الباحث القرآني

فَلَمّا قالُوا ذَلِكَ وأرادَ إشْهادَهم فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَأْنَفَ في جَوابِ (p-٢٤٩)مَن كَأنَّهُ قالَ: ما قالَ لَهم عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَوْلُهُ: ”﴿قالَ﴾“ مُظْهِرًا لِفَضِيلَةِ العِلْمِ المُوجِبَةِ لِشَرَفِ العالِمِ ﴿يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ﴾ أيْ لِيَزْدادُوا بَصِيرَةً في أنَّ العالِمَ مَن عَلَّمْتُهُ والسَّعِيدَ مَن أسْعَدْتُهُ في أيِّ صُورَةٍ رَكَّبْتُهُ ﴿بِأسْمائِهِمْ﴾ فَأنْبَأهم بِها. قالَ الحَرالِّيُّ: ولَمْ يَقُلْ: عَلِّمْهم، فَكانَ آدَمُ عَلِيمًا بِالأسْماءِ وكانُوا هم مُخْبَرِينَ بِها لا مُعَلَّمِيها، لِأنَّهُ لا يَتَعَلَّمُها مِن آدَمَ إلّا مَن خَلْقُهُ مُحِيطٌ كَخَلْقِ آدَمَ، لِيَكُونَ مِن كُلِّ شَيْءٍ ومِنهُ كُلُّ شَيْءٍ، فَإذا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا مِنهُ آنَسَ عِلْمَهُ عِنْدَهُ؛ فَلِذَلِكَ اخْتُصُّوا بِالإنْباءِ دُونَ التَّعْلِيمِ، فَلِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما عَلَّمَهُ اللَّهُ وأظْهَرَ لَهُ عَلاماتِهِ في اسْتِبْصارِهِ (p-٢٥٠)والشَّيْءُ اسْمانِ جامِعانِ: اسْمٌ يُبَصِّرُهُ مِن مَوْجُودِ الشَّيْءِ، واسْمٌ يُذَكِّرُهُ لِإبْداءِ مَعْنى ذَلِكَ الشَّيْءِ إلى غايَةِ حَقِيقَتِهِ، ولِكُلِّ اسْمٍ جامِعٍ عِنْدَهُ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ يُحاذِي كُلَّ وجْهٍ مِنها بِتَسْمِيَةٍ تَخُصُّهُ، وبِحَسَبَ تِلْكَ الوُجُوهِ تَكَثَّرَتْ عِنْدَهُ الألْسِنَةُ وتَكَثَّرَتِ الألْسُنُ الأعْجَمِيَّةُ، فَأفْصَحُها وأعْرَبُها الِاسْمُ الجامِعُ وذَلِكَ الِاسْمُ هو العَرَبِيُّ الَّذِي بِهِ أنْزَلَ خاتَمَ الكُتُبِ عَلى خاتَمِ المُرْسَلِينَ وأبْقى دائِمًا في مُخاطَبَةِ أهْلِ الجَنَّةِ لِمُطابَقَةِ الخاتِمَةِ إحاطَةَ البادِئَةِ ﴿حم﴾ [الزخرف: ١] ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ [الزخرف: ٢] ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣] ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: ٤] وطابَقَ الخَتْمُ البَدْءَ إحاطَةَ لِإحاطَةِ. انْتَهى. وهَذا كَما كانَ ولَدُهُ مُحَمَّدٌ خاتَمَ النَّبِيِّينَ ﷺ يُكَلِّمُ كُلَّ إنْسانٍ بَلُغَتِهِ مِن قَبائِلِ العَرَبِ ومِنَ العَجَمِ بَلْ ومِنَ البَهائِمِ العُجْمِ لَكانَ عِلْمُهُ لِبَعْضِ اللُّغاتِ مِن غَيْرِ مُخالَطَةٍ لِأهْلِها ولا إلْمامٍ بِلِسانِهِمْ (p-٢٥١)دَلِيلًا عَلى عِلْمِ سائِرِ اللُّغاتِ، لِأنَّهُ لا مُعَلِّمَ لَهُ إلّا العالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ. ﴿فَلَمّا أنْبَأهُمْ﴾ أيْ أخْبَرَهم إخْبارًا عَظِيمًا يَأْخُذُ بِالألْبابِ، و”لَمّا“ كَلِمَةٌ تُفْهِمُ وُجُوبَ أمْرٍ لِأمْرٍ في حِينٍ فَتَجْمَعُ مَعْنى الشَّرْطِ والظَّرْفِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ ﴿بِأسْمائِهِمْ﴾ عَلى ما هي عَلَيْهِ. قالَ الحَرالِّيُّ في التَّفْسِيرِ وكِتابٍ لَهُ في أُصُولِ الفِقْهِ: هَذِهِ التَّسْمِياتُ لَيْسَ الأسْماءَ الَّتِي هي مَوْجُودَةٌ مِنَ الذَّواتِ، لِأنَّ تِلْكَ لا يَنالُها إلّا العَلَمُ (p-٢٥٢)وشُهُودُ البَصِيرَةِ وقَدْ جَرى ذَلِكَ في وِراثَةٍ في ولَدِ آدَمَ حَتّى كانَ رُؤْبَةُ وأبُوهُ العَجاجُ يَرْتَجِلانِ اللُّغَةَ ارْتِجالًا ويَتَعَلَّمُها مِنهم مَن سِواهم مِنَ العَرَبِ، لِأنَّ التَّسْمِيَةَ الَّتِي يَنالُها الإنْباءُ لِلِاسْمِ الَّذِي يَنالُهُ العِلْمُ كالمِثْلِ لَهُ المُبْدِي لِصُورَةِ مَعْناهُ لِلْأُذُنِ لِمُناسَبَةٍ ومُواصَلَةٍ بَيْنَ خُصُوصِ التَّسْمِيَةِ واسْمِها مِنَ الذّاتِ، فَيَعْلَمُ ما يُحاذِي الشَّيْءَ المُفْرَدَ مِن مُنْتَظِمِ الحُرُوفِ كَما يَعْلَمُ الواصِفُ ما يُحاذِي الشَّيْءَ ويُحاكِيهِ مِن مُنْتَظِمِ الكَلِمِ، فَيُحاذِيهِ ويُحاكِيهِ الواصِفُ بِكَلامٍ، ويُحاذِيهِ ويُسَمِّيهِ المُسَمّى لَهُ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وكَما أنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أحَدٍ مُنَّةٌ أنْ يَصِفَ فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِكُلِّ أحَدٍ مُنَّةً أنْ يُسَمِّيَ، ومِنهُ ما يَجْرِي مِن ألْسِنَةِ العامَّةِ مِنَ النَّبْزِ والألْقابِ وقَدْ كانَ يَجِبُ الِاكْتِفاءُ بِما في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ العِلْمِ بِبَدْءِ أمْرِ المُسَمَّياتِ عَمّا وقَعَ فِيها مِنَ الِاخْتِلافِ بَيْنَ التَّوْقِيفِ والِاصْطِلاحِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أنَّها عَنْ عِلْمٍ عَلَّمَهُ اللَّهُ آدَمَ لا عَنْ تَوْقِيفٍ كَما هو عِنْدَ المَلائِكَةِ مِن آدَمَ ولا عَنِ اصْطِلاحٍ كَما قِيلَ، انْتَهى. (p-٢٥٣)”قالَ“ أيِ اللَّهُ تَعالى مُثْبِتًا مَدْخُولَ النَّفْيِ كَما هو شَأْنُ هَمْزَةِ التَّقْرِيرِ ﴿ألَمْ أقُلْ لَكُمْ﴾ يا مَلائِكَتِي ! ولَمّا كانَ هَذا خَبَرًا جَسِيمًا نَبَّهَ عَلى بُلُوغِهِ النِّهايَةَ في العَظَمَةِ وأنَّهُ مِمّا يَسْتَغْرِبُهُ بَعْضُ الخَلْقِ بِالتَّأْكِيدِ فَقالَ: ﴿إنِّي أعْلَمُ﴾ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا لا انْقِضاءَ لَهُ ﴿غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ فَمَن أرَدْتُ تَعْلِيمَهُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ كانَ عالِمًا بِهِ، وأمّا غَيْرِي فَلا طَرِيقَ لَهُ إلى مَعْرِفَةِ المُسْتَقْبَلِ إلّا الفِراسَةُ وقَدْ تُخْطِئُ. قالَ الحَرالِّيُّ: قَرَّرَهم حَتّى لا يَكُونَ لَهم ثانِيَةٌ وأعْلَمَ بِذَلِكَ عِبادَهُ مِن ولَدِ آدَمَ حَتّى يَسْتَنُّوا بِحُكْمِ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ في ما يُبْدِيهِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ ولا اعْتِراضٍ، فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ. انْتَهى. (p-٢٥٤)﴿وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ في كُلِّ حِينٍ ﴿وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فِيما مَضى وفِيما يَأْتِي. قالَ الحَرالِّيُّ: وفي صِيغَةِ ”تَكْتُمُونَ“ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى تَمادِي ذَلِكَ في كِيانِهِمْ ما في صِيغَةِ ”تُبْدُونَ“ مِن تَمادِي بادى ذَلِكَ مِنهم. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب