الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَّرَهم بِالنِّعْمَةِ الظّاهِرَةِ فانْتَبَهَ مَن تَدارَكَتْهُ الهِدايَةُ وتَمادى مَنِ اسْتَحَقَّ العُقُوبَةَ ذَكَّرَ أهْلَ الِاسْتِحْقاقِ بِما عُوقِبُوا بِهِ بِما يَسْتَلْزِمُهُ (p-٣٥٤)مَعْنى النَّجاةِ وبِما فَسَّرَهُ مِمّا أُخِذُوا بِهِ عَلى ذُنُوبٍ تُشاكِلُ ما هم عَلَيْهِ في مُعانَدَتِهِمُ القُرْآنَ، فَحِينَ لَمْ يَنْفَعْ فِيهِمُ التَّذْكِيرانِ بِالعَهْدِ والنِّعْمَةِ هُدِّدُوا بِتَقْرِيرِهِمْ عَلى مَواقِعِ ما أُصِيبُوا بِهِ مِنَ البَلاءِ مِن عَدُوِّهِمْ لِما اقْتَرَفُوهُ مِن ذُنُوبِهِمْ ﴿ولَقَدْ جاءَكم يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ في شَكٍّ مِمّا جاءَكم بِهِ حَتّى إذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا﴾ [غافر: ٣٤] فَكانَ في تَكْذِيبِهِمْ بِالرِّسالَةِ الأُولى وشَكِّهِمْ ما أصابَهم مِنَ العُقُوبَةِ مِن آلِ فِرْعَوْنَ حَتّى أنْقَذَهُمُ اللَّهُ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ تَعالى: ﴿وإذْ﴾ أيْ واذْكُرُوا إذْ ﴿نَجَّيْناكُمْ﴾ وهو مِنَ التَّنْجِيَةِ وهي تَكْرارُ النَّجاةِ، والنَّجاةُ مَعْناهُ رَفْعٌ عَلى النَّجْوَةِ وهو المُرْتَفِعُ مِنَ الأرْضِ الَّذِي هو مُخَلَّصٌ مِمّا يُنالُ مِنَ الوِهادِ وخُبْثِ الأرْضِ مِن هَلاكٍ بِسَيْلِ ماءٍ ونَحْوِهِ ﴿مِن (p-٣٥٥)آلِ﴾ آلُ الرَّجُلِ مَن تَبْدُو فِيهِمْ أحْوالُهُ وأعْمالُهُ وأفْعالُهُ حَتّى كَأنَّهم هو في غَيْبِهِ مِن مَعْنى الآلِ الَّذِي هو السَّرابُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ ما بَعُدَ ويَتَراءى ما لَمْ يَكُنْ يُرى لَوْلاهُ، ﴿فِرْعَوْنَ﴾ اسْمُ مَلِكِ مِصْرَ في الجاهِلِيَّةِ، عَلَمُ جِنْسٍ لِمُلُوكِها بِمَنزِلَةِ أسْماءِ الأجْناسِ في الحَيَوانِ وغَيْرِهِ. انْتَهى. [ والمُرادُ بِالآلِ: فِرْعَوْنُ وأتْباعُهُ، فَإنَّ الآلَ يُطْلَقُ عَلى الشَّخْصِ نَفْسِهِ وعَلى أهْلِهِ وأتْباعِهِ وأوْلِيائِهِ - قالَهُ في القامُوسِ، قالَ: ولا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِيما فِيهِ شَرَفٌ غالِبًا - ] ثُمَّ بَيَّنَ ما أنْجاهم مِنهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَسُومُونَكم سُوءَ (p-٣٥٦)العَذابِ﴾ سَمّاهُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ أشَدُّ البَلاءِ عَلى النَّفْسِ لِما فِيهِ مِنِ اسْتِحْقارِها، مِنَ السَّوْمِ وهو تَعْذِيبٌ بِتَهاوُنٍ بِالمُعَذَّبِ، والسَّوْمُ ما يَشْتَدُّ تَنَكُّرُ النَّفْسِ لَهُ وتَكَرُّهُها، ثُمَّ فَسَّرَ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ مِنَ التَّذْبِيحِ وهو تَكْرارُ الذَّبْحِ، والذَّبْحُ قَطْعٌ بالِغٌ في العُنُقِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ولَمّا كانَ كُلٌّ مِن ذَبْحِ الِابْنِ وحَياةِ المَرْأةِ بِغَيْرِ رَجُلٍ أفْحَشَ وكانَتِ البِنْتُ إذا بَقِيَتْ صارَتِ امْرَأةً عَبَّرَ بِالأبْناءِ والنِّساءِ فَقالَ ﴿أبْناءَكُمْ﴾ أيْ سَوْقًا لَكم مَساقَ البَهائِمِ ﴿ويَسْتَحْيُونَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الِاسْتِحْياءِ وهو اسْتِبْقاءُ الحَياةِ ﴿نِساءَكُمْ﴾ مِن مَعْنى الِاتِّخاذِ لِلتَّأهُّلِ المُلابِسِ في مَعْنى ما جَرى مِنهُ اشْتِقاقُ الإنْسِ والإنْسانِ والنِّسْوَةِ بِاشْتِراكِها في أحَدِ الحُرُوفِ الثَّلاثَةِ مِنَ الهَمْزَةِ أوِ الواوِ أوِ الياءِ مَعَ اجْتِماعِها في النُّونِ والسِّينِ. انْتَهى. ثُمَّ نَبَّهَهم عَلى ما فِيهِ مِنَ العِظَمِ بِقَوْلِهِ ﴿وفِي ذَلِكُمْ﴾ فَأشارَ (p-٣٥٧)بِأداةِ البُعْدِ مَقْرُونَةً بِالمِيمِ ﴿بَلاءٌ﴾ أيِ اخْتِبارٌ ﴿مِن رَبِّكُمْ﴾ أيِ المُحْسِنِ إلَيْكم في حالَيِ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ ﴿عَظِيمٌ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: البَلاءُ الِاخْتِبارُ هو إبْداءُ خِبْرَةِ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ ومِحْنَةٍ، وفِيهِ إشْعارٌ بِاسْتِحْقاقِهِمْ ذَلِكَ واسْتِصْلاحِهِمْ بِشِدَّتِهِ دُونَ ما هو أيْسَرُ مِنهُ، وذَكَرَهُ بِالعِظَمِ لِشِياعِهِ في الأجْسامِ والأنْفُسِ والأرْواحِ، وذَكَرَ مَعْنى النَّجاةِ ثُمَّ فَصَّلَهُ تَفْصِيلًا لِكَيْفِيَّتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ تِعْدادًا لِنِعْمَةِ النَّجاةِ الَّتِي هي تِلْوَ رَحْمَةِ الإنْعامِ الَّتِي هي تِلْوَ رِفْعَةِ التَّقَدُّمِ بِالعَهْدِ؛ فانْتَهى الخِطابُ نِهايَتَهُ في المَعْنى يَعْنِي فَلَمّا قَرَّرَهم تَعالى عَلى ما اقْتَرَفُوهُ قَبْلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ أصابَهم مِن آلِ فِرْعَوْنَ ما أصابَهُمُ؛ اسْتَجَدَّ لَهم تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ نَجاةٍ مِن عُقُوبَةِ مُتَقَدِّمِ أعْمالِهِمْ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب