الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٤٨ ] ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ "واتَّقُوا يَوْمًا" يُرِيدُ يَوْمَ القِيامَةِ أيْ: حِسابُهُ أوْ عَذابُهُ "لا تَجْزِي" فِيهِ "نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا" أيْ لا تَقْضِي عَنْها شَيْئًا مِنَ الحُقُوقِ. فانْتِصابُ "شَيْئًا" عَلى المَفْعُولِيَّةِ. أوْ شَيْئًا مِنَ الجَزاءِ فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِيَّةِ. وإيرادُهُ مُنْكَرًا مَعَ تَنْكِيرِ النَّفْسِ لِلتَّعْمِيمِ والإقْناطِ الكُلِّيِّ (p-١٢١)﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ ولا يُؤْخَذُ﴾ لا يُقْبَلُ "مِنها عَدْلٌ" أيْ: فِدْيَةٌ "ولا هم يُنْصَرُونَ" يُمْنَعُونَ مِن عَذابِ اللَّهِ. وجُمِعَ لِدَلالَةِ النَّفْسِ المُنَكَّرَةِ عَلى النُّفُوسِ الكَثِيرَةِ، وذُكِّرَ لِمَعْنى العِبادِ أوِ الأناسِيِّ. (تَنْبِيهٌ) تَمَسَّكَتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الشَّفاعَةَ لا تُقْبَلُ لِلْعُصاةِ؛ لِأنَّهُ نَفى أنْ تَقْضِيَ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ حَقًّا أخَلَّتْ بِهِ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ، ثُمَّ نَفى أنْ يُقْبَلَ مِنها شَفاعَةُ شَفِيعٍ، فَعَلِمَ أنَّها لا تُقْبَلُ لِلْعُصاةِ. والجَوابُ: أنَّها خاصَّةٌ بِالكُفّارِ. ويُؤَيِّدُهُ أنَّ الخِطابَ مَعَهم كَما قالَ: ﴿فَما تَنْفَعُهم شَفاعَةُ الشّافِعِينَ﴾ [المدثر: ٤٨] وكَما قالَ عَنْ أهْلِ النّارِ: ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٠] ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠١] فَمَعْنى الآيَةِ أنَّهُ تَعالى لا يَقْبَلُ فِيمَن كَفَرَ بِهِ فِدْيَةً ولا شَفاعَةً، ولا يُنْقِذُ أحَدًا مِن عَذابِهِ مُنْقِذٌ، ولا يَخْلُصُ مِنهُ أحَدٌ. وفِي الِانْتِصافِ: مَن جَحَدَ الشَّفاعَةَ فَهو جَدِيرٌ أنْ لا يَنالَها. وأمّا مَن آمَنَ بِها وصَدَّقَها؛ وهم أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، فَأُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ، ومُعْتَقَدُهم أنَّها تَنالُ العُصاةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وإنَّما ادُّخِرَتْ لَهم. ولَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ لِمُنْكِرِيها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ "يَوْمًا" أخْرَجَهُ مُنَكَّرًا، ولا شَكَّ أنَّ في القِيامَةِ مَواطِنَ، ويَوْمُها مَعْدُودٌ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ. فَبَعْضُ أوْقاتِها لَيْسَ زَمانًا لِلشَّفاعَةِ. وبَعْضُها هو الوَقْتُ المَوْعُودُ، وفِيهِ المَقامُ المَحْمُودُ لِسَيِّدِ البَشَرِ عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ. وقَدْ ورَدَتْ آيٌ كَثِيرَةٌ تُرْشِدُ إلى تَعَدُّدِ أيّامِها واخْتِلافِ أوْقاتِها. مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أنْسابَ بَيْنَهم يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧] (p-١٢٢)فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الآيَتَيْنِ عَلى يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ووَقْتَيْنِ مُتَغايِرَيْنِ: أحَدُهُما مَحَلٌّ لِلتَّناوُلِ، والآخَرُ لَيْسَ مَحَلًّا لَهُ، وكَذَلِكَ الشَّفاعَةُ، وأدِلَّةُ ثُبُوتِها لا تُحْصى كَثْرَةً، رَزَقَنا اللَّهُ الشَّفاعَةَ، وحَشَرَنا في زُمْرَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب