الباحث القرآني

﴿قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾: نادى آدَمَ بِاسْمِهِ العَلَمِ، وهي عادَةُ اللَّهِ مَعَ أنْبِيائِهِ، قالَ تَعالى: ﴿يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا﴾ [هود: ٤٨]، ﴿يانُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦]، ﴿ياإبْراهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤] ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ [الصافات: ١٠٥]، ﴿يامُوسى إنِّي أنا اللَّهُ﴾ [القصص: ٣٠]، ﴿ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ [المائدة: ١١٠]، ونادى مُحَمَّدًا نَبِيَّنا، ﷺ، وعَلى سائِرِ الأنْبِياءِ بِالوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ الإرْسالِ والإنْباءِ فَقالَ: (يا أيُّها الرَّسُولُ) (يا أيُّها النَّبِيُّ) . فانْظُرْ تَفاوُتَ ما بَيْنَ هَذا النِّداءِ وذاكَ النِّداءِ، والضَّمِيرُ في أنْبِئْهم عائِدٌ إلى المَلائِكَةِ، وفي بِأسْمائِهِمْ عائِدٌ عَلى المَعْرُوضِينَ عَلى الخِلافِ السّابِقِ. قالَ القُشَيْرِيُّ: مِن آثارِ العِنايَةِ بِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، لِما قالَ لِلْمَلائِكَةِ: أنْبِئُونِي، داخَلَهم مِن هَيْبَةِ الخِطابِ ما أخَذَهم عَنْهم، لا سِيَّما حِينَ طالَبَهم بِإنْبائِهِمْ إيّاهُ ما لَمْ تَحِطْ بِهِمْ عُلُومُهم. ولِما كانَ حَدِيثُ آدَمَ رَدَّهُ في الإنْباءِ إلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾، ومُخاطَبَةُ آدَمَ لِلْمَلائِكَةِ لَمْ تُوجِبْ الِاسْتِغْراقَ في الهَيْبَةِ. فَلَمّا أخْبَرَهم آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، بِأسْماءِ ما تَقاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُهم، ظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿ألَمْ أقُلْ لَكم إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ﴾، يَعْنِي ما تَقاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ الخَلْقِ وأعْلَمُ ما تَبْدُونَ مِنَ الطّاعاتِ وتَكْتُمُونَ مِنَ اعْتِقادِ الخَيْرِيَّةِ عَلى آدَمَ. انْتَهى كَلامُ القُشَيْرِيِّ. والجُمْلَةُ المُفْتَتَحَةُ بِالقَوْلِ إذا كانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُها عَلى بَعْضٍ في المَعْنى، فالأصَحُّ في لِسانِ العَرَبِ أنَّها لا يُؤْتى فِيها بِحَرْفِ تَرَتُّبٍ، اكْتِفاءً بِالتَّرْتِيبِ المَعْنَوِيِّ نَحْوَ (p-١٤٩)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠]، أتى بَعْدَهُ، ﴿قالَ إنِّي أعْلَمُ﴾ [البقرة: ٣٠]، ونَحْوَ: ﴿قالُوا سُبْحانَكَ﴾ [البقرة: ٣٢]، ﴿قالَ ياآدَمُ أنْبِئْهُمْ﴾، ونَحْوَ: ﴿قالَ لَأقْتُلَنَّكَ قالَ إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٢٧]، ﴿قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، ﴿قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، ﴿قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، ﴿قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، ﴿قالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ [البقرة: ٢٦٠] . وقَدْ جاءَ في سُورَةِ الشُّعَراءِ مِن ذَلِكَ عِشْرُونَ مَوْضِعًا في قِصَّةِ مُوسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، في إرْسالِهِ إلى فِرْعَوْنَ ومُحاوَرَتِهِ مَعَهُ، ومُحاوَرَةِ السَّحَرَةِ، إلى آخَرِ القِصَّةِ، دُونَ ثَلاثَةٍ، جاءَ مِنها اثْنانِ جَوابًا وواحِدٌ كالجَوابِ، ونَحْوُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أنْبِئْهُمْ﴾ بِالهَمْزِ وضَمَّ الهاءَ، وهَذا الأصْلُ كَما تَقُولُ: أكْرِمْهم. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿أنْبِئْهُمْ﴾ بِالهَمْزِ وكَسَرِ الهاءَ، ووَجْهُهُ أنَّهُ أتْبَعَ حَرَكَةَ الهاءِ لِحَرَكَةِ الباءِ، ولَمْ يُعْتَدَّ بِالهَمْزَةِ؛ لِأنَّها ساكِنَةٌ، فَهي حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. وقُرِئَ: أنْبِيهِمْ، بِإبْدالِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ الهاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ والأعْرَجُ وابْنُ كَثِيرٍ مِن طَرِيقِ القَوّاسِ: أنْبِهِمْ، عَلى وزْنِ أعْطِهِمْ، قالَ ابْنُ جِنِّي: هَذا عَلى إبْدالِ الهَمْزَةِ ياءً، عَلى أنَّكَ تَقُولُ: أنْبَيْتُ، كَأعْطَيْتُ، قالَ: وهَذا ضَعِيفٌ في اللُّغَةِ؛ لِأنَّهُ بَدَلٌ لا تَخْفِيفٌ. والبَدَلُ عِنْدَنا لا يَجُوزُ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهى كَلامُ أبِي الفَتْحِ. وما ذُكِرَ مِن أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. حَكى الأخْفَشُ في الأوْسَطِ: أنَّ العَرَبَ تَحَوِّلُ مِنَ الهَمْزَةِ مَوْضِعَ اللّامِ ياءٌ، فَيَقُولُونَ: قُرَيْتُ، وأُخْطَيْتُ، وتَوَضَّيْتُ، قالَ: ورُبَّما حَوَّلُوهُ إلى الواوِ، وهو قَلِيلٌ، نَحْوَ: رَفَوْتُ، والجَيِّدُ: رَفَأْتُ، ولَمْ أسْمَعْ: رَفَيْتُ. انْتَهى كَلامُ الأخْفَشِ. ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن ضَرائِرِ الشِّعْرِ، كَما ذَكَرَ أبُو الفَتْحِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا أنْبَأهم بِأسْمائِهِمْ﴾: جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَأنْبَئَهم بِها، فَلَمّا أنْبَأهم حُذِفَتْ لِفَهْمِ المَعْنى، وفي قَوْلِهِ: ﴿أنْبِئُونِي﴾ [البقرة: ٣١]، فَلَمّا أنْبَأهم تَنْبِيهٌ عَلى إعْلامِ اللَّهِ أنَّهُ قَدْ أعْلَمَ اللَّهُ أنَّهُ قَدْ أعْلَمَ آدَمَ مِن أحْوالِهِمْ ما لَمْ يُعْلِمْهم مِن حالِهِ؛ لِأنَّهم رَأوْهُ قَبْلَ النَّفْخِ مُصَوَّرًا، فَلَمْ يَعْلَمُوا ما هو، وعَلى أنَّهُ رَفَعَ دَرَجَةَ آدَمَ عِنْدَهم؛ لِكَوْنِهِ قَدْ عَلَّمَ لِآدَمَ ما لَمْ يُعَلِّمْهم، وعَلى إقامَتِهِ مَقامَ المُفِيدِ المُعَلَّمِ، وإقامَتِهِمْ مَقامَ المُسْتَفِيدِينَ مِنهُ؛ لِأنَّهُ أمَرَهُ أنْ يُعَلِّمَهم أسْماءَ الَّذِينَ عَرَضَهم عَلَيْهِمْ وعَلى أدَبِهِمْ عَلى تَرْكِ الأدَبِ مِن حَيْثُ قالُوا: ﴿أتَجْعَلُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠]، فَإنَّ الطَّواعِيَةَ المَحْضَةَ أنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ العِلْمِ بِالحِكْمَةِ فِيما أُمِرُوا بِهِ، وعَدَمِ الِاطِّلاعِ عَلى ذَلِكَ الأمْرِ ومَصْلَحَتِهِ ومَفْسَدَتِهِ كَهم مَعَ العِلْمِ والِاطِّلاعِ. وكانَ الِامْتِثالُ والتَّسْلِيمُ، بِغَيْرِ تَعَجُّبٍ ولا اسْتِفْهامٍ، ألْيَقَ بِمَقامِهِمْ لِطَهارَةِ ذَواتِهِمْ وكَمالِ صِفاتِهِمْ. وفِي كِتابِ بَعْضِ مَن عاصَرْناهُ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: ظَهَرَ مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، في عِلْمِهِ بِالأسْماءِ مُعْجِزَةٌ دالَّةٌ عَلى نُبُوَّتِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، والأقْرَبُ أنَّهُ كانَ مَبْعُوثًا إلى حَوّاءَ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ أيْضًا مَبْعُوثًا إلى مَن تُوَجِّهُ التَّحَدِّيَ إلَيْهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ جَمِيعَهم، وإنْ كانُوا رُسُلًا، فَقَدْ يَجُوزُ الإرْسالُ إلى الرَّسُولِ، كَبَعْثِهِ إبْراهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى لُوطٍ، عَلَيْهِ السَّلامُ، واحْتَجُّوا بِكَوْنِهِ ناقِضًا لِلْعادَةِ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: حُصُولُ العِلْمِ بِاللُّغَةِ لِمَن عَلَّمَهُ اللَّهُ وعَدَمُ حُصُولِهِ لِمَن لَمْ يُعْلَمْ لَيْسَ بِناقِضٍ لِلْعادَةِ. وأيْضًا فالمَلائِكَةُ أمّا أنْ عَلِمُوا وضْعَ تِلْكَ الأسْماءِ لِلْمُسَمَّياتِ فَلا مَزِيَّةَ أوَّلًا، فَكَيْفَ عَلِمُوا إصابَتَهُ في ذَلِكَ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ رُبَّما يَكُونُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنهم لُغَةً، ثُمَّ حَضَرَ جَمِيعُهم فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إصابَتَهُ في تِلْكَ اللُّغَةِ، إلّا أنَّهم بِأُسَرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِها بِأسْرِها. الثّانِي: أنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمُ الدَّلِيلَ عَلى صِدْقِهِ، ولِمَ لا يَكُونُ مِن بابِ الكَراماتِ أوْ مِن بابِ الإرْهاصِ ؟ واحْتَجَّ مَن قالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، بِوُجُوهٍ: أحَدُها: صُدُورُ المَعْصِيَةِ عَنْهُ بَعْدُ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ عَلى النَّبِيِّ. وثانِيها: أنَّهُ لَوْ كانَ مَبْعُوثًا لَكانَ إلى أحَدٍ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ التَّبْلِيغُ، وذَلِكَ لا يَكُونُ المَلائِكَةَ؛ لِأنَّهم أفْضَلَ، ولا حَوّاءَ؛ لِأنَّها مُخاطَبَةٌ بِلا واسِطَةٍ بِقَوْلِهِ: ولا تَقْرُبا، ولا الجِنَّ؛ لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا في السَّماءِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاجْتِباءَ كانَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، والنَّبِيُّ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُجْتَبًى وقْتَ كَوْنِهِ نَبِيًّا. ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ﴾؛ جَوابُ (فَلَمّا)، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (p-١٥٠)الخِلافِ في (لَمّا) المُقْتَضِيَةِ لِلْجَوابِ، أيْ حَرْفٌ أمْ ظَرْفٌ ؟ ورَجَّحْنا الأوَّلَ وذَكَرْنا أنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. و(ألَمْ أقُلْ) تَقْرِيرٌ؛ لِأنَّ الهَمْزَةَ إذا دَخَلَتْ عَلى النَّفْيِ كانَ الكَلامُ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ تَقْرِيرًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] ؟ ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١] ؟ ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا﴾ [الشعراء: ١٨] ؟ ولِذَلِكَ جازَ العَطْفُ عَلى جُمْلَةٍ إثْباتِيَّةٍ نَحْوَ: ﴿ووَضَعْنا﴾ [الشرح: ٢]، ﴿ولَبِثْتَ﴾ [الشعراء: ١٨]، ولَكم فِيهِ، تَنْبِيهُهم بِالخِطابِ وهَزُّهم لِسَماعِ المَقُولِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٥] نَبَّهَهُ في الثّانِيَةِ بِالخِطابِ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ اللّامَ في نَحْوِ: قُلْتُ لَكَ، أوْ لِزَيْدٍ، لِلتَّبْلِيغِ، وهو أحَدُ المَعانِي الَّتِي ذَكَرْناها فِيها. (إنِّي أعْلَمُ): ياءُ المُتَكَلِّمِ المُتَحَرِّكِ ما قَبْلُها، إذا لَقِيَتْ هَمْزَةَ القَطْعِ المَفْتُوحَةَ، جازَ فِيها وجْهانِ: التَّحْرِيكُ والإسْكانُ، وقُرِئَ بِالوَجْهَيْنِ في السَّبْعَةِ، عَلى اخْتِلافٍ بَيْنَهم في بَعْضِ ذَلِكَ، وتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ في كُتُبِ القِراءاتِ. وسَكَّنُوا في السَّبْعَةِ إجْماعًا: ﴿تَفْتِنِّي ألا﴾ [التوبة: ٤٩]، ﴿أرِنِي أنْظُرْ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، ﴿فاتَّبِعْنِي أهْدِكَ﴾ [مريم: ٤٣]، ﴿وتَرْحَمْنِي أكُنْ﴾ [هود: ٤٧] ولا يَظْهَرُ بِشَيْءٍ مِنِ اخْتِلافِهِمْ واتِّفاقِهِمْ عِلَّةٌ إلّا اتِّباعَ الرِّوايَةِ. والخِلافُ الَّذِي تَقَدَّمَ في (أعْلَمُ) مِن كَوْنِهِ مَنصُوبًا أوْ مَجْرُورًا جازَ هُنا، وقَدْ تَقَدَّمَ إيضاحُهُ هُناكَ فَلا نُعِيدُهُ هُنا. وقَدْ حَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ ما نَصُّهُ: قالَ الَمَهْدَوِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (أعْلَمُ) اسْمًا بِمَعْنى التَّفْضِيلِ في العِلْمِ، فَتَكُونُ (ما) في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالإضافَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإذا قُدِّرَ الأوَّلُ اسْمًا، فَلا بُدَّ مِن إضْمارِ فِعْلٍ يَنْصِبُ غَيْبَ، تَقْدِيرُهُ: إنِّي أعْلَمُ مِن كُلٍّ أعْلَمُ غَيْبَ، وكَوْنُها في المَوْضِعَيْنِ فِعْلًا مُضارِعًا أخْصَرُ وأبْلَغُ. انْتَهى. وما نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ وهْمٌ. (والَّذِي) ذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ في تَفْسِيرِهِ ما نَصُّهُ: ﴿وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾، يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ (ما) بِأعْلَمُ عَلى أنَّهُ فِعْلٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى عالِمٍ، أوْ يَكُونُ (ما) جَرًّا بِالإضافَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ التَّنْوِينُ في (أعْلَمُ) إذا قَدَّرْتَهُ بِمَعْنى عالِمٍ وتَنْصِبُ (ما) بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنى حَواجِ بَيْتِ اللَّهِ. انْتَهى. فَأنْتَ تَرى أنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلى أنْ أفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وأنَّهُ لَمْ يَجُزِ الجَرُّ في ما والنَّصْبُ، وتَكُونُ أفْعَلُ اسْمًا إلّا إذا كانَ بِمَعْنى فاعِلٍ لا أفْعَلَ تَفْضِيلٍ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ ما نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ مِن جَوازِ أنْ يَكُونَ أعْلَمُ أفْعَلَ بِمَعْنى التَّفْضِيلِ، وخَفْضُ ما بِالإضافَةِ ألْبَتَّةَ. ﴿غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ، واخْتُلِفَ في الغَيْبِ هُنا، فَقِيلَ: (غَيْبُ السَّماواتِ): أكْلُ آدَمَ وحَوّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ؛ لِأنَّها أوَّلُ مَعْصِيَةٍ وقَعَتْ في السَّماءِ، وغَيْبُ الأرْضِ: قَتَلُ قابِيلَ هابِيلَ؛ لِأنَّها أوَّلُ مَعْصِيَةٍ كانَتْ في الأرْضِ. وقِيلَ: غَيْبُ السَّماواتِ ما قَضاهُ مِن أُمُورِ خَلْقِهِ، وغَيْبُ الأرْضِ ما فَعَلُوهُ فِيها بَعْدَ القَضاءِ. وقِيلَ: غَيْبُ السَّماواتِ ما غابَ عَنْ مَلائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ وحَمَلَةِ عَرْشِهِ مِمّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعالى مِن أسْرارِ المَلَكُوتِ الأعْلى، وغَيْبُ الأرْضِ ما أخْفاهُ عَنْ أنْبِيائِهِ وأصْفِيائِهِ مِن أسْرارِ مَلَكُوتِهِ الأدْنى وأُمُورِ الآخِرَةِ والأُولى. ﴿وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ قالَ عَلِيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ، رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ: (ما تُبْدُونَ) الضَّمِيرُ لِلْمَلائِكَةِ، ﴿وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يَعْنِي إبْلِيسَ. فَيَكُونُ مِن خِطابِ الجَمْعِ، ويُرادُ بِهِ الواحِدُ نَحْوَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ﴾ [الحجرات: ٤] . ورُوِيَ أنَّ إبْلِيسَ مَرَّ عَلى جَسَدِ آدَمَ بَيْنَ مَكَّةَ والطّائِفِ قَبْلَ أنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقالَ: لِأمْرٍ ما خُلِقَ هَذا، ثُمَّ دَخَلَ مِن فِيهِ وخَرَجَ مِن دُبُرِهِ وقالَ: إنَّهُ خَلْقٌ لا يَتَمالَكُ لِأنَّهُ أجْوَفُ، ثُمَّ قالَ لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ: أرَأيْتُمْ إنْ فُضِّلَ هَذا عَلَيْكم وأُمِرْتُمْ بِطاعَتِهِ ما تَصْنَعُونَ ؟ قالُوا: نُطِيعُ اللَّهَ، فَقالَ إبْلِيسُ في نَفْسِهِ: واللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ، ولَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ لَأعْصِيَنَّهَ، فَهَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ الآيَةَ، يَعْنِي: مِن قَوْلِ المَلائِكَةِ وكَتْمِ إبْلِيسَ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: ما أبْدَوْهُ هو قَوْلُهم: أتَجْعَلُ فِيها، وما كَتَمُوهُ قَوْلُهم: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أكْرَمَ عَلَيْهِ مِنّا، وقِيلَ: ما أبْدَوْهُ قَوْلُهم: أتَجْعَلُ فِيها، وما كَتَمُوهُ ما أضْمَرُوهُ مِنَ الطّاعَةِ لِلَّهِ والسُّجُودِ لِآدَمَ. وقِيلَ: ما أبْدَوْهُ هو الإقْرارُ بِالعَجْزِ، وما كَتَمُوهُ الكَراهِيَةُ لِاسْتِخْلافِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ. وقِيلَ: هو عامٌّ فِيما أبْدَوْهُ وما كَتَمُوهُ مِن كُلِّ أُمُورِهِمْ، وهَذا هو الظّاهِرُ. وأبْرَزَ الفِعْلَ (p-١٥١)فِي قَوْلِهِ: وأعْلَمُ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ جُمْلَةً مَقْصُودَةً بِالعامِلِ، فَلا يَكُونُ مَعْمُولُها مُنْدَرِجًا تَحْتَ الجُمْلَةِ الأُولى، وهو يَدُلُّ عَلى الِاهْتِمامِ بِالإخْبارِ، إذْ جُعِلَ مُفْرَدًا بِعامِلٍ غَيْرِ العامِلِ الأوَّلِ، وعَطْفُ قَوْلِهِ ﴿وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ هو مِن بابِ التَّرَقِّي في الإخْبارِ؛ لِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعالى واحِدٌ لا تَفاوُتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ مِن مَعْلُوماتِهِ، جَهْرًا كانَ أوْ سِرًّا، ووَصْلُ (ما) بَكُنْتُمْ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكَتْمَ وقَعَ فِيما مَضى، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهم كَتَمُوا عَنِ اللَّهِ لِأنَّ المَلائِكَةَ أعْرَفُ بِاللَّهِ وأعْلَمُ، فَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ شَيْئًا، وإنَّما المَعْنى أنَّهُ هَجَسَ في أنْفُسِهِمْ شَيْءٌ لَمْ يُظْهِرْهُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ، ولا أطْلَعَهُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ المَعْنِيُّ إبْلِيسَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ قالَ في نَفْسِهِ ما حَكَيْناهُ قِيلَ عَنْهُ، فَكَتَمَ ذَلِكَ عَنِ المَلائِكَةِ. وقَدْ تَضَمَّنَ آخِرُ هَذِهِ الآيَةِ مِن عِلْمِ البَدِيعِ الطِّباقَ وهو قَوْلُهُ: ﴿ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب