قوله تعالى: {لِّمَن مَّا فِي السموات} : «لمَنْ» خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ «مَنْ» استفهامية والمبتدأ «ما» وهي بمعنى الذي، والمعنى: لمن استقر الذي في السماوات. وقوله: {قُل للَّهِ} قيل: إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك، وقيل: لمَّا سألهم كأنهم قالوا: لمن هو؟ فقال الله: قل لله، ذكره الجرجاني. فعلى هذا قوله: «قل لله» جواب للسؤال المضمر الصادر من جهة الكفار، وهذا بعيدٌ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك. وقوله «لله» خبر مبتدأ محذوف، أي هو أو ذلك لله.
قوله: {كَتَبَ على نَفْسِهِ} أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى. وقيل: معناه القسم، وعلى هذا فقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} جوابُه؛ لِما تضمن من معنى القسم، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله «الرحمة» قال الزجاج: «إن الجملة من قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} في محل النصب على أنها بدل من» الرحمة «، لأن فَسَّر قوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير للرحمة. وقد ذكر الفراء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله» الرحمة «أو أن» ليجمعنكم «بدلٌ منها فقال:» إن شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها «ليجمعنكم» وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} [الأنعام: 54] . قلت: واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً.
ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال: «وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم» . ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر. وهو صحيح، وردَّ كونَ «ليجمعنَّكم» بدلاً من الرحمة بوجه آخر، وهو أنَّ «ليجمعنَّكم» جوابُ قسمٍ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب «. قلت: وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال:» ليجمعنَّكم «في موضع نصبٍ على البدل من» الرحمة «واللام لام القسم. فهي جواب» كتب «لأنه بمعنى: أوجب ذلك على نفسه، ففيه معنى القسم، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي، وذلك أنهم جعلوا» ليجمعنَّكم «بدلاً من» الرحمة «، يعني هي وقسيمها المحذوف، واستغنوا عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ، فكأنهم قالوا: وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له؛ لأنه نصَّ على أنه جوابٌ ل «كَتَبَ» فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان مَحَلُّه النصب فتنافيا. والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله «الرحمة، وقوله» ليجمعنَّكم «جواب قسم محذوف، اي: والله ليجمعنكم، والجملة القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإِعراب، وإن تعلَّقَتْ به من حيث المعنى.
و» إلى «على بابها أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي بمعنى اللام كقوله: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} [آل عمران: 9] وقيل: بمعنى» في «أي: ليجمعنَّكم في يوم القيامة. وقيل: هي زائدة أي: ليجمعنكم يوم القيامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ {تهوى إليهم} بفتح الواو أنه ضرورةَ هنا إلى ذلك.
قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} تقدم نظيره في أول البقرة. والجملة حال من» يوم «، والضمير في» فيه «يعود على اليوم، وقيل: يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل لأنه رَدٌّ على منكري الحشر.
قوله: {الذين خسروا} فيه ستة أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ بإضمار» أذمُّ «وقدَّره الزمخشري ب أريد، وليس بظاهر. الثاني: أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط، قاله الزجاج كأنه قيل: مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن. الثالث: أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين. الرابع: أنه بدل منهم، وهذان الوجهان بعيدان. الخامس: أنه منصوبٌ على البدل من ضمير المخاطب، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ، وهو أنه هل يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهب الأخفش جوازه، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها. وردَّ المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز:» مررت بك زيدٍ «وهذا عجيب؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو: مررت بك زيدٍ. ورَدَّ ابنُ عطية ردَّه فقال:» ما في الآية مخالفٌ للمثال؛ لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، فإذا قلت: «مررت بك زيدٍ» فلا فائدة في الثاني، وقوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال «الذين» من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخطاب، وخُصُّوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل «.
قال الشيخ:» هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا «ليجمعنَّكم» صالحاً لخطاب جميع الناس كان «الذين» بدل بعض، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ، تقديره: خسروا أنفسهم منهم.
وقوله «فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخُصُّوا على جهة الوعيد» وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل، فتناقض أول كلامه مع آخره؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل فتناقضا «. قلت: ما أبعدَه عن التناقض، لأن بدل البعض من الكل من جملة المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط، نصَّ أهل العلم على ذلك، فإذا تقرر هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام، وفي المعنى ليس المراد به إلا ما أراده المتكلم فإذا ورد:» اقتلوا المشركين بني فلان «مثلاً فالمشركون صالح لكل مشرك من حيث اللفظ، ولكنَّ المراد به بنو فلان، فالعموم في اللفظ والخصوص في المعنى، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً. وقوله» فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره «هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتةَ، وهذا مقرر في علم أصول الفقه.
السادس: أنه مرفوع على الذمِّ، قاله الزمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول:» نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ، أي: أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم خسروا أنفسهم «انتهى. قلت: إنما قَدَّر المبتدأ» أنتم «ليرتبط مع قوله» ليجمعنَّكم «وقوله» خسروا أنفسهم «من مراعاة الموصول، ولو قال:» أنتم الذين خسروا أنفسهم «مراعاةً للخطاب لجاز، تقول: أنت الذي قعد، وإن شئت: قَعَدْت.
{"ayah":"قُل لِّمَن مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ"}