الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٣] ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْـزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أكَلَ السَّبُعُ إلا ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكم فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكم فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِ اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ وهي ما فارَقَهُ الرُّوحُ بِغَيْرِ سَبَبٍ خارِجِيٍّ. لِأنَّها تَنَجَّسَتْ بِمُفارَقَتِهِ مِن غَيْرِ مُطَهِّرٍ، مِن ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَحْقِيقًا أوْ تَقْدِيرًا، كَإسْلامِ الذّابِحِ. كَذا في "التَّبْصِيرِ". وقَدْ خُصَّ مِنَ (المَيْتَةِ) السَّمَكُ بِالسُّنَّةِ: فَإنَّهُ حَلالٌ. ماتَ بِتَذْكِيَةٍ أوْ غَيْرِها. لِما رَواهُ مالِكٌ في مُوَطَّئِهِ، والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ في مَسْنَدَيْهِما، وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِمْ، وابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِيهِما، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى (p-١٨١٢)اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ماءِ البَحْرِ؟ فَقالَ: «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»» . وهَكَذا الجَرادُ. لِما سَيَأْتِي. قالَ الرّازِيُّ: تَحْرِيمُ المَيْتَةِ مُوافِقٌ لِما في العُقُولِ. لِأنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا. فَإذا ماتَ الحَيَوانُ حَتْفَ أنْفِهِ احْتَبَسَ الدَّمُ في عُرُوقِهِ، وتَعَفَّنَ وفَسَدَ، وحَصَلَ مِن أكْلِهِ مَضارُّ عَظِيمَةٌ. انْتَهى.
أخْرَجَ ابْنُ مَندَهْ في كِتابِ (الصَّحابَةِ) مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ حِبّانَ بْنِ حَجَرٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ حِبّانَ قالَ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأنا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ فِيها لَحْمُ مَيْتَةٍ. فَأُنْزِلَ تَحْرِيمُ المَيْتَةِ فَأكْفَأْتُ القِدْرَ:» والدَّمَ أيِ: المَسْفُوحَ مِنهُ. لِقَوْلِهِ تَعالى في الأنْعامِ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] وقَدْ رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسِ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطِّحالِ؟ فَقالَ: كُلُوهُ. فَقالُوا: إنَّهُ دَمٌ. فَقالَ: إنَّما حُرِّمَ عَلَيْكُمُ الدَّمُ المَسْفُوحُ. وكَذا رَواهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدِ بْنِ القاسِمِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: إنَّما نُهِيَ عَنِ الدَّمِ السّافِحِ.
قالَ الإمامُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشّافِعِيُّ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««أحِلُّ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ. فَأمّا المَيْتَتانِ فالسَّمَكُ والجَرادُ. وأمّا الدَّمانِ فالكَبِدُ والطِّحالُ»» . وكَذا رَواهُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (p-١٨١٣)وابْنُ ماجَهْ والدّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ. وهو ضَعِيفٌ. قالَ الحافِظُ البَيْهَقِيُّ: ورَواهُ إسْماعِيلُ بْنُ أبِي إدْرِيسَ، عَنْ أُسامَةَ، وعَبْدُ اللَّهِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَرْفُوعًا. قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وثَلاثَتُهم كُلُّهم ضُعَفاءُ. ولَكِنَّ بَعْضَهم أصْلَحُ مِن بَعْضٍ. وقَدْ رَواهُ سُلَيْمانُ بْنُ بِلالٍ، أحَدُ الأثْباتِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَقَفَهُ بَعْضُهم عَلَيْهِ، قالَ الحافِظُ أبُو زُرْعَةَ الرّازِيُّ: وهو أصَحُّ. نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
أقُولُ: أقْوى مِمّا ذُكِرَ في الحُجَّةِ، ما في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ ابْنِ أبِي أوْفى قالَ: «غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ غَزَواتٍ نَأْكُلُ الجَرادَ». وفِيهِما أيْضًا مِن حَدِيثِ جابِرٍ، «إنَّ البَحْرَ ألْقى حُوتًا مَيِّتًا فَأكَلَ مِنهُ الجَيْشُ. فَلَمّا قَدِمُوا قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: كُلُوا رِزْقًا أخْرَجَ اللَّهُ لَكم. أطْعِمُونا مِنهُ إنْ كانَ مَعَكم. فَأتاهُ بَعْضُهم بِشَيْءٍ». وفي البُخارِيِّ عَنْ عُمَرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ وطَعامُهُ﴾ [المائدة: ٩٦] قالَ: صَيْدُهُ ما اصْطِيدَ. وطَعامُهُ ما رُمِيَ بِهِ. وفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: طَعامُهُ مِيتَتُهُ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ «عَنْ أبِي أُمامَةَ وهو صُدَيُّ بْنُ عَجْلانَ قالَ: بَعَثَنِي (p-١٨١٤)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى قَوْمِي أدْعُوهم إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، وأعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَرائِعَ الإسْلامِ، فَأتَيْتُهم. فَبَيْنَما نَحْنُ كَذَلِكَ، إذْ جاءُوا بِقَصْعَةٍ مِن دَمٍ فاجْتَمَعُوا عَلَيْها يَأْكُلُونَها. فَقالُوا: هَلُمَّ، يا صُدَيُّ! فَكُلْ. قالَ قُلْتُ: ويْحَكُمْ، إنَّما أتَيْتُكم مِن عِنْدِ مَن يُحَرِّمُ هَذا عَلَيْكُمْ، فَأقْبَلُوا عَلَيْهِ، قالُوا: وما ذاكَ؟ فَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾ الآيَةَ. ورَواهُ الحافِظُ أبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ. وزادَ بَعْدَ هَذا السِّياقِ قالَ: فَجَعَلْتُ أدْعُوهم إلى الإسْلامِ ويَأْبَوْنَ عَلَيَّ. فَقُلْتُ: ويْحَكُمْ! اسْقُونِي شَرْبَةً مِن ماءٍ فَإنِّي شَدِيدُ العَطَشِ. قالَ: وعَلَيَّ عَباءَتِي. فَقالُوا: لا. ولَكِنْ نَدَعُكَ حَتّى تَمُوتَ عَطَشًا. قالَ: فاغْتَمَمْتُ وضَرَبْتُ بِرَأْسِي في العَباءِ. ونِمْتُ عَلى الرَّمْضاءِ في حَرٍّ شَدِيدٍ. قالَ: فَأتانِي آتٍ في مَنامِي بِقَدَحٍ مِن زُجاجٍ. لَمْ يَرَ النّاسُ أحْسَنَ مِنهُ. وفِيهِ شَرابٌ لَمْ يَرَ النّاسُ ألَذَّ مِنهُ. فَأمْكَنَنِي مِنهُ فَشَرِبْتُهُ. فَلَمّا فَرَغْتُ مِن شَرابِي اسْتَيْقَظْتُ، فَلا، واللَّهِ! ما عَطِشْتُ ولا عَرِبْتُ (عَرِبَ كَفَرِحَ فَسَدَتْ مَعِدَتُهُ. قامُوسٍ) بَعْدَ تِيكَ الشَّرْبَةِ.
ورَواهُ الحاكِمُ في مُسْتَدْرِكِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَمّادٍ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِسَنَدِهِ إلى أبِي أُمامَةَ. وزادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (بَعْدَ تِيكَ الشَّرْبَةِ): فَسَمِعْتُهم يَقُولُونَ: أتاكم رَجُلٌ مِن سُراةِ قَوْمِكم فَلَمْ تُمْجِعُوهُ بِمَذْقَةٍ؟ فَأتَوْنِي بِمَذْقَةٍ فَقُلْتُ: لا حاجَةَ لِي فِيها. إنَّ اللَّهَ أطْعَمَنِي وسَقانِي. وأرَيْتُهم بَطْنِي، فَأسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ». انْتَهى.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ هَذِهِ المُحَرَّماتِ: البَهِيمَةَ الَّتِي تَمُوتُ حَتْفَ أنْفِها. والفَصِيدَ، وهو الدَّمُ في المَباعِرِ، يَشْوُونَها ويَقُولُونَ: لَمْ يُحْرَمْ مَن فُزْدَ لَهُ.
(p-١٨١٥)وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ﴾ [البقرة: ١٧٣] الآيَةَ.
قالَ المَهايِمِيُّ: حُرِّمَ الدَّمُ لِأنَّهُ مُتَعَلِّقُ الرُّوحِ بِلا واسِطَةٍ. فَأشْبَهَ النَّجِسَ بِالذّاتِ، لا يُؤَثِّرُ فِيهِ المُطَهِّرُ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ لِأنَّهُ نَجِسٌ في حَياتِهِ بِصِفاتِهِ الذَّمِيمَةِ وهي -وإنْ زالَتْ بِالمَوْتِ- فَهو مُنَجَّسٌ ولَمْ يَقْبَلِ التَّطْهِيرَ. لِأنَّهُ لَمّا كانَ نَجِسًا حالَ الحَياةِ والمَوْتِ، أشْبَهَ النَّجِسَ بِالذّاتِ، فَكَأنَّهُ زِيدَ تَنْجِيسُهُ بِالمَوْتِ. وإنَّما ذَكَرَ اللَّحْمَ إشارَةً إلى أنَّهُ -وإنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا في الحَياةِ بِالصِّفاتِ المُنَجِّسَةِ لِرُوحِهِ- كانَ مُتَنَجِّسًا بِنَجاسَةِ رُوحِهِ، ثُمَّ بِزَوالِ الرُّوحِ. انْتَهى.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَحْمُ الخِنْـزِيرِ﴾ يَعْنِي إنْسِيَّهُ ووَحْشِيَّهُ، واللَّحْمُ يَعُمُّ جَمِيعَ أجْزائِهِ حَتّى الشَّحْمِ، كَما هو المَفْهُومُ مِن لُغَةِ العَرَبِ ومِنَ العُرْفِ المُطَّرِدِ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيْبِ الأسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ««مَن لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأنَّما صَبَغَ يَدَهُ بِلَحْمِ الخِنْزِيرِ ودَمِهِ»»، فَإذا كانَ هَذا التَّنْفِيرُ لِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ التَّهْدِيدُ والوَعِيدُ الأكِيدُ عَلى أكْلِهِ والتَّغَذِّي بِهِ؟ وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى شُمُولِ اللَّحْمِ لِجَمِيعِ الأجْزاءِ مِنَ الشَّحْمِ وغَيْرِهِ. وفي الصَّحِيحَيْنِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ (p-١٨١٦)والمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ والأصْنامِ: فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أرَأيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ فَإنَّها تُطْلى بِها السُّفُنُ وتُدْهَنُ بِها الجُلُودُ ويَسْتَصْبِحُ بِها النّاسُ؟ فَقالَ: لا؛ هو حَرامٌ»» .
﴿وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أيْ: نُودِيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ، كَما في "الصِّحاحِ" وأصْلُ الإهْلالِ رَفْعُ الصَّوْتِ، وكانَ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ يَذْكُرُونَ أسْماءَ أصْنامِهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ.
وبِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١]
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في الآيَةِ: أيْ: ما ذُبِحَ فَذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، فَهو حَرامٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ أنْ تُذْبَحَ مَخْلُوقاتُهُ عَلى اسْمِهِ العَظِيمِ. فَمَن عَدَلَ بِها عَنْ ذَلِكَ، وذَكَرَ عَلَيْها اسْمَ غَيْرِهِ مِن صَنَمٍ أوْ طاغُوتٍ أوْ وثَنٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن سائِرِ المَخْلُوقاتِ، فَإنَّها حَرامٌ بِالإجْماعِ. وإنَّما اخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، إمّا عَمْدًا أوْ نِسْيانًا، كَما سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ في سُورَةِ الأنْعامِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الجارُودِ بْنِ أبِي سَبْرَةَ قالَ: كانَ رَجُلٌ مِن بَنِي رِياحٍ يُقالُ لَهُ: ابْنُ نائِلٍ. وكانَ شاعِرًا. نافَرَ غالِبًا، جَدَّ الفَرَزْدَقِ بِماءٍ بِظَهْرِ الكُوفَةِ. عَلى أنْ يَعْقِرَ هَذا مِائَةً مِن إبِلِهِ، إذا ورَدَتِ الماءَ. قاما بِسَيْفَيْهِما فَجَعَلا يَكْشِفانِ عَراقِيبَها. قالَ: فَخَرَجَ النّاسُ عَلى الحُمُراتِ والبِغالِ يُرِيدُونَ اللَّحْمَ. وعَلِيٌّ بِالكُوفَةِ. قالَ: فَخَرَجَ عَلِيٌّ. عَلى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ البَيْضاءِ، وهو يُنادِي: يا أيُّها النّاسُ! لا تَأْكُلُوا مِن لُحُومِها. فَإنَّما أُهِلَّ بِها لِغَيْرِ اللَّهِ. هَذا أثَرٌ غَرِيبٌ.
(p-١٨١٧)يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ ما رَواهُ أبُو داوُدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ««نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ مُعاقَرَةِ الأعْرابِ»» . ثُمَّ أسْنَدَ عَنْ عِكْرِمَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهى عَنْ طَعامِ المُتَبارِيَيْنِ أنْ يُؤْكَلَ». أفادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وفِي "القامُوسِ وشَرْحِهِ": وعاقَرَهُ: فاخَرَهُ وكارَمَهُ في عَقْرِ الإبِلِ. ويُقالُ: تَعاقَرا إذا عَقَرا إبِلَهُما، يَتَبارَيانِ بِذَلِكَ، لِيُرى أيُّهُما أعْقَرُ لَها. ومِن ذَلِكَ مُعاقَرَةُ غالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ. أبِي الفَرَزْدَقِ وسُحَيْمِ بْنِ وثِيلٍ الرِّياحِيِّ لَمّا تَعاقَرا بِصَوْأرٍ. فَعَقَرَ سُحَيْمٌ خَمْسًا ثُمَّ بَدا لَهُ. وعَقَرَ غالِبٌ مِائَةً.
وفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: «لا تَأْكُلُوا مِن تَعاقُرِ الأعْرابِ. فَإنِّي لا آمَنُ أنْ يَكُونَ مِمّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ».
قالَ ابْنُ الأثِيرِ: هو عَقْرُهُمُ الإبِلَ، كانَ الرَّجُلانِ يَتَبارَيانِ في الجُودِ والسَّخاءِ. فَيَعْقِرُ هَذا وهَذا. حَتّى يُعْجِزَ أحَدُهُما الآخَرَ. وكانُوا يَفْعَلُونَهُ رِياءً وسُمْعَةً وتَفاخُرًا. ولا يَقْصِدُونَ بِهِ وجْهَ اللَّهِ تَعالى. فَشَبَّهَهُ بِما ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى. انْتَهى.
ورَوى الإمامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ: «لَعَنَ اللَّهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. لَعَنَ اللَّهُ مَن لَعَنَ والِدَيْهِ. لَعَنَ اللَّهُ مَن آوى مُحْدِثًا. لَعَنَ اللَّهُ مَن غَيَّرَ مَنارَ الأرْضِ»» .
ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: (p-١٨١٨)««دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ في ذُبابٍ، ودَخَلَ النّارَ رَجُلٌ في ذُبابٍ. قالُوا: وكَيْفَ ذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟! قالَ: مَرَّ رَجُلانِ عَلى قَوْمٍ لَهم صَنَمٌ لا يَجُوزُهُ أحَدٌ حَتّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا. فَقالُوا لِأحَدِهِما: قَرِّبْ. قالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ أُقَرِّبُ. قالُوا لَهُ: قَرِّبْ ولَوْ ذُبابًا. فَقَرَّبَ ذُبابًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النّارَ. وقالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ. فَقالَ: ما كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. فَضَرَبُوا عُنُقَهُ. فَدَخَلَ الجَنَّةَ»» . وفي هَذِهِ القِصَّةِ تَرْهِيبٌ مِن وُجُوهٍ: مِنها كَوْنُهُ دَخَلَ النّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبابِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِن شَرِّهِمْ. ومِنها مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ صَبَرَ ذَلِكَ عَلى القَتْلِ ولَمْ يُوافِقْهم عَلى طُلْبَتِهِمْ. مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إلّا العَمَلَ الظّاهِرَ. ومِنها أنَّ في هَذا شاهِدًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««الجَنَّةُ أقْرَبُ إلى أحَدِكم مِن شِراكِ نَعْلِهِ والنّارُ مِثْلُ ذَلِكَ»» . كَذا في كِتابِ "التَّوْحِيدِ".
والمُنْخَنِقَةُ وهي الَّتِي تَمُوتُ بِالخَنْقِ إمّا قَصْدًا وإمّا اتِّفاقًا. بِأنْ تَتَخَبَّلَ في وثاقِها فَتَمُوتَ بِهِ. قالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ: هي الَّتِي تَخْتَنِقُ بِحَبْلِ الصّائِدِ أوْ غَيْرِهِ. وبِأيِّ وجْهٍ اخْتَنَقَتْ فَهي حَرامٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَتِ الجاهِلِيَّةُ يَخْنُقُونَ الشّاةَ. حَتّى إذا ماتَتْ أكَلُوها. والمُنْخَنِقَةُ مِن جِنْسِ المَيْتَةِ، لِأنَّها لَمّا ماتَتْ، وما سالَ دَمُها، كانَتْ كالمَيِّتِ حَتْفَ أنْفِهِ. إلّا أنَّها فارَقَتِ المَيْتَةَ بِكَوْنِها تَمُوتُ بِسَبَبِ انْعِصارِ الحَلْقِ بِالخَنْقِ، بِخِلافِ المَيْتَةِ فَإنَّها بِلا سَبَبٍ.
قالَ المَهايِمِيُّ: المُنْخَنِقَةُ، وإنْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْها فَقَدْ عارَضَهُ سَرَيانُ خَباثَةِ الخانِقِ إلَيْها، مَعَ تَنَجُّسِها بِالمَوْتِ: والمَوْقُوذَةُ يَعْنِي المَقْتُولَةُ بِالخَشَبِ. وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الشّاةَ بِالعِصِيِّ. حَتّى إذا ماتَتْ أكَلُوها. وفي "القامُوسِ وشَرْحِهِ" الوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ. وقَذَهُ يَقِذُهُ وقْذًا: ضَرَبَهُ حَتّى اسْتَرْخى وأشْرَفَ عَلى المَوْتِ. وشاةٌ وقِيذٌ ومَوْقُوذَةٌ قُتِلَتْ بِالخَشَبِ. وقالَ أبُو سَعِيدٍ: الوَقْذُ الضَّرْبُ عَلى فَأْسِ القَفا. فَيَصِيرُ هَدَّتُها إلى الدِّماغِ، فَيَذْهَبُ (p-١٨١٩)العَقْلُ. فَيُقالُ: رَجُلٌ مَوْقُوذٌ. وفي الصَّحِيحِ أنَّ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ قالَ: ««قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنِّي أرْمِي بِالمِعْراضِ الصَّيْدَ، فَأُصِيبَ. قالَ: إذا رَمَيْتَ بِالمِعْراضِ فَخَرَقَ فَكُلْهُ. وإنْ أصابَ بِعَرْضِهِ فَإنَّما هو وقِيذٌ. فَلا تَأْكُلْهُ»» .
والمُتَرَدِّيَةُ هي السّاقِطَةُ مِن جَبَلٍ أوْ في بِئْرٍ، فَتَمُوتُ. والتَّرَدِّي السُّقُوطُ فَهي مِهْواةٍ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ في مَعْنى المَيْتَةِ. فَإنَّها ماتَتْ ولَمْ يَسِلْ دَمُها والنَّطِيحَةُ هي الَّتِي نَطَحَتْها أُخْرى فَماتَتْ. فَهي حَرامٌ. وإنْ جَرَحَها القَرْنُ وخَرَجَ مِنها الدَّمُ ولَوْ مِن مَذْبَحِها. وإنْ أرْسَلَ إنْسانٌ النّاطِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الصَّيْدِ المَشْرُوعِ، لَمْ تَخْلُ مِن خَباثَةٍ.
فائِدَةٌ:
قالَ التَّبْرِيزِيُّ في "تَهْذِيبِهِ" وابْنُ قُتَيْبَةَ في "أدَبِ الكاتِبِ": ما كانَ عَلى فَعِيلٍ، نَعْتًا لِلْمُؤَنَّثِ وهو في تَأْوِيلِ مَفْعُولٍ، كانَ بِغَيْرِ هاءٍ. نَحْوَ: كَفٌّ خَضِيبٌ. ومِلْحِفَةٌ غَسِيلٌ. ورُبَّما جاءَتْ بِالهاءِ يَذْهَبُ بِها مَذْهَبَ الأسْماءِ. نَحْوَ النَّطِيحَةِ والذَّبِيحَةِ والفَرِيسَةِ وأكِيلَةِ السَّبُعِ... وقالُوا: مِلْحَفَةٌ جَدِيدَةٌ. لِأنَّها في تَأْوِيلِ مَجْدُودَةٍ أيْ: مَقْطُوعَةٍ. وإذا لَمْ يَجُزْ فِيهِ مَفْعُولٌ فَهو بِالهاءِ. نَحْوَ مَرِيضَةٍ وظَرِيفَةٍ وكَبِيرَةٍ وصَغِيرَةٍ. وجاءَتْ أشْياءُ شاذَّةٌ. فَقالُوا: رِيحٌ خَرِيقٌ وناقَةٌ سَدِيسٌ وكَتِيبَةٌ خَصِيفٌ.
وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَدْ تَأْتِي فَعِيلَةُ بِالهاءِ وهي في تَأْوِيلِ مَفْعُولٍ بِها. تُخَرَّجُ مَخْرَجَ الأسْماءِ ولا يُذْهَبُ بِها مَذْهَبَ النُّعُوتِ. نَحْوَ النَّطِيحَةِ والذَّبِيحَةِ والفَرِيسَةِ وأكِيلَةِ السَّبُعِ، ومَرَرْتُ بِقَتِيلَةِ بَنِي فُلانٍ.
وقالَ الجَوْهَرِيُّ: إنَّما جاءَتِ النَّطِيحَةُ بِالهاءِ، لِغَلَبَةِ الِاسْمِ عَلَيْها. وكَذَلِكَ الفَرِيسَةُ والأكِيلَةُ والرَّمِيَّةُ. لِأنَّهُ لَيْسَ هو (نَطْحَتْها، فَهي مَنطُوحَةٌ) وإنَّما هو الشَّيْءُ في نَفْسِهِ مِمّا يُنْطَحُ والشَّيْءُ مِمّا يُفْرَسُ ويُؤْكَلُ.
(p-١٨٢٠)وما أكَلَ السَّبُعُ أيْ: ما عَدا عَلَيْها فَأكَلَ بَعْضَها. قالَ قَتادَةُ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ، إذا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ أوْ أكَلَ مِنهُ، أكَلُوا ما بَقِيَ مِنهُ. فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعالى.
قالَ المَهايِمِيُّ: هُوَ، وإنْ أشْبَهَ الصَّيْدَ، لَكِنَّهُ لَمّا أكَلَهُ قَصَدَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، فَسَرَتْ خَباثَتُهُ فِيها. انْتَهى.
و(السَّبُعُ) بِضَمِّ الباءِ وفَتْحِها وسُكُونِها: المُفْتَرِسُ مِنَ الحَيَوانِ. مِثْلَ الأسَدِ والذِّئْبِ والنَّمِرِ والفَهْدِ. وما أشْبَهَها مِمّا لَهُ نابٌ، ويَعْدُو عَلى النّاسِ والدَّوابِّ فَيَفْتَرِسُها. وسُمِّيَ ذَلِكَ لِتَمامِ قُوَّتِهِ. وذَلِكَ أنَّ (السَّبُعَ) مِنَ الأعْدادِ التّامَّةِ، وفي الآيَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وما أكَلَ السَّبُعُ بَعْضَهُ. كَما ذَكَرْنا. لِأنَّ ما أكَلَهُ فَقَدْ فُقِدَ، فَلا حُكْمَ لَهُ، إنَّما الحُكْمُ لِلْباقِي مِنهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ أيْ: ما أدْرَكْتُمْ ذَكاتَهُ مِن هَذِهِ المَذْكُوراتِ: المُنْخَنِقَةِ فَما بَعْدَها. بِحَيْثُ يُنْسَبُ مَوْتُها إلى الذَّبْحِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ المُطَهِّرُ، ولا يُؤَثِّرُ فِيهِ السّابِقُ. لِأنَّ اللّاحِقَ يَنْسَخُهُ. بَلْ هو واقِعٌ قَبْلَ تَأْثِيرِ السّابِقِ. إذْ لا يَتِمُّ التَّأْثِيرُ إلّا بِالمَوْتِ. أفادَهُ المَهايِمِيُّ.
قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أيْ: إلّا ما ذَبَحْتُمْ مِن هَؤُلاءِ وفِيهِ رُوحٌ، فَكُلُوهُ فَهو ذَكِيٌّ. وكَذا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والحَسَنِ والسُّدِّيِّ. ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ، في الآيَةِ قالَ: إنْ مَصَعَتْ بِذَنَبِها، أوْ رَكَضَتْ بِرِجْلِها، أوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِها، فَكُلْ. ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ أيْضًا قالَ: إذا أدْرَكْتَ ذَكاةَ المَوْقُوذَةِ والمُتَرَدِّيَةِ والنَّطِيحَةِ، وهي تُحَرِّكُ يَدًا أوْ رِجْلًا، فَكُلْهُ. وهَكَذا رُوِيَ عَنْ طاوُسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ وعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ والضَّحّاكِ وغَيْرِ واحِدٍ؛ أنَّ المُذَكّاةَ مَتى تَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ تَدُلُّ عَلى بَقاءِ الحَياةِ فِيها بَعْدَ الذَّبْحِ، فَهي حَلالٌ. وهَذا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ. أفادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وفِي "المُوَطَّأِ": سُئِلَ مالِكٌ عَنْ شاةٍ تَرَدَّتْ فَتَكَسَّرَتْ، فَأدْرَكَها صاحِبُها فَذَبَحَها، (p-١٨٢١)فَسالَ الدَّمُ مِنها ولَمْ تَتَحَرَّكْ؟ فَقالَ مالِكٌ: إذا كانَ ذَبَحَها ونَفَسُها يَجْرِي وهي تَطْرِفُ، فَلْيَأْكُلْها.
والتَّذْكِيَةُ الذَّبْحُ، كالذَّكا والذَّكاةِ. قالَ الرّاغِبُ: حَقِيقَةُ التَّذْكِيَةِ إخْراجُ الحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ. ولَكِنْ خُصَّ في الشَّرْعِ بِإبْطالِ الحَياةِ عَلى وجْهٍ دُونَ وجْهٍ. أيْ: وهو قَطْعُ الحُلْقُومِ والمَرِيءِ. بِمُنْهِرٍ لِلدَّمِ: مِن سِكِّينٍ وسَيْفٍ وزُجاجٍ وحَجَرٍ وقَصَبٍ، لَهُ حَدٌّ يَقْطَعُ كَما السِّلاحِ المُحَدَّدِ. ما لَمْ يَكُنْ سِنًّا أوْ ظُفْرًا. لِحَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما قالَ: ««قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنّا لاقُو العَدُوِّ غَدًا. ولَيْسَ مَعَنا مُدًى. أفَنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ فَقالَ: ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ لَيْسَ السَّنَّ والظُّفُرَ، وسَأُحَدِّثُكم عَنْ ذَلِكَ: أمّا السِّنُّ فَعَظْمٌ. وأمّا الظُّفُرُ فَمُدى الحَبَشَةِ»» .
وأمّا حَدِيثُ أبِي العُشَراءِ عَنْ أبِيهِ: ««قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أما تَكُونُ الذَّكاةُ إلّا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ؟ قالَ: لَوْ طَعَنْتَ في فَخِذِها لَأجْزَأكَ»» . أخْرَجَهُ أحْمَدُ وأهْلُ السُّنَنِ - فَفي إسْنادِهِ مَجْهُولُونَ.
(p-١٨٢٢)وأبُو العُشَراءِ لا يُعْرَفُ مَن أبَوْهُ. ولَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ. فَهو مَجْهُولٌ. كَذا في "الرَّوْضَةِ".
وقالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في "التَّلْخِيصِ": أبُو العُشَراءِ مُخْتَلَفٌ في اسْمِهِ وفي اسْمِ أبِيهِ. وقَدْ تَفَرَّدَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِالرِّوايَةِ عَنْهُ عَلى الصَّحِيحِ. ولا يُعْرَفُ حالُهُ.
وقالَ في "التَّقْرِيبِ": أعْرابِيٌّ مَجْهُولٌ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ، بَعْدَ سَوْقِهِ لِهَذا الحَدِيثِ: قالَ أحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ: قالَ يَزِيدُ بْنُ هارُونَ: هَذا في الضَّرُورَةِ. وفي البابِ عَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. انْتَهى.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا الحَدِيثُ صَحِيحٌ. ولَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى ما لا يُقْدَرُ عَلى ذَبْحِهِ في الحَلْقِ واللَّبَّةِ. انْتَهى.
وتَصْحِيحُهُ لَهُ، مَعَ جَهالَةِ راوِيهِ المَذْكُورِ، فِيهِ نَظَرٌ. فَإنَّ حَدَّ الصَّحِيحِ كَما في "التَّقْرِيبِ" ما اتَّصَلَ إسْنادُهُ بِالعُدُولِ الضّابِطِينَ مِن غَيْرِ شُذُوذٍ ولا عِلَّةٍ. قالَ (شارِحُهُ السُّيُوطِيُّ): فَخَرَجَ بِقَيْدِ (العُدُولِ) ما نَقَلَهُ مَجْهُولٌ عَيْنًا أوْ حالًا. أيْ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ ضَعِيفٌ.
وفِي "النُّخْبَةِ" أنَّ خَبَرَ الآحادِ مَقْبُولٌ ومَرْدُودٌ، والثّانِي إمّا لِسَقْطٍ مِن إسْنادٍ أوْ طَعْنٍ في راوٍ. والطَّعْنُ إمّا لِكَذِبٍ أوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ. إلى أنْ قالَ: أوْ جَهالَتِهِ بِأنْ لا يُعْرَفَ فِيهِ تَعْدِيلٌ ولا تَجْرِيحٌ مُعَيَّنٌ. فَتَبَصَّرْ.
وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَتْ لَهم حِجارَةٌ مَنصُوبَةٌ حَوْلَ البَيْتِ. يَذْبَحُونَ عَلَيْها ويَشْرَحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْها. يُعَظِّمُونَها بِذَلِكَ ويَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَيْها. تُسَمّى الأنْصابُ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَنَهى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ هَذا الصَّنِيعِ وحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أكْلَ هَذِهِ الذَّبائِحِ، حَتّى ولَوْ كانَ يُذْكَرُ عَلَيْها اسْمُ اللَّهِ. لِما في الذَّبْحِ عِنْدَ النُّصُبِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ. انْتَهى.
وقَدْ ورَدَ النَّهْيُ عَنِ الذَّبْحِ لِلَّهِ بِمَكانٍ يُذْبَحُ فِيهِ لِغَيْرِهِ تَعالى. فَرَوى أبُو داوُدَ بِإسْنادٍ (p-١٨٢٣)عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، عَنْ ثابِتِ بْنِ الضَّحّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ««نَذَرَ رَجُلٌ أنْ يَنْحَرَ إبِلًا بِبُوانَةَ. فَسَألَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: هَلْ كانَ فِيها وثَنٌ مِن أوْثانِ الجاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قالُوا: لا. قالَ: فَهَلْ كانَ فِيها عِيدٌ مِن أعْيادِهِمْ؟ قالُوا لا. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أوْفِ بِنَذْرِكَ. فَإنَّهُ لا وفاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ. ولا فِيما لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ»» .
فَفِيهِ: أنَّ المَعْصِيَةَ قَدْ تُؤَثِّرُ في الأرْضِ. وكَذَلِكَ الطّاعَةُ. وفِيهِ المَنعُ مِنَ النَّذْرِ إذا كانَ فِيهِ وثَنٌ مِن أوْثانِ الجاهِلِيَّةِ، ولَوْ بَعْدَ زَوالِهِ. أوْ عِيدٌ مِن أعْيادِهِمْ، ولَوْ بَعْدَ زَوالِهِ أيْضًا. وإنَّهُ لا يَجُوزُ الوَفاءُ بِما نُذِرَ في تِلْكَ البُقْعَةِ لِأنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وفِيهِ الحَذَرُ مِن مُشابَهَةِ المُشْرِكِينَ في أعْيادِهِمْ، ولَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ. كَذا في "كِتابِ التَّوْحِيدِ".
لَطِيفَةٌ:
(النُّصُبُ) بِضَمَّتَيْنِ، وضَمٍّ فَسُكُونٍ، إمّا جَمْعٌ، واحِدُهُ نِصابٌ. كَكِتابٍ وكُتُبٍ. أوْ مُفْرَدٌ جَمْعُهُ أنْصابٌ كَعُنُقٍ وأعْناقٍ. وقُفْلٍ وأقْفالٍ. وفي "القامُوسِ وشَرْحِهِ": النُّصُبُ: كُلُّ ما نُصِبَ وجُعِلَ عَلَمًا. وكُلُّ ما نُصِبَ فَعُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى. والأنْصابُ حِجارَةٌ كانَتْ حَوْلَ الكَعْبَةِ تُنْصَبُ فَيُهَلُّ عَلَيْها ويُذْبَحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى. وقالَ القُتَيْبِيُّ: النُّصُبُ صَنَمٌ أوْ حَجَرٌ. وكانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَنْصِبُهُ تَذْبَحُ عِنْدَهُ، فَيَحْمَرُّ بِالدَّمِ. ومِنهُ حَدِيثُ أبِي ذَرٍّ في إسْلامِهِ قالَ: (p-١٨٢٤)فَخَرَجْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ ثُمَّ ارْتَفَعْتُ كَأنِّي نُصُبٌ أحْمَرُ -يُرِيدُ أنَّهم ضَرَبُوهُ حَتّى أدْمَوْهُ- فَصارَ كالنُّصُبِ المُحْمَرِّ بِدَمِ الذَّبائِحِ. انْتَهى.
قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كانَتِ النُّصُبُ ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ نُصُبًا. وكانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَها ويَنْضَحُونَ ما أقْبَلَ مِنها إلى البَيْتِ، بِدِماءِ تِلْكَ الذَّبائِحِ. ويَشْرَحُونَ اللَّحْمَ ويَضَعُونَهُ عَلى النُّصُبِ.
﴿وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾ أيْ: وحَرَّمَ عَلَيْكُمْ، أيُّها المُؤْمِنُونَ، الِاسْتِقْسامَ بِالأزْلامِ، أيْ: طَلَبَ القَسَمِ والحُكْمِ بِها. والأزْلامُ جَمْعُ زَلَمٍ (مُحَرَّكَةً). و(كَصَرَدٍ) وهِيَ: قِداحٌ ثَلاثَةٌ كانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ في الجاهِلِيَّةِ. مَكْتُوبٌ عَلى أحَدِها: (افْعَلْ) وعَلى الآخَرِ (لا تَفْعَلْ) والثّالِثُ غُفْلٌ، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وقَدْ زُلِّمَتْ وسُوِّيَتْ ووُضِعَتْ في الكَعْبَةِ. يَقُومُ بِها سَدَنَةُ البَيْتِ، فَإذا أرادَ رَجُلٌ سَفَرًا أوْ نِكاحًا. أتى السّادِنَ وقالَ: أخْرِجْ لِي زَلَمًا. فَيُجِيلُها ثُمَّ يُخْرِجُ زَلَمًا مِنها. فَإذا خَرَجَ قَدَحُ الأمْرِ، مَضى عَلى ما عَزَمَ عَلَيْهِ. أوِ النَّهْيِ قَعَدَ عَمّا أرادَهُ. أوِ الفارِغُ أعادَ.
قالَ الزُّهْرِيُّ (فِي مَعْنى الآيَةِ): أيْ: تَطْلُبُوا مِن جِهَةِ الأزْلامِ ما قُسِمَ لَكم مِن أحَدِ الأمْرَيْنِ. فَمَعْنى الِاسْتِقْسامِ هو طَلَبُ مَعْرِفَةِ ما قُسِمَ لَهُ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، مِمّا لَمْ يُقْسَمُ لَهُ بِواسِطَةِ ضَرْبِ القِداحِ. وذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ؛ أنَّ أعْظَمَ أصْنامِ قُرَيْشٍ، صَنَمٌ كانَ يُقالُ لَهُ هُبَلُ. مَنصُوبٌ عَلى بِئْرٍ داخِلَ الكَعْبَةِ، فِيها تُوضَعُ الهَدايا، وأمْوالُ الكَعْبَةِ فِيهِ. وكانَ عِنْدَهُ سَبْعَةُ أزْلامٍ مَكْتُوبٌ فِيها ما يَتَحاكَمُونَ فِيهِ مِمّا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ. فَما خَرَجَ لَهم مِنها رَجَعُوا إلَيْهِ ولَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ. وفي "اللُّبابِ": كانَتْ أزْلامُهم سَبْعَ قِداحٍ مُسْتَوِيَةً مَكْتُوبٌ عَلى واحِدٍ مِنها: (أمَرَنِي رَبِّي) وعَلى واحِدٍ: (نَهانِي) وعَلى واحِدٍ: (مِنكُمْ) وعَلى واحِدٍ: (مِن غَيْرِكُمْ) وعَلى واحِدٍ: (مُلْصَقٌ) وعَلى واحِدٍ: (العَقْلُ) وعَلى واحِدٍ غُفْلٌ. أيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وكانَتِ العَرَبُ، في الجاهِلِيَّةِ، إذا أرادُوا سَفَرًا أوْ تِجارَةً أوْ نِكاحًا، أوِ اخْتَلَفُوا في نَسَبٍ أوْ أمْرِ قَتِيلٍ، أوْ تَحَمُّلِ عَقْلٍ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ العِظامِ - جاءُوا إلى هُبَلَ. وكانَتْ أعْظَمَ صَنَمٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَّةَ. وجاءُوا بِمِائَةِ (p-١٨٢٥)دِرْهَمٍ. وأعْطَوْها صاحِبَ القِداحِ حَتّى يُجِيلَها لَهم. فَإنْ خَرَجَ: (أمَرَنِي رَبِّي) فَعَلُوا ذَلِكَ الأمْرَ. وإنْ خَرَجَ: (نَهانِي رَبِّي) لَمْ يَفْعَلُوهُ. وإنْ أجالُوا عَلى نَسَبٍ، فَإنْ خَرَجَ: (مِنكُمْ) كانَ وسَطًا مِنهم. وإنْ خَرَجَ: (مِن غَيْرِكُمْ) كانَ حِلْفًا فِيهِمْ. وإنْ خَرَجَ: (مُلْصَقٌ) كانَ عَلى حالِهِ. وإنِ اخْتَلَفُوا في العَقْلِ. وهو الدَّيْنُ، مَن خَرَجَ عَلَيْهِ قَدَحُ العَقْلِ تَحَمَّلَهُ. وإنْ خَرَجَ غُفْلٌ أجالُوا ثانِيًا. حَتّى يَخْرُجَ المَكْتُوبُ عَلَيْهِ. فَنَهاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وحَرَّمَهُ وسَمّاهُ فِسْقًا، كَما يَأْتِي. وثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا دَخَلَ الكَعْبَةَ، وجَدَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ مُصَوَّرَيْنِ فِيها. وفي أيْدِيهِما الأزْلامُ. فَقالَ: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أنَّهُما لَمْ يَسْتَقْسِما بِهِما أبَدًا»» . وفي الصَّحِيحِ أنَّ سُراقَةَ بْنَ مالِكِ بْنِ جَعْشَمَ، لَمّا خَرَجَ في طَلَبِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ، وهُما ذاهِبانِ إلى المَدِينَةِ. مُهاجِرَيْنِ، قالَ: فاسْتَقْسَمْتُ بِالأزْلامِ: هَلْ أضُرُّهم أمْ لا؟ فَخَرَجَ الَّذِي أكْرَهُ: لا تَضُرُّهم. قالَ: فَعَصَيْتُ الأزْلامَ واتَّبَعْتُهم. ثُمَّ اسْتَقْسَمَ بِها ثانِيَةً وثالِثَةً. كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ: لا تَضُرُّهم. وكانَ كَذَلِكَ. وكانَ سُراقَةُ لَمْ يُسْلِمْ إذْ ذاكَ. ثُمَّ أسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
ورَوى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لَنْ يَلِجَ الدَّرَجاتِ مَن تَكَهَّنَ أوِ اسْتَقْسَمَ أوْ رَجَعَ مِن سَفَرٍ طائِرًا»» .
﴿ذَلِكم فِسْقٌ﴾ أيْ: خُرُوجٌ عَنِ الأخْذِ بِالطَّرِيقِ المَشْرُوعِ. والإشارَةُ إلى الِاسْتِقْسامِ. أوْ إلى تَناوُلِ ما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ. لِأنَّ المَعْنى: حُرِّمَ عَلَيْكم تَناوُلُ المَيْتَةِ وكَذا وكَذا. فَإنْ قُلْتَ: لِمَ كانَ اسْتِقْسامُ المُسافِرِ وغَيْرِهِ بِالأزْلامِ، لِتَعَرُّفِ الحالِ - فِسْقًا؟ قُلْتُ: لِأنَّهُ دُخُولٌ في عِلْمِ الغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ عَلّامُ الغُيُوبِ. (p-١٨٢٦)وقالَ: قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ.
واعْتِقادُ أنَّ إلَيْهِ طَرِيقًا وإلى اسْتِنْباطِهِ. وقَوْلُهُ: أمَرَنِي رَبِّي ونَهانِي رَبِّي - افْتِراءٌ عَلى اللَّهِ. وما يَدْرِيهِ أنَّهُ أمَرَهُ أوْ نَهاهُ؟ والكَهَنَةُ والمُنَجِّمُونَ بِهَذِهِ المَثابَةِ. وإنْ كانَ أرادَ بِالرَّبِّ الصَّنَمَ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّهم كانُوا يُجِيلُونَها عِنْدَ أصْنامِهِمْ - فَأمْرُهُ ظاهِرٌ. كَذا في الكَشّافِ.
تَنْبِيهٌ:
فِي "الإكْلِيلِ": اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى تَحْرِيمِ القِمارِ والتَّنْجِيمِ والرَّمْلِ وكُلِّ ما شاكَلَ ذَلِكَ. وعَدّاهُ بَعْضُهم إلى مَنعِ القُرْعَةِ في الأحْكامِ، وهو مَرْدُودٌ. انْتَهى. أيْ: لِتُبايِنِ القَصْدِ فِيهِما. فَإنَّ القُرْعَةَ في قِسْمَةِ الغَنائِمِ وإخْراجِ النِّساءِ ونَحْوِها، لِتَطِيبَ نُفُوسُهم والبَراءَةِ مِنَ التُّهْمَةِ في إيثارِ البَعْضِ. ولَوِ اصْطَلَحُوا عَلى ذَلِكَ جازَ مِن غَيْرِ قُرْعَةٍ. كَما "فِي العِنايَةِ".
قالَ الحاكِمُ: وتَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ التَّمَسُّكِ بِالفَأْلِ والزَّجْرِ والتَّطَيُّرِ والنُّجُومِ. فَأمّا التَّفاؤُلُ بِالخَيْرِ فَمُباحٌ. قالَ الأصَمُّ: ومِن هَذا قَوْلُ المُنَجِّمِ: إذا طَلَعَ نَجْمُ كَذا فاخْرُجْ، وإنْ لَمْ يَطْلُعْ فَلا تَخْرُجْ.
قالَ الرّاضِي بِاللَّهِ: ومَن عَمِلَ بِالأيّامِ في السَّعْدِ والنَّحْسِ، مُعْتَقِدًا أنَّ لَها تَأْثِيرًا، كَفَرَ. وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أثِمَ. وقَدْ رَوى أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ عَنْ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ أبِيهِ، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ««إنَّ العِيافَةَ والطَّرْقَ والطِّيرَةَ مِنَ الجِبْتِ»» .
قالَ عَوْفٌ أحَدُ رُواتِهِ: العِيافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، والطَّرْقُ الخَطُّ يُخَطُّ بِالأرْضِ. وفي "القامُوسِ" عِفْتُ الطَّيْرَ عِيافَةً: زَجَرْتَها. وهو أنْ تَعْتَبِرَ بِأسْمائِها ومَساقِطِها، فَتَتَسَعَّدَ أوْ تَتَتَشَأَّمَ، وهو مِن عادَةِ العَرَبِ كَثِيرًا.
(p-١٨٢٧)وقالَ أبُو زَيْدٍ: الطَّرْقُ أنْ يَخُطَّ الرَّجُلُ في الأرْضِ بِإصْبَعَيْنِ ثُمَّ بِإصْبَعٍ.
وقالَ ابْنُ الأثِيرِ: الطَّرْقُ الضَّرْبُ بِالحَصى الَّذِي تَفْعَلُهُ النِّساءُ. وقِيلَ: هو الخَطُّ بِالرَّمْلِ. والجِبْتُ: كُلُّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى. وقَدْ رَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، عَنْ بَعْضِ أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««مَن أتى عَرّافًا فَسَألَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أرْبَعِينَ يَوْمًا»» .
ورَوى الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ والحاكِمُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««مَن أتى عَرّافًا أوْ كاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ»» . وعَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا: ««لَيْسَ مِنّا مَن تَطَيَّرَ أوْ تُطِيَّرَ لَهُ، أوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أوْ سَحَرَ أوْ سُحِرَ لَهُ. ومَن أتى كاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ»» . رَواهُ البَزّارُ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ. ورَواهُ الطَّبَرانِيُّ في "الأوْسَطِ" بِإسْنادٍ حَسَنٍ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ. دُونَ قَوْلِهِ: ومَن أتى... إلَخْ.
قالَ البَغَوِيُّ: العَرّافُ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ بِمُقَدِّماتٍ يَسْتَدِلُّ بِها عَلى المَسْرُوقِ ومَكانِ الضّالَّةِ ونَحْوِ ذَلِكَ. وقِيلَ: هو الكاهِنُ. والكاهِنُ هو الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ المُغَيَّباتِ في المُسْتَقْبَلِ. وقِيلَ: الَّذِي يُخْبِرُ عَمّا في الضَّمِيرِ. وقالَ أبُو العَبّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ: العَرّافُ اسْمٌ لِلْكاهِنِ والمُنَجِّمِ والرَّمّالِ ونَحْوِهِمْ، مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ في مَعْرِفَةِ الأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ (فِي قَوْمٍ يَكْتُبُونَ أبا جادٍ ويَنْظُرُونَ في النُّجُومِ): ما أرى مَن فَعَلَ ذَلِكَ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِن خَلاقٍ. وفي الأحادِيثِ السّابِقَةِ مِنَ التَّرْهِيبِ ما فِيها مِنَ التَّصْرِيحِ بِأنَّهُ لا يَجْتَمِعُ تَصْدِيقُ الكاهِنِ مَعَ (p-١٨٢٨)الإيمانِ بِالقُرْآنِ، والتَّصْرِيحُ بِأنَّهُ كُفْرٌ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. ««الطِّيرَةُ شِرْكٌ. الشِّرْكُ الطِّيرَةُ. ما مَنّا إلّا... ولَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ»» . رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ. وجَعَلَ آخِرَهَ مِن قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
ولِأحْمَدَ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو: «مَن رَدَّتْهُ الطِّيرَةُ عَنْ حاجَتِهِ فَقَدْ أشْرَكَ. قالُوا: فَما كَفّارَةُ ذَلِكَ؟ قالَ: أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ! لا خَيْرَ إلّا خَيْرُكَ، ولا طَيْرَ إلّا طَيْرُكَ، ولا إلَهَ غَيْرُكَ». وعَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لا عَدْوى ولا طِيرَةَ ويُعْجِبُنِي الفَأْلُ. قالُوا: وما الفَأْلُ؟ قالَ: الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»» . رَواهُ الشَّيْخانِ.
ولِأبِي داوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ: «ذُكِرَتِ الطِّيرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: «أحْسَنُها الفَأْلُ ولا تَرُدُّ مُسْلِمًا. فَإذا رَأى أحَدُكم ما يَكْرَهُ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ! لا يَأْتِي بِالحَسَناتِ إلّا أنْتَ. ولا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلّا أنْتَ. ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِكَ»» .
فائِدَةٌ:
قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ أمَرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ، إذا تَرَدَّدُوا في أُمُورِهِمْ، أنْ يَسْتَخِيرُوهُ، بِأنْ يَعْبُدُوهُ ثُمَّ يَسْألُوهُ الخِيَرَةَ في الأمْرِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ. كَما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والبُخارِيُّ (p-١٨٢٩)وأهْلُ السُّنَنِ مِن طُرُقٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنا الِاسْتِخارَةَ في الأُمُورِ، كَما السُّورَةِ مِنَ القُرْآنِ: ويَقُولُ: «إذا هَمَّ أحَدُكم بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِن غَيْرِ الفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ! إنِّي أسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وأسْألُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ. فَإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولا أعْلَمُ، وأنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ. اللَّهُمَّ! إنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا الأمْرَ (ويُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ) خَيْرٌ لِي في دِينِي ودُنْيايَ ومَعاشِي وعاقِبَةِ أمْرِي (أوْ قالَ: عاجِلِ أمْرِي) وآجِلِهِ فاقْدُرْهُ لِي، ويَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بارِكْ لِي فِيهِ. وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ شَرٌّ لِي في دِينِي ودُنْيايَ، ومَعاشِي، وعاقِبَةِ أمْرِي، فاصْرِفْنِي عَنْهُ واصْرِفْهُ عَنِّي، واقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ»» . هَذا لَفْظُ الإمامِ أحْمَدَ.
﴿اليَوْمَ يَئِسَ﴾ أيْ: قَنِطَ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ رَوى عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، يَعْنِي: يَئِسُوا أنْ يُراجِعُوا دِينَهم. وكَذا رُوِيَ عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ والسُّدِّيِّ ومُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ. وعَلى هَذا المَعْنى يَرِدُ الحَدِيثُ الثّابِتُ في الصَّحِيحِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ ولَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»» . نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وعَلَيْهِ فَ (مِن) تَعْلِيلِيَّةٌ. أيْ: يَئِسُوا مِن مُراجَعَةِ دِينِهِمْ لِأجْلِ دِينِكُمُ الَّذِي ضَمَّ إلَيْهِ جُمْهُورَ الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ مِن أدْناها إلى أقْصاها. ودَخَلُوا فِيهِ أفْواجًا. ولِلزَّمَخْشَرِيِّ تَأْوِيلٌ بَدِيعٌ، تابَعَهُ عَلَيْهِ مَن بَعْدَهُ، ونَحْنُ نَسُوقُهُ أيْضًا. قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: اليَوْمَ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ. وإنَّما أُرِيدَ بِهِ الزَّمانُ الحاضِرُ، وما يَتَّصِلُ بِهِ ويُدانِيهِ مِنَ الأزْمِنَةِ الماضِيَةِ والآتِيَةِ. كَقَوْلِكَ: كُنْتَ بِالأمْسِ شابًّا وأنْتَ اليَوْمَ أشْيَبُ. فَلا تُرِيدُ (بِالأمْسِ) اليَوْمَ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ ولا (بِاليَوْمِ) يَوْمَكَ. وقِيلَ: أُرِيدُ يَوْمُ نُزُولِها. وقَدْ نَزَلَتْ يَوْمَ الجُمْعَةِ، وكانَ يَوْمَ عَرَفَةَ، بَعْدَ العَصْرِ في حَجَّةِ الوَداعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: يَئِسَ. إلَخْ. أيْ: يَئِسُوا مِنهُ أنْ يُبْطِلُوهُ وأنْ تَرْجِعُوا مُحَلِّلِينَ لِهَذِهِ الخَبائِثِ، بَعْدَ ما حُرِّمَتْ عَلَيْكم. وقِيلَ: (p-١٨٣٠)يَئِسُوا مِن دِينِكم أنْ يَغْلِبُوهُ. لِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ وفى بِوَعْدِهِ مِن إظْهارِهِ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ.
﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ بَعْدَ إظْهارِ الدِّينِ، وزَوالِ الخَوْفِ مِنَ الكُفّارِ، وانْقِلابِهِمْ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ، بَعْدَما كانُوا غالِبِينَ: ﴿واخْشَوْنِ﴾ وأخْلِصُوا لِيَ الخَشْيَةَ. انْتَهى كَلامُهُ.
وأوْضَحَ الوَجْهَ الأوَّلَ، الرّازِيُّ فَقالَ: لَيْسَ المُرادُ بِاليَوْمِ هو ذَلِكَ اليَوْمَ بِعَيْنِهِ، حَتّى يُقالَ: إنَّهم ما يَئِسُوا قَبْلَهُ بِيَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ، وإنَّما هو كَلامٌ خارِجٌ عَلى عادَةِ أهْلِ اللِّسانِ مَعْناهُ: لا حاجَةَ بِكُمُ الآنَ إلى مُداهَنَةِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ، لِأنَّكُمُ الآنَ صِرْتُمْ حَيْثُ لا يَطْمَعُ أحَدٌ مِن أعْدائِكم في تَوْهِينِ أمْرِكم.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أكْبَرَ نِعَمِهِ وأعْظَمَ مِنَنِهِ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ وهُوَ: إكْمالُهُ لَهم دِينَهُمْ، فَلا يَحْتاجُونَ إلى دِينٍ غَيْرِهِ، ولا إلى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ. ولِهَذا جَعَلَهُ تَعالى خاتَمَ الأنْبِياءِ، وبَعَثَهُ إلى الإنْسِ والجِنِّ، فَلا حَلالَ إلّا ما أحَلَّهُ، ولا حَرامَ إلّا ما حَرَّمَهُ، ولا دِينَ إلّا ما شَرَعَهُ. فَلَمّا أكْمَلَ لَهُمُ الدِّينَ تَمَّتْ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةُ. ولِهَذا قالَ: اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم يَعْنِي أحْكامَهُ وفَرائِضَهُ، فَلا زِيادَةَ بَعْدَهُ، ولَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ حَلالٌ ولا حَرامٌ. هَذا ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقَتادَةُ: مَعْنى (الإكْمالِ) أنَّهُ لَمْ يَحُجَّ مَعَهم مُشْرِكٌ. وخِلالَ المَوْسِمِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولِلْمُسْلِمِينَ. وقِيلَ: مَعْناهُ كِفايَتُهم أمْرَ العَدُوِّ، وجَعَلَ اليَدَ العُلْيا لَهُمْ، كَما تَقُولُ المُلُوكُ: اليَوْمَ كَمُلَ لَنا المُلْكُ وكَمُلَ لَنا ما نُرِيدُ، إذا كَفُّوا مَن يُنازِعُهم. وبِما ذَكَرْنا أوَّلًا - مِن أنَّ المُرادَ بِالإكْمالِ عَدَمُ الزِّيادَةِ - يَنْدَفِعُ ما يُتَوَهَّمُ مِن ثُبُوتِ النَّقْصِ أوَّلًا. ولِذا قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ (فِي الآيَةِ): اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم شَرائِعَ الإسْلامِ عَلى غَيْرِ نُقْصانٍ كانَ قَبْلَ هَذا الوَقْتِ. وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ يَتَعَبَّدُ خَلْقَهُ بِالشَّيْءِ في وقْتٍ ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ في وقْتٍ آخَرَ. فَيَكُونُ الوَقْتُ الأوَّلُ تامًّا في وقْتِهِ. وكَذَلِكَ الوَقْتُ الثّانِي تامًّا في وقْتِهِ. فَهو كَما يَقُولُ القائِلُ: عِنْدِي عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ العِشْرِينَ أكْمَلُ مِنها. (p-١٨٣١)والشَّرائِعُ الَّتِي تَعَبَّدَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِها عِبادَهُ، في الأوْقاتِ المُخْتَلِفَةِ، مُخْتَلِفَةٌ.
وكُلُّ شَرِيعَةٍ مِنها كامِلَةٌ في وقْتِ التَّعَبُّدِ بِها. فَكَمَّلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الشَّرائِعَ في اليَوْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ - وهو يَوْمُ عَرَفَةَ - ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ، أنَّ الدِّينَ كانَ ناقِصًا في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ.
ولِلْإمامِ القَفّالِ نَحْوُ ذَلِكَ، نَقَلَهُ عَنْهُ الرّازِيُّ واخْتارَهُ. قالَ: إنَّ الدِّينَ ما كانَ ناقِصًا البَتَّةَ، بَلْ كانَ أبَدًا كامِلًا. يَعْنِي: كانَتِ الشَّرائِعُ النّازِلَةُ مِن عِنْدِ اللَّهِ في كُلِّ وقْتٍ كافِيَةً في ذَلِكَ الوَقْتِ، إلّا أنَّهُ تَعالى كانَ عالِمًا في أوَّلِ وقْتِ المَبْعَثِ بِأنَّ ما هو كامِلٌ في هَذا اليَوْمِ لَيْسَ بِكامِلٍ في الغَدِ ولا صَلاحَ فِيهِ. فَلا جَرَمَ كانَ يُنْسَخُ بَعْدَ الثُّبُوتِ. وكانَ يَزِيدُ بَعْدَ العَدَمِ. وأمّا في آخِرِ زَمانِ المَبْعَثِ فَأنْزَلَ اللَّهُ شَرِيعَةً كامِلَةً، وحَكَمَ بِبَقائِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ. فالشَّرْعُ أبَدًا كانَ كامِلًا. إلّا أنَّ الأوَّلَ كَمالٌ إلى زَمانٍ مَخْصُوصٍ. والثّانِي كَمالٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. فَلِأجْلِ هَذا قالَ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي﴾ يَعْنِي بِإكْمالِ الدِّينِ والشَّرِيعَةِ. لِأنَّهُ لا نِعْمَةَ أتَمُّ مِن نِعْمَةِ الإسْلامِ. أوْ بِفَتْحِ مَكَّةَ ودُخُولِها آمِنِينَ ظاهِرِينَ. وهَدْمِ مَنارِ الجاهِلِيَّةِ ومَناسِكِهِمْ، وأنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَكم مُشْرِكٌ، ولَمْ يَطُفْ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ. أوْ بِإنْجازِ ما وعَدَهم بِقَوْلِهِ: ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم. فَكانَ مِن تَمامِ النِّعْمَةِ فَتْحُ مَكَّةَ وما ذَكَرْنا ﴿ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ يَعْنِي: اخْتَرْتُهُ لَكم مِن بَيْنِ الأدْيانِ، وآذَنْتُكم بِأنَّهُ هو الدِّينُ المَرْضِيُّ وحْدَهُ ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ، أوْ مَعْناهُ: الِانْقِيادُ لِأمْرِي فِيما شَرَعْتُ لَكم مِنَ الفَرائِضِ والأحْكامِ والحُدُودِ ومَعالِمِ الدِّينِ الَّذِي أكْمَلْتُهُ لَكم. ومَعْلُومٌ أنَّ الإسْلامَ لَمْ يَزَلْ مَرْضِيًّا لِلْحَقِّ تَعالى مُنْذُ القِدَمِ، إلّا أنَّ المَعْنِيَّ بِهِ، في الآيَةِ، الصِّفَةُ الَّتِي هو اليَوْمَ بِها. وهي نِهايَةُ الكَمالِ والبُلُوغِ بِهِ أقْصى دَرَجاتِهِ. أيْ: فالزَمُوهُ ولا تُفارِقُوهُ: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ..!
(p-١٨٣٢)رَوى البَغَوِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ««قالَ جِبْرِيلُ: قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: هَذا دِينٌ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي ولَنْ يُصْلِحَهُ إلّا السَّخاءُ وحُسْنُ الخُلُقِ فَأكْرِمُوهُ بِهِما ما صَحِبْتُمُوهُ»» .
فَوائِدُ:
الأُولى: رَوى الإمامُ أحْمَدُ والشَّيْخانِ وغَيْرُهم عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ قالَ: جاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! إنَّكم تَقْرَءُونَ آيَةً في كِتابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنا، مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قالَ: وأيُّ آيَةٍ؟ قالَ: قَوْلُهُ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي﴾ فَقالَ عُمَرُ: واللَّهِ! إنِّي لَأعْلَمُ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، والسّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيها عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ (p-١٨٣٣)عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ في يَوْمِ جُمُعَةٍ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ رُوِيَ هَذا مِن غَيْرِ وجْهٍ عَنْ عُمَرَ. ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ أبِي ذِئْبٍ قالَ: قالَ كَعْبٌ: لَوْ أنَّ غَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةُ لَنَظَرُوا اليَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عَلَيْهِمْ فاتَّخَذُوهُ عِيدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ. فَقالَ عُمَرُ: أيُّ آيَةٍ يا كَعْبُ؟ فَقالَ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ فَقالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ اليَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ، والمَكانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ. نَزَلَتْ في يَوْمِ جُمُعَةٍ ويَوْمِ عَرَفَةَ. وكِلاهُما بِحَمْدِ اللَّهِ لَنا عِيدٌ. ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ القِصَّةَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ يَوْمَ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ. يَوْمَ عِيدٍ ويَوْمَ جُمُعَةٍ... ورَوى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو قائِمٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾» . ورَواهُ أيْضًا عَنْ سَمُرَةَ. ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ مُعاوِيَةَ. ورُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ، ولَمْ يَنْزِلْ بَعْدَها حَلالٌ ولا حَرامٌ. ورَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَماتَ. فَقالَتْ أسْماءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى الرّاحِلَةِ. فَلَمْ تُطِقِ الرّاحِلَةُ مِن ثِقَلِ ما عَلَيْها مِنَ القُرْآنِ. فَنَزَلَتْ. فَأتَيْتُهُ فَسَجَّيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا كانَ عَلَيَّ».
وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِأحَدٍ وثَمانِينَ يَوْمًا.
وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنا سُفْيانُ بْنُ وكِيعٍ: حَدَّثَنا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ هارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ - وذَلِكَ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ - بَكى عُمَرُ. فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: أبْكانِي أنّا كُنّا في زِيادَةٍ مِن دِينِنا.
فَأمّا إذْ كَمُلَ، فَإنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إلّا نَقَصَ. فَقالَ: صَدَقْتَ».
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ويَشْهَدُ لِهَذا المَعْنى الحَدِيثُ الثّابِتُ: ««إنَّ الإسْلامَ بَدَأ غَرِيبًا وسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبى لِلْغُرَباءِ»» . انْتَهى.
قُلْتُ: والحَدِيثُ المَذْكُورُ رَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. والتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (p-١٨٣٤)وابْنُ ماجَهْ عَنْهُما أيْضًا وعَنْ أنَسٍ، والطَّبَرانِيُّ عَنْ سَلْمانَ وسَهْلٍ وابْنِ عَبّاسٍ.
هَذا، ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ مِن طَرِيقِ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ النّاسِ. ومِن طَرِيقِ أبِي جَعْفَرٍ الرّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ قالَ: نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في مَسِيرِهِ إلى حَجَّةِ الوَداعِ. ورَوى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ أبِي هارُونَ العَبْدِيِّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أنَّها نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ.
حِينَ قالَ لِعَلِيٍّ: «مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ». ثُمَّ رَواهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وفِيهِ: إنَّهُ اليَوْمُ الثّامِنَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ - يَعْنِي مَرْجِعَهُ ﷺ مِن حَجَّةِ الوَداعِ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ولا يَصِحُّ لا هَذا ولا هَذا. بَلِ الصَّوابُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ ولا مِرْيَةَ، أنَّها نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وكانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، كَما قَدَّمْنا عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ وابْنِ عَبّاسٍ وسَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وعَنْ ثُلَّةٍ مِنَ التّابِعِينَ.
الثّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ نُفاةُ القِياسِ بِهَذِهِ الآيَةِ، عَلى أنَّ القِياسَ باطِلٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ نَصَّ عَلى الحُكْمِ في جَمِيعِ الوَقائِعِ، إذْ لَوْ بَقِيَ بَعْضُها غَيْرَ مُبَيِّنٍ الحُكْمَ لَمْ يَكُنِ الدِّينُ كامِلًا، وإذا حَصَلَ النَّصُّ في جَمِيعِ الوَقائِعِ، فالقِياسُ - إنْ كانَ عَلى وفْقِ ذَلِكَ النَّصِّ - كانَ عَبَثًا وإنْ كانَ عَلى خِلافِهِ كانَ باطِلًا.
وأجابَ عَنْهُ مُثْبِتُو القِياسِ بِما بَسَطَهُ الرّازِيُّ. فانْظُرْهُ.
الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ "فَتْحِ البَيانِ": لا مَعْنى لِلْإكْمالِ في الآيَةِ إلّا وفاءَ النُّصُوصِ بِما يَحْتاجُ إلَيْهِ الشَّرْعُ. إمّا بِالنَّصِّ عَلى كُلِّ فَرْدٍ، أوْ بِانْدِراجِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ تَحْتَ العُمُوماتِ الشّامِلَةِ. ومِمّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقَوْلُهُ: (p-١٨٣٥)﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] وقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««تَرَكْتُكم عَلى الواضِحَةِ، لَيْلُها كَنَهارِها»» . وجاءَتْ نُصُوصُ الكِتابِ العَزِيزِ بِإكْمالِ الدِّينِ. وبِما يُفِيدُ هَذا المَعْنى، ويُصَحِّحُ دَلالَتَهُ، ويُؤَيِّدُ بُرْهانَهُ، ويَكْفِي في دَفْعِ الرَّأْيِ، وأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ - قَوْلُ اللَّهِ تَعالى هَذا؛ فَإنَّهُ إذا كانَ اللَّهُ قَدْ أكْمَلَ دِينَهُ قَبْلَ أنْ يَقْبِضَ إلَيْهِ نَبِيَّهُ ﷺ، فَما هَذا الرَّأْيُ الَّذِي أحْدَثَهُ أهْلُهُ بَعْدَ أنْ أكْمَلَ اللَّهُ دِينَهُ لِأنَّهُ إنْ كانَ مِنَ الدِّينِ - في اعْتِقادِهِمْ - فَهو لَمْ يَكْمُلْ عِنْدَهم إلّا بِرَأْيِهِمْ، وهَذا فِيهِ رَدٌّ لِلْقُرْآنِ. وإنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الدِّينِ، فَأيُّ فائِدَةٍ في الِاشْتِغالِ بِما لَيْسَ مِنهُ؟ وما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ بِنَصِّ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ. كَما ثَبَتَ في "الصَّحِيحِ" - وهَذِهِ حُجَّةٌ قاهِرَةٌ ودَلِيلٌ باهِرٌ لا يُمْكِنُ أهْلَ الرَّأْيِ أنْ يَدْفَعُوهُ بِدافِعٍ أبَدًا. فاجْعَلْ هَذِهِ الآيَةَ الشَّرِيفَةَ أوَّلَ ما تَصُكُّ بِهِ وُجُوهَ أهْلِ الرَّأْيِ، وتُرْغِمُ بِهِ آنافَهُمْ، وتَدْحَضُ بِهِ حُجَّتَهم. فَقَدْ أخْبَرَنا اللَّهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ أنَّهُ أكْمَلَ دِينَهُ. ولَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلّا بَعْدَ أنْ أخْبَرَنا بِهَذا الخَبَرِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. فَمَن جاءَ بِشَيْءٍ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ (p-١٨٣٦)وزَعَمَ أنَّهُ مِن دِينِنا قُلْنا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أصْدَقُ مِنكَ: ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. اذْهَبْ لا حاجَةَ لَنا في رَأْيِكَ. ولَيْتَ المُقَلِّدَةَ فَهِمُوا هَذِهِ الآيَةَ حَقَّ الفَهْمِ حَتّى يَسْتَرِيحُوا ويُرِيحُوا. وقَدْ أخْبَرَنا اللَّهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ أنَّ القُرْآنَ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ فَقالَ: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقالَ: ﴿تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً﴾ [النحل: ٨٩] ثُمَّ أمَرَ عِبادَهُ بِالحُكْمِ بِكِتابِهِ فَقالَ: ﴿وأنِ احْكم بَيْنَهم بِما أنْـزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٩] وقالَ: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥] وقالَ: ﴿إنِ الحُكْمُ إلا لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وهو خَيْرُ الفاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧] (p-١٨٣٧)وقالَ: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤] وفي آيَةٍ: ﴿هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [المائدة: ٤٥] وفي أُخْرى: ﴿هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٧] وأمَرَ عِبادَهُ أيْضًا في مُحْكَمِ كِتابِهِ بِاتِّباعِ ما جاءَ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ فَقالَ: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] وهَذِهِ أعَمُّ آيَةٍ في القُرْآنِ، وأبْيَنُها في الأخْذِ بِالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وقالَ: (أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ) . وقَدْ تَكَرَّرَ هَذا في مَواضِعَ مِنَ الكِتابِ العَزِيزِ. (p-١٨٣٨)وقالَ: ﴿إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [النور: ٥١] وقالَ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]
والِاسْتِكْثارُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ عَلى وُجُوبِ طاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ لا يَأْتِي بِعائِدَةٍ. ولا فائِدَةٍ زائِدَةٍ، فَلَيْسَ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُخالِفُ في ذَلِكَ. ومَن أنْكَرَهُ فَهو خارِجٌ عَنْ حِزْبِ المُسْلِمِينَ. وإنَّما أوْرَدْنا هَذِهِ الآياتِ الكَرِيمَةَ، والبَيِّناتِ العَظِيمَةَ تَلْيِينًا لِقَلْبِ المُقَلِّدِ الَّذِي قَدْ جَمُدَ، وصارَ كالجَلْمَدِ. فَإنَّهُ إذا سَمِعَ مِثْلَ هَذِهِ الأوامِرِ القُرْآنِيَّةِ، رُبَّما امْتَثَلَها وأخَذَ دِينَهُ مِن كِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، طاعَةً لِأوامِرِهِ. فَإنَّ هَذِهِ الطّاعَةَ، وإنْ كانَتْ مَعْلُومَةً لِكُلِّ مُسْلِمٍ، لَكِنَّ الإنْسانَ قَدْ يُذْهَلُ عَنِ القَوارِعِ الفُرْقانِيَّةِ والزَّواجِرِ المُحَمَّدِيَّةِ، فَإذا ذُكِّرَ بِها ذَكَرَ. ولا سِيَّما مَن نَشَأ عَلى التَّقْلِيدِ وأدْرَكَ سَلَفَهُ ثابِتِينَ عَلَيْهِ غَيْرَ مُتَزَحْزِحِينَ عَنْهُ. فَإنَّهُ يَقَعُ في قَلْبِهِ، أنَّ دِينَ الإسْلامِ هو هَذا الَّذِي هو عَلَيْهِ. وما كانَ مُخالِفًا لَهُ فَلَيْسَ مِنَ الإسْلامِ في شَيْءٍ. فَإذا راجَعَ نَفْسَهُ رَجَعَ.
ولِهَذا تَجِدُ الرَّجُلَ إذا نَشَأ عَلى مَذْهَبٍ مِن هَذِهِ المَذاهِبِ، ثُمَّ سَمِعَ - قَبْلَ أنْ يَتَمَرَّدَ بِالعِلْمِ ويَعْرِفَ ما قالَهُ النّاسُ - خِلافَ ذَلِكَ المَأْلُوفِ، اسْتَنْكَرَهُ وأباهُ قَلْبُهُ، ونَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ. وقَدْ رَأيْنا وسَمِعْنا مِن هَذا الجِنْسِ ما لا يَأْتِي عَلَيْهِ الحَصْرُ. ولَكِنْ إذا وازَنَ العاقِلُ بِعَقْلِهِ، بَيْنَ مَنِ اتَّبَعَ أحَدَ أئِمَّةِ المَذاهِبِ في مَسْألَةٍ مِن مَسائِلِهِ الَّتِي رَواها عَنْهُ المُقَلِّدُ - ولا مُسْتَنَدَ لِذَلِكَ العالِمِ فِيها، بَلْ قالَها بِمَحْضِ الرَّأْيِ لِعَدَمِ وُقُوفِهِ عَلى الدَّلِيلِ - وبَيْنَ مَن تَمَسَّكَ في تِلْكَ المَسْألَةِ بِخُصُوصِها بِالدَّلِيلِ الثّابِتِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ؛ أفادَهُ العَقْلُ بِأنَّ بَيْنَهُما مَسافاتٍ تَنْقَطِعُ فِيها أعْناقُ الإبِلِ، لا جامِعَ بَيْنَهُما، لِأنَّ مَن تَمَسَّكَ بِالدَّلِيلِ أخَذَ بِما أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الأخْذَ بِهِ، واتَّبَعَ ما شَرَعَهُ الشّارِعُ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ: أوَّلِها وآخِرِها، (p-١٨٣٩)وحَيِّها ومَيِّتِها...! والعالِمُ يُمْكِنُهُ الوُقُوفُ عَلى الدَّلِيلِ مِن دُونِ أنْ يَرْجِعَ إلى غَيْرِهِ. والجاهِلُ يُمْكِنُهُ الوُقُوفُ عَلى الدَّلِيلِ بِسُؤالِ عُلَماءِ الشَّرِيعَةِ، واسْتِرْواءِ النَّصِّ، وكَيْفَ حَكَمَ اللَّهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ أوْ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ في تِلْكَ المَسْألَةِ. فَيُفِيدُونَهُ النَّصَّ إنْ كانَ مِمَّنْ يَعْقِلُ الحُجَّةَ إذا دُلَّ عَلَيْها، أوْ يُفِيدُونَهُ مَضْمُونَ النَّصِّ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعِبارَةٍ يَفْهَمُها. فَهم رُواةٌ وهو مُسْتَرْوٍ، وهَذا عامِلٌ بِالرِّوايَةِ لا بِالرَّأْيِ؛ والمُقَلِّدُ عامِلٌ بِالرَّأْيِ لا بِالرِّوايَةِ. لِأنَّهُ يَقْبَلُ قَوْلَ الغَيْرِ مِن دُونِ أنْ يُطالِبَهُ بِحُجَّةٍ. وذَلِكَ في سُؤالِهِ يُطالِبُ بِالحُجَّةِ لا بِالرَّأْيِ، فَهو قابِلٌ لِرِوايَةِ الغَيْرِ لا لِرَأْيِهِ. وهُما مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ مُتَقابِلانِ، فانْظُرْ كَمِ الفَرْقُ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ؟ والكَلامُ في ذَلِكَ يَطُولُ ويَسْتَدْعِي اسْتِغْراقَ الأوْراقِ الكَثِيرَةِ. وهو مَبْسُوطٌ في مَواطِنِهِ، وفِيما ذَكَرْناهُ مُقْنِعٌ وبَلاغٌ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. انْتَهى كَلامُهُ.
الرّابِعَةُ: قالَ بَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ: ثَمَرَةُ الآيَةِ تَعْظِيمُ هَذا اليَوْمِ المَذْكُورِ، وأنَّهُ يَلْزَمُ الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعالى عَلى التَّمَسُّكِ بِمِلَّةِ الإسْلامِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ المُحَرَّماتِ. وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ بِما يُوجِبُ أنْ يُجْتَنَبَ عَنْهُ. وهو أنَّ تَناوُلَها فُسُوقٌ، وحُرْمَتُها مِن جُمْلَةِ الدِّينِ الكامِلِ، والنِّعْمَةِ التّامَّةِ، والإسْلامِ المَرْضِيِّ. ومَعْناهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تَناوُلِ شَيْءٍ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ: المَيْتَةُ وما بَعْدَها، أيْ: أُصِيبَ بِالضُّرِّ الَّذِي لا يُمْكِنُهُ الِامْتِناعُ مَعَهُ مِنَ المَيْتَةِ وما بَعْدَها: في مَخْمَصَةٍ أيْ: مَجاعَةٍ يَخافُ مَعَها المَوْتَ أوْ مَبادِئَهُ - و(المَخْمَصَةُ): مَصْدَرٌ مِثْلُ المَغْضَبَةِ والمَعْتَبَةِ. يُقالُ: خَمَصَهُ الجُوعُ خَمْصًا ومَخْمَصَةً، وخَمَصَ البَطْنُ (مُثَلَّثَةُ المِيمِ) خَلا غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإثْمٍ أيْ: غَيْرَ مُنْحَرِفٍ إلَيْهِ بِالأكْلِ فَوْقَ الضَّرُورَةِ، أوِ العِصْيانِ بِالسَّفَرِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣] (p-١٨٤٠)﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لِتَناوُلِهِ الحَرامَ - فَلا يُؤاخِذُهُ بِهِ: رَحِيمٌ أيْ: بِإعْطائِهِ الرُّخْصَةَ فِيهِ لِعِلْمِهِ بِحاجَةِ عَبْدِهِ المُضْطَرِّ، وافْتِقارِهِ إلى ذَلِكَ، فَيَتَجاوَزُ عَنْهُ ويَغْفِرُ لَهُ. وفي "المُسْنَدِ" و"صَحِيحِ" ابْنِ حِبّانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - مَرْفُوعًا - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أنْ تُؤْتى رُخْصُهُ كَما يَكْرَهُ أنْ تُؤْتى مَعْصِيَتُهُ»» . لَفْظُ ابْنِ حِبّانَ. وفي لَفْظٍ لِأحْمَدَ: ««مَن لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ كانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ جِبالِ عَرَفَةَ»» ولِهَذا قالَ الفُقَهاءُ: قَدْ يَكُونُ تَناوُلُ المَيْتَةِ واجِبًا في بَعْضِ الأحْيانِ، وهو ما إذا خافَ عَلى نَفْسِهِ ولَمْ يَجِدْ غَيْرَها. وقَدْ يَكُونُ مَندُوبًا، وقَدْ يَكُونُ مُباحًا، بِحَسْبِ الأحْوالِ. واخْتَلَفُوا: هَلْ يَتَناوَلُ مِنها قَدْرَ ما يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، أوْ لَهُ أنْ يَشْبَعَ ويَتَزَوَّدَ؟ عَلى أقْوالٍ. ولَيْسَ مِن شَرْطِ تَناوُلِ المَيْتَةِ أنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلاثَةُ أيّامٍ لا يَجِدُ طَعامًا - كَما قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ العَوامِّ وغَيْرِهِمْ - بَلْ مَتى اضْطُرَّ إلى ذَلِكَ جازَ لَهُ. وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي واقِدٍ اللِّيثِيِّ؛ «أنَّهم قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا بِأرْضٍ تُصِيبُنا بِها المَخْمَصَةُ. فَمَتى تَحِلُّ لَنا بِها (p-١٨٤١)المَيْتَةُ؟ فَقالَ: «إذا لَمْ تَصْطَبِحُوا ولَمْ تَغْتَبِقُوا ولَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا، فَشَأْنَكم بِها.»» . إسْنادُهُ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، والِاصْطِباحُ: شُرْبُ اللَّبَنِ بِالغَداةِ فَما دُونَ القائِلَةِ، وما كانَ مِنهُ بِالعَشِيِّ فَهو الِاغْتِباقُ، ومَعْنى لَمْ تَحْتَفِئُوا: أيْ: تَقْتَلِعُوا. وفي اللَّفْظَةِ عِدَّةُ رِواياتٍ، ورَوى أبُو داوُدَ عَنِ الفُجَيْعِ العامِرِيِّ: «أنَّهُ أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: «ما يَحِلُّ لَنا مِنَ المَيْتَةِ؟ قالَ: ما طَعامُكُمْ؟، قُلْنا: نَصْطَبِحُ ونَغْتَبِقُ! قالَ أبُو نُعَيْمٍ: فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ: قَدَحٌ غُدْوَةً وقَدَحٌ عَشِيَّةً، قالَ: ذاكَ، وأبِي! الجُوعُ. فَأحَلَّ لَهُمُ المَيْتَةَ عَلى هَذِهِ الحالِ»» . تَفَرَّدَ بِهِ أبُو داوُدَ. وكَأنَّهم كانُوا يَصْطَبِحُونَ ويَغْتَبِقُونَ شَيْئًا لا يَكْفِيهِمْ. فَأحَلَّ لَهُمُ المَيْتَةَ لِتَمامِ كِفايَتِهِمْ. وقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَن يَرى جَوازَ الأكْلِ مِنها حَتّى يَبْلُغَ حَدَّ الشِّبَعِ، ولا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِسَدِّ الرَّمَقِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
ورَوى أبُو داوُدَ عَنْ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أنَّ رَجُلًا نَزَلَ الحَرَّةَ ومَعَهُ أهْلُهُ ووَلَدُهُ. فَقالَ رَجُلٌ: (p-١٨٤٢)إنَّ ناقَةً لِي ضَلَّتْ. فَإنْ وجَدْتَها فَأمْسِكْها، فَوَجَدَها فَلَمْ يَجِدْ صاحِبَها فَمَرِضَتْ. فَقالَتْ لَهُ امْرَأتُهُ: انْحَرْها! فَأبى، فَنَفَقَتْ، فَقالَتِ اسْلُخْها حَتّى نُقَدِّدَ شَحْمَها ولَحْمَها ونَأْكُلَهُ، فَقالَ: حَتّى أسْألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. فَأتاهُ، «فَسَألَهُ، فَقالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟ قالَ: لا! قالَ: فَكُلُوها! قالَ: فَجاءَ صاحِبُها فَأخْبَرَهُ الخَبَرَ فَقالَ: هَلّا كُنْتَ نَحَرْتَها؟ قالَ: اسْتَحْيَيْتُ مِنكَ!»» تَفَرَّدَ بِهِ.
وقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَن يُجَوِّزُ الأكْلَ والشِّبَعَ والتَّزَوُّدَ مِنها مُدَّةً، يَغْلِبُ عَلى ظَنِّهِ الِاحْتِياجُ إلَيْها. واللَّهُ أعْلَمُ. أفادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وقَوْلُهُ: (فَنَفَقَتْ). أيْ: ماتَتْ. (مِن بابِ نَصَرَ وفَرِحَ) قالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: أنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
؎فَما أشْياءُ نَشْرِيها بِمالٍ فَإنْ نَفَقَتْ فَأكْسَدَ ما تَكُونُ؟
تَنْبِيهٌ:
قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: لَيْسَ في هَذِهِ الآيَةِ بَيانٌ لِتَقْدِيمِ أحَدِها. والفُقَهاءُ يَقُولُونَ: يُقَدَّمُ الأخَفُّ تَحْرِيمًا، فَمَيْتَةُ المَأْكُولِ عَلى مَيْتَةِ غَيْرِهِ. انْتَهى.
وفِي "رَحْمَةِ الأُمَّةِ" أنَّ المُضْطَرَّ إذا وجَدَ مَيْتَةً وطَعامَ الغَيْرِ، ومالِكُهُ غائِبٌ، أنَّ لَهُ أكْلَهُ بِشَرْطِ الضَّمانِ، دُونَ المَيْتَةِ. عِنْدَ مالِكٍ وأكْثَرِ أصْحابِ الشّافِعِيِّ وجَماعَةٍ مِنَ الحَنَفِيَّةِ. وعِنْدَ أحْمَدَ وآخَرِينَ: يَأْكُلُ المَيْتَةَ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ﴾ مَن يَقُولُ بِأنَّ العاصِيَ بِسَفَرِهِ لا يَتَرَخَّصُ بِشَيْءٍ مِن رُخَصِ السَّفَرِ، لِأنَّ الرُّخْصَ لا تُنالُ بِالمَعاصِي. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّیَةُ وَٱلنَّطِیحَةُ وَمَاۤ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّیۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُوا۟ بِٱلۡأَزۡلَـٰمِۚ ذَ ٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡیَوۡمَ یَىِٕسَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن دِینِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِی مَخۡمَصَةٍ غَیۡرَ مُتَجَانِفࣲ لِّإِثۡمࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق