الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَّرَهم بِتَخْصِيصِهِمْ بِالكَرامَةِ ونَهاهم عَنِ المُخالَفَةِ وكانَتِ المُخالَفَةُ مَعَ عَظِيمِ النِّعْمَةِ أقْبَحَ وأشَدَّ وأفْحَشَ؛ حَذَّرَهم يَوْمًا لا يُنْجِي أحَدًا فِيهِ إلّا تَقْواهُ، فَقالَ. وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا دَعاهم إلى الوَفاءِ بِالعَهْدِ تَنْبِيهًا لِهِمَّةِ مَن لَهُ فَضْلُ باطِنٍ يَرْجِعُ إلى فَضائِلِ النَّفْسِ، فَأجابَ مَن وُفِّقَ وتَمادى عَلى حالِهِ مَن خُذِلَ؛ ثَنّى الخِطابَ لَهم بِالتَّنْبِيهِ عَلى النِّعْمَةِ الظّاهِرَةِ لِيَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ مَن يَخافُ تَغْيِيرَ النِّعْمَةِ الظّاهِرَةِ حِينَ لَمْ يَخَفِ السُّقُوطَ عَنْ رُتْبَةِ الفَضِيلَةِ في الخِطابِ فَذَكَّرَهم بِالنِّعْمَةِ والتَّفْضِيلِ الَّذِي فَضَّلَهم بِهِ عَلى العالَمِينَ وهم (p-٣٤٧)مَن ظَهَرَتْ أعْلامُ وُجُودِهِمْ في زَمانِهِمْ، وكَذَلِكَ كَلُّ تَفْضِيلٍ يَقَعُ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وإنَّما العالَمُ مَن شَمَلَهُ الوُجُودُ لا ما أحاطَ بِهِ العِلْمُ بَعْدُ، لِأنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرْفَعْ في الشُّهُودِ عِلْمَ وجُودِهِ؛ وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّهم كَما فَضَّلُوهم عَلى عالَمِي زَمانِهِمْ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُورٍ عَلَيْهِمْ بَلْ كَذَلِكَ يُفَضِّلُ اللَّهُ العَرَبَ في زَمانِ نُبُوَّتِها عَلى بَنِي إسْرائِيلَ وعَلى جَمِيعِ المَوْجُودِينَ في زَمانِهِمْ، وحَيْثُ انْتَهى الخِطابُ إلى تَذَكُّرِ ظاهِرِ النِّعْمَةِ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِباطِنِ الفَضِيلَةِ لَمْ يَبْقَ وراءَ ذَلِكَ إلّا التَّهْدِيدُ بِوَعِيدِ الآخِرَةِ عَطْفًا عَلى تَهْدِيدٍ تَقْتَضِيهِ الأفْهامُ بِتَغْيِيرِ ما بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ في الدُّنْيا؛ فَكانَ (p-٣٤٨)مَفْهُومُ الخِطابِ: فاحْذَرُوا أنْ يُصِيبَكم مِثْلُ ما أصابَ المُؤاخَذِينَ في الدُّنْيا، انْتَهى. ﴿واتَّقُوا﴾ . ولَمّا كانَ المُتَّقى إنَّما هو الجَزاءُ الواقِعُ في يَوْمِ القِيامَةِ حَذَفَهُ وأقامَ اليَوْمَ مَقامَهُ تَفْخِيمًا لَهُ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ عِقابَهُ لا يُدْفَعُ كَما يُدْفَعُ ما في غَيْرِهِ بِأنْواعِ الحِيَلِ فَقالَ: ﴿يَوْمًا﴾ هو مِنَ العَظَمَةِ بِحَيْثُ ﴿لا تَجْزِي﴾ أيْ تُفْضِي وتُغْنِي فِيهِ ﴿نَفْسٌ﴾ أيُّ نَفْسٍ كانَتْ ﴿عَنْ نَفْسٍ﴾ (p-٣٤٩)كَذَلِكَ ﴿شَيْئًا﴾ مِنَ الجَزاءِ. قالَ الحَرالِّيُّ: والنَّفْسُ لِكُلِّ امْرِئٍ لَزِمَتْهُ نَفاسَةٌ عَلى غَيْرِهِ، فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ لا يُغْنِي بَعْضُهم عَنْ بَعْضٍ بِخِلافِ مَن آثَرَ غَيْرَهُ وذَهَبَتْ نَفاسَةُ نَفْسِهِ، فَإنَّهُ يُغْنِي عَمَّنْ دُونَهُ بِالشَّفاعَةِ والإحْسانِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وفِيهِ إعْلامٌ بِأنَّ ضَعَةَ النَّفْسِ مَبْدَأُ التَّوْفِيقِ ونَفاسَتَها مَبْدَأُ الخِذْلانِ ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] فَذُلُّ العَبْدِ - بِالضَّمِّ - لِلَّهِ، وذِلُّهُ - بِالكَسْرِ - لِعِبادِ اللَّهِ بُشْرى فَوْزِهِ، وإعْراضُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وصَعْرُ خَدِّهِ لِلنّاسِ نِذارَةُ هَلاكِهِ. انْتَهى. ولَمّا كانَ الإجْزاءُ قَدْ يَكُونُ بِنَفْسِ كَوْنِ المُجْزِئِ مَوْجُودًا وهو بِحَيْثُ يَخْشى أنْ يَسْعى في الفَكاكِ بِنَوْعِ حِيلَةٍ فَتُحَرَّكُ القُلُوبُ لِإجابَتِهِ وفَكِّ أسِيرِهِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ مِن أسْرِهِ عَلى إطْلاقِهِ، وقَدْ يُحْتالُ بِالفِعْلِ في التَّوَصُّلِ إلى فَكِّهِ في خُفْيَةٍ بِسَرِقَتِهِ أوْ فَتْحِ سِجْنِهِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وكانَتْ وُجُوهُ الإجْزاءِ المَشْهُورَةُ ثَلاثَةً عَطَفَها عَلى الإجْزاءِ الأعَمِّ مِنها فَقالَ: (p-٣٥٠)﴿ولا يُقْبَلُ مِنها﴾ أيِ النَّفْسِ الأُولى أوِ الثّانِيَةِ ﴿شَفاعَةٌ﴾ أيْ لَمْ يُؤْذَنْ فِيها وهي مِنَ الشَّفْعِ وهو إرْفادُ الطّالِبِ بِتَثْنِيَةِ الرَّغْبَةِ لَهُ فِيما رَغِبَ فِيهِ لِيَصِيرَ كالإمامِ لَهُ في وُجْهَةِ حاجَتِهِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ ﴿ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ﴾ تَبْذُلُهُ غَيْرَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، وهو ما يَعْدِلُ الشَّيْءَ ويَكُونُ مَعَهُ كالعِدْلَيْنِ المُتَكافِئَيِ القَدْرِ عَلى الحُمُولَةِ، فَكَأنَّ العِدْلَ - بِالكَسْرِ - في الشَّيْءِ المَحْسُوسِ، والعَدْلُ - بِالفَتْحِ - في الشَّيْءِ المَعْقُولِ، وكَذَلِكَ عادَةُ العَرَبِ تُفَرِّقُ بَيْنَ ما في الحِسِّ وما في المَعْنى بِعَلامَةِ إعْرابٍ في ذاتِ نَفْسِ الكَلِمَةِ لا في آخِرِها، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ولَمّا كانَ عَدَمُ النُّصْرَةِ لِلْجَمْعِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَها لِلْمُفْرَدِ بِطَرِيقِ الأُولى (p-٣٥١)جَمَعَ فَقالَ: ﴿ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ أيْ يَتَجَدَّدُ لَهم نَصْرٌ يَوْمًا ما بِمَن يُنْقِذُهم قَهْرًا كائِنًا مَن كانَ، والنَّصْرُ تَأْيِيدُ المُقاوِمِ في الأمْرِ بِما هو أقْوى مِن مُقاوِمِهِ وهُما طَرَفانِ لِيَصِيرَ كالمُتَقَدِّمِ لَهُ بِحُكْمِ اسْتِقْلالِهِ فِيما يَتَوَقَّعُ عَجْزَ المَنصُورِ فِيهِ - قالَهُ الحَرالِّيُّ. فانْتَفى بِذَلِكَ جَمِيعُ وُجُوهِ الخَلاصِ الَّتِي يَطْمَعُ فِيها الظّالِمُ في الدُّنْيا. (p-٣٥٢)قالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَتْ أسْبابُ النَّجاةِ لِلْمَرْءِ بِأحَدِ ثَلاثٍ: إمّا شَفاعَةُ مَن فَوْقَهُ في العِلْمِ والفَضْلِ، وإمّا نُصْرَةُ مَن فَوْقَهُ في الأيْدِ والقُوَّةِ، وإمّا فِكاكُ مَن يَدُهُ لِنَفْسِهِ إذْ مَن هو مِثْلُهُ لا يُغْنِي وأحْرى مَن هو دُونَهُ، اسْتَوْفى الخِطابُ جَمِيعَ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ لِيَسُدَّ عَلى ذِي النَّفْسِ المُسْتَمْسِكِ بِنَفاسَتِهِ جَمِيعَ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ مِنَ الشَّفاعَةِ والفِدْيَةِ والنُّصْرَةِ. انْتَهى. ولَمّا تَقَدَّمَ أنَّهُ فَضَّلَهم وعاهَدَهم وأنَّ وفاءَهُ بِعَهْدِهِمْ مَشْرُوطٌ بِوَفائِهِمْ بِعَهْدِهِ؛ ناسِبَ تَقْدِيمَ الشَّفاعَةِ، ويَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في الآيَةِ (p-٣٥٣)الثّانِيَةِ ما يَتِمُّ بِهِ البَيانُ، ولَمّا وصَفَ ذَلِكَ اليَوْمَ بِأنَّهُ لا يَنْفَعُ فِيهِ حِيلَةٌ لِذِي مَلَكَةٍ المُتَرَدِّي بِالكِبْرِياءِ المُتَجَلِّلِ بِالعَظَمَةِ ذَكَّرَهم بِما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِن إنْجائِهِ لَهم بِمُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ حَيْثُ شَفَعا عِنْدَ المَلِكِ الَّذِي كانَ اسْتَعْبَدَهم وسامَهم سُوءَ العَذابِ، فَلَمّا لَمْ يُشَفِّعْهُما فِيهِمْ قاهَراهُ فانْتَصَرا عَلَيْهِ بِأيْدِ مَلِيكِهِمْ واسْتَنْقَذاهم مِنهُ بِسَطْوَةِ مَعْبُودِهِمْ. وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا اسْتَوْفى خِطابُ النِّداءِ لَهم وجْهَيِ التَّذْكِيرِ بِأصْلِ فَضِيلَةِ النَّفْسِ الباطِنَةِ بِالوَفاءِ وغَرَضِ النَّفْسِ الظّاهِرِ في النِّعْمَةِ والرِّئاسَةِ؛ جاءَ ما بَعْدَ ذَلِكَ مِن تَفاصِيلِ النِّعَمِ عَطْفًا مِن غَيْرِ تَجْدِيدِ نِداءٍ إلى مُنْتَهى خاتِمَةِ الخِطابِ مَعَهم حَيْثُ ثَنّى لَهُمُ الخِطابَ الأدْنى بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ خَتْمًا لِمُتَّسِقِ خِطابِهِ بِما تَضَمَّنَهُ تَذْكِيرُهم بِتَكْرارِ قَوْلِهِ: وإذْ وإذْ، واحِدَةً بَعْدَ أُخْرى إلى جُمْلَةٍ مِنها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب