الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وإنَّما كَرَّرَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ تَوْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وتَحْذِيرًا لَهم مِن تَرْكِ اتِّباعِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. ثُمَّ قَرَنَهُ بِالوَعِيدِ وهو قَوْلُهُ: واتَّقُوا يَوْمًا وقَوْلُهُ: وأنِّي فَضَّلْتُكم مَعْطُوفٌ عَلى مَفْعُولِ اذْكُرُوا: أيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي وتَفْضِيلِي لَكم عَلى العالَمِينَ، قِيلَ: المُرادُ بِالعالَمِينَ عالَمُ زَمانِهِمْ، وقِيلَ: عَلى جَمِيعِ العالَمِينَ بِما جَعَلَ فِيهِمْ مِنَ الأنْبِياءِ. وقالَ في الكَشّافِ: عَلى الجَمِّ الغَفِيرِ مِنَ النّاسِ كَقَوْلِهِ: ﴿بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] يُقالُ: رَأيْتُ عالَمًا مِنَ النّاسِ: يُرادُ الكَثْرَةُ انْتَهى. قالَ الرّازِيُّ في تَفْسِيرِهِ: وهَذا ضَعِيفٌ، لِأنَّ لَفْظَ العالَمِ مُشْتَقٌّ مِنَ العَلَمِ وهو الدَّلِيلُ، وكُلُّ ما كانَ دَلِيلًا عَلى اللَّهِ كانَ عَلَمًا وكانَ مِنَ العالَمِ. وهَذا تَحْقِيقُ قَوْلِ المُتَكَلِّمِينَ: العالَمُ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوى اللَّهِ، وعَلى هَذا لا يُمْكِنُ تَخْصِيصُ لَفْظِ العالَمِ بِبَعْضِ المُحْدَثاتِ انْتَهى. وأقُولُ: هَذا الِاعْتِراضُ ساقِطٌ، أمّا أوَّلًا فَدَعْوى اشْتِقاقِهِ مِنَ العَلَمِ لا بُرْهانَ عَلَيْهِ، وأمّا ثانِيًا فَلَوْ سَلَّمْنا صِحَّةَ هَذا الِاشْتِقاقِ كانَ المَعْنى مَوْجُودًا بِما يَتَحَصَّلُ مَعَهُ مَفْهُومُ الدَّلِيلِ عَلى اللَّهِ الَّذِي يَصِحُّ إطْلاقُ اسْمِ العَلَمِ عَلَيْهِ، وهو كائِنٌ في كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ المَخْلُوقاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِها عَلى الخالِقِ، وغايَتُهُ أنَّ جَمْعَ العالَمِ يَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونُوا مُفَضَّلِينَ عَلى أفْرادٍ كَثِيرَةٍ مِنَ المُحْدَثاتِ، وأمّا أنَّهم مُفَضَّلُونَ عَلى كُلِّ المُحْدَثاتِ في كُلِّ زَمانٍ، فَلَيْسَ في اللَّفْظِ ما يُفِيدُ هَذا، ولا في اشْتِقاقِهِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وأمّا مَن جَعَلَ العالَمَ أهْلَ العَصْرِ، فَغايَتُهُ أنْ يَكُونُوا مُفَضَّلِينَ عَلى أهْلِ عُصُورٍ لا عَلى أهْلِ كُلِّ عَصْرٍ، فَلا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَفْضِيلَهم عَلى أهْلِ العَصْرِ الَّذِينَ فِيهِمْ نَبِيُّنا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ولا عَلى ما بَعْدَهُ مِنَ العُصُورِ، ومِثْلُ هَذا الكَلامِ يَنْبَغِي اسْتِحْضارُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ جَعَلَ فِيكم أنْبِياءَ وجَعَلَكم مُلُوكًا وآتاكم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ٢٠] وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدِ اخْتَرْناهم عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢] وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١١٠] فَإنْ قِيلَ: إنَّ التَّعْرِيفَ في العالَمِينَ يَدُلُّ عَلى شُمُولِهِ لِكُلِّ عالَمٍ. قُلْتُ: لَوْ كانَ الأمْرُ هَكَذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِكَوْنِهِمْ أفْضَلَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ فَإنَّ هَذِهِ الآيَةَ ونَحْوَها تَكُونُ مُخَصَّصَةً لِتِلْكَ الآياتِ. وقَوْلُهُ: واتَّقُوا يَوْمًا أمْرٌ مَعْناهُ الوَعِيدُ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى التَّقْوى. والمُرادُ بِاليَوْمِ يَوْمُ القِيامَةِ: أيْ عَذابُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِيَوْمٍ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ. قالَ البَصْرِيُّونَ في هَذا وأمْثالِهِ تَقْدِيرُهُ فِيهِ. وقالَ الكِسائِيُّ: هَذا خَطَأٌ، بَلِ التَّقْدِيرُ لا تَجْزِيهِ. لِأنَّ حَذْفَ الظَّرْفِ لا يَجُوزُ، ويَجُوزُ حَذْفُ الضَّمِيرِ وحْدَهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ والأخْفَشِ والزَّجّاجِ جَوازُ الأمْرَيْنِ. ومَعْنى: لا تَجْزِي لا تَكْفِي وتَقْضِي، يُقالُ: جَزا عَنِّي هَذا الأمْرَ يَجْزِي: أيْ قَضى، واجْتَزَأْتُ بِالشَّيْءِ أجْتَزِي: أيِ اكْتَفَيْتُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: فَإنَّ الغَدْرَ في الأقْوامِ عارٌ وإنَّ الحُرَّ يُجْزى بِالكُراعِ والمُرادُ أنَّ هَذا اليَوْمَ لا تَقْضِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولا تَكْفِي عَنْها، ومَعْنى التَّنْكِيرِ التَّحْقِيرُ: أيْ شَيْئًا يَسِيرًا حَقِيرًا، وهو مَنصُوبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ أوْ عَلى أنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ جَزاءً حَقِيرًا، والشَّفاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ وهو الِاثْنانِ، تَقُولُ اسْتَشْفَعْتُهُ: أيْ سَألْتُهُ أنْ يَشْفَعَ لِي: أيْ يَضُمَّ جاهَهُ إلى جاهِكَ عِنْدَ المَشْفُوعِ إلَيْهِ لِيَصِلَ النَّفْعُ إلى المَشْفُوعِ لَهُ، وسُمِّيَتِ الشُّفْعَةَ لِأنَّكَ تَضُمُّ مِلْكَ شَرِيكِكَ إلى مِلْكِكَ. وقَدْ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو " وتُقْبَلُ " بِالمُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ لِأنَّ الشَّفاعَةَ مُؤَنَّثَةٌ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ لِأنَّها بِمَعْنى الشَّفِيعِ. قالَ الأخْفَشُ: الأحْسَنُ التَّذْكِيرِ. وضَمِيرُ " مِنها " يَرْجِعُ إلى النَّفْسِ المَذْكُورَةِ ثانِيًا: أيْ إنْ جاءَتْ بِشَفاعَةِ شَفِيعٍ، ويَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إلى النَّفْسِ المَذْكُورَةِ أوَلًا: أيْ إذا شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنها. والعَدْلُ بِفَتْحِ العَيْنِ: الفِداءُ وبِكَسْرِها: المِثْلُ. يُقالُ: عَدَلَ أيْ إذا شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنها. والعَدْلُ بِفَتْحِ العَيْنِ: الفِداءُ وبِكَسْرِها: المِثْلُ. يُقالُ: عَدْلٌ وعَدِيلٌ لِلَّذِي ماثَلَ في الوَزْنِ والقَدْرِ. وحَكى ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ في العَرَبِ مَن يَكْسِرُ العَيْنَ في مَعْنى الفِدْيَةِ. والنَّصْرُ: العَوْنُ، والأنْصارُ: الأعْوانُ، وانْتَصَرَ الرَّجُلُ: انْتَقَمَ، والضَّمِيرُ أيْ: ( هم ) يَرْجِعُ إلى النُّفُوسِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِالنَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ، والنَّفْسُ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ. وقَوْلُهُ: إذْ نَجَّيْناكم مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اذْكُرُوا والنَّجاةُ: النَّجْوَةُ مِنَ الأرْضِ وهي ما ارْتَفَعَ مِنها، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ فائِزٍ ناجِيًا. وآلُ (p-٥٧)فِرْعَوْنَ: قَوْمُهُ، وأصْلُ آلِ: أهْلٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلى أُهَيْلٍ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وهو يُضافُ إلى ذَوِي الخَطَرِ. قالَ الأخْفَشُ: إنَّما يُقالُ في الرَّئِيسِ الأعْظَمِ نَحْوُ آلِ مُحَمَّدٍ. ولا يُضافُ إلى البُلْدانِ فَلا يُقالُ مِن آلِ المَدِينَةِ. وقالَ الأخْفَشُ: قَدْ سَمِعْناهُ في البُلْدانِ قالُوا: آلِ المَدِينَةِ. واخْتَلَفُوا هَلْ يُضافُ إلى المُضْمَرِ أمْ لا، فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وسَوَّغَهُ آخَرُونَ وهو الحَقُّ، ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ المُطَّلِبِ: ؎وانْصُرْ عَلى آلِ الصَّلِي بِ وعابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكَ وفِرْعَوْنُ: قِيلَ هو اسْمُ ذَلِكَ المَلِكِ بِعَيْنِهِ - وقِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَلِكٍ مِن مُلُوكِ العَمالِقَةِ كَما يُسَمّى مَن مَلَكَ الفُرْسَ كِسْرى، ومَن مَلَكَ الرُّومَ قَيْصَرَ، ومَن مَلَكَ الحَبَشَةَ النَّجاشِيَّ. واسْمُ فِرْعَوْنِ مُوسى المَذْكُورِ هُنا: قابُوسُ في قَوْلِ أهْلِ الكِتابِ. وقالَ وهْبٌ: اسْمُهُ الوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيّانِ. قالَ المَسْعُودِيُّ: لا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالعَرَبِيَّةِ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: إنَّ كُلَّ عاتٍ يُقالُ لَهُ فِرْعَوْنُ، وقَدْ تَفَرْعَنَ وهو ذُو فَرْعَنَةٍ: أيْ دَهاءٍ ومَكْرٍ. وقالَ في الكَشّافِ: تَفَرْعَنَ فُلانٌ: إذا عَتا وتَجَبَّرَ. ومَعْنى قَوْلِهِ: يَسُومُونَكم يُوَلُّونَكم، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، وقِيلَ: يُذِيقُونَكم ويُلْزِمُونَكم إيّاهُ، وأصْلُ السَّوْمِ الدَّوامُ، ومِنهُ سائِمَةُ الغَنَمِ لِمُداوَمَتِها الرَّعْيَ، ويُقالُ: سامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ: إذا أوْلاهُ إيّاها. وقالَ في الكَشّافِ: أصْلُهُ مِن سامَ السِّلْعَةَ إذا طَلَبَها، كَأنَّهُ بِمَعْنى يَبْغُونَكم سُوءَ العَذابِ ويُرِيدُونَكم عَلَيْهِ انْتَهى. وسُوءُ العَذابِ: أشَدُّهُ، وهو صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ يَسُومُونَكم سَوْمًا سُوءَ العَذابِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا، وهَذِهِ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّها خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ سائِمِينَ لَكم. وقَوْلُهُ: يُذَبِّحُونَ وما بَعْدَهُ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: يَسُومُونَكم وقالَ الفَرّاءُ: إنَّهُ تَفْسِيرٌ لِما قَبْلَهُ وقَرَأهُ الجَماعَةُ بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ. والذَّبْحُ في الأصْلِ: الشِّقُّ، وهو فَرْيُ أوْداجِ المَذْبُوحِ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم﴾ يَتْرُكُونَهُنَّ أحْياءً لِيَسْتَخْدِمُوهُنَّ ويَمْتَهِنُوهُنَّ، وإنَّما أمَرَ بِذَبْحِ الأبْناءِ واسْتِحْياءِ البَناتِ لِأنَّ الكَهَنَةَ أخْبَرُوهُ بِأنَّهُ يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلاكُهُ عَلى يَدِهِ، وعَبَّرَ عَنِ البَناتِ بِاسْمِ النِّساءِ لِأنَّهُ جِنْسٌ يَصْدُقُ عَلى البَناتِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: إنَّهُ أمَرَ بِذَبْحِ الرِّجالِ واسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: نِساءَكم والأوَّلُ أصَحُّ بِشَهادَةِ السَّبَبِ، ولا يَخْفى ما في قَتْلِ الأبْناءِ واسْتِحْياءِ البَناتِ لِلْخِدْمَةِ ونَحْوِها مِن إنْزالِ الذُّلِّ بِهِمْ وإلْصاقِ الإهانَةِ الشَّدِيدَةِ بِجَمِيعِهِمْ لِما في ذَلِكَ مِنَ العارِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: وفي ذَلِكم إلى جُمْلَةِ الأمْرِ. والبَلاءُ يُطْلَقُ تارَةً عَلى الخَيْرِ، وتارَةً عَلى الشَّرِّ، فَإنْ أُرِيدَ بِهِ هُنا الشَّرُّ كانَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: وفي ذَلِكم بَلاءٌ إلى ما حَلَّ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ بِالذَّبْحِ ونَحْوِهِ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ الخَيْرُ كانَتِ الإشارَةُ إلى النِّعْمَةِ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالإنْجاءِ، وما هو مَذْكُورٌ قَبْلَهُ مِن تَفْضِيلِهِمْ عَلى العالَمِينَ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ ومَن بَعْدَهم في مَرْجِعِ الإشارَةِ، فَرَجَّحَ الجُمْهُورُ الأوَّلَ، ورَجَّحَ الآخَرُونَ الآخَرَ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وأكْثَرُ ما يُقالُ في الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أبْلُوهُ بَلاءً، وفي الخَيْرِ أبْلِيهِ إبْلاءً وبَلاءً، قالَ زُهَيْرٌ: جَزى اللَّهُ بِالإحْسانِ ما فَعَلا بِكم وأبْلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو قالَ: فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ لِأنَّهُ أرادَ فَأنْعَمَ عَلَيْهِما خَيْرَ النِّعَمِ الَّتِي يَخْتَبِرُ بِها عِبادَهُ. وقَوْلُهُ: وإذْ فَرَقْنا مُتَعَلِّقٌ بِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: اذْكُرُوا وفَرَقْنا: فَلَقْنا، وأصْلُ الفَرْقِ الفَصْلُ، ومِنهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ فَرَّقْنا بِالتَّشْدِيدِ، والباءُ في قَوْلِهِ: بِكُمُ قِيلَ: هي بِمَعْنى اللّامُ: أيْ لَكم، وقِيلَ: هي الباءُ السَّبَبِيَّةُ، أيْ فَرَقْناهُ بِسَبَبِكم، وقِيلَ: إنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ في مَحَلِّ الحالِ: أيْ فَرَقْناهُ مُتَلَبِّسًا بِكم، والمُرادُ هاهُنا أنَّ فَرْقَ البَحْرِ كانَ بِهِمْ: أيْ بِسَبَبِ دُخُولِهِمْ فِيهِ: أيْ لَمّا صارُوا بَيْنَ الماءَيْنِ صارَ الفَرْقُ بِهِمْ. وأصْلُ البَحْرِ في اللُّغَةِ: الِاتِّساعُ، أُطْلِقَ عَلى البَحْرِ الَّذِي هو مُقابِلُ البَرِّ لِما فِيهِ مِنَ الِاتِّساعِ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّهْرِ والخَلِيجِ، ويُطْلَقُ عَلى الماءِ المالِحِ، ومِنهُ أبْحَرَ الماءُ: إذا مَلَحَ، قالَ نُصَيْبٌ: ؎وقَدْ عادَ ماءُ الأرْضِ بَحْرًا فَزادَنِي ∗∗∗ إلى مَرَضِي أنْ أبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ وقَوْلُهُ: فَأنْجَيْناكم أيْ أخْرَجْناكم مِنهُ: ﴿وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ فِيهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ حالَ كَوْنِكم ناظِرِينَ إلَيْهِمْ بِأبْصارِكم، وقِيلَ مَعْناهُ: وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ: أيْ يَنْظُرُ بَعْضُكم إلى البَعْضِ الآخَرِ مِنَ السّالِكِينَ في البَحْرِ، وقِيلَ: نَظَرُوا إلى أنْفُسِهِمْ يَنْجُونَ وإلى آلِ فِرْعَوْنَ يَغْرَقُونَ. والمُرادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ هُنا هو وقَوْمُهُ وأتْباعُهُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ كانَ إذا تَلا ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ قالَ: مَضى القَوْمُ، وإنَّما يَعْنِي بِهِ أنْتُمْ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قالَ في قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ هي أيادِي اللَّهِ وأيّامُهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلى بَنِي إسْرائِيلَ فِيما سَمّى وفِيما سِوى ذَلِكَ، فَجَّرَ لَهُمُ الحَجَرَ وأنْزَلَ عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى وأنْجاهم مِن عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ قالَ: فُضِّلُوا عَلى العالَمِ الَّذِي كانُوا فِيهِ، ولِكُلِّ زَمانٍ عالَمٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ قالَ: بِما أُعْطُوا مِنَ المُلْكِ والرُّسُلِ والكُتُبِ عَلى مَن كانَ في ذَلِكَ الزَّمانِ فَإنَّ لِكُلِّ زَمانٍ عالَمًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ قالَ: لا تُغْنِي نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ عَنْ نَفْسٍ كافِرَةٍ مِنَ المَنفَعَةِ شَيْئًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ المُلائِيِّ «عَنْ رَجُلٍ مِن بَنِي أُمَيَّةَ مِن أهْلِ الشّامِ» أحْسَنَ الثَّناءَ عَلَيْهِ قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما العَدْلُ ؟ قالَ: العَدْلُ الفِدْيَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوَهُ. قالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ ورُوِيَ عَنْ أبِي مالِكٍ والحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ عَلِيٍّ في تَفْسِيرِ الصَّرْفِ (p-٥٨)والعَدْلِ قالَ: التَّطَوُّعُ والفَرِيضَةُ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا القَوْلُ غَرِيبٌ هاهُنا، والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَتِ الكَهَنَةُ لِفِرْعَوْنَ: إنَّهُ يُولَدُ في هَذا العامِ مَوْلُودٌ يَذْهَبُ بِمُلْكِهِ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ عَلى كُلِّ ألْفِ امْرَأةٍ مِائَةَ رَجُلٍ، وعَلى كُلِّ مِائَةٍ عَشْرَةً، وعَلى كُلِّ عَشْرٍ رَجُلًا، فَقالَ: انْظُرُوا كُلَّ امْرَأةٍ حامِلٍ في المَدِينَةِ، فَإذا وضَعَتْ حَمْلَها فَإنْ كانَ ذَكَرًا فاذْبَحُوهُ، وإنْ كانَ أُنْثى فَخَلُّوا عَنْها، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ﴾ قالَ: إنَّ فِرْعَوْنَ مَلَكَهم أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ. فَقالَتْ لَهُ الكَهَنَةُ: إنَّهُ سَيُولَدُ العامَ بِمِصْرَ غُلامٌ يَكُونُ هَلاكُكَ عَلى يَدَيْهِ، فَبَعَثَ في أهْلِ مِصْرَ نِساءً قَوابِلَ، فَإذا ولَدَتِ امْرَأةٌ غُلامًا أُتِيَ بِهِ فِرْعَوْنَ فَقَتَلَهُ، ويَسْتَحْيِي الجَوارِيَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ يَقُولُ: نِقْمَةٌ. وأخْرَجَ وكِيعٌ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ﴾ فَقالَ: إي واللَّهِ لَفَرَقَ البَحْرَ بَيْنَهم حَتّى صارَ طَرِيقًا يَبَسًا يَمْشُونَ فِيهِ، فَأنْجاهُمُ اللَّهُ وأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ عَدُوَّهم. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ المَدِينَةَ، فَرَأى اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عاشُوراءَ فَقالَ: ما هَذا اليَوْمُ ؟ قالُوا: هَذا يَوْمٌ صالِحٌ نَجّى اللَّهُ فِيهِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ فِصامَهُ مُوسى، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: نَحْنُ أحَقُّ بِمُوسى مِنكم، فَصامَهُ وأمَرَ بِصَوْمِهِ» . وقَدْ أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ هِرَقْلَ كَتَبَ إلى مُعاوِيَةَ يَسْألُهُ عَنْ أُمُورٍ، مِنها عَنِ البُقْعَةِ الَّتِي لَمْ تُصِبْها الشَّمْسُ إلّا ساعَةً، فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى ابْنِ عَبّاسٍ فَأجابَهُ عَنْ تِلْكَ الأُمُورِ وقالَ: وأمّا البُقْعَةُ الَّتِي لَمْ تُصِبْها الشَّمْسُ إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ: فالبَحْرُ الَّذِي أفْرَجَ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ. ولَعَلَّهُ سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى زِيادَةٌ عَلى ما هُنا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطَّوْدِ العَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب