الباحث القرآني

﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى (إذْ) في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ﴾ [البقرة: ٣٠] . ومَن أجازَ نَصْبَ (إذْ) هُناكَ مَفْعُولًا بِهِ بِإضْمارِ (اذْكُرُوا) وادَّعى زِيادَتَها، فَقِياسُ قَوْلِهِ هُناكَ إجازَتُهُ هُنا، إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ إلّا إنِ ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ (إذْ) مَعْطُوفَةٌ عَلى مَعْمُولِ (اذْكُرُوا) كَأنَّهُ قالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وتَفْضِيلِي إيّاكم، ووَقْتَ تَنْجِيَتِكم، ويَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ الِاعْتِراضِ الَّتِي هي: (واتَّقُوا يَوْمًا) . وقَدْ قَدَّمْنا أنّا لا نَخْتارُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِاذْكُرْ، لا ظاهِرَةً ولا مُقَدَّرَةً؛ لِأنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيها، وهي عِنْدَنا مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لا يُتَصَرَّفُ فِيها إلّا بِإضافَةِ اسْمِ زَمانٍ إلَيْها عَلى ما قُرِّرَ في النَّحْوِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ، فالَّذِي نَخْتارُهُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الظَّرْفِ، ويَكُونُ العامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلُهُ، تَقْدِيرُهُ: وأنْعَمْنا عَلَيْكم إذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ، وتَقْدِيرُ هَذا الفِعْلِ أوْلى مَن كُلِّ ما قَدَّمْناهُ، وخَرَجَ بِقَوْلِهِ: (أنْجَيْناكم) إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ الَّذِي لا يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمٍ في قَوْلِهِ: ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ﴾ [البقرة: ٤٧] لِأنَّ هَذا الفِعْلَ الَّذِي هو الإنْجاءُ مِن عَدُوِّهِمْ، هو مِن أعْظَمِ، أوْ أعْظَمُ النِّعَمِ، فَناسَبَ الأعْظَمَ نِسْبَتُهُ لِلْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وقُرِئَ: أنْجَيْناكم، والهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ إلى المَفْعُولِ، كالتَّضْعِيفِ في نَجَّيْناكم، ونُسِبَتْ هَذِهِ القِراءَةُ لِلنَّخَعِيِّ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّهُ قَرَأ: أنْجَيْتُكم، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ مُوافِقًا لِلضَّمِيرِ في (نِعْمَتِي) والمَعْنى: خَلَّصْتُكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ، وجَعَلَ التَّخْلِيصَ مِنهم لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ كانُوا يُباشِرُونَهم بِهَذِهِ الأفْعالِ السَّيِّئَةِ، وإنْ كانَ أمَرَهم بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وآلُ فِرْعَوْنَ هُنا أهْلُ مِصْرَ، قالَهُ مُقاتِلٌ، أوْ أهْلُ بَيْتِهِ خاصَّةً، قالَهُ أبُو عُبَيْدٍ، أوْ أتْباعُهُ عَلى ذَنْبِهِ، قالَهُ الزَّجّاجُ، ومِنهُ: ﴿وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٥٠]، وهم أتْباعُهُ عَلى ذَنْبِهِ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أبٌ، ولا بِنْتٌ، ولا ابْنٌ، ولا عَمٌّ، ولا أخٌ، ولا عَصَبَةٌ. وأدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ. ورُوِيَ أنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ، ﷺ: «مَن آلُكَ ؟ فَقالَ: ”كُلُّ تَقِيٍّ“» . ويُؤَيِّدُ القَوْلَ الثّانِي: لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ. والمُرادُ بِالآلِ هُنا: آلُ عَقِيلٍ، وآلُ عَبّاسٍ، وآلُ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ومَوالِيهِمْ، ووَرَدَ أيْضًا أنَّ آلَهُ: أزْواجُهُ وذُرِّيَّتُهُ، (p-١٩٣)فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، آلٌ عامٌّ وآلٌ خاصٌّ. وفِرْعَوْنُ: عَلَمٌ لِمَن مَلَكَ العَمالِقَةَ، كَما قِيلَ: قَيْصَرُ، لِمَن مَلَكَ الرُّومَ، وكِسْرى، لِمَن مَلَكَ الفُرْسَ، والنَّجاشِيُّ، لِمَن مَلَكَ الحَبَشَةَ، وتُبَّعٌ، لِمَن مَلَكَ اليَمَنَ. وقالَ السُّهَيْلِيُّ: هو اسْمٌ لِكُلَّ مَن مَلَكَ القِبْطَ ومِصْرَ، وقَدِ اشْتُقَّ مِنهُ: تَفَرْعَنَ الرَّجُلُ: إذا تَجَبَّرَ وعَتا، واسْمُهُ الوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، أوْ فُنْطُوسُ، قالَهُ مُقاتِلٌ، أوْ مُصْعَبُ بْنُ الرَّيّانِ، حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، أوْ مُغِيثٌ، ذَكَرَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، أوْ قابُوسُ، وكُنْيَتُهُ أبُو مُرَّةَ، وهو مِن بَنِيَ عَمْلِيقَ بْنِ لاوِذَ بْنِ إرَمَ بْنِ سامَ بْنِ نُوحٍ. ورُوِيَ أنَّهُ مَن أهْلِ إصْطَخْرَ، ورُدَّ إلى مِصْرَ فَصارَ بِها مَلِكًا. لا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالعَرَبِيَّةِ، قالَهُ المَسْعُودِيُّ، وقالَ ابْنُ وهْبٍ: فِرْعَوْنُ مُوسى هو فِرْعَوْنُ يُوسُفَ، قالُوا: وهَذا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأنَّ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ ودُخُولِ مُوسى أكْثَرُ مِن أرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، والصَّحِيحُ أنَّهُ غَيْرُهُ. وقِيلَ: كانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ الرَّيّانَ بْنَ الوَلِيدِ. ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وهي حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ: أيْ سائِمِيكم، وهي حالٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ. (وسُوءُ العَذابِ): أشَقُّهُ وأصْعَبُهُ، وانْتِصابُهُ مَبْنِيٌّ عَلى المُرادِ بِيَسُومُونَكم، وفِيهِ لِلْمُفَسِّرِينَ أقْوالٌ: السَّوْمُ: بِمَعْنى التَّكْلِيفِ أوِ الإبْلاءِ، فَيَكُونُ ﴿سُوءَ العَذابِ﴾ عَلى هَذا القَوْلِ مَفْعُولًا ثانِيًا لِسامَ، أيْ يُكَلِّفُونَكم، أوْ يُوَلُّونَكم سُوءَ العَذابِ، أوْ بِمَعْنى الإرْسالِ، أوِ الإدامَةِ، أوِ التَّصْرِيفِ، أيْ: يُرْسِلُونَكم، أوْ يُدِيمُونَكم، أوْ يَصْرِفُونَكم في الأعْمالِ الشّاقَّةِ، أوْ بِمَعْنى الرَّفْعِ، أيْ يَرْفَعُونَكم إلى سُوءِ العَذابِ، أوِ الوَسْمِ، أيْ: يُعَلِّمُونَكم مِنَ العَلامَةِ، ومَعْناهُ: أنَّ الأعْمالَ الشّاقَّةَ لِكَثْرَةِ مُزاوَلَتِها تَصِيرُ عَلَيْهِمْ عَلامَةً بِتَأْثِيرِها في جُلُودِهِمْ ومَلابِسِهِمْ، كالحِدادَةِ والنِّجارَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ وسْمًا لَهم، والتَّقْدِيرُ: يُعَلِّمُونَكم بِسُوءِ العَذابِ، وضُعِّفَ هَذا القَوْلُ مِن جِهَةِ الِاشْتِقاقِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ يَسِمُونَكم، وهَذا التَّضْعِيفُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الوَسْمِ، وإنَّما مَعْناهُ مَعْنى الوَسْمِ، وهو مِنَ السِّيمِياءِ والسِّيماءِ، ومُسَوِّمِينَ في أحَدِ تَفاسِيرِهِ بِمَعْنى العَلامَةِ، وأُصُولُ هَذا سِينٌ وواوٌ ومِيمٌ، وهي أُصُولُ ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ ويَكُونُ فَعَلَ المُجَرَّدُ بِمَعْنى فَعِلَ، وهو مَعَ الوَسْمِ مِمّا اتَّفَقَ مَعْناهُ واخْتَلَفَتْ أُصُولُهُ: كَدَمِثَ، ودَمْثَرَ، وسَبِطَ وسَبْطَرَ، أوْ بِمَعْنى الطَّلَبِ بِالزِّيادَةِ مِنَ السَّوْمِ في البَيْعِ، أيْ: يَطْلُبُونَكم بِازْدِيادِ الأعْمالِ الشّاقَّةِ. وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ غَيْرِ القَوْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ يَكُونُ ﴿سُوءَ العَذابِ﴾ مَفْعُولًا عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، وقالَ بَعْضُ النّاسِ: يَنْتَصِبُ ﴿سُوءَ العَذابِ﴾ نَصْبَ المَصْدَرِ، ثُمَّ قَدَّرَهُ سَوْمًا شَدِيدًا. وسُوءُ العَذابِ: الأعْمالُ القَذِرَةُ، قالَهُ السُّدِّيُّ، أوِ الحَرْثُ والزِّراعَةُ والبِناءُ وغَيْرُ ذَلِكَ، قالَهُ بَعْضُهم. قالَ: وكانَ قَوْمُهُ جُنْدًا مُلُوكًا، أوِ الذَّبْحُ، أوْ الِاسْتِحْياءُ المُشارُ إلَيْهِما، قالَهُ الزَّجّاجُ، ورُدَّ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الواوِ في (إبْراهِيمَ) فَقالَ: ويُذَبِّحُونَ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ عَذَّبَهم بِالذَّبْحِ وبِغَيْرِ الذَّبْحِ. وحُكِيَ أنَّ فِرْعَوْنَ جَعَلَ بَنِي إسْرائِيلَ خَدَمًا في الأعْمالِ مِنَ البِناءِ والتَّخْرِيبِ والزِّراعَةِ والخِدْمَةِ، ومَن لا يَعْمَلُ فالجِزْيَةُ، فَذَوُو القُوَّةِ يَنْحِتُونَ السَّوارِيَ مِنَ الجِبالِ حَتّى قُرِّحَتْ أعْناقُهم وأيْدِيهِمْ ودُبِّرَتْ ظُهُورُهم مِن قَطْعِها ونَقْلِها، وطائِفَةٌ يَنْقُلُونَ لَهُ الحِجارَةَ والطِّينَ ويَبْنُونَ لَهُ القُصُورَ، وطائِفَةٌ يَضْرِبُونَ اللَّبِنَ ويَطْبُخُونَ الآجُرَّ، وطائِفَةٌ نَجّارُونَ وحَدّادُونَ، والضَّعَفَةُ جُعِلَ عَلَيْهِمُ الخَراجُ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَها كُلَّ يَوْمٍ. فَمَن غَرُبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ أنْ يُؤَدِّيَها غُلَّتْ يَدُهُ إلى عُنُقِهِ شَهْرًا. والنِّساءُ يَغْزِلْنَ الكَتّانَ ويَنْسِجْنَ. وأصْلُ نَشْأةِ بَنِي إسْرائِيلَ بِمِصْرَ نُزُولُ إسْرائِيلَ بِها زَمانَ ابْنِهِ يُوسُفَ، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِما السَّلامُ. ﴿يُذَبِّحُونَ أبْناءَكُمْ﴾: قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ، وهو أوْلى لِظُهُورِ تَكْرارِ الفِعْلِ بِاعْتِبارِ مُتَعَلِّقاتِهِ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: (يَذْبَحُونَ) خَفِيفًا مِن (ذَبَحَ) المُجَرَّدِ اكْتِفاءً بِمُطْلَقِ الفِعْلِ، ولِلْعِلْمِ بِتَكْرِيرِهِ مِن مُتَعَلِّقاتِهِ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: يُقَتِّلُونَ (p-١٩٤)بِالتَّشْدِيدِ مَكانَ يُذَبِّحُونَ، والذَّبْحُ قَتْلٌ، ويُذَبِّحُونَ بَدَلٌ مَن يَسُومُونَكم، بَدَلُ الفِعْلِ مِنَ الفِعْلِ، نَحْوَ: قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَلْقَ أثامًا يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ﴾ [الفرقان: ٦٨] وقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎مَتّى تَأْتِنا تُلَمِّمْ بِنا في دِيارِنا تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجا ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِمّا حُذِفَ مِنهُ حَرْفُ العَطْفِ؛ لِثُبُوتِهِ في (إبْراهِيمَ) . وقَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الواوَ زائِدَةٌ لِحَذْفِها هُنا ضَعِيفٌ. وقالَ الفَرّاءُ: المَوْضِعُ الَّذِي حُذِفَتْ فِيهِ الواوُ تَفْسِيرٌ لِصِفاتِ العَذابِ، والمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الواوُ يُبَيِّنُ أنَّهُ قَدْ مَسَّهُمُ العَذابُ، غَيْرُ الذَّبْحِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (يُذَبِّحُونَ) في مَوْضِعِ الحالِ، مِن ضَمِيرِ الرَّفْعِ في: (يَسُومُونَكم)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسْتَأنَفًا، وفي سَبَبِ الذَّبْحِ والِاسْتِحْياءِ أقْوالٌ وحِكاياتٌ مُخْتَلِفَةٌ، اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّتِها، ومُعْظَمُها يَدُلُّ عَلى خَوْفِ فِرْعَوْنَ مِن ذَهابِ مُلْكِهِ عَلى يَدِ مَوْلُودٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. والأبْناءُ: الأطْفالُ الذُّكُورُ، يُقالُ: إنَّهُ قَتَلَ أرْبَعِينَ ألْفَ صَبِيٍّ، وقِيلَ: أرادَ بِالأبْناءِ الرِّجالَ، وسُمُّوا أبْناءً بِاعْتِبارِ ما كانُوا قَبْلُ، والأوَّلُ أشْهَرُ. والنِّساءُ هُنا: البَناتُ، وسُمُّوا نِساءً بِاعْتِبارٍ ما يَؤُلْنَ إلَيْهِ، أوْ بِالِاسْمِ الَّذِي في وقْتِهِ يُسْتَخْدَمْنَ ويُمْتَهَنَّ، وقِيلَ: أرادَ النِّساءَ الكِبارَ، والأوَّلُ أشْهَرُ. ﴿ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾: وفُسِّرَ الِاسْتِحْياءُ بِالوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْناهُما عِنْدَ كَلامِنا عَلى المُفْرَداتِ، وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى: يَتْرُكُونَ بَناتَكم أحْياءً لِلْخِدْمَةِ، أوْ يُفَتِّشُونَ أرْحامَ نِسائِكم. فَعَلى هَذا القَوْلِ ظاهِرُهُ أنَّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمُ المُباشِرُونَ لِذَلِكَ، ذُكِرَ أنَّهُ وكَّلَ بِكُلِّ عَشْرِ نِساءٍ رَجُلًا يَحْفَظُ مَن تَحْمِلُ مِنهُنَّ، وقِيلَ: وكَّلَ بِذَلِكَ القَوابِلَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ الِاسْتِحْياءَ هُنا مِنَ الحَياءِ الَّذِي هو ضِدُّ القِحَةِ، ومَعْناهُ أنَّهم يَأْتُونَ النِّساءَ مِنَ الأعْمالِ بِما يَلْحَقُهم مِنهُ الحَياءُ، وقُدِّمَ الذَّبْحُ عَلى الِاسْتِحْياءِ لِأنَّهُ أصْعَبُ الأُمُورِ وأشَقُّها، وهو أنْ يُذْبَحَ ولَدُ الرَّجُلِ والمَرْأةِ اللَّذَيْنِ كانا يَرْجُوانِ النَّسْلَ مِنهُ، والذَّبْحُ أشَقُّ الآلامِ، واسْتِحْياءُ النِّساءِ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ لَيْسَ بِعَذابٍ، لَكِنَّهُ يَقَعُ العَذابُ بِسَبَبِهِ مِن جِهَةِ إبْقائِهِنَّ خَدَمًا وإذاقَتِهِنَّ حَسْرَةَ ذَبْحِ الأبْناءِ، إنْ أُرِيدَ بِالنِّساءِ الكِبارُ، أوْ ذَبْحُ الإخْوَةِ، إنْ أُرِيدَ الأطْفالُ، وتَعَلُّقُ العارِ بِهِنَّ، إذْ يَبْقَيْنَ نِساءً بِلا رِجالٍ فَيَصِرْنَ مُفْتَرَشاتٍ لِأعْدائِهِنَّ. وقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ العُلَماءِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الآمِرَ بِالقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ والمُباشِرَ لَهُ شَرِيكانِ في القِصاصِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى أغْرَقَ فِرْعَوْنَ - وهو الآمِرُ - وآلَهُ - وهُمُ المُباشِرُونَ - وهَذِهِ مَسْألَةٌ يُبْحَثُ فِيها في عِلْمِ الفِقْهِ، وفِيها خِلافٌ بَيْنِ أهْلِ العِلْمِ. وفِي ذَلِكم بَلاءٌ: هو إشارَةٌ إلى ذَبْحِ الأبْناءِ واسْتِحْياءِ النِّساءِ، وهو المَصْدَرُ الدّالُّ عَلَيْهِ الفِعْلُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ﴾ [الشورى: ٤٣]، وهو أقْرَبُ مَذْكُورٍ، فَيَكُونُ المُرادُ بِالبَلاءِ: الشِّدَّةُ والمَكْرُوهُ. وقِيلَ: يَعُودُ إلى مَعْنى الجُمْلَةِ مِن قَوْلِهِ (يَسُومُونَكم) مَعَ ما بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مَعْنى البَلاءِ كَما تَقَدَّمَ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى التَّنْجِيَةِ، وهو المَصْدَرُ المَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ: نَجَّيْناكم، فَيَكُونُ البَلاءُ هُنا: النِّعْمَةُ ويَكُونُ (ذَلِكم) قَدْ أُشِيرَ بِهِ إلى أبْعَدِ مَذْكُورٍ، وهو أضْعَفُ مِنَ القَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، والمُتَبادِرُ إلى الذِّهْنِ والأقْرَبُ في الذِّكْرِ القَوْلُ الأوَّلُ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الخَيْرَ والشَّرَّ مِنَ اللَّهِ تَعالى، بِمَعْنى أنَّهُ خالِقُهُما. وفِيهِ رَدٌّ عَلى النَّصارى ومَن قالَ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ الخَيْرَ مِنَ اللَّهِ والشَّرَّ مِنَ الشَّيْطانِ. ووَصْفُهُ بِعَظِيمٍ ظاهِرٌ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ (ذَلِكم) إشارَةً إلى التَّنْجِيَةِ مِن آلِ فِرْعَوْنَ، فَلا يَخْفى ما في ذَلِكَ مِن عِظَمِ النِّعْمَةِ وكَثْرَةِ المِنَّةِ، وإنْ كانَ إشارَةً إلى ما بَعْدَ التَّنْجِيَةِ مِنَ السَّوْمِ أوِ الذَّبْحِ والِاسْتِحْياءِ، فَذَلِكَ ابْتِلاءٌ عَظِيمٌ شاقٌّ عَلى النُّفُوسِ، يُقالُ إنَّهُ سَخَّرَهم فَبَنَوْا سَبْعَةَ حَوائِطَ جائِعَةً أكْبادُهم عارِيَةً أجْسادُهم، وذَبَحَ مِنهم أرْبَعِينَ ألْفِ صَبِيٍّ، فَأيُّ ابْتِلاءٍ أعْظَمُ مِن هَذا. وكَوْنُهُ عَظِيمًا هو بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخاطَبِ والسّامِعِ، لا بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اتِّصافُهُ بِالِاسْتِعْظامِ. قالَ القُشَيْرِيُّ: مَن صَبَرَ في اللَّهِ عَلى بَلاءِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ صُحْبَةَ أوْلِيائِهِ. هَؤُلاءِ، (p-١٩٥)بَنُو إسْرائِيلَ صَبَرُوا عَلى مُقاساةِ الضُّرِّ مِن فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، فَجَعَلَ مِنهم أنْبِياءَ، وجَعَلَ مِنهم مُلُوكًا، وآتاهم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ. انْتَهى. ولَمْ تَزَلِ النِّعَمُ تَمْحُو آثارَ النِّقَمِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎نَأْسُو بِأمْوالِنا آثارَ أيْدِينا ولَمّا تَقَدَّمَ الأمْرُ بِذِكْرِ النِّعَمِ مُجْمَلَةً فِيما سَبَقَ، أمَرَهم بِذِكْرِها ثانِيَةً مُفَصَّلَةً، فَبَدَأ مِنها بِالتَّفْضِيلِ، ثُمَّ أمَرَهم بِاتِّقاءِ يَوْمٍ لا خَلاصَ فِيهِ، لا بِقاضٍ حَقٍّ، ولا شَفِيعٍ، ولا فِدْيَةٍ، ولا نَصْرٍ، لِمَن لَمْ يَذْكُرْ نِعَمَهُ، ولَمْ يَمْتَثِلْ أمْرَهُ، ولَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ، وكانَ الأمْرُ بِالِاتِّقاءِ مُهِمًّا هُنا؛ لِأنَّ مَن أُخْبِرَ بِأنَّهُ فُضِّلَ عَلى العالَمِينَ رُبَّما اسْتَنامَ إلى هَذا التَّفْضِيلِ، فَأُعْلِمَ أنَّهُ لا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِن تَحْصِيلِ التَّقْوى وعَدَمِ الِاتِّكالِ عَلى مُجَرَّدِ التَّفْضِيلِ؛ لِأنَّ مَنِ ابْتَدَأكَ بِسَوابِقِ نِعَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَتَّقِيَ لَواحِقَ نِقَمِهِ، ثُمَّ ثَنّى بِذِكْرِ الإنْجاءِ الَّذِي بِهِ كانَ سَبَبُ البَقاءِ بَعْدَ شِدَّةِ اللَّأْواءِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ تَفاصِيلَ النَّعْماءِ مِمّا نَصَّ عَلَيْهِ إلى قَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١] فَكانَ تَعْدادُ الآلاءِ مِمّا يُوجِبُ جَمِيلَ الذِّكْرِ وجَلِيلَ الثَّناءِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ في تَرْتِيبِ هَذِهِ النِّعَمِ نِعْمَةً نِعْمَةً إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب