الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ ۝﴾ [يوسف: ١٠١]. لمّا اكتمَلَ ليوسُفَ أمرُهُ، وانتهى ما رآهُ مِن مقدورِهِ في إقامةِ أمرِ اللهِ وامتثالِهِ في إبلاغِ دِينِهِ، سأَلَ اللهَ الخِتامَ على الإسلامِ واللَّحاقَ بالصالحِين. سؤالُ اللهِ حُسْنَ الخِتامِ، وحُكْمُ تمنِّي الموتِ: وفي هذا: أنّ العبدَ إنْ بلَغَ مَرْتَبةً يَرى فيها أقصى ما يُدرِكُهُ مِن الكمالِ، أن يَسأَلَ اللهَ الخِتامَ على الإسلامِ واللَّحاقَ بالصالِحِين، لأنّ سُنَّةَ اللهِ الغالِبةَ في الناسِ جَرَتْ أنّ أقصَرَ مَراحلِ الإنسانِ مرحلةُ كَمالِه، وهي كرأسِ الهَرَمِ ليس يعقُبُها إلاَّ الموتُ عليه أو الانحدارُ وراءَهُ، ومَن نظَرَ في سِيَرِ الأنبياءِ والمُرسَلِينَ والأئمَّةِ الصالِحِين، وجَدَ أنّ مرحلةَ البلاءِ والشِّدَّةِ أطولُ مِن مرحلةِ التمكينِ، ومِن ذلك حالُ يوسُفَ، فقد ذكَرَ كمالَ نِعَمِ اللهِ عليه الدُّنيويَّةِ والدِّينيَّةِ قبلَ سؤالِ اللهِ اللَّحاقَ بالصالحينَ، فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ والأَرْضِ أنْتَ ولِيِّي فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ ۝﴾. وقد صحَّ عن قتادةَ قولُه: «لمّا جمَعَ اللهُ شَمْلَهُ وأَقَرَّ عينَهُ وهو يومئذٍ مَغْمُوسٌ في بيتِ نعيمٍ مِن الدُّنيا ومُلْكِها وغَضارَتِها، اشتاقَ إلى الصالِحِينَ قبلَه»[[«تفسير الطبري» (١٣ /٣٦٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢٢٠٤).]]. وقد حمَلَ بعضُ السلفِ هذه الآيةَ في قولِ يوسُفَ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ ۝﴾ على تمنِّي الموتِ، وقد رَوى السُّدِّيُّ، عن ابنِ عبّاسٍ أنّه قال: «هذا أوَّلُ نبيٍّ سأَلَ اللهَ الموتَ»[[«تفسير الطبري» (١٣ /٣٦٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٧ /٢٢٠٤).]]. وبنحوِه قال قتادةُ[[«تفسير الطبري» (١٣ /٣٦٦).]]. ومِن هذا دعاءُ عمرَ، كما رواهُ مالكٌ في «الموطَّأِ»، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أنّ عمرَ لمّا أفاضَ مِن مِنًى أناخَ بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحاءَ، ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْها رِداءَهُ واسْتَلْقى، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، فَقالَ: اللَّهُمَّ، كَبِرَتْ سِنِّي، وضَعُفَتْ قُوَّتِي، وانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فاقْبِضْنِي إلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ ولا مُفَرِّطٍ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ /٨٢٤).]]. وقد جاء النهيُ في السُّنَّةِ عن تمنِّي الموتِ مقيَّدًا بنزولِ الضُّرِّ وطلبًا للفِرارِ مِن البأسِ، والواجبُ في ذلك: الثباتُ والصبرُ واحتسابُ الأجرِ، وسؤالُ اللهِ الموتَ عندَ نزولِ كلِّ ضُرٍّ: إساءةُ ظنٍّ باللهِ، ففي «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإنْ كانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي) [[أخرجه البخاري (٦٣٥١)، ومسلم (٢٦٨٠).]]. وأمّا ما جاءَ عن مريمَ مِن قولِها: ﴿يالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنسِيًّا ۝﴾ [مريم: ٢٣]، فذلك أنّها تَمَنَّتِ الموتَ قبلَ نزولِ ما بها، لأنّ البلاءَ سيَتْبَعُهُ قذفٌ لا تستطيعُ دفْعَهُ بحُجَّةٍ عقليَّةٍ، أما وقد نزَلَ فلم تَسْأَلِ اللهَ الموتَ فرارًا، وإنّما ثبتَتْ وأخَذَتْ بالأسبابِ. وإذا نزَلَ بعبدٍ فتنةٌ في دِينِهِ، ولم يَقدِرْ على الثباتِ فيها، ولا القيامِ بواجبِ اللهِ عليه عِنْدَها، ويَخشى أن تُدرِكَهُ، فلا حرَجَ عليه مِن سؤالِ اللهِ الوفاةَ على الإسلامِ، ومِن ذلك سؤالُ السَّحَرَةِ مِن اللهِ الموتَ على الإسلامِ لمّا خافوا مِن فِرْعَوْنَ وتهديدِهِ، قال تعالى: ﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ۝﴾ [الأعراف: ١٢٦]. ومِن ذلك: ما جاء في حديثِ ابنِ عبّاسٍ ومعاذٍ: «وإذا أرَدتَّ بِعِبادِكَ فِتْنَةً، فاقْبِضْنِي إلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ»، رواهُ التِّرْمِذيُّ[[أخرجه الترمذي (٣٢٣٣) و(٣٢٣٤).]]. وطولُ العمرِ ليس محمودًا إلاَّ إنِ اقترَنَ بحُسْنِ العملِ، وطولُ العمرِ مع حُسْنِ العملِ خيرٌ مِن قصيرِهِ مع عملٍ حسَنٍ مُساوٍ له، ويومٌ في الدُّنيا يُختَمُ للإنسانِ به على طاعةٍ خيرٌ له مِن التعميرِ في الدُّنيا على كفرٍ وضلالةٍ، وقد رَوى أحمدُ في «المسنَدِ»، مِن حديثِ أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: كانَ رَجُلانِ مِن بَلِيٍّ ـ حَيٌّ مِن قُضاعَةَ ـ أسْلَما مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، واسْتُشْهِدَ أحَدُهُما، وأُخِّرَ الآْخَرُ سَنَةً، قالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ المُؤَخَّرَ مِنهُما أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، أوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (ألَيْسَ قَدْ صامَ بَعْدَهُ رَمَضانَ، وصَلّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ، أوْ كَذا وكَذا رَكْعَةً صَلاةَ السَّنَةِ؟)[[أخرجه أحمد (٢ /٣٣٣).]]. وقد رَوى أحمدُ والتِّرْمِذيُّ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (خَيْرُكُمْ مَن طالَ عُمُرُهُ، وحَسُنَ عَمَلُهُ)[[أخرجه أحمد (٤/١٨٨)، والترمذي (٢٣٢٩).]]. وسؤالُ اللهِ حُسْنَ الختامِ، وطلبُ الشهادةِ: ليس مِن تمنِّي الموتِ المنهيِّ عنه، بل هو مِن الأمورِ المحمودةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب