الباحث القرآني

ولَمّا أمَرَهم - سُبْحانَهُ - بِالسَّيْرِ، سَألَهم هَلْ يَرَوْنَ في سَيْرِهِمْ وتَطْوافِهِمْ وجَوَلانِهِمْ واعْتِسافِهِمْ شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ؟ تَذْكِيرًا لَهم بِما رَحِمَهم بِهِ مِن ذَلِكَ في إيجادِهِ لَهم أوَّلًا وتَيْسِيرِ مَنافِعِهِ ودَفْعِ مَضارِّهِ ثانِيًا، اسْتِعْطافًا لَهم إلى الإقْبالِ عَلَيْهِ والإعْراضِ عَنِ الخُضُوعِ لِما هو مِثْلُهم أوْ أقَلُّ مِنهم، وهو مِلْكُهُ - سُبْحانَهُ - وفي قَبْضَتِهِ، وتَقْبِيحًا لِأنْ يَأْكُلُوا خَيْرَهُ ويَعْبُدُوا غَيْرَهُ. فَقالَ مُقَرِّرًا لَهم عَلى إثْباتِ الصّانِعِ والنُّبُوَّةِ والمُعادِ، ومُبَكِّتًا بِسَفَهِهِمْ وشِدَّةِ جَهْلِهِمْ وعَمَهِهِمْ: ﴿قُلْ لِمَن﴾ ونَبَّهَ بِتَقْدِيمِ المَعْمُولِ عَلى الِاهْتِمامِ بِالمَعْبُودِ ﴿ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ولَمّا كانُوا في مَقامِ العِنادِ حَيْثُ لَمْ يُبادِرُوا إلى الإذْعانِ بَعْدَ نُهُوضِ الأدِلَّةِ وإزاحَةِ كُلِّ عِلَّةٍ - أشارَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُعْرِضًا عَنْ انْتِظارِ جَوابِهِمْ تَوْبِيخًا لَهم بِعَدَمِ النَّصْفَةِ الَّتِي يَدَّعُونَها: ”قُلْ اللَّهُ“ أيْ: الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ قُدْرَةً وعِلْمًا ولا كُفُؤَ لَهُ، لا لِغَيْرِهِ، وهم وإنْ كانُوا مُعانِدِينَ فَإنَّهم لا يُمْكِنُهم رَدُّ قَوْلِكَ، لا سِيَّما وجَوابُ الإنْسانِ عَمّا سَألَهُ إنَّما يَحْسُنُ (p-٣١)أنْ يَتَعاطاهُ هو بِنَفْسِهِ إذا كانَ قَدْ بَلَغَ في الظُّهُورِ إلى حَدٍّ لا يَقْدِرُ عَلى إنْكارِهِ مُنْكِرٌ، وهو هُنا كَذَلِكَ لِأنَّ آثارَ الحُدُوثِ والإمْكانِ ظاهِرَةٌ عَلى صَفَحاتِ الأكْوانِ، فَكانَ الإقْرارُ بِهِ ضَرُورِيًّا، لا خِلافَ فِيهِ. ولَمّا كانَ أكْثَرُ ما في هَذا الكَوْنِ مَنافِعُ مَعَ كَوْنِها حَسَنَةً لَذِيذَةً طَيِّبَةً شَهِيَّةً، وما كانَ فِيها مِن مَضارَّ فَهي مَحْجُوبَةٌ مَمْنُوعَةٌ عَنْهم، يَقِلُّ وُصُولُها إلَيْهِمْ إلّا بِتَسَبُّبِهِمْ فِيها، والكُلُّ مَعَ ذَلِكَ دَلائِلُ ظاهِرَةٌ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وتَمامِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ، وكانَ ذَلِكَ أهْلًا لِأنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُ لِعُمُومِ هَذا الإحْسانِ، مَعَ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ والعُدْوانِ، وتَأْخِيرُ العَذابِ عَنْهم مَعَ العِنادِ والطُّغْيانِ قالَ: دالًّا عَلى أنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ مُسْتَأْنِفًا: ﴿كَتَبَ﴾ أيْ: وعَدَ وعْدًا هو كالمَكْتُوبِ الَّذِي خَتَمَ، وأكَّدَ غايَةَ التَّأْكِيدِ، أوْ كَتَبَ حَيْثُ أرادَ سُبْحانَهُ. ولَمّا كانَتْ النَّفْسُ يُعَبَّرُ بِها عَنِ الذّاتِ عَلى ما هي عَلَيْهِ قالَ: ﴿عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ أيْ: فَلِذَلِكَ أكْرَمَكم هَذا الإكْرامَ بِوُجُوهِ الإنْعامِ، وأخَّرَ عَنْكم الِانْتِقامَ بِالِاسْتِئْصالِ، ولَوْ شاءَ هو لَسَلَّطَ عَلَيْكم المَضارَّ، وجَعَلَ عَيْشَكم مِن غَيْرِ اللَّذِيذِ كالتُّرابِ وبَعْضِ القاذُوراتِ الَّتِي يَعِيشُ بِها بَعْضُ الحَيَواناتِ. (p-٣٢)ولَمّا كانَ ذَلِكَ مَطْمَعًا لِلظّالِمِ البَطِرِ، ومَعْجَبًا مُحَيِّرًا مُؤْسِفًا لِلْمَظْلُومِ المُنْكَسِرِ - قالَ مُحَذِّرًا مُرَحِّبًا مُبَشِّرًا مُلْتَفِتًا إلى مَقامِ الخِطابِ لِأنَّهُ أبْلَغُ وأنَصُّ عَلى المَقْصُودِ دالًّا عَلى البَعْثِ بِما مَضى مِن إثْباتِ أنَّ الأكْوانَ لِلَّهِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما فِيها مَوْصُوفٌ بِصِفاتٍ يَجُوزُ اتِّصافُهُ بِأضْدادِها، فاخْتِصاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِصِفَتِهِ المُعَيَّنَةَ إنَّما يَكُونُ بِتَخْصِيصِ الفاعِلِ المُخْتارِ، فَيَكُونُ قادِرًا عَلى الإعادَةِ؛ لِأنَّ التَّرْكِيبَ الأوَّلَ إنَّما كانَ لِأنَّ صانِعَهُ قادِرٌ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ لِكَوْنِهِ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، والِاتِّصافُ بِذَلِكَ لا يَجُوزُ انْفِكاكُهُ عَنْهُ فَهو مَلِكٌ مُطاعٌ آمِرٌ ناهٍ مُرْسِلٌ مَن يُبَلِّغُ عَنْهُ أوامِرَهُ ونَواهِيَهُ لِإظْهارِ ثَمَرَةِ المُلْكِ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ في يَوْمِ الجَمْعِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ أيْ: واللَّهِ، مَحْشُورِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا ﴿إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ لِلْعَدْلِ بَيْنَ جَمِيعِ العِبادِ كائِنًا ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ: بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وذَلِكَ الجَمْعُ لِتَخْصِيصِ الرَّحْمَةِ في ذَلِكَ اليَوْمِ بِأوْلِيائِهِ والمَقْتِ والنِّقْمَةِ بِأعْدائِهِ بَعْدَ أنْ كانَ عَمَّ بِالرَّحْمَةِ الفَرِيقَيْنِ في يَوْمِ الدُّنْيا، وجَعَلَ الرَّحْمَةَ أظْهَرَ في حَقِّ الأعْداءِ، [وبِهَذا الجَمْعِ تَمَّتْ الرَّحْمَةُ مِن كَثِيرٍ مِنَ الخَلْقِ، ولَوْلاهُ ارْتَفَعَ الضَّبْطُ وكَثُرَ الخَبْطُ كَما كانَ في الجاهِلِيَّةِ] . ولَمّا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ في عَدَمِ الرَّيْبِ لِإخْبارِ اللَّهِ بِهِ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ ولِما عَلَيْهِ مِنَ الأدِلَّةِ لِما في هَذا الخَلْقِ مِن بَدائِعِ الحِكَمِ مَعَ خُرُوجِ أكْثَرِ أفْعالِ الحَيَوانِ عَنِ العَدْلِ، فَصارَ مِنَ المَعْلُومِ (p-٣٣)لِكُلِّ ذِي وعْيٍ أنَّ البَعْثَ مَحَطُّ الحِكْمَةِ لِإظْهارِ التَّحَلِّي بِالصِّفاتِ العُلى لِجَمِيعِ الخَلْقِ: الشَّقِيُّ والسَّعِيدُ، القَرِيبُ والبَعِيدُ - كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَما لَنا نَرى أكْثَرَ النّاسِ كافِرًا بِهِ، فَقالَ - جَوابًا -: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: بِإهْلاكِهِمْ إيّاها بِتَكْذِيبِهِمْ بِهِ لِمُخالَفَةِ الفِطْرَةِ الأُولى الَّتِي تَهْدِي الأخْرَسَ، وسَتْرِ العَقْلِ السَّلِيمِ ﴿فَهُمْ﴾ أيْ: بِسَبَبِ خَسارَتِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ بِإهْمالِ العَقْلِ وإعْمالِ الحَواسِّ والتَّقَيُّدِ بِالتَّقْلِيدِ ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ فَصارُوا كَمَن يُلْقِي نَفْسَهُ مِن شاهِقٍ لِيَمُوتَ لِغَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ الفاسِدَةِ، لا بِسَبَبِ خَفاءٍ في أمْرِ القِيامَةِ ولا لَبْسٍ بِوَقْعِ رَبِّنا، وصارَ المَعْنى: إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في هَذا اليَوْمِ هم المَقْضِيُّ بِخَسارَتِهِمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب