الباحث القرآني
ولَمّا أتَمَّ الكَلامَ عَلى احْتِرامِ أعْظَمِ المَكانِ؛ وأكْرَمِ الزَّمانِ؛ وما لابَسَهُما؛ فَهَذَّبَ النُّفُوسَ بِالنَّهْيِ عَنْ حُظُوظِها؛ وأمَرَ بَعْدَ تَخْلِيَتِها عَنْ كُلِّ شَرٍّ بِتَحْلِيَتِها بِكُلِّ خَيْرٍ؛ عَدَّدَ - عَلى سَبِيلِ الِاسْتِئْنافِ - ما وعَدَ بِتِلاوَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ مِمّا حَرَّمَ مُطْلَقًا؛ إلّا في حالِ الضَّرُورَةِ؛ فَقالَ: ﴿حُرِّمَتْ﴾؛ بانِيًا الفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ؛ لِأنَّ الخِطابَ لِمَن يَعْلَمُ أنَّهُ لا مُحَرِّمَ إلّا اللَّهُ؛ وإشْعارًا بِأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ لِشِدَّةِ قَذارَتِها كَأنَّها مُحَرَّمَةٌ بِنَفْسِها؛ ﴿عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾؛ وهي ما فَقَدَ الرُّوحَ بِغَيْرِ ذَكاةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ فَإنَّ دَمَ كُلِّ ما ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ يُحْبَسُ في عُرُوقِهِ؛ ويَتَعَفَّنُ؛ ويَفْسَدُ؛ فَيَضُرُّ أكْلُهُ البَدَنَ؛ بِهَذا الضَّرَرِ الظّاهِرِ؛ والدِّينَ بِما يَعْلَمُهُ أهْلُ البَصائِرِ؛ ﴿والدَّمُ﴾؛ أيْ: المَسْفُوحُ؛ وهو المُتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ عِنْدَ الإطْلاقِ؛ ﴿ولَحْمُ الخِنْـزِيرِ﴾؛ خَصَّهُ بَعْدَ دُخُولِهِ في المَيْتَةِ لِاتِّخاذِ النَّصارى أكْلَهُ كالدِّينِ؛ ﴿وما أُهِلَّ﴾؛ ولَمّا كانَ القَصْدُ في هَذِهِ السُّورَةِ إلى حِفْظِ مُحْكَمِ العُهُودِ؛ المُذَكِّرِ بِجَلالِهِ الباهِرِ؛ قَدَّمَ المَفْعُولَ لَهُ؛ فَقالَ: ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الأعْلى؛ ﴿بِهِ﴾؛ أيْ: ذُبِحَ عَلى اسْمِ غَيْرِهِ؛ مِن صَنَمٍ أوْ غَيْرِهِ؛ عَلى وجْهِ التَّقَرُّبِ عِبادَةً لِذَلِكَ الشَّيْءِ؛ و”الإهْلالُ“: رَفْعُ الصَّوْتِ.
ولَمّا كانَ مِنَ المَيْتاتِ ما لا تَعافُهُ النُّفُوسُ عِيافَتَها لِغَيْرِهِ؛ نَصَّ عَلَيْهِ؛ (p-١٢)فَقالَ: ﴿والمُنْخَنِقَةُ﴾؛ أيْ: بِحَبْلٍ؛ ونَحْوِهِ؛ سَواءٌ خَنَقَها خانِقٌ أوْ لا؛ ﴿والمَوْقُوذَةُ﴾؛ أيْ: المَضْرُوبَةُ بِمُثْقَلٍ؛ مِن ”وقَذَهُ“؛ إذا ضَرَبَهُ؛ ﴿والمُتَرَدِّيَةُ﴾؛ أيْ: السّاقِطَةُ مِن عالٍ؛ المُضْطَرِبَةُ غالِبًا في سُقُوطِها؛ ﴿والنَّطِيحَةُ﴾؛ أيْ: الَّتِي نَطَحَها شَيْءٌ فَماتَتْ؛ ﴿وما أكَلَ السَّبُعُ﴾؛ أيْ: كالذِّئْبِ؛ والنَّسْرِ؛ ونَحْوِهِما.
ولَمّا كانَ كُلُّ واحِدَةٍ مِن هَذِهِ قَدْ تُدْرَكُ حَيَّةً فَتُذَكّى؛ اسْتَثْنى فَقالَ: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ أيْ: مِن ذَلِكَ كُلِّهِ؛ بِأنْ أدْرَكْتُمُوهُ وفِيهِ حَياةٌ مُسْتَقِرَّةٌ؛ بِأنِ اشْتَدَّ اضْطِرابُهُ؛ وانْفَجَرَ مِنهُ الدَّمُ؛ ولَمّا حَرَّمَ المَيْتاتِ؛ وعَدَّ في جُمْلَتِها ما ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عِبادَةً؛ ذَكَرَ ما ذُبِحَ عَلى الحِجارَةِ الَّتِي كانُوا يَنْصِبُونَها لِلذَّبْحِ عِنْدَها تَدَيُّنًا؛ وإنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ شَيْءٍ عَلَيْها؛ فَقالَ: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾؛ وهو واحِدُ الأنْصابِ؛ وهي حِجارَةٌ كانَتْ حَوْلَ الكَعْبَةِ تُنْصَبُ؛ فَيُهَلُّ عَلَيْها؛ ويُذْبَحُ عِنْدَها؛ تَقَرُّبًا إلَيْها؛ وتَعْظِيمًا لَها؛ ﴿وأنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾؛ أيْ: تَطْلُبُوا عَلى ما قُسِمَ لَكُمْ؛ ﴿بِالأزْلامِ﴾؛ أيْ: القِداحِ؛ الَّتِي لا رِيشَ لَها؛ ولا نَصْلَ؛ واحِدُها بِوَزْنِ ”قَلَمٌ“؛ و”عُمَرٌ“؛ وكانَتْ ثَلاثَةً؛ عَلى واحِدٍ: ”أمَرَنِي رَبِّي“؛ وعَلى آخَرَ: ”نَهانِي رَبِّي“؛ والآخَرُ غُفْلٌ؛ فَإنْ خَرَجَ الآمِرُ فَعَلَ؛ أوِ النّاهِي تَرَكَ؛ أوِ الغُفْلُ أُجِيلَتْ ثانِيَةً؛ فَهو دُخُولٌ في عِلْمِ الغَيْبِ؛ وافْتِراءٌ عَلى اللَّهِ؛ بِادِّعاءِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ؛ وإنْ أرادَ المَنسُوبَ إلى الصَّنَمِ فَهو الكُفْرُ الصَّرِيحُ؛ وقالَ (p-١٣)صاحِبُ كِتابِ ”الزِّينَةُ“: يُقالُ: إنَّهُ كانَتْ عِنْدَهم سَبْعَةُ قِداحٍ مُسْتَوِيَةٍ؛ مِن شَوْحَطٍ - وكانَتْ بِيَدِ السّادِنِ - مَكْتُوبٍ عَلَيْها: ”نَعَمْ“؛ ”لا“؛ ”مِنكُمْ“؛ ”مِن غَيْرِكُمْ“؛ ”مُلْصَقٌ“؛ ”العَقْلُ“؛ ”فَضْلُ العَقْلِ“؛ فَكانُوا إذا اخْتَلَفُوا في نَسَبِ الرَّجُلِ جاؤُوا إلى السّادِنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ ثُمَّ قالُوا لِلصَّنَمِ: يا إلَهَنا؛ قَدْ تَمارَيْنا في نَسَبِ فُلانٍ؛ فَأخْرِجْ عَلَيْنا الحَقَّ فِيهِ؛ فَتُجالُ القِداحُ؛ فَإنْ خَرَجَ القِدْحُ الَّذِي عَلَيْهِ ”مِنكُمْ“؛ كانَ أوْسَطَهم نَسَبًا؛ وإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ ”مِن غَيْرِكُمْ“؛ كانَ حَلِيفًا؛ وإنْ خَرَجَ ”مُلْصَقٌ“؛ كانَ عَلى مَنزِلَتِهِ؛ لا نَسَبَ لَهُ؛ ولا حِلْفَ؛ وإذا أرادُوا سَفَرًا أوْ حاجَةً جاؤُوا بِمِائَةٍ؛ فَقالُوا: يا إلَهَنا؛ أرَدْنا كَذا؛ فَإنْ خَرَجَ ”نَعَمْ“؛ فَعَلُوا؛ وإنْ خَرَجَ ”لا“؛ لَمْ يَفْعَلُوا؛ وإنْ جَنى أحَدُهم جِنايَةً؛ فاخْتَلَفُوا فِيمَن يَحْمِلُ العَقْلَ؛ جاؤُوا بِمِائَةٍ؛ فَقالُوا: يا إلَهَنا؛ فُلانٌ جُنِيَ عَلَيْهِ؛ أخْرِجِ الحَقَّ؛ فَإنْ خَرَجَ القِدْحُ الَّذِي عَلَيْهِ ”العَقْلُ“؛ لَزِمَ مَن ضُرِبَ عَلَيْهِ؛ وبُرِّئَ الآخَرُونَ؛ وإنْ خَرَجَ غَيْرُهُ كانَ عَلى الآخَرِينَ العَقْلُ؛ وكانُوا إذا عَقَلُوا العَقْلَ فَفَضَلَ الشَّيْءُ مِنهُ تَدارَوْا فِيمَن يَحْمِلُهُ؛ فَضَرَبُوا عَلَيْهِ؛ فَإنْ خَرَجَ القِدْحُ الَّذِي عَلَيْهِ ”فَضْلُ العَقْلِ“؛ لِلَّذِي ضُرِبَ عَلَيْهِ؛ لَزِمَهُ؛ وإلّا كانَ عَلى الآخَرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِمْ؛ فَهَذا الِاسْتِقْسامُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الأصْنامِ؛ ويَطْلُبُونَ (p-١٤)ذَلِكَ مِنها؛ ويَظُنُّونَ أنَّ الَّذِي أخْرَجَ لَهم ذَلِكَ هو الصَّنَمُ؛ وأمّا إجالَةُ السِّهامِ لا عَلى هَذا الوَجْهِ؛ فَهو جائِزٌ؛ وهو تَساهُمٌ واقْتِراعٌ؛ لا اسْتِقْسامٌ؛ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: واحِدُ الأزْلامِ ”زَلَمٌ“؛ بِفَتْحِ الزّاءِ؛ وقالَ بَعْضُهم بِالضَّمِّ؛ وهو القِدْحُ لا رِيشَ لَهُ؛ ولا نَصْلَ؛ فَإذا كانَ مُرَيَّشًا فَهو السَّهْمُ؛ واللَّهُ أعْلَمُ؛ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ - مَعَ هَذا - ما كانُوا يَفْعَلُونَهُ في المَيْسِرِ - عَلى ما مَضى في ”البَقَرَةِ“؛ فَإنَّهُ طَلَبُ مَعْرِفَةِ ما قُسِمَ مِنَ الجَزُورِ؛ ويَلْتَحِقُ بِالأوَّلِ كُلُّ كَهانَةٍ؛ وتَنْجِيمٍ؛ وكُلُّ طِيرَةٍ يَتَطَيَّرُها النّاسُ الآنَ؛ مِنَ التَّشاؤُمِ بِبَعْضِ الأيّامِ؛ وبَعْضِ الأماكِنِ؛ والأحْوالِ؛ فَإيّاكَ أنْ تُعَرِّجَ عَلى شَيْءٍ مِنَ الطِّيَرَةِ؛ فَتَكُونَ عَلى شُعْبَةِ جاهِلِيَّةٍ؛ ثُمَّ إيّاكَ.
ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الأشْياءُ شَدِيدَةَ الخُبْثِ؛ أشارَ إلى تَعْظِيمِ النَّهْيِ عَنْها؛ بِأداةِ البُعْدِ؛ ومِيمِ الجَمْعِ؛ فَقالَ: ﴿ذَلِكُمْ﴾؛ أيْ: الَّذِي ذَكَرْتُ لَكم تَحْرِيمَهُ؛ ﴿فِسْقٌ﴾؛ أيْ: فِعْلُهُ خُرُوجٌ مِنَ الدِّينِ.
ولَمّا كانَتْ هَذِهِ المَنهِيّاتُ مُعْظَمَ دِينِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ؛ وكانَ - سُبْحانَهُ - قَدْ نَهاهم قَبْلَها عَنْ إحْلالِ شَعائِرِ اللَّهِ؛ والشَّهْرِ الحَرامِ؛ وقاصِدِي المَسْجِدِ الحَرامِ؛ بَعْدَ أنْ كانَ أباحَ لَهم ذَلِكَ في بَعْضِ الأحْوالِ؛ والأوْقاتِ؛ بِقَوْلِهِ ﴿وأخْرِجُوهم مِن حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١] ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٤] ﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ (p-١٥)ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١]؛ عُلِمَ أنَّ الأمْرَ بِالكَفِّ عَنِ انْتِهازِ الفُرَصِ إنَّما هو لِلْأمْنِ مِنَ الفَوْتِ؛ وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا مِن تَمامِ القُدْرَةِ؛ وهو لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ كَمالِ الدِّينِ؛ وإظْهارِهِ عَلى كُلِّ دِينٍ - كَما حَصَلَ بِهِ الوَعْدُ الصّادِقُ -؛ وكَذا الِانْتِهاءُ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ المَحارِمِ إنَّما يَكُونُ لِمَن رَسَخَ في الدِّينِ قَدَمُهُ؛ وتَمَكَّنَتْ فِيهِ عَزائِمُهُ وهِمَمُهُ؛ فَلا التِفاتَ لَهُ إلى غَيْرِهِ؛ ولا هَمُّهُ إلى سِواهُ؛ ولا مَطْمَعَ لِمُخالِفِهِ فِيهِ؛ فَعَقَّبَ - سُبْحانَهُ - النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ المَناهِي كُلِّها بِقَوْلِهِ - عَلى سَبِيلِ النَّتِيجَةِ؛ والتَّعْلِيلِ -: ﴿اليَوْمَ﴾ أيْ: وقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ؛ ﴿يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أيْ: لابَسُوا الكُفْرَ؛ سَواءٌ كانُوا راسِخِينَ فِيهِ أوْ لا؛ ﴿مِن دِينِكُمْ﴾؛ أيْ: لَمْ يَبْقَ لَكُمْ؛ ولا لِأحَدٍ مِنكم عُذْرٌ في شَيْءٍ مِن إظْهارِ المُوافَقَةِ لَهُمْ؛ أوِ التَّسَتُّرِ مِن أحَدٍ مِنهُمْ؛ كَما فَعَلَ حاطِبُ بْنُ أبِي بَلْتَعَةَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - حِينَ كاتَبَهم لِيَحْمِيَ بِذَلِكَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ كَثَّرَكم بَعْدَ القِلَّةِ؛ وأعَزَّكم بَعْدَ الذِّلَّةِ؛ وأحْيا بِكم مَنارَ الشَّرْعِ؛ وطَمْسَ مَعالِمَ شَرْعِ الجَهْلِ؛ وهَدَّ مَنارَ الضَّلالِ؛ فَأنا أُخْبِرُكم - وأنْتُمْ عالِمُونَ بِسَعَةِ عِلْمِي - أنَّ الكُفّارَ قَدِ اضْمَحَلَّتْ قُواهُمْ؛ وماتَتْ هِمَمُهُمْ؛ وذَلَّتْ نَخْوَتُهُمْ؛ وضَعُفَتْ عَزائِمُهُمْ؛ فانْقَطَعَ رَجاؤُهم عَنْ أنْ يَغْلِبُوكُمْ؛ أوْ يَسْتَمِيلُوكم إلى دِينِهِمْ؛ بِنَوْعِ اسْتِمالَةٍ؛ فَإنَّهم رَأوْا دِينَكم قَدْ قامَتْ مَنائِرُهُ؛ وعَلَتْ في المَجامِعِ مَنابِرُهُ؛ وضُرِبَ مِحْرابُهُ؛ وبَرَّكَ بِقَواعِدِهِ وأرْكانِهِ؛ ولِهَذا سَبَّبَ (p-١٦)عَمّا مَضى قَوْلَهُ: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾؛ أيْ: أصْلًا؛ ﴿واخْشَوْنِ﴾؛ أيْ: وامْحَضُوا الخَشْيَةَ لِي وحْدِي؛ فَإنَّ دِينَكم قَدْ أُكْمِلَ بَدْرُهُ؛ وجَلَّ عَنِ المُحَلِّقِ مَحَلُّهُ وقَدْرُهُ؛ ورَضِيَ بِهِ الآمِرُ؛ ومَكَّنَهُ عَلى رَغْمِ أنْفِ الأعْداءِ؛ وهو قادِرٌ عَلى ذَلِكَ؛ وذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى) - مَسُوقًا مَساقَ التَّعْلِيلِ -: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾؛ أيْ: الَّذِي أرْسَلَتُ إلَيْكم بِهِ أكْمَلَ خَلْقِي؛ لِتَدِينُوا بِهِ؛ وتُدانُوا؛ وإكْمالُهُ بِإنْزالِ كُلِّ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ؛ مِن أصْلٍ وفَرْعٍ؛ نَصًّا عَلى البَعْضِ؛ وبَيانًا لِطَرِيقِ القِياسِ في الباقِي؛ وذَلِكَ بَيانٌ لِجَمِيعِ الأحْكامِ؛ وأمّا قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ فَهو وإنْ كانَ كامِلًا لَكِنَّهُ بِغَيْرِ هَذا المَعْنى؛ بَلْ إلى حِينٍ؛ ثُمَّ يَزِيدُ فِيهِ - سُبْحانَهُ - ما يَشاءُ؛ فَيَكُونُ بِهِ كامِلًا أيْضًا؛ وأكْمَلَ مِمّا مَضى؛ وهَكَذا إلى هَذِهِ النِّهايَةِ؛ وكانَ هَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي﴾؛ أيْ: الَّتِي قَسَمْتُها في القِدَمِ؛ مِن هَذا الدِّينِ؛ عَلى لِسانِ هَذا الرَّسُولِ؛ بِأنْ جَمَعْتُ عَلَيْهِ كَلِمَةَ العَرَبِ؛ الَّذِينَ قَضَيْتُ في القِدَمِ بِإظْهارِهِمْ عَلى مَن ناوَأهم مِن جَمِيعِ أهْلِ المِلَلِ؛ لِيَظْهَرَ بِهِمُ الدِّينُ؛ وتَنْكَسِرَ شَوْكَةُ المُفْسِدِينَ؛ مِن غَيْرِ حاجَةٍ في ذَلِكَ إلى غَيْرِهِمْ؛ وإنْ كانُوا بِالنِّسْبَةِ إلى المُخالِفِينَ كالشَّعْرَةِ البَيْضاءِ في جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ؛ ﴿ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ﴾؛ أيْ: الَّذِي هو الشَّهادَةُ لِلَّهِ بِما شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ مِنَ الوَحْدانِيَّةِ؛ الَّتِي لِمَن يَتْبَعُ الإذْعانَ لَها الإذْعانُ لِكُلِّ طاعَةٍ؛ ﴿دِينًا﴾؛ تَتَجازَوْنَ بِهِ فِيما بَيْنَكُمْ؛ ويُجازِيكم بِهِ رَبُّكُمْ؛ (p-١٧)رَوى البُخارِيُّ؛ في ”المُغازِي“؛ وغَيْرِهِ؛ ومُسْلِمٌ في آخِرِ الكِتابِ؛ والتِّرْمِذِيُّ في التَّفْسِيرِ؛ والنِّسائِيُّ في الحَجِّ؛ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قالَ لَهُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ آيَةٌ في كِتابِكم تَقْرَؤُونَها؛ لَوْ عَلَيْنا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا؛ قالَ: ”أيُّ آيَةٍ؟“؛ قالَ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾؛ فَقالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ”قَدْ عَرَفْنا ذَلِكَ اليَوْمَ؛ والمَكانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ؛ نَزَلَتْ وهو قائِمٌ بِعَرَفَةَ؛ يَوْمَ جُمُعَةٍ“؛» وفي التَّفْسِيرِ مِنَ البُخارِيِّ عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ: «قالَتِ اليَهُودُ لِعُمَرَ: إنَّكم تَقْرَؤُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينا لاتَّخَذْناها عِيدًا؛ فَقالَ عُمَرُ: ”إنِّي لِأعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ؛ وأيْنَ أُنْزِلَتْ؛ وأيْنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُنْزِلَتْ“؛» وقالَ البَغَوِيُّ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: كانَ ذَلِكَ اليَوْمُ خَمْسَةَ أعْيادٍ: جُمُعَةً؛ وعَرَفَةَ؛ وعِيدَ اليَهُودِ؛ وعِيدَ النَّصارى؛ والمَجُوسِ؛ ولَمْ تَجْتَمِعْ أعْيادُ أهْلِ المِلَلِ في يَوْمٍ قَبْلَهُ؛ ولا بَعْدَهُ؛ قُلْتُ: ويَوْمُ الجُمُعَةِ هو اليَوْمُ الَّذِي أتَمَّ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَ هَذِهِ المَوْجُوداتِ؛ بِخَلْقِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ بَعْدَ عَصْرِهِ؛ وهو حِينُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ؛ إنْ شاءَ اللَّهُ (تَعالى)؛ فَكانَتْ تِلْكَ السّاعَةُ مِن ذَلِكَ اليَوْمِ تَمامًا ابْتِداءً؛ ورَوى هارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ؛ عَنْ أبِيهِ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَكى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ”ما يُبْكِيكَ يا عُمَرُ؟“؛ فَقالَ: أبْكانِي أنّا كُنّا في زِيادَةٍ مِن دِينِنا؛ فَإذا كَمُلَ (p-١٨)فَإنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إلّا نَقَصَ؛ قالَ: ”صَدَقْتَ“؛» فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ نَعْيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ عاشَ بَعْدَها إحْدى وثَمانِينَ يَوْمًا وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ كانَ هِجِّيرى النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ مِنَ العَصْرِ إلى الغُرُوبِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]؛ الآيَةُ؛ وكَأنَّ ذَلِكَ كانَ جَوابًا مِنهُ ﷺ لِهَذِهِ الآيَةِ؛ لِفَهْمِهِ ﷺ أنَّ إنْزالَ آيَةِ ”آلِ عِمْرانَ“ سِرُّ الإسْلامِ؛ وأعْظَمُهُ وأكْمَلُهُ؛ وهَذِهِ الآيَةُ مِنَ المُعْجِزاتِ؛ لِأنَّها إخْبارٌ بِمُغَيَّبٍ صَدَّقَها فِيهِ الواقِعُ.
ولَمّا تَمَّتْ هَذِهِ الجُمَلُ الِاعْتِراضِيَّةُ الَّتِي صارَ ما بَيْنَها وبَيْنَ ما قَبْلَها وما بَعْدَها بِإحْكامِ الرَّصْفِ واتَّقانِ الرَّبْطِ - مِنَ الامْتِزاجِ أشَدَّ مِمّا بَيْنَ الرُّوحِ والجَسَدِ؛ المُشِيرَةُ إلى أنَّ هَذِهِ المُحَرَّماتِ هي الَّتِي تُحَقِّقُ بِها أهْلُ الكُفْرِ كَمالَ المُخالَفَةِ؛ فَأيِسُوا مَعَها مِنَ المُواصَلَةِ؛ والمُؤالَفَةِ؛ رَجَعَ إلى تَتِمّاتٍ لِتِلْكَ المَحْظُوراتِ؛ فَقالَ - مُسَبِّبًا عَنِ الرِّضا بِالإسْلامِ؛ الَّذِي هو الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ؛ المُحَرِّمَةُ لِهَذِهِ الخَبائِثِ؛ لِإضْرارِها بِالبَدَنِ؛ والدِّينِ -: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾؛ أيْ: أُلْجِئَ إلْجاءً عَظِيمًا - مِن أيِّ شَيْءٍ كانَ - إلى تَناوُلِ شَيْءٍ مِمّا مَضى أنَّهُ حُرِّمَ؛ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُهُ مَعَهُ الكَفُّ عَنْهُ؛ ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾؛ أيْ: مَجاعَةٍ عَظِيمَةٍ؛ ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ﴾؛ أيْ: مُتَعَمِّدٍ مَيْلًا؛ ﴿لإثْمٍ﴾؛ أيْ: بِالأكْلِ عَلى غَيْرِ سَدِّ الرَّمَقِ؛ أوْ بِالبَغْيِ عَلى مُضْطَرٍّ آخَرَ؛ بِنَوْعِ مَكْرٍ؛ أوِ العَدْوِ عَلَيْهِ (p-١٩)بِضَرْبِ قَهْرٍ؛ وزادَ بَعْدَ هَذا التَّقْيِيدِ تَخْوِيفًا بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ؛ ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أيْ: يَمْحُو عَنْهُ إثْمَ ارْتِكابِهِ لِلْمَنهِيِّ؛ ولا يُعاقِبُهُ عَلَيْهِ؛ ولا يُعاتِبُهُ؛ ويُكْرِمُهُ؛ بِأنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ مِن فَضْلِهِ؛ ولا يَضْطَرَّهُ مَرَّةً أُخْرى.. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الإكْرامِ؛ وضُرُوبِ الإنْعامِ.
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّیَةُ وَٱلنَّطِیحَةُ وَمَاۤ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّیۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُوا۟ بِٱلۡأَزۡلَـٰمِۚ ذَ ٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡیَوۡمَ یَىِٕسَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن دِینِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِی مَخۡمَصَةٍ غَیۡرَ مُتَجَانِفࣲ لِّإِثۡمࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق