَانَ نَاقِصًا عَمَّا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُبَلِّغُهُ إِيَّاهُ وَمُعَمِّرُهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلَوْ قِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَهَا لَكَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَلَا يَجِبُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ نَاقِصَةً نَقْصَ قُصُورٍ وَخَلَلٍ، وَلَوْ قِيلَ: كَانَتْ نَاقِصَةً عَمَّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ ضَامُّهُ إِلَيْهَا وَزَائِدُهُ عَلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَهَكَذَا، هَذَا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ شُرِعَ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ أَنْهَى اللَّهُ الدِّينَ مُنْتَهَاهُ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" أَنَّهُ وَفَّقَهُمْ لِلْحَجِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ غَيْرُهُ، فَحَجُّوا، فَاسْتَجْمَعَ لَهُمُ الدِّينُ أَدَاءً لِأَرْكَانِهِ وَقِيَامًا بِفَرَائِضِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ كَانُوا تَشَهَّدُوا وَصَلُّوا وَزَكُّوا وَصَامُوا وَجَاهَدُوا وَاعْتَمَرُوا وَلَمْ يَكُونُوا حَجُّوا، فَلَمَّا حَجُّوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ بِالْمَوْقِفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" فَإِنَّمَا أَرَادَ أَكْمَلَ وَضْعَهُ لَهُمْ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِسْلَامٌ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِرِضَايَ بِهِ لَكُمْ دِينًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا بِالْإِسْلَامِ لَنَا دِينًا، فَلَا يَكُونُ لِاخْتِصَاصِ الرِّضَا بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَائِدَةٌ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَ "دِيناً" نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَرَضِيتُ عَنْكُمْ إِذَا انْقَدْتُمْ [[في ك: أقررتم.]] لِيَ بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعْتُهُ لَكُمْ. وَيَحْتَمِلُ أن يريد "رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" أَيْ وَرَضِيَتُ إِسْلَامَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا بَاقِيًا بِكَمَالِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [[في كل الأصول: إلى آخر الآية. والصواب ما في البحر لابي حيان: إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شي.]] لَا أَنْسَخُ مِنْهُ شَيْئًا. وَاللَّهُ أعلم. و "الْإِسْلامَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ"] آل عمران: ١٩] وَهُوَ الَّذِي يُفَسَّرُ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ وَالشُّعَبُ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ﴾ يَعْنِي مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةٌ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَخْمَصَةُ الْجُوعُ وَخَلَاءُ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ. وَالْخَمْصُ ضُمُورُ الْبَطْنِ. وَرَجُلٌ خَمِيصٌ وَخُمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخُمْصَانَةٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ، وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ وَالْغَرَثِ، قَالَ الْأَعْشَى: تَبِيتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلَاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى [[غرثى: جوعي.]] يَبِتْنَ خَمَائِصَا أَيْ مُنْطَوِيَاتٍ عَلَى الْجُوعِ قَدْ أَضْمَرَ بُطُونَهُنَّ. وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي خَمْصِ الْبَطْنِ مِنْ جِهَةٍ ضُمْرِهِ: وَالْبَطْنُ ذُو عُكَنٍ [[العكن والأعكان: الاطواء في البطن من السمن.]] خَمِيصٌ لَيِّنٌ ... وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ [[نفج ثدي المرأة قميصها إذا رفعه.]] بِثَدْيٍ مقعد وفي الحديث: (خماص البطون جفاف الظُّهُورِ). الْخِمَاصُ جَمْعُ الْخَمِيصِ الْبَطْنِ، وَهُوَ الضَّامِرُ. أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَعِفَّاءُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمِنْهُ الحديث: (إن الطير تغدو خماصا وتروج بِطَانًا). وَالْخَمِيصَةُ أَيْضًا ثَوْبٌ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَمَائِصُ ثِيَابُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمَةٍ، وَهِيَ سَوْدَاءُ، كَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الاضطرار وحكمه في البقرة» . السابعة والعشرن- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ﴾ أَيْ غَيْرَ مَائِلٍ لِحَرَامٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى "غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ"] البقرة: ١٧٣] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْجَنَفُ الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ [[كان قد أفطر الناس في رمضان ثم ظهرت الشمس فقال: نقيضه ما تجانفنا .. إلخ.]] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَجَانَفْنَا فِيهِ لِإِثْمٍ، أَيْ مَا مِلْنَا وَلَا تَعَمَّدْنَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ: وَكُلُّ مَائِلٍ فَهُوَ مُتَجَانِفٍ وَجَنِفٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ مُتَجَنِّفٌ دُونَ أَلِفٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ شَدَّ الْعَيْنِ يَقْتَضِي مُبَالَغَةً وَتَوَغُّلًا فِي الْمَعْنَى وَثُبُوتًا لِحُكْمِهِ، وَتَفَاعُلٌ إِنَّمَا هُوَ مُحَاكَاةُ الشَّيْءِ والتقرب منه، ألا ترى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَمَايَلَ الْغُصْنُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأَوُّدًا وَمُقَارَبَةَ مَيْلٍ، وَإِذَا قُلْتَ: تَمَيَّلَ فَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الْمَيْلِ، وَكَذَلِكَ تَصَاوَنَ الرَّجُلُ وَتَصَوَّنَ، وَتَعَاقَلَ وَتَعَقَّلَ، فَالْمَعْنَى غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ لِمَعْصِيَةٍ فِي مَقْصِدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ غَفُورٌ رحيم فحذف، وأنشد سيبويه [[الرجز لابي النجم العجلي، وام الخيار امرأته.]]: قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ أَرَادَ لَمْ أَصْنَعْهُ فَحَذَفَ. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب