الباحث القرآني
﴿قُلْ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لَهم والتَّوْبِيخِ ﴿لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ أيْ لِمَنِ الكائِناتُ جَمِيعًا خَلْقًا ومِلْكًا وتَصَرُّفًا؟
وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ تَقْرِيرٌ لِلْجَوابِ نِيابَةً عَنْهم أوْ إلْجاءً لَهم إلى الإقْرارِ بِأنَّ الكُلَّ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الجَوابَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الظُّهُورِ إلى حَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلى إنْكارِهِ مُنْكَرٌ ولا عَلى دَفْعِهِ دافِعٌ، فَإنَّ أمْرَ السّائِلِ بِالجَوابِ إنَّما يَحْسُنُ كَما قالَ الإمامُ في مَوْضِعٍ يَكُونُ الجَوابُ كَذَلِكَ، قِيلَ: وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهم تَثاقَلُوا في الجَوابِ مَعَ تَعَيُّنِهِ لِكَوْنِهِمْ مَحْجُوجِينَ وذَكَرَ عِصامُ المِلَّةِ أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: (قُلْ لِمَن) إلَخْ مَعْناهُ الأمْرُ بِطَلَبِ هَذا المَطْلَبِ والتَّوَجُّهِ إلى تَحْصِيلِهِ وقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ مَعْناهُ إنَّكَ إذا طَلَبْتَ وأدّى نَظَرُكَ إلى الحَقِّ فاعْتَرِفْ بِهِ ولا تُنْكِرْهُ، وهَذا إرْشادٌ إلى طَرِيقِ التَّوْحِيدِ في الأفْعالِ بَعْدَ الإرْشادِ إلى التَّوْحِيدِ في الأُلُوهِيَّةِ وهو الِاحْتِرازُ عَنْ حالِ المُكَذِّبِينَ
وفِي هَذا إشارَةٌ إلى وجْهِ الرَّبْطِ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى قَرِيبًا ما يُعْلَمُ مِنهُ الوَجْهُ الوَجِيهُ لِذَلِكَ، والجارُّ والمَجْرُورُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أيْ لِلَّهِ تَعالى ذَلِكَ أوْ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعالى شَأْنُهُ، ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ داخِلَةٌ تَحْتَ الأمْرِ صادِحَةٌ بِشُمُولِ رَحْمَتِهِ عَزَّ وجَلَّ لِجَمِيعِ الخُلُقِ إثْرَ بَيانِ شُمُولِ مِلْكِهِ وقُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِلْكُلِّ المُصَحِّحِ لِإنْزالِ العُقُوبَةِ بِالمُكَذِّبِينَ، مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أنَّهُ تَعالى رَءُوفٌ بِالعِبادِ لا يُعَجِّلُ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ، ويَقْبَلُ مِنهُمُ التَّوْبَةَ، وما سَبَقَ وما لَحِقَ مِن أحْكامِ الغَضَبِ لَيْسَ إلّا مِن سُوءِ اخْتِيارِ العِبادِ لِسُوءِ اسْتِعْدادِهِمُ الأزَلِيِّ لا مِن مُقْتَضَياتِ ذاتِهِ جَلَّ وعَلا، ﴿وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾، ومَعْنى (كَتَبَ الرَّحْمَةَ عَلى نَفْسِهِ) جَلَّ شَأْنُهُ إيجابُها بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ والإحْسانِ عَلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ بِالذّاتِ لا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ وقِيلَ: هو ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ «لِما قَضى اللَّهُ تَعالى الخَلْقَ كَتَبَ كِتابًا فَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ ”أنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي“،» وفي رِوايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ «أنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ كِتابًا بِيَدِهِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّمَواتِ والأرْضَ فَوَضَعَهُ تَحْتَ عَرْشِهِ فِيهِ ”رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي“» إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأخْبارِ، ومَعْنى سَبْقِ الرَّحْمَةِ وغَلَبَتِها فِيها أنَّها أقْدَمُ تَعَلُّقًا بِالخَلْقِ وأكْثَرُ وُصُولًا إلَيْهِمْ مَعَ أنَّها مِن مُقْتَضَياتِ الذّاتِ المُفِيضَةِ لِلْخَيْرِ
وفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْإمامِ النَّوَوِيِّ قالَ العُلَماءُ: غَضَبُ اللَّهِ تَعالى ورِضاهُ يَرْجِعانِ إلى مَعْنى الإرادَةِ فَإرادَتُهُ (p-105)الثَّوابُ لِلْمُطِيعِ، والمَنفَعَةُ لِلْعَبْدِ تُسَمّى رِضا ورَحْمَةً، وإرادَتُهُ عِقابُ العاصِي وخِذْلانُهُ تُسَمّى غَضَبًا، وإرادَتُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى صِفَةٌ لَهُ قَدِيمَةٌ يُرِيدُ بِها، قالُوا: والمُرادُ بِالسَّبْقِ والغَلَبَةِ هُنا كَثْرَةُ الرَّحْمَةِ وشُمُولُها كَما يُقالُ: غَلَبَ عَلى فُلانٍ الكَرَمُ والشَّجاعَةُ إذا كَثُرَ مِنهُ. انْتَهى، وهو يَرْجِعُ إلى ما قُلْنا، وحاصِلُ الكَلامِ في ذَلِكَ أنَّ السَّبْقَ والغَلَبَةَ في التَّعَلُّقاتِ في نَفْسِ الصِّفَةِ الذّاتِيَّةِ إذْ يُتَصَوَّرُ تَقَدُّمُ صِفَةٍ عَلى صِفَةٍ فِيهِ تَعالى لِاسْتِلْزامِهِ حُدُوثَ المَسْبُوقِ وكَذا يُتَصَوَّرُ الكَثْرَةُ والقِلَّةُ بَيْنَ صِفَتَيْنِ لِاسْتِلْزامِ ذَلِكَ الحُدُوثِ، وقَدْ يُرادُ بِالرَّحْمَةِ ما يَرْحَمُ بِهِ، وهي بِهَذا المَعْنى تَتَّصِفُ بِالتَّعَدُّدِ والهُبُوطِ ونَحْوِ ذَلِكَ أيْضًا، وعَلَيْهِ يُخْرَجُ ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِباقُ ما بَيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، فَجَعَلَ مِنها في الأرْضِ رَحْمَةً بِها تَعْطِفُ الوالِدَةُ عَلى ولَدِها والوَحْشُ والطَّيْرُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أكْمَلَها بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ»
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ وغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قالَ: «إنَّ لِلَّهِ تَعالى مِائَةَ رَحْمَةٍ أهْبَطَ مِنها رَحْمَةً واحِدَةً إلى أهْلِ الدُّنْيا يَتَراحَمُ بِها الجِنُّ والإنْسُ وطائِرُ السَّماءِ وحِيتانُ الماءِ ودَوابُّ الأرْضِ وهَوامُّها وما بَيْنَ الهَواءِ واخْتَزَنَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً حَتّى إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ اخْتَلَجَ الرَّحْمَةَ الَّتِي كانَ أهْبَطَها إلى أهْلِ الدُّنْيا فَحَواها إلى ما عِنْدَهُ فَجَعَلَها في قُلُوبِ أهْلِ الجَنَّةِ وعَلى أهْلِ الجَنَّةِ»، والمُرادُ بِالرَّحْمَةِ في الآيَةِ ما يَعُمُّ الدّارِينَ مَعَ عُمُومِ مُتَعَلِّقِها فَما رُوِيَ عَنِ الكَلْبِيِّ مِن أنَّ المَعْنى أوْجَبَ لِنَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأنْ لا يُعَذِّبَهم عِنْدَ التَّكْذِيبِ كَما عَذَّبَ مَن قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ والقُرُونِ الماضِيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ بَلْ يُؤَخِّرُهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ إلّا إظْهارُ ما يُناسِبُ المَقامَ مِن أفْرادِ ذَلِكَ العامِّ، وفي التَّعْبِيرِ عَنِ الذّاتِ بِالنَّفْسِ رَدٌّ عَلى مَن زَعَمَ أنَّ لَفْظَ النَّفْسِ لا يُطْلَقُ عَلى اللَّهِ تَعالى وإنْ أُرِيدَ بِهِ الذّاتُ إلّا مُشاكَلَةً واعْتِبارُ المُشاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ غَيْرَ ظاهِرٍ كَما هو ظاهِرٌ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ:﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ جَوابُ القَسَمِ مَحْذُوفٌ، وقَعَ عَلى ما قالَ أبُو البَقاءِ كَتَبَ مَوْقِعَهُ، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ نَحْوِيٌّ مَسُوقٌ لِلْوَعِيدِ عَلى إشْراكِهِمْ وأغْفالِهِمُ النَّظَرَ، وقِيلَ: بَيانِيٌّ كَأنَّهُ قِيلَ: وما تِلْكَ الرَّحْمَةُ، فَقِيلَ: إنَّهُ تَعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) إلَخْ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْلا خَوْفُ القِيامَةِ والعَذابِ لَحَصَلَ الهَرْجُ والمَرَجُ، وارْتَفَعَ الضَّبْطُ وكَثُرَ الخَبْطُ وأوْرَدَ عَلَيْهِ أنَّهُ إنَّما يَظْهَرُ ما ذُكِرَ لَوْ كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالبَعْثِ ولَيْسَ فَلَيْسَ
وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أيْضًا: إنَّهُ تَكَلُّفٌ ولا يَتَوَجَّهُ فِيهِ الجَوابُ إلّا بِاعْتِبارِ ما يَلْزَمُ التَّخْوِيفُ مِنَ الِامْتِناعِ عَنِ المَناهِي المُسْتَلْزِمِ لِلرَّحْمَةِ، وقِيلَ: صَلاحِيَةُ ما في الآيَةِ لِلْجَوابِ بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ ﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ ولا يُعاجِلُكم بِالعُقُوبَةِ الآنَ عَلى تَكْذِيبِكم عَلى ما أشارَ إلَيْهِ الكَلْبِيُّ، وقِيلَ: إنَّ القَسَمَ وجَوابَهُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ (الرَّحْمَةِ) بَدَلُ البَعْضِ، وقَدْ ذَكَرَ النُّحاةُ أنَّ الجُمْلَةَ تُبْدَلُ مِنَ المُفْرَدِ. نَعَمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لأنْواعِ البَدَلِ في ذَلِكَ. والجارُّ والمَجْرُورُ قِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أيْ لَيَجْمَعَنَّكم في القُبُورِ مَبْعُوثِينَ إلى يَوْمٍ إلَخْ عَلى أنَّ البَعْثَ بِمَعْنى الإرْسالِ وهو مِمّا يَتَعَدّى بِـ (إلى) ولا يَحْتاجُ إلى ارْتِكابِ التَّضْمِينِ. واعْتُرِضَ بِأنَّ البَعْثَ يَكُونُ إلى المَكانِ لا إلى الزَّمانِ إلّا أنْ يُرادَ بِيَوْمِ القِيامَةِ واقِعَتُها في مَوْقِعِها؛ وقِيلَ: هو مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ المَذْكُورِ، والمُرادُ جَمْعٌ فِيهِ مَعْنى السَّوْقِ والِاضْطِرارِ كَأنَّهُ قِيلَ لِيَبْعَثَنَّكم ويَسُوقُنَّكم ويَضْطَرَّنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ أيْ إلى حِسابِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ (p-106)و (إلى) بِمَعْنى في كَما في قَوْلِهِ:
؎لا تَتْرُكْنِي بِالوَعِيدِ كَأنَّنِي إلى النّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أجْرَبُ
ومَنَعَ بَعْضُهم مَجِيءَ (إلى) بِمَعْنى (فِي) في كَلامِهِمْ ولَوْ صَحَّ ذَلِكَ لِجازَ زَيْدٌ إلى الكُوفَةِ بِمَعْنى في الكُوفَةِ وتَأوَّلَ البَيْتَ بِتَضْمِينِ مُضافًا أوْ مُبْغَضًا أوْ مَكْرُوهًا، وأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يُرَدُّ إذا قِيلَ: إنَّ اسْتِعْمالَ إلى بِمَعْنى في قِياسٌ مُطَّرِدٌ ولَعَلَّ القائِلَ بِالِاسْتِعْمالِ لا يَقُولُ بِما ذُكِرَ، وارْتِكابُ التَّضْمِينِ خِلافُ الأصْلِ، وارْتِكابُ القَوْلِ بِأنَّ إلى بِمَعْنى في وإنْ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا أهْوَنُ مِنهُ، وقِيلَ: إنَّها بِمَعْنى اللّامِ، وقِيلَ: زائِدَةٌ والخِطابُ لِلْكافِرِينَ كَما هو الظّاهِرُ مِنَ السِّياقِ، وقِيلَ: عامٌّ لَهم ولِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أنْ كانَ خاصًّا بِالكافِرِينَ أيْ لَيَجْمَعَنَّكم أيُّها النّاسُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَرْتابَ فِيهِ لِوُضُوحِ أدِلَّتِهِ وسُطُوعِ بَراهِينِهِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَعْضٌ مِنها
والجُمْلَةُ حالٌ مِنَ اليَوْمِ والضَّمِيرُ المَجْرُورُ لَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ والضَّمِيرُ لَهُ أيْ جَمْعًا لا رَيْبَ فِيهِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِما قَبْلَها كَما قالُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾
﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ بِتَضْيِيعِ رَأْسِ مالِهِمْ وهو الفِطْرَةُ الأصْلِيَّةُ والعَقْلُ السَّلِيمُ والِاسْتِعْدادُ القَرِيبُ الحاصِلُ مِن مُشاهَدَةِ الرَّسُولِ ﷺ واسْتِماعِ الوَحْيِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن آثارِ الرَّحْمَةِ، ومَوْضِعُ المَوْصُولِ قِيلَ: نُصِبَ عَلى الذَّمِّ أوْ رُفِعَ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أيْ أنْتُمُ الَّذِينَ وهو نَعْتٌ مَقْطُوعٌ ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ كُلُّ نَعْتٍ مَقْطُوعٍ يَصِحُّ اتِّباعُهُ نَعْتًا بَلْ يَكْفِي فِيهِ مَعْنى الوَصْفِ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ ﴿الَّذِي جَمَعَ مالا﴾، كَيْفَ قَطَعَ فِيهِ (الَّذِي) مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ اتِّباعِهِ نَعْتًا لِلنَّكِرَةِ فَلا يُرَدُّ أنَّ القَطْعَ إنَّما يَكُونُ في النَّعْتِ، والضَّمِيرُ يُنْعَتُ، وقِيلَ: هو بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ بِتَقْدِيرِ ضَمِيرٍ أوْ هو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ عَلى القَطْعِ عَلى البَدَلِيَّةِ أيْضًا، ولا اخْتِصاصَ لِلْقَطْعِ بِالنَّعْتِ ولَعَلَّهم إنَّما لَمْ يَجْعَلُوهُ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أوْ خَبَرًا لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ مِن غَيْرِ حاجَةٍ لِما ذُكِرَ لِدَعْواهم أنَّ مُجَرَّدَ التَّقْدِيرِ لا يُفِيدُ الذَّمَّ أوِ المَدْحَ إلّا مَعَ القَطْعِ، واخْتارَ الأخْفَشُ البَدَلِيَّةَ، وتَعَقَّبَ ذَلِكَ أبُو البَقاءِ بِأنَّهُ بَعِيدٌ لِأنَّ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ والمُخاطَبِ لا يُبْدَلُ مِنهُما لِوُضُوحِهِما غايَةَ الوُضُوحِ وغَيْرُهُما دُونَهُما في ذَلِكَ، وقِيلَ: هو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾
21
- والفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ عَدَمَ إيمانِهِمْ وإصْرارَهم عَلى الكُفْرِ مُسَبَّبٌ عَنْ خُسْرانِهِمْ فَإنَّ إبْطالَ العَقْلِ بِاتِّباعِ الحَواسِّ، والوَهْمُ والِانْهِماكُ في التَّقْلِيدِ أدّى بِهِمْ إلى الإصْرارِ عَلى الكُفْرِ والِامْتِناعِ عَنِ الإيمانِ، وفي الكَشّافِ فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ عَدَمُ إيمانِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ خُسْرانِهِمْ والأمْرُ عَلى العَكْسِ، قُلْتُ: مَعْناهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى لِاخْتِيارِهِمُ الكُفْرَ فَهم لا يُؤَمِّنُونَ
وحاصِلُ الكَلامِ عَلى هَذا الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ تَعالى بِخُسْرانِهِمْ لِاخْتِيارِهِمُ الكُفْرَ فَهم لا يُؤْمِنُونَ، والحُكْمُ بِالخُسْرانِ سابِقٌ عَلى عَدَمِ الإيمانِ لِأنَّهُ مُقارِنٌ لِلْعِلْمِ بِاخْتِيارِ الكُفْرِ لا لِحُصُولِهِ بِالفِعْلِ فَيَصِحُّ تَرَتُّبُ عَدَمِ الإيمانِ عَلَيْهِ مِن هَذا الوَجْهِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا السُّؤالَ يَنْدَفِعُ بِحَمْلِ الخُسْرانِ عَلى ما ذَكَرْناهُ، ولَعَلَّهُ أوْلى مِمّا في الكَشّافِ لِما فِيهِ مِنَ الدَّغْدَغَةِ، والجُمْلَةُ كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى لِتَقْبِيحِ حالِهِمْ غَيْرُ داخِلَةٍ تَحْتَ الأمْرِ
وقِيلَ: الظّاهِرُ عَلى تَقْدِيرِ الِابْتِداءِ عَطْفُ الجُمْلَةِ عَلى ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ فَيَحْتاجُ الفَصْلُ إلى تَكْلِيفِ تَقْدِيرِ سُؤالٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَلِمَ يَرْتابُ الكافِرُونَ بِهِ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّ خُسْرانَهم أنْفُسَهم صارَ سَبَبًا لِعَدَمِ الإيمانِ، وجُوِّزَ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَوْنُ الجُمْلَةِ حالِيَّةً وهو كَما تَرى
* * *
(p-107)هَذا، ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ أيْ سَمَواتُ عالَمِ الأرْواحِ وأرْضُ عالَمِ الجِسْمِ، ويُقالُ: الرُّوحُ سَماءُ القَلْبِ لِأنَّ مِنها يَنْزِلُ غَيْثُ الإلْهامِ والقَلْبُ أرْضُها لِأنَّهُ فِيهِ يَنْبُتُ زَهْرُ الحِكْمَةِ ونُورُ المَعْرِفَةِ ﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ﴾ أيْ وأنْشَأ في عالَمِ الجِسْمِ ظُلُماتِ المَراتِبِ الَّتِي هي حُجُبٌ ظُلْمانِيَّةٌ لِلذّاتِ المُقَدَّسِ، وأنْشَأ في عالَمِ الأرْواحِ نُورَ العِلْمِ والِادِّراكِ، ويُقالُ: الظُّلُماتُ الهَواجِسُ والخَواطِرُ الباطِلَةُ، والنُّورُ الإلْهامُ، وقالَ بَعْضُهُمُ: الظُّلُماتُ أعْمالُ البَدَنِ والنُّورُ أحْوالُ القَلْبِ ثُمَّ بَعْدَ ظُهُورِ ذَلِكَ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ غَيْرَهُ، ويُثْبِتُونَ مَعَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مَن يُساوِيهِ في الوُجُودِ، وهو اللَّهُ الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ في سائِرِ صِفاتِهِ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ وهو طِينُ المادَّةِ الهَيُولانِيَّةِ، ﴿ثُمَّ قَضى أجَلا﴾ أيْ حَدًّا مُعَيَّنًا مِنَ الزَّمانِ إذا بَلَغَهُ السّالِكُ إلى رَبِّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى فَنى فِيهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - ﴿وأجَلٌ مُسَمًّى﴾ عِنْدَهُ وهو البَقاءُ بَعْدَ الفَناءِ، وقِيلَ الأجَلُ الأوَّلُ هو الَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاسْتِعْدادُ طَبْعًا بِحَسْبِ الهُوِيَّةِ وهو المُسَمّى أجَلًا طَبِيعِيًّا لِلشَّخْصِ بِالنَّظَرِ إلى مِزاجِهِ الخاصِّ وتَرْكِيبِهِ المَخْصُوصِ بِلا اعْتِبارِ عارِضٍ مِنَ العَوارِضِ الزَّمانِيَّةِ، ونُكِّرَ لِأنَّهُ مِن أحْكامِ القَضاءِ السّابِقِ الَّذِي هو أُمُّ الكِتابِ وهي كُلِّيَّةٌ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّشَخُّصاتِ إذْ مَحَلُّها الرُّوحُ الأوَّلُ المَقَدَّسُ، والأجْلُ الثّانِي هو الأجَلُ المُقَدَّرُ الزَّمانِيُّ الَّذِي يَقَعُ عِنْدَ اجْتِماعِ الشَّرائِطِ وارْتِفاعِ المَوانِعِ وهو مُثْبَتٌ في كِتابِ النَّفْسِ الفَلَكِيَّةِ الَّتِي هي لَوْحُ القَدْرِ ﴿ثُمَّ أنْتُمْ﴾ بَعْدَما عَلِمْتُمْ ذَلِكَ ﴿تَمْتَرُونَ﴾ وتَشُكُّونَ في تَصَرُّفِهِ فِيكم كَما يَشاءُ ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ أيْ سَواءٌ أُلُوهِيَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلى العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيُّ ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ في عالِمُ الأرْواحُ وهو عالَمُ الغَيْبِ ﴿وجَهْرَكُمْ﴾ في عالَمِ الأجْسامِ وهو عالَمُ الشَّهادَةِ ﴿ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ﴾ فِيهِما مِنَ العُلُومِ والحَرَكاتِ والسَّكَناتِ وغَيْرِها فَيُجازِيكم بِحَسَبِها، وقِيلَ: المَعْنى يَعْلَمُ جَوَلانَ أرْواحِكم في السَّماءِ لِطَلَبِ مَعادِنِ الأفْراحِ وتَقَلُّبِ أشْباحِكم في الأرْضِ لِطَلَبِ الوَسِيلَةِ إلى مُشاهَدَتِهِ ويَعْلَمُ ما تُحَصِّلُونَهُ بِذَلِكَ، ﴿وما تَأْتِيهِمْ مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِمْ﴾ الأنْفُسِيَّةِ والآفاقِيَّةِ ﴿إلا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾ لِسُوءِ اخْتِيارِهِمْ وعَمى أعْيُنِهِمْ عَنْ مُشاهَدَةِ أنْوارِ اللَّهِ تَعالى السّاطِعَةِ عَلى صَفَحاتِ الوُجُودِ وقالُوا لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ فَنَراهُ لِتَزُولَ شُبْهَتُنا ﴿ولَوْ أنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ أمْرُ هَلاكِهِمْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلى تَحَمُّلِ مُشاهَدَتِهِ ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلا﴾ لِيُمْكِنَهم مُشاهَدَتُهُ ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ ما في العالَمِينَ ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ إيجادًا وإفْناءً ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾
قالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الأكْبَرُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعالى عامَّةٌ وهي نِعْمَةُ الِامْتِنانِ الَّتِي تَنالُ مِن غَيْرِ اسْتِحْقاقٍ، وهي المُرادُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وإلَيْها الإشارَةُ بِالرَّحْمَنِ في البَسْمَلَةِ وخاصَّةً وهي الواجِبَةُ المُرادَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ وإلَيْها الإشارَةُ بِالرَّحِيمِ فِيها. ويُشِيرُ كَلامُهُ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى سِرَّهُ في الفُتُوحاتِ إلى أنَّ ما في الآيَةِ هو الرَّحْمَةُ الخاصَّةُ، ومُقْتَضى السِّياقِ أنَّها الرَّحْمَةُ العامَّةُ
وذَكَرَ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى سِرَّهُ في أثْناءِ الكَلامِ عَلى الرَّحْمَةِ وقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ ”شَفَعَتِ المَلائِكَةُ وشَفَعَتِ النَّبِيُّونَ والمُؤْمِنُونَ وبَقِيَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعالى سَبَقَتْ غَضَبَهُ“ كَما في الخَبَرِ فَهي أمامَ الغَضَبِ فَلا يَزالُ غَضَبُ اللَّهِ تَعالى يَجْرِي في شَأواهُ بِالِانْتِقامِ مِنَ العِبادِ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى آخِرِ مَداهُ فَيَجِدُ الرَّحْمَةَ قَدْ سَبَقَتْهُ فَتَتَناوَلُ مِنهُ العَبْدَ المَغْضُوبَ عَلَيْهِ فَتُبْسَطَ عَلَيْهِ ويَرْجِعُ الحُكْمُ لَها فِيهِ، والمَدى الَّذِي يَقْطَعُهُ الغَضَبُ ما بَيْنَ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الَّذِي في البَسْمَلَةِ وبَيْنَ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الَّذِي بَعْدَ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ . فالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ (p-108)هُوَ المَدى وأوَّلُهُ وآخِرُهُ ما قَدْ عَلِمْتَ، وإنَّما كانَ ذَلِكَ عَيْنُ المَدى لِأنَّ فِيهِ يَظْهَرُ السَّرّاءُ والضَّرّاءُ، ولِهَذا كانَ فِيهِ الحَمْدُ وهو الثَّناءُ ولَمْ يُقَيَّدْ بِسَرّاءَ ولا ضَرّاءَ فَيَعُمُّهُما، ويَقُولُ الشَّرْعُ في حَمْدِ السَّرّاءِ: الحَمْدُ لِلَّهِ المُنَعِمِ المُتَفَضِّلِ، ويَقُولُ في حَمْدِ الضَّرّاءِ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى كُلِّ حالٍ. فالحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ جاءَ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ فَلِهَذا كانَ عَيْنَ المَدى، وما مِن أحَدٍ في الدّارِ الآخِرَةِ إلّا هو يَحْمَدُ اللَّهَ تَعالى ويَرْجُو رَحْمَتَهُ ويَخافُ عَذابَهُ، واسْتَمْراهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعالى عُقَيْبَ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فالعالَمُ بَيْنَهُما بِما هو عَلَيْهِ مِن مَحْمُودٍ ومَذْمُومٍ، وهَذا شَبِيهٌ بِما جاءَ في سُورَةِ ﴿ألَمْ نَشْرَحْ﴾ وهو تَنْبِيهٌ عَجِيبٌ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِعِبادِهِ لِيَتَقَوّى عِنْدَهُمُ الرَّجاءُ والطَّمَعُ في رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى
وأنْتَ إذا التَفَتَّ أدْنى التِفاتٍ تَعْلَمُ أنَّهُ ما مِن أثَرٍ مِن آثارِ البَطْشِ إلّا وهو مُطَرَّزٌ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى بَلْ ما مِن سَعْدٍ ونَحْسٍ إلّا وقَدْ خَرَجَ مِن مَطالِعِ أفْلاكِ الرَّحْمَةِ الَّتِي أفاضَتْ شَآبِيبَها عَلى القَوابِلِ حَسَبَ القابِلِيّاتِ؛ ومِمّا يُظْهِرُ سَبْقَ الرَّحْمَةِ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَوْجُودٍ مَسْبُوقٌ بِتَعَلُّقِ الإرادَةِ بِإيجادِهِ وإخْراجِهِ مِن حَيِّزِ العَدَمِ الَّذِي هو مَعْدِنُ كُلِّ نَقْصٍ؛ ولا رَيْبَ في أنَّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ كَما أنَّهُ لا رَيْبَ في سَبْقِهِ، نَعَمْ تَنْقَسِمُ الرَّحْمَةُ في بَعْضِ الحَيْثِيّاتِ إلى قِسْمَيْنِ: رَحْمَةٌ مَحْضَةٌ لا يَشُوبُها شَيْءٌ مِنَ النِّقْمَةِ كَنَعِيمِ الجَنَّةِ وهي الطّالِعَةُ مِن بُرُوجِ اسْمِهِ سُبْحانَهُ الرَّحِيمِ ولِكَوْنِهِ ﷺ يُحِبُّ دُخُولَ أُمَّتِهِ الجَنَّةَ ويَكْرَهُ لَهُمُ النّارَ سَمّاهُ الحَقُّ عَزَّ اسْمُهُ الرَّحِيمَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، ورَحْمَةٌ قَدْ يَشُوبُها نِقْمَةٌ كَتَأْدِيبِ الوَلَدِ بِالضَّرْبِ رَحْمَةً بِهِ وكَشُرْبِ الدَّواءِ المُرِّ البَشِعِ وهي المُشْرِقَةُ مِن مَطالِعِ آفاقِ اسْمِهِ عَزَّ اسْمُهُ الرَّحْمَنُ، ولَعَلَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ العامَّةَ هي المُرادَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ سَبْقَ الرَّحْمَةِ الغَضَبَ يَقْتَضِي ظاهِرًا سَبْقَ تَجَلِّياتِ الجَمالِ عَلى تَجَلِّياتِ الجَلالِ لِأنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الجَمالِ والغَضَبَ مِنَ الجَلالِ
وذَكَرَ مَوْلانا الشَّيْخُ عَبْدُ الكَرِيمِ الجِيلِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّ الجَلالَ أسْبَقُ مِنَ الجَمالِ. فَقَدْ ورَدَ في الحَدِيثِ «العَظَمَةُ إزارِي والكِبْرِياءُ رِدائِي» ولا أقْرَبَ مِن ثَوْبِ الرِّداءِ والإزارِ إلى الشَّخْصِ. ثُمَّ قالَ: ولا يُناقِضُ هَذا قَوْلَهُ جَلَّ شَأْنُهُ: «قَدْ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» فَإنَّ الرَّحْمَةَ السّابِقَةَ إنَّما هي بِشَرْطِ العُمُومِ والعُمُومُ مِنَ الجَلالِ. وادُّعِيَ أنَّ الصِّفَةَ الواحِدَةَ الجَمالِيَّةَ إذا اسْتَوْفَتْ كَمالَها في الظُّهُورِ أوْ قارَبَتْ سُمِّيَتْ جَلالًا لِقُوَّةِ ظُهُورِ سُلْطانِ الجَمالِ فَمَفْهُومُ الرَّحْمَةِ مِنَ الجَمالِ وعُمُومُها وانْتِهاؤُها جَلالٌ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ إذا فُسِّرَ السَّبْقُ بِالمَعْنى الَّذِي نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ العُلَماءِ سابِقًا وهو الكَثْرَةُ والشُّمُولُ فَهو مِمّا لا رَيْبَ في تَحَقُّقِهِ في الرَّحْمَةِ إذْ في كُلِّ غَضَبٍ رَحْمَةٌ ولَيْسَ في كُلِّ رَحْمَةٍ غَضَبٌ كَما لا يَخْفى عَلى مَن حَقَّقَ النَّظَرَ
وبِالجُمْلَةِ في رَحْمَتِهِ سُبْحانَهُ مَطْمَعٌ أيُّ مَطْمَعٍ حَتّى أنَّ إبْلِيسَ يَرْجُوها يَوْمَ القِيامَةِ عَلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الآثارِ. وأحْظى النّاسِ بِها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الأُمَّةُ نَسْألُ اللَّهَ تَعالى لَنا ولَكُمُ الحَظَّ الأوْفَرَ مِنها ﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ الصُّغْرى أوِ الكُبْرى ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ في نَفْسِ الأمْرِ وإنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ المَحْجُوبُونَ ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ بِإهْلاكِها في الشَّهَواتِ واللَّذّاتِ الفانِيَةِ فَحُجِبُوا عَنِ الحَقائِقِ الباقِيَةِ النُّورانِيَّةِ واسْتَبْدَلُوا بِها المَحْسُوساتِ الفانِيَةَ الظُّلْمانِيَّةَ ﴿فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ لِذَلِكَ، نَسْألُ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى العَفْوَ والعافِيَةَ في الدِّينِ والدُّنْيا والآخِرَةِ
{"ayah":"قُل لِّمَن مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق