الباحث القرآني

﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ ﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ يُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم وفي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] . الفَضْلُ: الزِّيادَةُ، واسْتِعْمالُهُ في الخَيْرِ، وفِعْلُهُ فَعَلَ يَفْعُلُ، وأصْلُهُ أنْ يَتَعَدّى بِحَرْفِ الجَرِّ وهو (عَلى) ثُمَّ بِحَذْفِ (عَلى) عَلى حَدِّ قَوْلِ الشّاعِرِ، وقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ: ؎وجَدْنا نَهْشَلًا فَضَلَتْ فَقِيمًا كَفَضْلِ ابْنِ المَخاضِ عَلى الفَصِيلِ وأمّا في الفَضْلَةِ مِنَ الشَّيْءِ، وهي البَقِيَّةُ، فَيُقالُ: فَضَلَ يَفْضُلُ، كالَّذِي قَدَّمْناهُ، وفَضِلَ يَفْضَلُ، نَحْوَ: سَمِعَ يَسْمَعُ، وفَضِلَ يَفْضُلُ، بِكَسْرِها مِنَ الماضِي، وضَمِّها مِنَ المُضارِعِ، وقَدْ أُولِعَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ بِإجازَةِ فَتْحِ ضادِ فَضَلْتُ في البَيْتِ وكَسْرِها، والصَّوابُ الفَتْحُ. الجَزاءُ: القَضاءُ عَنِ المُفَضَّلِ والمُكافَأةُ، قالَ الرّاجِزُ: ؎يَجْزِيِهِ رَبُّ العَرْشِ عَنِّي إذْ جَزى ∗∗∗ جَنّاتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلا والإجْزاءُ: الإغْناءُ. قَبُولُ الشَّيْءِ: التَّوَجُّهُ إلَيْهِ، والفِعْلُ قَبِلَ يَقْبَلُ، والقِبَلُ: ما واجَهَكَ، قالَ القُطامِيُّ: ؎فَقُلْتُ لِلرَّكْبِ لَمّا أنْ عَلا بِهِمُ ∗∗∗ مِن عَنْ يَمِينِ الحُبَيّا نَظْرَةٌ قَبَلُ الشَّفاعَةُ: ضَمُّ غَيْرِهِ إلى وسِيلَتِهِ، والشُّفْعَةُ: ضَمُّ المِلْكِ، الشَّفْعُ: الزَّوْجُ، والشَّفاعَةُ مِنهُ؛ لِأنَّ الشَّفاعَةَ والمَشْفُوعَ لَهُ: شَفْعٌ، وقالَ الأحْوَصُ: ؎كانَ مَن لامَنِي لِأصْرِمَها ∗∗∗ كانُوا لِلَيْلى بِلَوْمِهِمْ شَفَعُوا وناقَةٌ شَفُوعٌ: خَلْفُها ولَدٌ، وقِيلَ: خَلْفُها ولَدٌ وفي بَطْنِها ولَدٌ، الأخْذُ: ضِدُّ التَّرْكِ، والأخْذُ: القَبْضُ والإمْساكُ، ومِنهُ قِيلَ لِلْأسِيرِ: أخِيذٌ، وتُحْذَفُ فاؤُهُ في الأمْرِ مِنهُ بِغَيْرِ لامٍ، وقَلَّ الإتْمامُ. العَدْلُ: الفِداءُ، والعَدْلُ: ما يُساوِيهِ قِيمَةً وقَدَرًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن جِنْسِهِ، وبِكَسْرِ العَيْنِ: المُساوِي في الجِنْسِ والجِرْمِ. ومِنَ العَرَبِ مَن يَكْسِرُ العَيْنَ مِن مَعْنى الفِدْيَةِ، وواحِدُ الأعْدالِ بِالكَسْرِ لا غَيْرُ، والعَدْلُ: المَقْبُولُ القَوْلِ مِنَ النّاسِ، وحُكِيَ فِيهِ أيْضًا كَسْرُ العَيْنِ، وقالَ ثَعْلَبٌ: العَدْلُ: الكَفِيلُ والرَّشْوَةُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لا يَقْبَلُ الصَّرْفَ فِيها نَهابُ العَدْلا النَّصْرُ: العَوْنُ، أرْضٌ مَنصُورَةٌ: مَمْدُودَةٌ بِالمَطَرِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أبُوكَ الَّذِي أجْدى عَلَيَّ بِنَصْرِهِ ∗∗∗ وأمْسَكَ عَنِّي بَعْدَهُ كُلُّ قاتِلِ وقالَ الآخَرُ: ؎إذا ودَّعَ الشَّهْرُ الحَرامُ فَوَدِّعِي ∗∗∗ بِلادَ تَمِيمٍ وانْصُرِي أرْضَ عامِرِ والنَّصْرُ: العَطاءُ، والِانْتِصارُ: الِانْتِقامُ. النَّجاةُ: التَّنْجِيَةُ مِنَ الهَلَكَةِ بَعْدَ الوُقُوعِ فِيها، والأصْلُ: الإلْقاءُ (p-١٨٨)بِنَجْوَةٍ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ألَمْ تَرَ لِلنُّعْمانِ كانَ بِنَجْوَةٍ ∗∗∗ مِنَ الشَّرِّ لَوْ أنَّ امْرَأً كانَ ناجِيا الآلُ: قِيلَ بِمَعْنى الأهْلِ، وزُعِمَ أنَّ ألِفَهُ بَدَلٌ عَنْ هاءٍ، وأنَّ تَصْغِيرَهُ أُهَيْلٌ، وبَعْضُهم ذَهَبَ إلى أنَّ ألِفَهُ بَدَلٌ مِن هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ، وتِلْكَ الهَمْزَةُ بَدَلٌ مِن هاءٍ، وقِيلَ: لَيْسَ بِمَعْنى الأهْلِ لِأنَّ الأهْلَ القَرابَةُ، والآلُ مَن يَئُولُ مِن قَرابَةٍ أوْ ولِيٍّ أوْ مَذْهَبٍ، فَألِفُهُ بَدَلٌ مِن واوٍ، ولِذَلِكَ قالَ يُونُسُ في تَصْغِيرِهِ: أُوَيْلٌ، ونَقَلَهُ الكِسائِيُّ نَصًّا عَنِ العَرَبِ، وهَذا اخْتِيارُ أبِي الحَسَنِ بْنِ الباذِشِ، ولَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ في بابِ البَدَلِ أنَّ الهاءَ تُبْدَلُ هَمْزَةً، كَما ذَكَرَ أنَّ الهَمْزَةَ تُبْدَلُ هاءً في: هَرَقْتُ، وهَيا، وهَرَحْتُ، وهِيّاكَ. وقَدْ خَصُّوا (آلَ) بِالإضافَةِ إلى العَلَمِ ذِي الخَطَرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ غالِبًا، فَلا يُقالُ: آلُ الإسْكافِ والحَجّامِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎نَحْنُ آلُ اللَّهِ في بَلْدَتِنا ∗∗∗ لَمْ نَزَلْ آلًا عَلى عَهْدِ إرَمَ قالَ الأخْفَشُ: لا يُضافُ (آلُ) إلّا إلى الرَّئِيسِ الأعْظَمِ، نَحْوَ: آلِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، وآلِ فِرْعَوْنَ لِأنَّهُ رَئِيسُهم في الضَّلالَةِ، قِيلَ: وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّهُ قَدْ سُمِعَ عَنْ أهْلِ اللُّغَةِ في البُلْدانِ فَقالُوا: آلُ المَدِينَةِ، وآلُ البَصْرَةِ، وقالَ الكِسائِيُّ: لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: فُلانٌ مِن آلِ البَصْرَةِ، ولا مِن آلِ الكُوفَةِ، بَلْ يُقالُ: مِن أهْلِ البَصْرَةِ، ومِن أهْلِ الكُوفَةِ. انْتَهى قَوْلُهُ، وقَدْ سُمِعَ إضافَتُهُ إلى اسْمِ الجِنْسِ وإلى الضَّمِيرِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وانْصُرْ عَلى آلِ الصَّلِيبِ وعابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكَ وقالَ هُدْبَةُ: ؎أنا الفارِسُ الحامِي حَقِيقَةَ والِدِي ∗∗∗ وآلِي كَما تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكا وقَدِ اخْتُلِفَ في اقْتِباسِ جَوازِ إضافَتِهِ إلى المُضْمَرِ، فَمَنَعَ مِن ذَلِكَ الكِسائِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ، وأبُو بَكْرٍ الزَّبِيدِيُّ، وأجازَ ذَلِكَ غَيْرُهم. وجُمِعَ بِالواوِ والنُّونِ رَفْعًا وبِالياءِ والنُّونِ جَرًّا ونَصْبًا، كَما جُمِعَ أهْلُ فَقالُوا: آلُونَ، والآلُ: السَّرابُ، يُجْمَعُ عَلى أفْعالٍ، قالُوا: أأْوالٌ، والآلُ: عَمُودُ الخَيْمَةِ، والآلُ: الشَّخْصُ، والآلَةُ: الحالَةُ الشَّدِيدَةُ. فِرْعَوْنُ لا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ. سامَهُ: كَلَّفَهُ العَمَلَ الشّاقَّ، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا ما المَلِكُ سامَ النّاسَ خَسْفًا ∗∗∗ أبَيْنا أنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينا وقِيلَ: مَعْناهُ: يُعَلِّمُونَكم مِنَ السِّيماءِ، وهي العَلامَةُ، ومِنهُ: تَسْوِيمُ الخَيْلِ، وقِيلَ: يُطالِبُونَكم مِن مُساوَمَةِ البَيْعِ، وقِيلَ: يُرْسِلُونَ عَلَيْكم مِن إرْسالِ الإبِلِ لِلرَّعْيِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُوَلُّونَكم، يُقالُ: سامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ، أيْ أوْلاهُ إيّاها. السُّوءُ: مَصْدَرُ أساءَ، يُقالُ: ساءَ يَسُوءُ، وهو مُتَعَدٍّ، وأساءَ الرَّجُلُ: أيْ صارَ ذا سُوءٍ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَئِنْ ساءَنِي أنْ نِلْتِنِي بِمَساءَةٍ ∗∗∗ قَدْ سَرَّنِي أنِّي خَطَرْتُ بِبالِكِ ومَعْنى ساءَهُ: أحْزَنَهُ، هَذا أصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ في كُلِّ ما يُسْتَقْبَحُ، ويُقالُ: أعُوذُ بِاللَّهِ مِن سُوءِ الخُلُقِ وسُوءِ الفِعْلِ: يُرادُ قُبْحُهُما. الذَّبْحُ: أصْلُهُ الشِّقُّ، قالَ الشّاعِرُ: ؎كَأنَّ بَيْنَ فَكِّها والفَكِّ ∗∗∗ فَأْرَةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ في سَكِّ وقالَ: ؎كَأنَّما الصّابُ في عَيْنَيْكَ مَذْبُوحُ والذَّبْحَةُ: داءٌ في الحَلْقِ، يُقالُ مِنهُ: ذَبَحَهُ يَذْبَحُهُ ذَبْحًا، والذِّبْحُ: المَذْبُوحُ. الِاسْتِحْياءُ هُنا الإبْقاءُ حَيًّا، واسْتَفْعَلَ فِيهِ بِمَعْنى أفْعَلَ. اسْتَحْياهُ وأحْياهُ بِمَعْنًى واحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أبَلَّ واسْتَبَلَّ، أوْ طَلَبَ الحَياءَ، وهو الفَرْجُ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ هُنا لِلطَّلَبِ، نَحْوَ: اسْتَغْفَرَ، أيْ تَطَلَّبَ الغُفْرانَ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى اسْتَحْيا مِنَ الحَياءِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦] النِّساءُ: اسْمٌ يَقَعُ (p-١٨٩)لِلصِّغارِ والكِبارِ، وهو جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِنِسْوَةٍ، ونِسْوَةٌ عَلى وزْنِ فِعْلَةٍ، وهو جَمْعُ قِلَّةٍ، خِلافًا لِابْنِ السَّرّاجِ، إذْ زَعَمَ أنَّ فِعْلَةً اسْمُ جَمْعٍ لا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وعَلى القَوْلَيْنِ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِواحِدٍ مِن لَفْظِهِ، والواحِدَةُ: امْرَأةٌ. البَلاءُ: الِاخْتِبارُ، بَلاهَ يَبْلُوهُ بَلاءً: اخْتَبَرَهُ، ثُمَّ صارَ يُطْلَقُ عَلى المَكْرُوهِ والشِّدَّةِ، يُقالُ: أصابَ فُلانًا بَلاءٌ: أيْ شِدَّةٌ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى البِلى، كَأنَّ المُبْتَلى يَئُولُ حالُهُ إلى البِلى، وهو الهَلاكُ والفَناءُ، ويُقالُ: أبْلاهُ بِالنِّعْمَةِ، وبَلاهُ بِالشِّدَّةِ، وقَدْ يَدْخُلُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ فَيُقالُ: بَلاهُ بِالخَيْرِ، وأبْلاهُ بِالشَّرِّ، قالَ الشّاعِرُ: ؎جَزى اللَّهُ بِالإحْسانِ ما فَعَلا بِكم ∗∗∗ فَأبْلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو فاسْتَعْمَلَهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، ويُبْنى مِنهُ افْتُعِلَ فَيُقالُ: ابْتُلِيَ. * * * ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ في شَرْحِ هَذا، وأُعِيدَ نِداؤُهم ثانِيًا عَلى طَرِيقِ التَّوْكِيدِ، ولِيُنَبَّهُوا لِسَماعِ ما يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِن تَعْدادِ النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلَيْهِمْ، وتَفْصِيلِها نِعْمَةً نِعْمَةً، فالنِّداءُ الأوَّلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلى طاعَةِ المُنْعِمِ، والنِّداءُ الثّانِي لِلتَّنْبِيهِ عَلى شُكْرِ النِّعَمِ. (وأنِّي فَضَّلْتُكم): ثُمَّ عُطِفَ التَّفْضِيلُ عَلى النِّعْمَةِ، وهو مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ؛ لِأنَّ النِّعْمَةَ انْدَرَجَ تَحْتَها التَّفْضِيلُ المَذْكُورُ، وهو ما انْفَرَدَتْ بِهِ الواوُ دُونَ سائِرِ حُرُوفِ العَطْفِ، وكانَ أُسْتاذُنا العَلّامَةُ أبُو جَعْفَرٍ أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ الثَّقَفِيُّ يَذْكُرُ لَنا هَذا النَّحْوَ مِنَ العَطْفِ، وأنَّهُ يُسَمّى بِالتَّجْرِيدِ، كَأنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الجُمْلَةِ وأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ عَلى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎أكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا ولَبانُهُ إذا ما اشْتَكى وقْعَ القَناةِ تَحَمْحَما دَعْلَجٌ: هُنا اسْمُ فُرْسٍ، ولَبانُهُ: صَدْرُهُ، ولِأبِي الفَتْحِ بْنِ جِنِّي كَلامٌ في ذَلِكَ يَكْشِفُ مِن سِرِّ الصِّناعَةِ لَهُ. (عَلى العالَمِينَ): أيْ عالَمِي زَمانِهِمْ، قالَهُ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهم، أوْ عَلى كُلِّ العالَمِينَ، بِما جَعَلَ فِيهِمْ مِنَ الأنْبِياءِ، وجَعَلَهم مُلُوكًا وآتاهم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، وذَلِكَ خاصَّةً لَهم دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَيَكُونُ عامًّا والنِّعْمَةُ مَخْصُوصَةٌ، قالُوا: ويَدْفَعُ هَذا القَوْلَ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)، أوْ عَلى الجَمِّ الغَفِيرِ مِنَ النّاسِ، يُقالُ: رَأيْتُ عالَمًا مِنَ النّاسِ، يُرادُ بِهِ الكَثْرَةُ، وعَلى كُلِّ قَوْلٍ مِن هَذِهِ الأقْوالِ الثَّلاثَةِ لا يَلْزَمُ مِنهُ التَّفْضِيلُ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ؛ لِأنَّ مَن قالَ بِالعُمُومِ خَصَّ النِّعْمَةَ، ولا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ عَلى كُلِّ عالَمٍ بِشَيْءٍ خاصٍّ التَّفْضِيلَ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، ومَن قالَ بِالخُصُوصِ فَوَجْهُ عَدَمِ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا ظاهِرٌ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: أشْهَدَ بَنِي إسْرائِيلَ فَضْلَ أنْفُسِهِمْ فَقالَ: ﴿وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾، وأشْهَدَ المُسْلِمِينَ فَضْلَ نَفْسِهِ فَقالَ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨]، فَشَتّانَ بَيْنَ مَن مَشْهُودُهُ فَضْلُ رَبِّهِ، ومَن مَشْهُودُهُ فَضْلُ نَفْسِهِ، فالأوَّلُ يَقْتَضِي الثَّناءَ، والثّانِي يَقْتَضِي الإعْجابَ. انْتَهى، وآخِرُهُ مُلَخَّصٌ مِن كَلامِهِ. (واتَّقُوا يَوْمًا) أمْرٌ بِالِاتِّقاءِ، وكَأنَّهم لَمّا أُمِرُوا بِذِكْرِ النِّعَمِ وتَفْضِيلِهِمْ ناسَبَ أنَّ مَن أُنْعِمَ عَلَيْهِ وفُضِّلَ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلتَّقْوى. فَأُمِرُوا بِالإدامَةِ عَلى التَّقْوى، أوْ بِتَحْصِيلِ التَّقْوى، إنْ عَرَضَ لَهم خَلَلٌ. وانْتِصابٌ (يَوْمًا) إمّا عَلى الظَّرْفِ والمُتَّقى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا العَذابَ يَوْمًا، وإمّا عَلى المَفْعُولِ بِهِ اتِّساعًا أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ عَذابَ يَوْمٍ، أوْ هَوْلَ يَوْمٍ، وقِيلَ: مَعْناهُ: جِيئُوا مُتَّقِينَ، وكَأنَّهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْحَظْ مُتَعَلِّقَ الِاتِّقاءِ، فَإذْ ذاكَ يَنْتَصِبُ (يَوْمًا) عَلى الظَّرْفِ، قالَ القُشَيْرِيُّ: العَوامُّ خَوَّفَهم بِعَذابِهِ، فَقالَ: (واتَّقُوا يَوْمًا)، (واتَّقُوا النّارَ) . والخَواصُّ خَوَّفَهم بِصِفاتِهِ، فَقالَ: ﴿وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكم ورَسُولُهُ﴾ [التوبة: ١٠٥] ﴿وما تَكُونُ في شَأْنٍ﴾ [يونس: ٦١] . الآيَةَ، وخَواصُّ الخَواصِّ خَوَّفَهم بِنَفْسِهِ، فَقالَ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: ٢٨] . وقَرَأ ابْنُ السَّمّاكِ العَدَوِيُّ: (لا تَجْزِي) مِن أجْزَأ، أيْ أغْنى، وقِيلَ جَزا وأجْزَأ، بِمَعْنًى واحِدٍ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْيَوْمِ، والرّابِطُ مَحْذُوفٌ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لا تَجْزِي فِيهِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ، فاتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِالفِعْلِ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ، فَيَكُونُ الحَذْفُ بِتَدْرِيجٍ أوْ عَدّاهُ إلى الضَّمِيرِ أوَّلًا اتِّساعًا، وهَذا اخْتِيارُ أبِي عَلِيٍّ، وإيّاهُ نَخْتارُ، قالَ الَمَهْدَوِيُّ: (p-١٩٠)والوَجْهانِ، يَعْنِي تَقْدِيرَهُ: لا تَجْزِي فِيهِ ولا تَجْزِيهِ جائِزانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ والأخْفَشِ والزَّجّاجِ. وقالَ الكِسائِيُّ: لا يَكُونُ المَحْذُوفُ إلّا لَها، قالَ: لا يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: هَذا رَجُلٌ قَصَدْتُ، ولا رَأيْتُ رَجُلًا أرْغَبُ، وأنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إلَيْهِ وأرْغَبُ فِيهِ. انْتَهى. وحَذْفُ الضَّمِيرِ مِنَ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ صِفَةً جائِزٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎فَما أدْرِي أغَيْرُهم تَناءَ ∗∗∗ وطُولُ العَهْدِ أمْ مالٌ أصابُوا يُرِيدُ: أصابُوهُ، وما ذَهَبُوا إلَيْهِ مِن تَعْيِينِ الرَّبْطِ أنَّهُ فِيهِ أوِ الضَّمِيرُ هو الظّاهِرُ، وقَدْ يَجُوزُ عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ أنْ يَكُونَ ثَمَّ رابِطٌ، ولا تَكُونَ الجُمْلَةُ صِفَةً، بَلْ مُضافٌ إلَيْها (يَوْمَ) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: واتَّقُوا يَوْمًا يَوْمَ لا تَجْزِي، فَحُذِفَ (يَوْمُ) لِدَلالَةِ (يَوْمًا) عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ المَحْذُوفُ في الإضافَةِ نَظِيرُ المَلْفُوظِ بِهِ في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥]، ونَظِيرُ (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) لا تَحْتاجُ الجُمْلَةُ إلى ضَمِيرٍ، ويَكُونُ إعْرابُ ذَلِكَ المَحْذُوفِ بَدَلًا، وهو بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎رَحِمَ اللَّهُ أعْظُمًا دَفَنُوها ∗∗∗ بِسِجِسْتانَ طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ فِي رِوايَةِ مَن خَفَضَ التَّقْدِيرُ: أعْظُمِ طَلْحَةَ، وقَدْ قالَتِ العَرَبُ: يُعْجِبُنِي الإكْرامُ عِنْدَكَ سَعْدٌ، بِنِيَّةِ: يُعْجِبُنِي الإكْرامُ إكْرامُ سَعْدٍ، وحَكى الكِسائِيُّ عَنِ العَرَبِ: أطْعَمُونا لَحْمًا سَمِينًا شاةً ذَبَحُوها، أيْ لَحْمَ شاةٍ. وحَكى الفَرّاءُ عَنِ العَرَبِ: أما واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ العِلْمَ الكَبِيرَةَ سِنُّهُ، الدَّقِيقَ عَظْمُهُ، عَلى تَقْدِيرِ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الكَبِيرَةِ سِنُّهُ، فَحُذِفَ الثّانِي اعْتِمادًا عَلى الأوَّلِ، ولَمْ يُجِزِ البَصْرِيُّونَ ما أجازَهُ الكُوفِيُّونَ مِن حَذْفِ المُضافِ وتَرْكِ المُضافِ إلَيْهِ عَلى خَفْضِهِ في: يُعْجِبُنِي القِيامُ زَيْدٍ، ولا يَبْعُدُ تَرْجِيحُ حَذْفِ (يَوْمَ) لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ بِهَذا المَسْمُوعِ الَّذِي حَكاهُ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ عَنِ العَرَبِ. ويُحَسِّنُ هَذا التَّخْرِيجَ كَوْنُ المُضافِ إلَيْهِ جُمْلَةً، فَلا يَظْهَرُ فِيها إعْرابٌ، فَيَتَنافَرُ مَعَ إعْرابِ ما قَبْلَهُ، فَإذا جازَ ذَلِكَ في نَثْرِهِمْ مَعَ التَّنافُرِ، فَلَأنْ يَجُوزَ مَعَ عَدَمِ التَّنافُرِ أوْلى، ولَمْ أرَ أحَدًا مِنَ المُعْرِبِينَ والمُفَسِّرِينَ خَرَّجُوا هَذِهِ الجُمْلَةَ هَذا التَّخْرِيجَ، بَلْ هم مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ صِفَةٌ لِيَوْمٍ، ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ حَذْفُ الرّابِطِ أيْضًا مِنَ الجُمَلِ المَعْطُوفَةِ عَلى (لا تَجْزِي) أيْ ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ فِيهِ، ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ فِيهِ، ولا هم يُنْصَرُونَ فِيهِ، وعَلى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ لا يُحْتاجُ إلى إضْمارِ هَذِهِ الرَّوابِطِ. ﴿نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ كِلاهُما نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، ومَعْنى التَّنْكِيرِ: أنَّ نَفْسًا مِنَ الأنْفُسِ لا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مِنَ الأنْفُسِ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ إقْناطٌ كُلِّيٌّ قاطِعٌ مِنَ المَطامِعِ، وهَذا عَلى مَذْهَبِهِ في أنْ لا شَفاعَةَ. وقالَ بَعْضُهم: التَّقْدِيرُ عَنْ نَفْسٍ كافِرَةٍ، فَقَيَّدَها بِالكُفْرِ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ النَّفْسَ تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وذَلِكَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، ويَأْتِي الكَلامُ عَلى ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ﴾ . وقَرَأ أبُو السِّرارِ الغَنَوِيُّ: لا تَجْزِي نَسَمَةٌ عَنْ نَسَمَةٍ. وانْتِصابُ (شَيْئًا) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أيْ لا يَقْضِي شَيْئًا، أيْ حَقًّا مِنَ الحُقُوقِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ انْتِصابُهُ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: ولا تَجْزِي شَيْئًا مِنَ الجَزاءِ، قالَهُ الأخْفَشُ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى القِلَّةِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّرْبِ. ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ﴾: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: (ولا تُقْبَلُ) بِالتّاءِ، وهو القِياسُ والأكْثَرُ، ومَن قَرَأ بِالياءِ فَهو أيْضًا جائِزٌ فَصِيحٌ لِمَجازِ التَّأْنِيثِ، وحَسَّنَهُ أيْضًا الفَصْلُ بَيْنَ الفِعْلِ ومَرْفُوعِهِ. وقَرَأ سُفْيانُ: (ولا يَقْبَلُ) بِفَتْحِ الياءِ ونَصْبِ (شَفاعَةً) عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، وفي ذَلِكَ التِفاتٌ وخُرُوجٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ إلى ضَمِيرِ الغائِبِ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ: (اذْكُرُوا نِعْمَتِي) و(أنِّي فَضَّلْتُكم)، وبِناؤُهُ لِلْمَفْعُولِ أبْلَغُ لِأنَّهُ في اللَّفْظِ أعَمُّ، وإنْ كانَ يُعْلَمُ أنَّ الَّذِي لا يَقْبَلُ هو اللَّهُ تَعالى، والضَّمِيرُ في (مِنها) عائِدٌ عَلى (نَفْسٍ) المُتَأخِّرَةِ لِأنَّها أقْرَبُ مَذْكُورٍ، أيْ لا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ المُسْتَشْفِعَةِ شَفاعَةَ شافِعٍ، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلى (نَفْسٍ) الأُولى، أيْ ولا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الَّتِي لا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا شَفاعَةً، (p-١٩١)هِيَ بِصَدَدِ أنْ لَوْ شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنها، وقَدْ يَظْهَرُ تَرْجِيحُ عَوْدِها إلى النَّفْسِ الأُولى؛ لِأنَّها هي المُحَدَّثُ عَنْها في قَوْلِهِ: ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ﴾ والنَّفْسُ الثّانِيَةُ هي مَذْكُورَةٌ عَلى سَبِيلِ الفَضْلَةِ لا العُمْدَةِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ﴾ نَفْيُ القَبُولِ ووُجُودِ الشَّفاعَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ: ؎عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ نَفى القَبُولَ والمَقْصُودُ نَفْيُ الشَّفاعَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا شَفاعَةَ فَتُقْبَلُ. وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في فَهْمِ هَذا عَلى سِتَّةِ أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَفْظٌ عامٌّ لِمَعْنًى خاصٍّ، والمُرادُ: الَّذِينَ قالُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأبْناءُ أنْبِيائِهِ، وأنَّهم يَشْفَعُونَ لَنا عِنْدَ اللَّهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وأُويِسُوا مِنهُ لِكُفْرِهِمْ، وعَلى هَذا تَكُونُ النَّفْسُ الأوْلى مُؤْمِنَةً، والثّانِيَةُ كافِرَةً، والكافِرُ لا تَنْفَعُهُ شَفاعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما تَنْفَعُهم شَفاعَةُ الشّافِعِينَ﴾ [المدثر: ٤٨] . الثّانِي: مَعْناهُ لا يَجِدُونَ شَفِيعًا تُقْبَلُ شَفاعَتُهُ؛ لِعَجْزِ المَشْفُوعِ فِيهِ عَنْهُ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ. الثّالِثُ: مَعْناهُ لا يُجِيبُ الشّافِعُ المَشْفُوعَ فِيهِ إلى الشَّفاعَةِ، وإنْ كانَ لَوْ شَفَعَ لَشُفِّعَ. الرّابِعُ: مَعْناهُ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ في الشَّفاعَةِ لِلْكُفّارِ، ولا بُدَّ مِن إذَنٍ مِنَ اللَّهِ بِتَقَدُّمِ الشّافِعِ بِالشَّفاعَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ [سبإ: ٢٣]، ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ [الأنبياء: ٢٨] . الخامِسُ: مَعْناهُ لَيْسَ لَها شَفاعَةٌ، فَيَكُونُ لَها قَبُولٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا القَوْلُ. السّادِسُ: أنَّهُ نَفْيٌ عامٌّ، أيْ لا يُقْبَلُ في غَيْرِها، لا مُؤْمِنَةً ولا كافِرَةً، في مُؤْمِنَةٍ ولا كافِرَةٍ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وأجْمَعُ أهْلُ السُّنَّةِ أنَّ شَفاعَةَ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ تُقْبَلُ في العُصاةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قالُوا: الكَبِيرَةُ تُخَلِّدُ صاحِبَها في النّارِ، وأنْكَرُوا الشَّفاعَةَ، وهم عَلى ضَرْبَيْنِ: طائِفَةٌ أنْكَرَتِ الشَّفاعَةَ إنْكارًا كُلِّيًّا وقالُوا: لا تُقْبَلُ شَفاعَةُ أحَدٍ في أحَدٍ، واسْتَدَلُّوا بِظَواهِرِ آياتٍ، وخَصَّ تِلْكَ الظَّواهِرَ أصْحابُنا بِالكُفّارِ لِثُبُوتِ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ في الشَّفاعَةِ. وطائِفَةٌ أنْكَرَتِ الشَّفاعَةَ في أهْلِ الكَبائِرِ، قالُوا: وإنَّما تُقْبَلُ في الصَّغائِرِ، وقالَ في المُنْتَخَبِ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ لِمُحَمَّدٍ، ﷺ، شَفاعَةً في الآخِرَةِ، واخْتَلَفُوا لِمَن تَكُونُ، فَذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ إلى أنَّها لِلْمُسْتَحِقِّينَ الثَّوابَ، وتَأْثِيرُها في أنْ تُحَصِّلَ زِيادَةً مِنَ المَنافِعِ عَلى قَدْرِ ما اسْتَحَقُّوهُ، وقالَ أصْحابُنا: تَأْثِيرُها في إسْقاطِ العَذابِ عَنِ المُسْتَحِقِّينَ، إمّا بِأنْ لا يَدْخُلُوا النّارَ، وإمّا في أنْ يَخْرُجُوا مِنها بَعْدَ دُخُولِها ويَدْخُلُوا الجَنَّةَ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّها لَيْسَتْ لِلْكُفّارِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِن سِتِّ أوْراقٍ في الِاسْتِدْلالِ لِلطّائِفَتَيْنِ ورَدِّ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، يُوقَفُ عَلَيْها في ذَلِكَ الكِتابِ. ﴿ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ﴾ العَدْلُ: الفِدْيَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو العالِيَةِ، وسُمِّيتْ عَدْلًا لِأنَّ المُفْدى يُعْدَلُ بِها: أيْ يُساوِيها، أوِ البَدَلُ: أيْ رَجُلٌ مَكانَ رَجُلٍ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أوْ حَسَنَةٌ مَعَ الشِّرْكِ، ثَلاثَةُ أقْوالٍ. ﴿ولا هم يُنْصَرُونَ﴾: أتى بِالضَّمِيرِ مَجْمُوعًا عَلى مَعْنى نَفْسٍ؛ لِأنَّها نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] وأتى بِهِ مُذَكَّرًا لِأنَّهُ أُرِيدَ بِالنُّفُوسِ الأشْخاصُ كَقَوْلِهِمْ: ثَلاثَةُ أنْفُسٍ، وجُعِلَ حَرْفُ النَّفْيِ مُنْسَحِبًا عَلى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ؛ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، فَيَتَأكَّدُ ذِكْرُ المَنفِيِّ عَنْهُ النَّصْرُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ، وحَسَّنَ الحَمْلَ عَلى المَعْنى كَوْنُ ذَلِكَ في آخِرِ فاصِلَةٍ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّناسُبُ في الفَواصِلِ، بِخِلافِ أنْ لَوْ جاءَ ولا تُنْصَرُ، إذْ كانَ يَفُوتُ التَّناسُبُ. ويَحْتَمِلُ رَفْعُ هَذا الضَّمِيرِ وجْهَيْنِ مِنَ الإعْرابِ، أحَدُهُما وهو المُتَبادِرُ إلى أذْهانِ المُعْرِبِينَ أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ بَعْدَهُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الخَبَرِ. والوَجْهُ الثّانِي: وهو أغْمَضُ الوَجْهَيْنِ وأغْرَبُهُما أنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، يُفَسِّرُ فِعْلَهُ الفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، وتَكُونُ المَسْألَةُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، وذَلِكَ أنَّ (لا) هي مِنَ الأدَواتِ الَّتِي هي أوْلى بِالفِعْلِ، كَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ. فَكَما يَجُوزُ في: أزْيَدٌ قائِمٌ، وأزْيَدٌ يَضْرِبُ، الرَّفْعُ عَلى الِاشْتِغالِ، فَكَذَلِكَ هَذا، ويُقَوِّي هَذا الوَجْهَ أنَّهُ تَقَدَّمَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً. والحُكْمُ في بابِ الِاشْتِغالِ أنَّهُ إذا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وعُطِف (p-١٩٢)عَلَيْها بِشَرْطِ العَطْفِ المَذْكُورِ في ذَلِكَ البابِ، فالأفْصَحُ الحَمْلُ عَلى الفِعْلِ، ويَجُوزُ الِابْتِداءُ كَما ذَكَرْنا أوَّلًا، ويُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى (نَفْسٍ) الثّانِيَةِ بِناءُ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، إذْ لَوْ كانَ عائِدًا عَلى (نَفْسٍ) الأُولى لَكانَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، كَقَوْلِهِ: (لا تَجْزِي) . ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن جَعَلَ الضَّمِيرَ في (ولا هم) عائِدًا عَلى النَّفْسَيْنِ مَعًا، قالَ: لِأنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ. قالُوا: وفي مَعْنى النَّصْرِ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنا ثَلاثَةُ أقْوالٍ، أحَدُها: أنَّ مَعْناهُ لا يُمْنَعُونَ مِن عَذابِ اللَّهِ. الثّانِي: لا يَجِدُونَ ناصِرًا يَنْصُرُهم ولا شافِعًا يَشْفَعُ لَهم. الثّالِثُ: لا يُعاوَنُونَ عَلى خَلاصِهِمْ وفِكاكِهِمْ مِن مُوبِقاتِ أعْمالِهِمْ. وثَلاثَةُ الأقْوالِ هَذِهِ مُتَقارِبَةُ المَعْنى، وجاءَ النَّفْيُ لِهَذِهِ الجُمَلِ هُنا بِـ (لا) المُسْتَعْمَلَةِ لِنَفْيِ المُسْتَقْبَلِ في الأكْثَرِ، وكَذَلِكَ هَذِهِ الأشْياءُ الأرْبَعَةُ هي مُسْتَقْبَلَةٌ؛ لِأنَّ هَذا اليَوْمَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. وتَرْتِيبُ هَذِهِ الجُمَلِ في غايَةِ الفَصاحَةِ، وهي عَلى حَسَبِ الواقِعِ في الدُّنْيا؛ لِأنَّ المَأْخُوذَ بِحَقٍّ، إمّا أنْ يُؤَدّى عَنْهُ الحَقُّ فَيَخْلُصُ، أوْ لا يُقْضى عَنْهُ فَيُشْفَعُ فِيهِ، أوْ لا يُشْفَعُ فِيهِ فَيُفْدى، أوْ لا يُفْدى فَيُتَعاوَنُ بِالإخْوانِ عَلى تَخْلِيصِهِ. فَهَذِهِ مَراتِبٌ يَتْلُو بَعْضُها بَعْضًا. فَلِهَذا، واللَّهُ أعْلَمُ، جاءَتْ مُتَرَتِّبَةً في الذِّكْرِ هَكَذا، ولَمّا كانَ الأمْرُ مُخْتَلِفًا عِنْدَ النّاسِ في الشَّفاعَةِ والفِدْيَةِ، فَمَن يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الرِّياسَةِ قَدَّمَ الشَّفاعَةَ عَلى الفِدْيَةِ، ومَن يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ المالِ قَدَّمَ الفِدْيَةَ عَلى الشَّفاعَةِ، جاءَتْ هَذِهِ الجُمَلُ هُنا مُقَدَّمًا فِيها الشَّفاعَةُ، وجاءَتِ الفِدْيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلى الشَّفاعَةِ في جُمْلَةٍ أُخْرى، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى اخْتِلافِ الأمْرَيْنِ، وبُدِئَ هُنا بِالشَّفاعَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ألْيَقُ بِعُلُوِّ النَّفْسِ، وجاءَ هُنا بِلَفْظِ القَبُولِ، وهُناكَ بِلَفْظِ النَّفْعِ، إشارَةٌ إلى انْتِفاءِ أصْلِ الشَّيْءَ، وانْتِفاءِ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وبُدِئَ هُنا بِالقَبُولِ؛ لِأنَّهُ أصْلٌ لِلشَّيْءِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، فَأعْطى المُتَقَدِّمَ ذِكْرَ المُتَقَدَّمِ وُجُودًا، وأخَّرَ هُناكَ النَّفْعَ إعْطاءً لِلْمُتَأخِّرِ ذِكْرَ المُتَأخَّرِ وُجُودًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب