الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٢] ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾
﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: خَلْقًا ومِلْكًا، وهو سُؤالُ تَبْكِيتٍ وتَقْرِيعٍ ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ تَقْرِيرٌ لِلْجَوابِ، نِيابَةً عَنْهم. أيْ: هو اللَّهُ، لا خِلافَ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ، ولا تَقْدِرُونَ أنْ تُضِيفُوا شَيْئًا مِنهُ إلى غَيْرِهِ. فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى تَعَيُّنِهِ لِلْجَوابِ اتِّفاقًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥] ومِنَ المُقَرَّرِ أنَّ أمْرَ السّائِلِ بِالجَوابِ إنَّما يَحْسُنُ في مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ الجَوابُ قَدْ بَلَغَ مِنَ الظُّهُورِ إلى حَيْثُ لا يَقْدِرُ (p-٢٢٥٤)عَلى إنْكارِهِ مُنْكِرٌ، ولا عَلى دَفْعِهِ دافِعٌ، كَما هُنا. قِيلَ: وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهم تَثاقَلُوا في الجَوابِ، مَعَ تَعَيُّنِهِ، لِكَوْنِهِمْ مَحْجُوجِينَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ داخِلَةٌ تَحْتَ الأمْرِ، ناطِقَةٌ بِشُمُولِ رَحْمَتِهِ الواسِعَةِ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، شُمُولَ مُلْكِهِ وقُدْرَتِهِ لِلْكُلِّ، مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أنَّهُ تَعالى رَؤُوفٌ بِعِبادِهِ، لا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ، ويَقْبَلُ مِنهُمُ التَّوْبَةَ والإنابَةَ، وأنَّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ، وما لَحِقَ مِن أحْكامِ الغَضَبِ، لَيْسَ مِن مُقْتَضَياتِ ذاتِهِ تَعالى، بَلْ مِن جِهَةِ الخَلْقِ. كَيْفَ لا؟ ومِن رَحْمَتِهِ أنْ خَلَقَهُ عَلى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وهَداهم إلى مَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ، بِنَصْبِ الآياتِ الأنْفُسِيَّةِ والآفاقِيَّةِ، وإرْسالِ الرُّسُلِ، وإنْزالِ الكُتُبِ المَشْحُونَةِ بِالدَّعْوَةِ إلى مُوجِباتِ رِضْوانِهِ، والتَّحْذِيرِ عَنْ مُقْتَضَياتِ سُخْطِهِ. وقَدْ بَدَّلُوا فِطْرَةَ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وأعْرَضُوا عَنِ الآياتِ بِالمَرَّةِ، وكَذَّبُوا بِالكُتُبِ، واسْتَهْزَؤُوا بِالرُّسُلِ وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ. ولَوْلا شُمُولُ رَحْمَتِهِ لَسُلِكَ بِهَؤُلاءِ أيْضًا مَسْلَكَ الغابِرِينَ. ومَعْنى: [ كَتَبَ الرَّحْمَةَ عَلى نَفْسِهِ ] أنَّهُ تَعالى أوْجَبَها وقَضاها بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ والإحْسانِ عَلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ، بِالذّاتِ، لا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ أصْلًا. وفي التَّعْبِيرِ عَنِ الذّاتِ بِ [ النَّفْسِ ] حُجَّةٌ عَلى مَنِ ادَّعى أنَّ لَفْظَ (النَّفْسِ) لا يُطْلَقُ عَلى اللَّهِ تَعالى. وإنْ أُرِيدَ بِهِ الذّاتُ، إلّا مُشاكَلَةً لِما تَرى مِنَ انْتِفاءِ المُشاكَلَةِ هاهُنا. أفادَهُ أبُو السُّعُودِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِلْوَعِيدِ، عَلى إشْراكِهِمْ وإغْفالِهِمُ النَّظَرَ؛ لِأنَّهُ لَمّا بَيَّنَ كَمالَ إلَهِيَّتِهِ، بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ ثُمَّ أخْبَرَ بِأنَّهُ يَرْحَمُهم في الدُّنْيا بِالإمْهالِ، ودَفْعِ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ، أعْلَمَ أنَّهُ يَجْمَعُهم لِذَلِكَ اليَوْمِ، ويُحاسِبُهم عَلى كُلِّ ما فَعَلُوا؛ لِأنَّ المَلِكَ الحَكِيمَ (p-٢٢٥٥)لا يُهْمِلُ أمْرَ رَعِيَّتِهِ، ولا يَسُوغُ في حِكْمَتِهِ أنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ المُطِيعِ والعاصِي قِيلَ: لَيَجْمَعَنَّكم جَوابٌ لِقَوْلِهِ: كَتَبَ؛ لِأنَّهُ يَجْرِي مَجْرى القَسَمِ.
وقِيلَ: لَيَجْمَعَنَّكم بَدَلٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَدَلُ البَعْضِ. قالَ المَهايِمِيُّ: كَمالُ الرَّحْمَةِ في الجَزاءِ؛ إذْ بَدَوْنَهُ تَضِيعُ مَشاقُّ المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، والأعْمالِ الصّالِحَةِ، وتَضِيعُ المَظالِمُ، ولا جَزاءَ في دارِ الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ فَرْعُ التَّكْلِيفِ، ودارُ التَّكْلِيفِ لا تَكُونُ دارَ الجَزاءِ؛ لِأنَّ مُشاهَدَتَهُ مانِعَةٌ مِنَ التَّكْلِيفِ. انْتَهى.
و(إلى) بِمَعْنى اللّامِ، كَقَوْلِهِ: إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ: في اليَوْمِ، أوْ في الجَمْعِ.
﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: بِتَضْيِيعِ رَأْسِ مالِهِمْ، وهو الفِطْرَةُ الأصْلِيَّةُ، والعَقْلُ السَّلِيمُ، والِاسْتِعْدادُ القَرِيبُ الحاصِلُ مِن مُشاهَدَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، واسْتِماعِ الوَحْيِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن آثارِ الرَّحْمَةِ.
﴿فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: لا يُصَدِّقُونَ بِالمَعادِ، ولا يَخافُونَ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ.
قالَ أبُو السُّعُودِ: والفاءُ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ، والإشْعارِ بِأنَّ عَدَمَ إيمانِهِمْ بِسَبَبِ خُسْرانِهِمْ، فَإنَّ إبْطالَ العَقْلِ بِاتِّباعِ الحَواسِّ، والِانْهِماكَ في التَّقْلِيدِ، وإغْفالَ النَّظَرِ، أدّى بِهِمْ إلى الإصْرارِ عَلى الكُفْرِ، والِامْتِناعِ مِنَ الإيمانِ. والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى، لِتَقْبِيحِ حالِهِمْ، غَيْرُ داخِلٍ تَحْتَ الأمْرِ.
تَنْبِيهٌ:
رُوِيَ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لَمّا خَلَقَ اللَّهُ (p-٢٢٥٦)الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابٍ، فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي»» . رَواهُ الشَّيْخانِ.
وفِي البُخارِيِّ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ، فَهو العَرْشُ».
وفِي رِوايَةٍ لَهُما: «أنَّ اللَّهَ لَمّا خَلَقَ الخَلْقَ».
(p-٢٢٥٧)وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «لَمّا قَضى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ في كِتابٍ كَتَبَهُ عَلى نَفْسِهِ، فَهو مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ. زادَ البُخارِيُّ: عَلى العَرْشِ». ثُمَّ اتَّفَقا: «إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي».
وسَنَذْكُرُ، إنْ شاءَ اللَّهُ، شَذْرَةً مِن أحادِيثِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ آيَةِ: كَتَبَ رَبُّكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قَرِيبًا.
قالَ أبُو السُّعُودِ: ومَعْنى سَبْقِ الرَّحْمَةِ وغَلَبَتِها أنَّها أقْدَمُ تَعَلُّقًا بِالخَلْقِ، وأكْثَرُ وُصُولًا إلَيْهِمْ مَعَ أنَّها مِن مُقْتَضَياتِ الذّاتِ المُفِيضَةِ لِلْخَيْرِ.
{"ayah":"قُل لِّمَن مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق