الباحث القرآني

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ يعني: وقد قال، وقيل معناه: واذكر إذ قال ربّك، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله. و (إذ) و (إذا) حرفا توقيت، إلّا أنّ (إذ) للماضي و (إذا) للمستقبل، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر. قال المبرّد: إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه ماضيا نحو قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ [[سورة الأنفال: 30.]] وإِذْ يَقُولُ، يريد وإذ مكر وإذ قال، وإذا إذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [[سورة النازعات: 34.]] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [[سورة عبس: 33. (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى: النازعات- 34) .]] إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [[سورة النصر: 1.]] أي يجيء، وقال الشاعر: ثمّ جزاه الله عنا إذ جزا ... جنّات عدن والعلا إلى العلا [[لسان العرب: 15/ 463، وتاج العروس: 1/ 424.]] أي يجزيه. لِلْمَلائِكَةِ الذين كانوا في الأرض، والملائكة: الرسل، واحدها ملك، وأصله: مالك، وجمعه: ملائكة، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال: ألكني الى فلان، أي كن رسولي إليه فقلبت، فقيل: ملاك. قال الشاعر: فلست لإنسي لكن لملاك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب [[الصحاح: 1/ 165.]] ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير استعماله فقيل: ملك. قال النضر بن شميل في الملك: إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه، وهو مما فات علمه. إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي بدلا منكم ورافعكم إليّ، سمّي (خليفة) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده، فالخليفة من يتولى إمضاء الأمر عن الآمر، وقرأ [زيد بن علي] [[تفسير القرطبي: 1/ 263.]] : (خليقة) بالقاف. قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجنّ الأرض، فعبدوا دهرا طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن، رأسهم عدو الله إبليس وهم خزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض، وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال، وجزائر البحر، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة، وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنان، فكان يعبد الله تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة. فلما رأى ذلك دخله الكبر والعجب، وقال في نفسه: أعطاني الله هذا الملك إلّا لأني أكرم الملائكة عليه، وأعظمهم منزلة لديه فلما ظهر الكبر جاء العزل، فقال الله له ولجنده: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فلما قال لهم ذلك كرهوا لأنّهم كانوا أهون في الملائكة عبادة، ولأنّ العزل شديد. قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي. وَيَسْفِكُ يصبّ الدِّماءَ بغير حق. فإن قيل: كيف علموا ذلك وهو غيب؟ والجواب عنه ما قال السّدي: لما قال الله لهم ذلك، قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية، يفسدون في الأرض [ويتحاسدون] [[كذا في المخطوط.]] ويقتل بعضهم بعضا [[تفسير الطبري: 1/ 289.]] . قالوا عند ذلك: أَتَجْعَلُ فِيها ومعناه: فقالوا، فحذف فاء التنسيق. كقول الشاعر: لما رأيت نبطا أنصارا ... شمرّت عن ركبتي الإزارا كنت لهم من النّصارى جارا [[جامع البيان للطبري: 1/ 454.]] أي فكنت لهم. وقال أكثر المفسرين: أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب، وقال بعض أهل المعاني: فيه إضمار واختصار معناه: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يسفك الدماء؟ لقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [[سورة الزمر: 9.]] يعني كمن هو غير قانت، وهو اختيار الحسن بن الفضل. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ. قال الحسن: يقولون: سبحان الله وبحمده، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يرزقون. يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر إنه قال لرسول الله ﷺ‎: أي الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفاه الله تعالى لملائكته: سبحان الله وبحمده» [79] [[مسند أحمد: 5/ 148.]] . وقيل: معناه: ونحن نصلي لك بأمرك، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة، ومنه قيل: للصلاة سبحة، وقيل: معناه: نصلي، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب. وَنُقَدِّسُ لَكَ وننزهك واللام صلة، وقيل: هي لام الأجل، أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك [وأبداننا] من معصيتك. وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير مجازها: ونحن نسبّح ونقدّس لك بحمدك لأنّه إذا حملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل، وإذا حملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدّث بنعمة الله واضافة [.....] [[كلمة غير مقروءة في المخطوط.]] إلى الله فكأنّهم قالوا: وأن سبّحنا وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كله بحمدك لا بأنفسنا، قال الله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من استخلافي في الأرض ووجه المصلحة فيه، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري، وقيل: أراد أني أعلم أنّ في من استخلفه في الأرض: أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء، وقيل: أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم. قال بعض الحكماء: إنّ الله تعالى أخرج [أدم] من الجنّة قبل أن يدخله فيها [[الدر المنثور: 1/ 44.]] . لقوله إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ثم كان خروجه من الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره. ابن نجيح عن مجاهد في قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «احتج آدم وموسى. فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدّر قبل أن أخلق. فحج آدم موسى» [80] [[مسند أحمد: 2/ 264.]] . فصل في معنى الخليفة قيل: سأل أمير المؤمنين الخطاب، طلحة والزبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري. فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب الله، فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكنّ الله عزّ وجلّ ملأ سلمان حكما وعلما وعدلا. وروى زاذان عن سلمان: إنّ عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك. قال: فاستعبر عمر رضي الله عنه. وعن يونس: إنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر: أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه، ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عزّ وجل. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وذلك إنّ الله تعالى لمّا قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منّا، وإن كان خيرا منّا فنحن أعلم منه لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، فلما أعجبوا بعلمهم وعبادتهم، فضّل الله تعالى عليهم آدم عليه السّلام بالعلم فعلّمه الأسماء كلّها وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة. واختلف العلماء في هذه الأسماء، فقال الربيع وابن أنس: أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد: أسماء الذّرّية. وقال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحّاك: علّمه الله اسم كلّ شيء حتى القصعة والقصيعة. قال مقاتل: خلق الله كلّ شيء- الحيوان والجماد وغيرها- ثمّ علّم آدم أسماءها كلها. فقال له: يا آدم هذا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار حتى أتى على آخرها ثم عرض تلك الأشياء كما عرض الموجودات على الملائكة. فكذلك قال: ثُمَّ عَرَضَهُمْ ولم يقل: عرضها، وردّه الى الشخوص والمسمّيات لأنّ الأعراض لا تعرض. وقيل: علّم الله آدم عليه السّلام صنعة كل شيء. جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: علّم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال والسباع وأسماء الطير والشجر وأسماء ما كان وما يكون وكل نسمة الله عزّ وجلّ بارئها إلى يوم القيامة، وعرض تلك الأسماء على الملائكة. فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ الخليفة الذي أجعله في الأرض يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. أراد الله تعالى بذلك: كيف تدّعون علم ما لم يكن بعد، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون. وقال الحسن وقتادة: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إني لا أخلق خلقا إلّا كنتم أعلم وأفضل منه، قالت الملائكة: إقرارا بالعجز واعتذارا. قالُوا سُبْحانَكَ: تنزيها لك عن الاعتراض لعلمك في حكمك وتدبيرك، وهو نصب على المصدر، أي نسبح سبحانا في قول الخليل. وقال الكسائي: خارج عن الوصف، وقيل: على النداء المضاف أي: يا سبحانك. لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بخلقك الْحَكِيمُ في أمرك. وللحكيم معنيان: أحدهما: المحكم للفعل، كقوله: عَذابٌ أَلِيمٌ، وحز وجيع. قال الشاعر: أمن ريحانة الداعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هموع [[تفسير الطبري: 1/ 179، وهو لعمرو بن معد يكرب.]] أي المؤلم والموجع، والمسمع [[هذا تفسير للشعر فقوله فيه: السميع: أي المسمع كما في تفسير الطبري.]] فعيل بمعنى: مفعل وعلى هذا التأويل هو صفة فعل. والآخر: بمعنى (الحاكم العالم) وحينئذ يكون صفة ذات، وأصل الحكمة في كلام العرب: المنع. يقال: أحكمت اليتيم عن الفساد وحكمته، أي منعته. قال جرير: أبني حنيفة احكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا [[لسان العرب: 12/ 144.]] ويقال للحديدة المعترضة في فم الدابة: حكمة لأنها تمنع الدابة من الاعوجاج، والحكمة تمنع من الباطل، ومالا يجمل فلا يحلّ في المحكم من الأمر بمنعه من الخلل، وفي هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق حيث أمر الله تعالى الملائكة بإنباء ما لم يعلموا، وهو عالم بعجزهم عنه. فلما ظهر عجزهم، قال الله تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فسمّى كل شيء باسمه، وألحق كل شيء بجنسه. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ أخبرهم. بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا ملائكتي. إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما كن فيها وما يكون. وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ من الخضوع والطاعة لآدم. وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ تخفون في أنفسكم من العداوة له. وقيل: ما تُبْدُونَ من الإقرار بالعجز والاعتذار، وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من الكراهية في استخلاف آدم. قال ابن عباس: هو أنّ إبليس مرّ على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه، فقال: لأمر ما خلق هذا، ثمّ دخل من فيه وخرج من دبره، وقال: إنّه لا يتماسك إلّا بالجوف، ثمّ قال للملائكة الذين معه: أرأيتم أن فضّل هذا عليكم، وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون؟ قالوا: نطيع أمر ربّنا. فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلطت عليه لأهلكته، ولئن سلّط عليّ لأعصينّه. فقال الله تعالى: وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعني الملائكة من الطاعة وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني إبليس من المعصية. قال الحسن وقتادة: ما تُبْدُونَ يعني قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني قولهم لن يخلق خلقا أفضل ولا أعلم ولا أكرم عليه منّا. القول في حدّ الاسم وأقسامه فقال أصحابنا: الاسم: كل لفظة دلت على معنى ما وشيء ما، وهو مشتق من السّمة، وهي العلامة التي يعرف بها الشيء، وأقسامه ثمانية منها: اسم علم مثل زيد، وعمرو، وفاطمة، وعائشة، ودار، وفرس. ومنها: اسم لازم كقولك: رجل، وامرأة، وشمس، وقمر، وحجر، ومدر ونحوها سمّي لازما لأنّه لا ينقلب ولا يفارق، فلا يقال للشمس قمر ولا للقمر حجر. ومنها: اسم مفارق مثل: صغير، وكبير، وطفل، وكهل، وقليل، وكثير، وقيل له مفارق لأنّه كان ولم يكن له هذا الاسم ويزول عنه المعنى المسمّى به. ومنها: اسم مشتق: ككاتب، وخياط، وصائغ، وصبّاغ فالاسم مشتق من فعله. ومنها: اسم مضاف مثل: غلام جعفر، وركوب عمرو، ودار زيد. ومنها: اسم مشبهة كقولك: فلان أسد وحمار وشعلة نار. ومنها: اسم منسوب يثبت بنفسه ويثبت غيره، كقولك: أب، وأمّ، وأخ، وأخت، وابن، وبنت، وزوج، وزوجة، فإذا قلت أب فقد أثبته وأثبت له الولد، وإذا قلت: أخ أثبته وأثبت له الأخت. ومنها: اسم الجنس: وهو اسم واحد ويدل على أشياء كثيرة، كقولك: حيوان، وناس ونحوهما. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجدة تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة، نظيره قوله في قصة يوسف: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [[سورة يوسف: 100.]] وكان ذلك تحيّة الناس، ويعظم بعضهم بعضا، ولم يكن وضع الوجه على الأرض [وإنما] كان الانحناء والتكبير والتقبيل. فلما جاء الإسلام بطّل ذلك بالسّلام. وفي الحديث إنّ معاذ بن جبل رجع من اليمن فسجد لرسول الله ﷺ‎ فتغيّر وجه رسول الله فقال: ما هذا؟ قال: رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسّيسيهم. فقال رسول الله ﷺ‎: «مه يا معاذ كذب اليهود والنصارى إنّما السجود لله تعالى» [81] [[المعجم الكبير: 8/ 31. بتفاوت.]] . وقال بعضهم: كان سجودا على الحقيقة جعل آدم قبلة لهم والسجود لله، كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله تعالى. قال ابن مسعود: أمرهم الله تعالى أن يأتوا بآدم فسجدت الملائكة وآدم لله ربّ العالمين. وقال أبيّ بن كعب: معناه: أقروا لآدم إنّه خير وأكرم عليّ منكم فأقروا بذلك، والسجود على قول عبد الله وأبيّ بمعنى الخضوع والطاعة والتذلل، كقول الشاعر: ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر [[جامع البيان للطبري: 1/ 427. والعبارة كالتالي: بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الاكم فيه سجدا للحوافر]] وآدم على وزن افعل. فلذلك لم يصرفه. السّدي عمّن حدّثه عن ابن عباس قال: إنّما سمّي آدم لأنّه خلق من أديم الأرض ، ومنهم من قال: سمّي بذلك لأنه خلق من التراب، والتراب بلسان العبرانية آدم، وبعضهم من قال: سمّي بذلك لأدمته لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر. سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ليس في الجنة أحد يكنّى إلّا آدم فإنّه يكنى أبا محمد. وقرأ العامة: لِلْمَلائِكَةِ بخفض التاء، وقرأ أبو جعفر بضم التاء تشبها لتاء التأنيث بألف الوصل في قوله: اسْجُدُوا لأنّ ألف الوصل يذهب في الوصل ولأنّها زائدة غير أصلية، وكذلك تاء التأنيث زائدة غير أصلية، ولا ثابت جواب ألف اسْجُدُوا. وقيل: كره ضمّة الجيم بعد كسرة التاء لأنّ العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها، وهي قراءة ضعيفة جدا وأجمع النحاة على تغليطه فيها. فَسَجَدُوا يعني الملائكة. إِلَّا إِبْلِيسَ وكان اسمه عزازيل، فلمّا عصى غيّرت صورته وغيّر اسمه فقيل إبليس لأنّه أبلس من رحمة الله، كما يقال: يا خبيث ويا فاسق، وهو منصوب على الاستثناء، ولا يصرف لاجتماع العجمة والمعرفة. أَبى أي امتنع ولم يسجد. وَاسْتَكْبَرَ أي تكبّر وتعظّم عن السجود وَكانَ أي فصار مِنَ الْكافِرِينَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [[سورة هود: 43.]] . وقال أكثر المفسّرين: معناه فكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة. الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان عنه يبكي فيقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنّة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النّار» [82] [[مسند أحمد: 2/ 443.]] . زياد بن الحصين عن أبي العالية قال: لمّا ركب نوح السفينة إذا هو بإبليس على كوثلها [[الكوثل: مؤخّر السفينة.]] فقال له: ويحك قد شقّ أناس من أجلك، قال: فما تأمرني؟ قال: تب، قال: سل ربّك هل لي من توبة؟ قال: فقيل له أنّ توبته أن يسجد لقبر آدم، قال: تركته حيّا واسجد له ميّتا. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وذلك أن آدم عليه السّلام كان في الجنّة وحشا ولم يكن له من يجالسه ويؤانسه، فنام نومة فخلق الله تعالى زوجته من قصيراه من شقّه الأيسر من غير أن يحسّ آدم بذلك ولا وجد له ألما ولو ألم من ذلك لما عطف رجل على امرأة، فلمّا هبّ آدم من نومه إذا هو بحواء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله تعالى، فقال لها: من أنت؟ قالت أنا زوجتك خلقني الله لك لتسكن إليّ وأسكن إليك. فقالت الملائكة عند ذلك امتحانا لعلم آدم: يا آدم ما هذه؟ قال: امرأة، قالوا: ما اسمها؟ قال: حوّاء، قالوا: لم سمّيت حوّاء؟ قال: لأنها خلقت من حيّ، قالوا: تحبّها يا آدم؟ قال: نعم، فقالوا لحوّاء: أتحبّينه؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبّه، قالوا: فلو صدقت امرأة في حبّها لزوجها لصدقت حوّاء. (مسألة:) قالت القدريّة: إنّ الجنّة التي أسكنها الله آدم وحوّاء لم تكن جنّة الخلد وإنما كان بستانا من بساتين الدنيا، واحتجّوا بأن الجنة لا يكون فيها إبتلاء وتكليف. (والجواب:) إنّا قد أجمعنا على أنّ أهل الجنّة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلّفون بذلك. وجواب آخر: إنّ الله تعالى قادر على الجمع بين الأضداد، فأرى آدم المحنة في الجنّة وأرى إبراهيم النعمة في النار لئلّا يأمن العبد ربّه ولا يقنط من رحمته وليعلم أنّ له أن يفعل ما يشاء. واحتجّوا أيضا بأنّ من دخل الجنة يستحيل الخروج منها، قال الله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [[سورة الحجر: 48.]] . والجواب عنه: إنّ من دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا، وآدم لم يدخلها للثواب، ألا ترى أنّ رضوان خازن الجنة يدخلها ثم يخرج منها، وإبليس أيضا كان داخل الجنّة وأخرج منها. وَكُلا مِنْها رَغَداً واسعا كثيرا. حَيْثُ شِئْتُما: كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ قال بعض العلماء: وقع النهي على جنس من الشجر. وقال آخرون: بل وقع على شجرة مخصوصة واختلفوا فيها، فقال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) : هي شجرة الكافور. وقال قتادة: شجرة العلم وفيها من كلّ شيء. ومحمد بن كعب ومقاتل: هي السنبلة. وقيل: هي الحبلة وهي الأصلة من أصول الكرم. أبو روق عن الضحّاك: أنها شجرة التين. فَتَكُونا فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما بالمعصية، وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. فَأَزَلَّهُمَا يعني [استمال] آدم وحوّاء فأخرجهما ونحّاهما. وقرأ حمزة: (فأزالهما الشيطان) وهو إبليس، وهو فيعال من شطن أي بعد. وقيل: إنه من شاط والنون فيه غير أصلية [ونودي] شيطان سمّي بذلك لتمرّده وبعده عن الخير وعن رحمة الله تعالى. عَنْها عن الجنة وقيل عن الطاعة. فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم، وذلك إن إبليس أراد أن يدخل الجنّة ويوسوس لآدم ولحواء فمنعته الخزنة، فأتى الحيّة وكانت من أحسن الدّواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكان من خزّان الجنّة وكان لإبليس صديقا، فسألها أن تدخله في فمها فأدخلته في فمها ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة، وكان آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة قال: لو أن خلدا، فاغتنم الشيطان ذلك منه وأتاه من قبل الخلد، ولما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحوّاء لا يعلمان إنه إبليس، فناح عليهما نياحة أحزنهما وبكى وهو أوّل من ناح فقالا لم تبكي قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما واغتمّا، ومضى ثم أتاهما بعد ذلك وقال: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [[سورة طه: 120.]] ، فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فاغترّا وما كانا يظنّان أنّ أحدا يحلف بالله كاذبا، فبادرت حوّاء الى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها. وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسط قال: سمعت سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل، فلمّا أكلا تهافتت عنهما ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة، وذلك قوله تعالى: وَقُلْنَا يعني لآدم وحوّاء وإبليس والحية اهْبِطُوا أي أنزلوا الى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نودة، وقيل: واشم، وحوّاء بجدّة، وإبليس بالأبلّة وقيل بميسان، والحيّة بأصفهان. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ بلغة ومستمتع. إِلى حِينٍ الى حين اقتضاء آجالكم ومنتهى أعماركم. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا. فَتَلَقَّى فلقّن. آدَمُ حفّظ حين لقّن، وأفهم حين ألهم. وقرأ العامّة: آدَمُ برفع الميم، كَلِماتٍ بخفض التّاء. وقرأ ابن كثير: بنصب الميم، بمعنى جاءت الكلمات لآدم عليه السّلام. مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ كانت سبب قبول توبته، واختلفوا في تلك الكلمات: قال ابن عباس: هي أنّ آدم قال: يا ربّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك بي غضبك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى، قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بشؤم معصيتك، قال: أي ربّ أرأيت لو تبت [وأصلحت] أراجعي أنت الى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو الكلمات. قال عبيد بن عمير: هو أنّ آدم قال: يا ربّ أرأيت ما أتيت، أشيء ابتدعته على نفسي أم شيء قدّرته عليّ قبل أن تخلقني؟ قال: بل شيء قدّرته عليك قبل أن أخلقك، قال: يا ربّ كما قدّرته عليّ فأغفر لي [[تفسير الدر المنثور: 1/ 59.]] . همام بن منبّه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ‎ قال: «تحاجّ آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنّة الى الأرض؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاك الله علم كلّ شيء واصطفاك على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ أن أفعله من قبل أن أخلق. قال: فحجّ آدم موسى» [83] [[المصنف (عبد الرزاق الصنعاني) : 11/ 113.]] . وقال محمد بن كعب القرظي: هي قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ وبحمدك قد عملت سوءا ولَمْتُ نَفْسِي فتب عليّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ وبحمدك قد عملت سوءا وظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنّك أنت الغفور الرحيم، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ وبحمدك ربّ عملت سوءا ولَمْتُ نَفْسِي فارحمني انّك أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. عكرمة عن سعيد بن جبير في قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قالا: قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [[سورة الأعراف: 23.]] ، وكذلك قاله الحسن ومجاهد. وقال بعضهم: نظر آدم عليه السّلام الى العرش فرأى على ساقه مكتوبا لا اله الّا الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق فقال: يا ربّ أسألك بحقّ محمد أن تغفر لي فغفر له. وقيل: هذا التأويل ما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ‎ [[ذكره ابن الجوزي في الموضوعات: 1/ 328.]] : عرّج بي الى السماء رأيت على ساق العرش مكتوبا لا إله إلّا الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق [[روي المتقي الهندي عن علي قول آدم: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوء ولَمْتُ نَفْسِي فتب عليّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. كنز العمال: 2/ 359 ح 4237 مورد الآية، والدر المنثور: 1/ 60 ذيل الآية. وأخرج السيوطي عن أبن عباس قال: سألت النبي ﷺ‎ عن الكلمات فقال: سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي. الدر المنثور: 1/ 60.]] . وقيل: هي ثلاثة أشياء: الخوف، الرجاء، البكاء. أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب قال: بلغني أنّ آدم لما أهبط الى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى. وقال ابن عباس: بكاء آدم وحوّاء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما، ولم يقرب آدم [حواء] مائة سنة. فَتابَ عَلَيْهِ فتجاوز عنه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ يقبل توبة عباده الرَّحِيمُ بخلقه. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها يعني آدم وحواء، وقيل: آدم وحوّاء وإبليس والحيّة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ يا ذرّية آدم مِنِّي هُدىً كتاب ورسول. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: على ما خلّفوا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب