الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، يعني: اذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون، والخطاب لمن؟ لبني إسرائيل، بدليل قوله: ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، و﴿نَجَّيْنَاكُمْ﴾ أي خلصناكم منهم، وأنقذناكم من عدوانهم وسيطرتهم. وقوله: ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، يعني أتباعه وحاشيته وزبانيته الذين يأتمرون بأمره فيُقَتِّلون أبناء بني إسرائيل ويستحيون نساءهم، وهل المراد كل أتباعه أو أتباعه الذين يعاملونه معاملة القريب؟ الظاهر والله أعلم أنهم كل أتباعه، وأن رجال فرعون يفعلون ذلك، وكذلك آل فرعون أتباعه يعتدون على بني إسرائيل في مصر. ثم قال: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾، أي: يصيبونكم به، وسوء العذاب من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أي العذاب السيئ أو الأسوأ، ثم بيّن هذا المجمل بقوله: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾، وفي آية أخرى: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [إبراهيم ٦]، وفي آية ثالثة: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأعراف ١٤١]، فتكون العقوبات، بل فيكون العدوان من آل فرعون على بني إسرائيل على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: القتل بأي سبب، برمي حجر، بخنق، بكسر ظهر، وما أشبه ذلك. الثاني: التذبيح، أن يأتوا بالإنسان من بني إسرائيل ويذبحونه بالسكين كما تُذبح الشاة. الثالث: أن يجمعوا بين سوء العذاب والذبح، يعني مثل أن يضربوهم، يعصروا بطونهم، يجرحوا شفاههم، وما أشبه ذلك، ثم بعد ذلك الذبح، فيجمعون لهم بين الأمرين، ولا تستغرب هذا، وقع في هذه الأمة، وأعني أمة الدعوة، ما هو أعظم من ذلك وشر من ذلك، لكن المهم أن التعذيب والإجرام الذي يحصل من آل فرعون على بني إسرائيل هو هذه الأمور الثلاثة: ذبح، وقتل، وجمع بين الذبح وسوء العذاب. وقوله: ﴿أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾، لماذا سُلِّطوا على الأبناء وأبقوا النساء، ﴿يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ يعني يستبقونهن، وإلا فحياتهن موجودة من قبل، لكن يستحيونهن أي يُبقوهن على قيد الحياة، وأما الأبناء فيقتلونهم، لماذا؟ قال بعض الإسرائيليين: إنه قد قيل لآل فرعون إنه يولد من بني إسرائيل ولد يكون زوال ملككم على يده، فجعلوا يقتلون الأبناء خوفًا من أن يظهر ذلك الولد، فقال الله عز وجل بقوله القدري: إن هذا الولد سيتربى في حضن فرعون؛ لأنه لما ولدته أمه أوحى الله إليها أن أرضعيه، فأرضعته اللِّبَأ الذي لا بد لكل مولود من رضاعه، وقال لها: ﴿إِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص ٧]، ابنها، لما خافت عليه امتثلت أمر الله، جعلته في تابوت وألقته في اليم أي في البحر، وهذا من كمال إيمانها، ولكن قال: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص ٧]، فوقع في أيدي آل فرعون، ﴿الْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص ٨]. واللام هنا للعاقبة وليست للتعليل؛ لأن آل فرعون ما التقطوه لهذا الغرض، إنما التقطوه فصار عدوًّا وحزنًا، ثم ذكر الله عز وجل القصة ولسنا بصدد سياقها؛ لأنها معروفة وليست معنا في هذه الليلة، المهم أن هذا ما قاله بعض العلماء بأخبار منقولة عن بني إسرائيل؛ لماذا؟ ما الذي قالوه؟ * طالب: (...). * الشيخ: ليش يذبّحون أبناءهم ويستحيون النساء؟ * الطالب: (...). * الشيخ: طيب، فقالوا: نقتل الأبناء لأجل أن لا يخرج هذا الابن، ولكن هناك قول آخر قد يكون أشد وقعًا، وهو أنهم يذبّحون الأبناء ويستحيون النساء من أجل أن يكون لهم تمام السيطرة، فتضعف الأمة وتُضطر النساء إلى آل فرعون، وهذا غاية ما يكون من الإذلال، أن يستبيح أعراض حرمك من كان عدوًّا لك، وهذا غاية الإذلال، ولو صح ما قيل عن بني إسرائيل لقلنا: يمكن أن يكون المراد هذا وهذا، لكان يمكن أن يراد هذا وهذا. ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ بلاء أي: اختبار، وقوله: ﴿فِي ذَلِكُمْ﴾ أتى بالجمع (ذلكم) مع أن اسم الإشارة مفرد (ذا)، فلماذا؟ نقول: لأن اسم الإشارة بحسب المشار إليه، والكاف المتصلة به بحسب المخاطب، انتبه للقاعدة، اسم الإشارة بحسب المشار إليه، والكاف المتصلة به بحسب المخاطب، فإذا أشرت إلى اثنين مخاطبًا واحد تقول: ذانك، قال الله تعالى: ﴿بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ [القصص ٣٢]، وإذا أشرت إلى واحد تخاطب اثنين ما تقول؟ * طالب: ذلكما. * الشيخ: تقول: ذلكما، كما قال يوسف: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف ٣٧]، هنا ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ﴾ المشار إليه؟ * طالب: واحد. * الشيخ: واحد، يشير إلى العذاب، والمخاطب؟ * طلبة: جماعة. * الشيخ: جماعة؛ لأنه قال: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، فقوله: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ﴾، أي: اختبار ومحنة من ربكم الذي له ملك السماوات والأرض والمتصرف فيكم كما يشاء، ولهذا قال: ﴿بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، لم يقل: من الله، قال: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾، إشارة إلى أنه إذا كان هو الرب فله أن يفعل فينا ما يشاء. ﴿عَظِيمٌ﴾ أي مستعظَم مستكبَر، وصدق الله عز وجل، هو بلاء عظيم -نسأل الله أن يقينا شر الفتن- يعني يسلَّط عليك عدوًّا يذبحك كما يذبح الخراف، ويستبقي النساء ينتهك حرمتهن ويستذلّهن ويجعلهن عنده من الخدم، بينما هي ملكة في بيتها قبل أن يُذبح قيّمها، هذا بلاء عظيم، نسأل الله السلامة. * طالب: أحسن الله إليك، الآن ماذا يقال عن قتلهم على كلام بني إسرائيل أنه (...)؟ بسبب إيمانهم بعض الناس يقول: إن بني إسرائيل كلهم مؤمنون. * الشيخ: ليس بصحيح؛ لأنه ما بينهم وبينهم حرب. * طالب: ما معني الوحي الإلهامي؟ * الشيخ: الوحي الإلهامي هو الذي ليس بشرع، يعني لمصلحة من يوحَى إليه، كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل ٦٨]، ألهمها؛ لأن أصل الإلهام في اللغة الإعلام بسرعة وخفاء، هذا أصله في اللغة، فإذا ألهم الله مثلًا هذا النحل ليس معناه أنه أرسل جبريل ليوحِي إليه، وإنما جعل له فهمًا وألهمه مصالحه. * طالب: شفاعة النبي ﷺ لأبي طالب؟ * الشيخ: هذه خاصة بالرسول وخاصة بأبي طالب أيضًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يشفع لأبيه لكن شفع لعمه كما ذكرنا سابقًا، قلنا: الشفاعة لعمه لا لأنه عمه ولكن لما حصل منه من نصرة الإسلام والدفاع عنه، والله عز وجل شكور حليم، أذن لنبيه أن يشفع في هذا الرجل خاصة. * طالب: أحسن الله إليك، كيف يكون إذا وعدها الله أم موسى عليه السلام بقوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، كيف يكون هذا إلهام هي صراحة غيب؟ * الشيخ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾، يعني ألقى الله في فهمها وفي عقلها أن تفعل هذا، وكذلك في قلبها ألهمها هذا اليقين أنه يرده إليها ويجعله من المرسلين. * طالب: قلنا: لام الفعل ﴿لِيَكُونَ﴾ اللام هذا يقولون: لام الجحود. * الشيخ: ويش؟ * الطالب: ﴿لِيَكُونَ﴾ لام العاقبة. * الشيخ: وين؟ * الطالب: (...). * الشيخ: لا لا، لام الجحود بارك الله فيك هي التي سبقها كون منفي. * الطالب: هذه تسمى لام العاقبة. * الشيخ: هذه لام العاقبة فقط، واضح؟ * طالب: (...)؟ * الشيخ: الذكاء معروف ولّا ما هو معروف؟ طيب من لم يعرف الذكاء فليس بذكي، الذكاء معروف ولاّ لا؟ الزكاء زكاء النفس يعني ما أعطوا أنفسهم زكاءها من التزكية، وأُعطوا فهومًا ولم يُعطوا علومًا؛ لأنه ما عندهم علم، ولذلك لا تكاد تجد في كتب أهل الكلام آية من كتاب الله يستدلون بها ولا حديثًا عن رسول الله. ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة ٤٩]، هذه الآية يذكر الله بها بني إسرائيل، فيقول: إذ نجيناكم من آل فرعون. قال: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾، أي: فيما وقع ابتلاء من الله عز وجل عظيم، والله سبحانه وتعالى يبتلي من شاء إما بالخير وإما بالشر، كما قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء ٣٥]، والمؤمن والحمد لله -جعلنا الله وإياكم من المؤمنين- المؤمن إذا ابتلي بهذا أو بهذا صار على أعلى المقامات، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وكان خيرًا له في الحالين، لكن من الناس من إذا ابتلي بالضراء انتكس - والعياذ بالله - كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج ١١]، يعني على طرف، ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج ١١]، فالله تعالى يبتلي الإنسان بهذا وبهذا، فعليك بالصبر وانتظار الفرج، فإن الله تعالى قد يبتلي وهو سبحانه وتعالى أحكم بعباده. وقوله: ﴿عَظِيمٌ﴾، عظّمه الله عز وجل؛ لأنه حقيقة عظيم، أن يسلَّط عليهم عدو يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم وتبقى النساء أرامل ويبقى الرجال المدافعون عنهن مُتلَفين بالذبح تارة وبالقتل تارة. * في هذه الآية من الفوائد: خطاب آخر الأمة بما كان نعمة في أولها؛ لقوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ﴾، ومعلوم أن الذين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقع هذا الإنجاء عليهم مباشرة، لكنه وقع على آبائهم وأسلافهم، فيكون ما حصل لأول الأمة من الخير حاصلًا لآخر هذه الأمة، وعلى هذا فلنا أن نقول: نحن انتصرنا في بدر، وانتصرنا في حنين، وانتصرنا في غزوة الفتح؛ لأن نصر مَن سلفنا نصر لنا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجب على متأخري الأمة شكر الله على نعمته على أول الأمة؛ لأن الله تعالى يذكّرهم بهذا ليقوموا بشكره. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى قد يسلط بعض الناس على بعض، حيث سلط فرعون على بني إسرائيل، وهذه سنة الله في الأولين والآخرين، ولهذا «لما قال الله عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قال النبي ﷺ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قال: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، قال: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾، قال: «هَذِهِ أَيْسَرُ»، أو قال: «هَذِهِ أَهْوَنُ»[[أخرجه البخاري (٤٦٢٨) من حديث جابر.]]، ولا شك أنها أيسر وأهون؛ لأن الإنسان فيما يُبتلى به من بأس الغير قد يدافع عن نفسه ويكون الانتصار له، لكن إذا جاء من الله من فوق أو من تحت ما يستطيع؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «هَذِهِ أَيْسَرُ» أو قال: «هَذِهِ أَهْوَنُ». * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان شدة حنق فرعون على بني إسرائيل، حيث استعمل فيهم هذه العقوبة، وهي أيش؟ ذبح الأبناء واستبقاء النساء، وهذه لا شك أنها نكاية عظيمة، لا بالأموات ولا بالأحياء، نسأل الله السلامة والعافية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تبارك وتعالى يبتلي الإنسان بما يكره ليعلم جل وعلا من يصبر ومن لا يصبر، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد ٣١]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من مقتضى ربوبية العامة أن يبتلي الإنسان بما يكره، الربوبية الخاصة يذكر الله تعالى فيها ما يحبه المرء، والعامة تكون فيما يكرهه العبد وفيما يحبه العبد؛ لقوله: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾. * ومن فوائدها: عظم هذا البلاء الذي أصاب بني إسرائيل وكذلك لو أصاب غيرهم، فإنه من البلاء العظيم، الإنسان، الأم تشهد ابنها يُقتل أمامها أو يُذبح كما تذبح الشاة، وكذلك البنت تشاهد أباها يفعل به هكذا لا شك أنه بلاء عظيم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب