الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾، أصْلُهُ: ”اَلْمَيِّتَةُ“، بِالتَّشْدِيدِ، إلّا أنَّهُ مُخَفَّفٌ، ولَوْ قُرِئَتْ: ”اَلْمَيِّتَةُ“، لَجازَ، يُقالُ: ”مَيِّتٌ“، و”مَيْتٌ“، والمَعْنى واحِدٌ، وقالَ بَعْضُهم: ”اَلْمَيِّتُ“، يُقالُ لِما لَمْ يَمُتْ، و”اَلْمَيْتُ“، لِما قَدْ ماتَ، وهَذا خَطَأٌ، إنَّما ”مَيِّتٌ“، يَصْلُحُ لِما قَدْ ماتَ، ولِما سَيَمُوتُ، قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، وقالَ الشّاعِرُ - في تَصْدِيقِ أنَّ ”اَلْمَيْتُ“، و”اَلْمَيِّتُ“، بِمَعْنًى واحِدٍ: ؎لَيْسَ مَن ماتَ فاسْتَراحَ بِمَيْتٍ ∗∗∗ إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ فَجَعَلَ ”اَلْمَيْتُ“، مُخَفَّفًا مِن ”اَلْمَيِّتُ“ . وَقَوْلُهُ: ﴿والدَّمُ﴾، قِيلَ: إنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ الدَّمَ في المَباعِرِ، ويَشْوُونَها، ويَأْكُلُونَها، فَأعْلَمَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - أنَّ الدَّمَ المَسْفُوحَ - أيْ: اَلْمَصْبُوبَ - حَرامٌ، فَأمّا المُتَلَطِّخُ بِالدَّمِ فَهو كاللَّحْمِ في الحَلِّ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، مَوْضِعُهُ ”رَفْعٌ“، والمَعْنى: ”وَحُرِّمَ عَلَيْكم ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ“، ومَعْنى ”أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ“، ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، وقَدْ فَسَّرْنا أنَّ الإهْلالَ: رَفْعُ الصَّوْتِ (p-١٤٥)بِالشَّيْءِ، فَما يُتَقَرَّبُ بِهِ، مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أوْ ذِكْرِ غَيْرِ اسْمِهِ، فَحَرامٌ، ولَحْمُ الخِنْزِيرِ حَرامٌ، حَرَّمَ اللَّهُ أكْلَهُ، ومِلْكَهُ، والخِنْزِيرُ يَشْتَمِلُ عَلى الذَّكَرِ، والأُنْثى. وَقَوْلُهُ: ﴿والمُنْخَنِقَةُ﴾، وهي الَّتِي تَنْخَنِقُ بِرِبْقَتِها، أيْ: بِالحَبَلِ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ، وبِأيِّ جِهَةٍ اخْتَنَقَتْ فَهي حَرامٌ. وَقَوْلُهُ: ﴿والمَوْقُوذَةُ﴾، وهي الَّتِي تُقْتَلُ ضَرْبًا، يُقالُ: ”وَقَذْتُها، أوْقِذُها، وقْذًا“، و”أوْقَذْتُها، أُوقِذُها، إيقاذًا“، إذا أثْخَنْتُها ضَرْبًا. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿والنَّطِيحَةُ﴾، وهي الَّتِي تَنْطِحُ، أوْ تُنْطَحُ، فَتَمُوتُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَما أكَلَ السَّبُعُ﴾، مَوْضِعُ ”ما“، أيْضًا: رَفْعٌ، عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَها. وَقَوْلُهُ: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾، أيْ: إلّا ما أدْرَكْتُمْ ذَكاتَهُ مِن هَذِهِ الَّتِي وصَفْنا، ومَوْضِعُ ”ما“: نَصْبٌ، أيْ: حُرِّمَتْ عَلَيْكم هَذِهِ الأشْياءُ، إلّا الشَّيْءَ الَّذِي أُدْرِكَ ذَبْحُهُ مِنها، وكُلُّ ذَبْحٍ ”ذَكاةٌ“، ومَعْنى ”اَلتَّذْكِيَةُ“، أنْ يُدْرِكَها وفِيها بَقِيَّةٌ تَشْخُبُ مَعَها الأوْداجُ، وتَضْطَرِبُ اضْطِرابَ المَذْبُوحِ الَّذِي أُدْرِكَتْ ذَكاتُهُ، وأهْلُ العِلْمِ يَقُولُونَ: إنْ أخْرَجَ السَّبُعُ الحَشْوَةَ، أوْ قَطَعَ الجَوْفَ قَطْعًا خَرَجَ مَعَهُ الحَشْوَةُ، فَلا ذَكاةَ لِذَلِكَ، وتَأْوِيلُهُ أنَّهُ يَصِيرُ في حالَةِ ما لا يُؤَثِّرُ في حَياتِهِ الذَّبْحُ، وأصْلُ ”اَلذَّكاءُ“، في اللُّغَةِ كُلِّها: تَمامُ الشَّيْءِ، (p-١٤٦)فَمِن ذَلِكَ الذَّكاءُ في السِّنِّ، والفَهْمِ، وهو تَمامُ السِّنِّ، قالَ الخَلِيلُ: ”اَلذَّكاءُ في السِّنِّ“: أنْ يَأْتِيَ عَلى قُرُوحِهِ سَنَةٌ، وذَلِكَ تَمامُ اسْتِكْمالِ القُوَّةِ، قالَ زُهَيْرٌ: ؎يُفَضِّلُهُ إذا اجْتَهَدُوا عَلَيْهِ ∗∗∗ تَمامُ السِّنِّ مِنهُ والذَّكاءُ وَقِيلَ: ”جَرْيُ المُذْكِياتِ غِلابٌ“، أيْ: ”جَرْيُ المَسانِّ الَّتِي قَدْ تَأسَّنَتْ، وتَأْوِيلُ تَمامِ السِّنِّ: اَلنِّهايَةُ في الشَّبابِ، فَإذا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أوْ زادَ، فَلا يُقالُ لَها:“ اَلذَّكاءُ ”، والذَّكاءُ في الفَهْمِ أنْ يَكُونَ فَهْمًا تامًّا، سَرِيعَ القَبُولِ، و“ ذَكَيْتُ النّارَ "، إنَّما هو مِن هَذا، تَأْوِيلُهُ: أتْمَمْتُ إشْعالَها. ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾، ما أذْكَيْتُمْ ذَبْحَهُ عَلى التَّمامِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾، و”اَلنُّصُبُ“: اَلْحِجارَةُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها، وهي الأوْثانُ، واحِدُها ”نِصابٌ“، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ واحِدًا، وجَمْعُهُ ”أنْصابٌ“ . وَقَوْلُهُ: ﴿وَأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾، مَوْضِعُ ”أنْ“: رَفْعٌ، والمَعْنى: وحُرِّمَ عَلَيْكم الِاسْتِقْسامُ بِالأزْلامِ، وواحِدُ الأزْلامِ: ”زُلَمْ“، و”زَلَمٌ“، وهي سِهامٌ كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ، مَكْتُوبٌ عَلى بَعْضِها ”أمَرَنِي رَبِّي“، وعَلى بَعْضِها: ”نَهانِي رَبِّي“، فَإذا أرادَ الرَّجُلُ سَفَرًا، أوْ أمْرًا يَهْتَمُّ بِهِ (p-١٤٧)اهْتِمامًا شَدِيدًا، ضَرَبَ تِلْكَ القِداحَ، فَإنْ خَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي عَلَيْهِ ”أمَرَنِي رَبِّي“، مَضى لِحاجَتِهِ، وإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ ”نَهانِي رَبِّي“، لَمْ يَمْضِ في أمْرِهِ، فَأعْلَمَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - أنَّ ذَلِكَ حَرامٌ، ولا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ قَوْلِ المُنَجِّمِينَ: ”لا تَخْرُجْ مِن أجْلِ نَجْمِ كَذا“، و”اُخْرُجْ مِن أجْلِ طُلُوعِ نَجْمِ كَذا“، لِأنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَزَّ - قالَ: ﴿وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا﴾ [لقمان: ٣٤]، ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ...“، وذَكَرَ الآيَةَ الَّتِي في آخِرِ سُورَةِ ”لُقْمانَ“: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَـزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ وما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: ٣٤]»، وهَذا هو دُخُولٌ في عِلْمِ اللَّهِ، الَّذِي هو غَيْبٌ، وهو حَرامٌ، كالأزْلامِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ - جَلَّ وعَزَّ - أنَّها حَرامٌ، والِاسْتِقْسامُ بِالأزْلامِ فِسْقٌ، و”اَلْفِسْقُ“: اِسْمٌ لِكُلِّ ما أعْلَمَ اللَّهُ أنَّهُ مُخْرِجٌ عَنِ الحَلالِ إلى الحَرامِ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الخارِجِينَ مِن مُتَعَبَّداتِهِ، وأصْلُهُ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ: ”قَدْ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ“، إذا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرِها، ولَوْ كانَ بَعْضُ هَذِهِ المَرْفُوعاتِ نَصْبًا عَلى المَعْنى لَجازَ في غَيْرِ القُرْآنِ، لَوْ قُلْتَ: ”حُرِّمَتْ عَلى النّاسِ المَيْتَةُ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ“، وتَحْمِلُهُ عَلى مَعْنى ”وَحَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ“، لَجازَ ذَلِكَ، فَأمّا القُرْآنُ فَخَطَأٌ فِيهِ أنْ نَقْرَأ بِما لَمْ يَقْرَأْ بِهِ مَن هو قُدْوَةٌ في القِراءَةِ، لِأنَّ القِراءَةَ سُنَّةٌ لا تُتَجاوَزُ. وَقَوْلُهُ: ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾، ”اَلْيَوْمَ“: مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، ولَيْسَ يُرادُ بِهِ - واللَّهُ أعْلَمُ - يَوْمًا بِعَيْنِهِ. (p-١٤٨)مَعْناهُ: اَلْآنَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ، وهَذا كَما تَقُولُ: ”أنا اليَوْمَ قَدْ كَبِرْتُ“، وهَذا الشَّأْنُ لا يَصْلُحُ في اليَوْمِ ”، تُرِيدُ“ أنا الآنَ ”، و“ في هَذا الزَّمانِ ”، ومَعْناهُ أنْ قَدْ حَوَّلَ اللَّهُ الخَوْفَ الَّذِي كادَ يَلْحَقُكم مِنهُمُ اليَوْمَ، ويَئِسُوا مِن بُطْلانِ الإسْلامِ، وجاءَكم ما كُنْتُمْ تُوعَدُونَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣]، و“ اَلدِّينُ "، اِسْمٌ لِجَمِيعِ ما تَعَبَّدَ اللَّهُ خَلْقَهُ، وأمَرَهم بِالإقامَةِ عَلَيْهِ، والَّذِي بِهِ يُجْزَوْنَ، والَّذِي أمَرَهم أنْ يَكُونَ عادَتَهُمْ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] وَقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِ﴾، أيْ: فَلْيَكُنْ خَوْفُكم لِلَّهِ وحْدَهُ، فَقَدْ أمِنتُمْ أنْ يَظْهَرَ دِينٌ عَلى الإسْلامِ، وكَذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ - قَوْلُهُ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾، أيْ: اَلْآنَ أكْمَلْتُ لَكم الدِّينَ بِأنْ كَفَيْتُكم خَوْفَ عَدُوِّكُمْ، وأظْهَرْتُكم عَلَيْهِمْ، كَما تَقُولُ: ”اَلْآنَ كَمُلَ لَنا المِلْكُ، وكَمُلَ لَنا ما نُرِيدُ، بِأنْ كُفِينا مَن كُنّا نَخافُهُ“، وقَدْ قِيلَ أيْضًا: ”اَلْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم“، أيْ: أكْمَلْتُ لَكم فَرْضَ ما تَحْتاجُونَ إلَيْهِ في دِينِكُمْ، وذَلِكَ جائِزٌ حَسَنٌ، فَأمّا أنْ يَكُونَ دِينُ اللَّهِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ غَيْرَ كامِلٍ، فَلا. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ﴾، أيْ: فَمَن دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ في مَجاعَةٍ، لِأنَّ ”اَلْمَخْمَصَةُ“: شِدَّةُ ضُمُورِ البَطْنِ، ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ﴾ (p-١٤٩)أيْ: غَيْرَ مائِلٍ إلى إثْمٍ، ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أيْ: فَإنَّ اللَّهَ أباحَهُ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنهُ، وتَسْهِيلًا عَلى خَلْقِهِ، وكَذَلِكَ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣]، أيْ: غَيْرَ آكِلٍ لَها عَلى جِهَةِ الِاسْتِحْلالِ، ولا عادٍ، أيْ: مُجاوِزٍ لِقَدْرِ الحاجَةِ، وغَيْرَ آكِلٍ لَها عَلى جِهَةِ التَّلَذُّذِ، ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب