الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ الآيَةَ: (p-١٨)بَيَّنّاهُ مِن قَبْلُ، وكَذَلِكَ الدَّمُ، وكَذَلِكَ لَحْمُ الخِنْزِيرِ، ﴿وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، وكُلُّ ذَلِكَ شَرَحْناهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ. ﴿والمُنْخَنِقَةُ﴾ كَمَثَلٍ. ﴿والمَوْقُوذَةُ﴾: المَضْرُوبَةُ بِالخَشَبِ ونَحْوِهِ حَتّى تَمُوتَ، ومِنهُ المَقْتُولُ بِالبُنْدُقَةِ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ وعَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أرْمِي بِالمِعْراضِ فَأُصِيبَ فَآكُلَ.؟ فَقالَ: ”إذا رَمَيْتَ بِالمِعْراضِ وذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعالى فَأصابَ فَخَرَقَ فَكُلْ، وإنْ أصابَ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْ“» . وعَنْ عَدِيٍّ قالَ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ المِعْراضِ فَقالَ: ”ما أصابَ بِحَدِّهِ فَخَرَقَ فَكُلْ، وما أصابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإنَّهُ وقِيذٌ فَلا تَأْكُلْ“» . فَجَعَلَ ما أصابَ بِعَرْضِهِ مِن غَيْرِ جِراحَةٍ مَوْقُوذَةً، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلى ذَكاتِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ شَرْطَ ذَكاةِ الصَّيْدِ الجِراحَةُ وإسالَةُ الدَّمِ. لا جَرَمَ؛ قالَ الشّافِعِيُّ في قَوْلِ: إنْ أخَذَ الكَلْبُ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ ضَغْطًا، فَإنَّهُ لا يَحِلُّ ما أصابَ بِعَرْضِ المِعْراضِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُتَرَدِّيَةُ﴾: هي السّاقِطَةُ مِن أعْلى جَبَلٍ فَتَمُوتُ. وهَذا الإشْكالُ فِيهِ، إنْ حَصَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ فِعْلِ الآدَمِيِّ فَهو مَيْتَةٌ، وما رَدّاهُ الواحِدُ مِنّا، فَلا يَحِلُّ أيْضًا، فَإنَّهُ لَيْسَ ذَكاةً شَرْعِيَّةً. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أكَلَ السَّبُعُ﴾: يَعْنِي: وما أكَلَ السَّبُعُ مِنهُ حَتّى يَمُوتَ، ومَعْلُومٌ أنَّ الباقِيَ لَمْ يَأْكُلْهُ السَّبُعُ وهو المُحَرَّمُ، ولَكِنَّ العَرَبَ (p-١٩)يُسَمُّونَ ما قَتَلَهُ السَّبُعُ وأكَلَ مِنهُ: أكِيلَةَ السَّبُعِ، فَيُسَمُّونَ الباقِيَ مِنهُ أكِيلَةَ السَّبُعِ وهو فَرِيسَتُهُ. فَكُلُّ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الآيَةِ مِمّا نُهِيَ عَنْهُ أُرِيدَ بِهِ المَوْتُ، فالمَيْتَةُ أصْلٌ في التَّحْرِيمِ وما عَداها مِنَ المَوْقُوذَةِ، والمُتَرَدِّيَةِ، وأكِيلَةِ السَّبُعِ مُلْحَقَةٌ بِها، وإنْ لَمْ يَمُتِ الحَيَوانُ حَتْفَ أنْفِهِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾: عَلى صُورَةِ الِاسْتِثْناءِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إلى جَمِيعِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، لِأنَّ المَيْتَةَ لا يَرْجِعُ إلَيْها الِاسْتِثْناءُ، وكَذَلِكَ الدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ، وإنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ تَلْحَقَهُ الذَّكاةُ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ فَإنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى المَذْبُوحِ عَلى أسْماءِ الأصْنامِ، فَلا يُقالُ في مِثْلِهِ: إلّا ما ذَكَّيْتُمْ، فَلا رُجُوعَ إلى الِاسْتِثْناءِ إلّا ما قَبْلَ المُنْخَنِقَةِ، فَبَقِيَ ما قَبْلَ المُنْخَنِقَةِ عَلى حُكْمِ العُمُومِ، ومِن قَوْلِهِ: المُنْخَنِقَةُ إلى مَوْضِعِ الِاسْتِثْناءِ، أمْكَنَ رَدُّ الِاسْتِثْناءِ إلَيْهِ. فَيُقالُ: المُنْخَنِقَةُ أوِ المَوْقُوذَةُ مُحَرَّمَةٌ إلّا ما أُدْرِكَ ذَكاتُهُ وفِيهِ حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإنَّهُ يَحِلُّ بِالذَّكاةِ. يَبْقى أنْ يُقالَ: إنَّما يُباحُ ما يُباحُ، أوْ يَحْرُمُ ما يَحْرُمُ بَعْدَ المَوْتِ، فَإذا خَنَقَ شاةً ثُمَّ خَلّاها وفِيها حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، ثُمَّ ذُبِحَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلا تُسَمّى مُنْخَنِقَةً، وإنَّما تُسَمّى مُذَكّاةً، والمُنْخَنِقَةُ هي الَّتِي تَمُوتُ بِالخَنْقِ فَقَطْ، فَعَلى هَذا يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إلّا ما ذَكَّيْتُمُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: لَكِنْ ما ذَكَّيْتُمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلا قَوْمَ يُونُسَ﴾ [يونس: ٩٨] . (p-٢٠)ولَيْسَ في الكَلامِ المُتَقَدِّمِ عَلى الِاسْتِثْناءِ ما يَقْتَضِي الِاسْتِثْناءَ، فَإنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ: فَهَلّا كانَتِ القَرْيَةُ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها: أيْ: لِيَنْفَعَها إيمانُها عِنْدَ اللَّهِ وفي الدُّنْيا، فَلا تُعْلِنُ لَهُ بِقَوْمٍ إلّا قَوْمَ يُونُسَ، فَإنَّهُ لَيْسَ رَفْعًا لِشَيْءٍ مِمّا تَقَدَّمَ، ومَعْناهُ: لَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿طه﴾ [طه: ١] ﴿ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ [طه: ٢] ﴿إلا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى﴾ [طه: ٣] . ولَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿إلا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى﴾، [طه: ٣] رَفْعًا لِشَيْءٍ مِن قَوْلِهِ: لِتَشْقى، ولَكِنَّ مَعْناهُ: لَكِنَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى. ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ( إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) . عَلى بَعْضِ الأقْوالِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ [النمل: ١٠] ﴿إلا مَن ظَلَمَ﴾ [النمل: ١١] . ومِثْلُهُ: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلا المَوْتَةَ الأُولى﴾ [الدخان: ٥٦] . ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ اسْتَثْنى عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ، وتَقْدِيرُهُ: حَرَّمْنا كُلَّ ما قَتَلْتُمُوهُ، وحَرَّمْنا المَيِّتاتِ كُلَّها إلّا السَّمَكَ والجَرادَ وحَرَّمْنا كُلَّ دَمٍ إلّا الكَبِدَ والطِّحالَ. (p-٢١)فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْتَقِيمُ الِاسْتِثْناءُ، إلّا ما زَكَّيْتُمْ، مُطْلَقٌ مَصْرُوفٌ إلى ما جَعَلَ ذَكاةً شَرْعًا، وإلّا فالعَرَبُ لا تَفْصِلُ في الذَّكاةِ بَيْنَ المَوْقُوذَةِ والمُنْخَنِقَةِ، والذَّكاةِ بِالحَدِيدِ. ولا تَعْرِفُ العَرَبُ مِنَ الذَّكاةِ قَطْعَ الحُلْقُومِ واللِّثَةِ وحالَةً خاصَّةً، فَظاهِرُ الحالِ أنَّهُ مُحالٌ عَلى بَيانٍ مُقَدَّمٍ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾: إنَّما ذَكَرَهُ عَقِيبَ ما تَقَدَّمَ، ومَعْنى اسْتِقْسامٍ: طَلَبُ عِلْمِ ما قُسِمَ لَهُ بِالأزْلامِ، وإلْزامُ أنْفُسِهِمْ ما يَأْمُرُهم بِهِ القَدّاحُ بِقَسَمِ اليَمِينِ. والِاسْتِقْسامُ بِالأزْلامِ: أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ كانَ أحَدُهم إذا أرادَ سَفَرًا أوْ غَزْوًا أوْ تِجارَةً أوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الحاجاتِ أجالَ القِداحَ وهي الأزْلامُ وهي ثَلاثَةُ أضْرُبٍ: مِنها: نَهانِي رَبِّي. مِنها: ما نَهانِي رَبِّي. ومِنها: غُفْلٌ لا كِتابَةَ عَلَيْهِ. فَإذا خَرَجَ الغُفْلُ أجالَ القِداحَ ثانِيَةً. وهَذا إنَّما نَهى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الغَيْبِ فَإنَّهُ لا تَدْرِي نَفْسٌ ما يُصِيبُها غَدًا، فَلَيْسَ لِلْأزْلامِ في تَعْرِيفِ المُغَيَّباتِ أثَرٌ. فاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الجاهِلِينَ مِن هَذا الرَّدَّ عَلى الشّافِعِيِّ في الإقْراعِ بَيْنَ المَمالِيكِ في العِتْقِ، ولَمْ يَعْلَمْ هَذا الجاهِلُ أنَّ ما قالَهُ الشّافِعِيُّ بِناءً عَلى الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ مِمّا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِقْسامِ بِالأزْلامِ، فَإنَّ العِتْقَ حُكْمُ شَرْعٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ خُرُوجَ القُرْعَةِ عِلْمًا عَلى حُصُولِ العِتْقِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ أوْ لِمَصْلَحَةٍ يَراها، ولا يُساوِي ذَلِكَ قَوْلَ القائِلِ: إذا فَعَلْتُ كَذا أوْ قُلْتُ كَذا، فَذَلِكَ يَدُلُّ في المُسْتَقْبَلِ عَلى أمْرٍ (p-٢٢)مِنَ الأُمُورِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الإقْراعِ عِلْمًا عَلى شَيْءٍ يَتَجَدَّدُ في المُسْتَقْبَلِ، ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ العِتْقِ عِلْمًا عَلى العِتْقِ قَطْعًا فَظَهَرَ افْتِراقُ البابَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب