الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ﴾ في " أبَوَيْهِ " قَوْلانِ قَدْ تَقَدَّما في (p-٢٩٠)الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها. والعَرْشُ هاهُنا: سَرِيرُ المَمْلَكَةِ، أجْلَسَ أبَوَيْهِ عَلَيْهِ ﴿وَخَرُّوا لَهُ﴾ يَعْنِي: أبَوَيْهِ وإخْوَتَهُ. وَفِي هاءِ لَهُ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها تَرْجِعُ إلى يُوسُفَ، قالَهُ الجُمْهُورُ. قالَ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَ سُجُودُهم كَهَيْأةِ الرُّكُوعِ كَما يَفْعَلُ الأعاجِمُ. وقالَ الحَسَنُ: أمَرَهُمُ اللَّهُ بِالسُّجُودِ لِتَأْوِيلِ الرُّؤْيا. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: سَجَدُوا لَهُ عَلى جِهَةِ التَّحِيَّةِ، لا عَلى مَعْنى العِبادَةِ، وكانَ أهْلُ ذَلِكَ الدَّهْرِ يُحَيِّى بَعْضُهم بَعْضًا بِالسُّجُودِ والِانْحِناءِ، فَحَظَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَرَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ قالَ: " «قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أحَدُنا يَلْقى صَدِيقَهُ، أيَنْحَنِي لَهُ ؟ قالَ لا» " . والثّانِي: أنَّها تَرْجِعُ إلى اللَّهِ، فالمَعْنى: وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، رَواهُ عَطاءٌ، والضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، فَيَكُونُ المَعْنى: أنَّهم سَجَدُوا شُكْرًا لِلَّهِ إذْ جَمَعَ بَيْنَهم وبَيْنَ يُوسُفَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ﴾ أيْ: تَصْدِيقُ ما رَأيْتُ، وكانَ قَدْ رَآهم في المَنامِ يَسْجُدُونَ لَهُ، فَأراهُ اللَّهُ ذَلِكَ في اليَقَظَةِ. واخْتَلَفُوا فِيما بَيْنَ رُؤْياهُ وتَأْوِيلِها عَلى سَبْعَةِ أقْوالٍ: أحَدُها: أرْبَعُونَ سَنَةً، قالَهُ سَلْمانُ الفارِسِيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدّادِ بْنِ الهادِّ، ومُقاتِلٌ. والثّانِي: اثْنَتانِ وعِشْرُونَ سَنَةً، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: ثَمانُونَ سَنَةً، قالَهُ الحَسَنُ، والفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ. والرّابِعُ: سِتٌّ وثَلاثُونَ سَنَةً، (p-٢٩١)قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ. والخامِسُ: خَمْسٌ وثَلاثُونَ سَنَةً، قالَهُ قَتادَةُ. والسّادِسُ: سَبْعُونَ سَنَةً، قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ. السّابِعُ: ثَمانِي عَشْرَةَ سَنَةً، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدْ أحْسَنَ بِي﴾ أيْ: إلَيَّ. والبَدْوُ: البَسْطُ مِنَ الأرْضِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: البَدْوُ: البادِيَةُ، وكانُوا أهْلَ عَمُودٍ وماشِيَةٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ أيْ: أفْسَدَ بَيْنَنا. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُقالُ: نَزَغَ بَيْنِهِمْ يَنْزَغُ، أيْ: أفْسَدَ وهَيَّجَ، وبَعْضُهم يَكْسِرُ زايَ يَنْزِغُ. ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ﴾ أيْ: عالِمٌ بِدَقائِقِ الأُمُورِ. وقَدْ شَرَحْنا مَعْنى " اللَّطِيفِ " في (الأنْعامِ:١٠٢) . فَإنْ قِيلَ: قَدْ تَوالَتْ عَلى يُوسُفَ نِعَمٌ خَمْسَةٌ، فَما اقْتِصارُهُ عَلى ذِكْرِ السِّجْنِ، وهَلّا ذَكَرَ الجُبَّ، وهو أصْعَبُ ؟ فالجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الجُبِّ تَكَرُّمًا، لِئَلّا يُذَكِّرَ إخْوَتَهُ صَنِيعَهم، وقَدْ قالَ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾ . والثّانِي: أنَّهُ خَرَجَ مِنَ الجُبِّ إلى الرِّقِّ، ومِنَ السِّجْنِ إلى المُلْكِ، فَكانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ أوْفى. والثّالِثُ: أنَّ طُولَ لُبْثِهِ في السِّجْنِ كانَ عُقُوبَةً، لَهُ بِخِلافِ الجُبِّ، فَشَكَرَ اللَّهَ عَلى عَفْوِهِ. قالَ العُلَماء بِالسِّيَرِ: أقامَ يَعْقُوبُ بَعْدَ قُدُومِهِ مِصْرَ أرْبَعًا وعِشْرِينَ سَنَةً. وقالَ بَعْضُهم: سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً في أهْنَإ عَيْشٍ، فَلَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ أوْصى إلى يُوسُفَ (p-٢٩٢)أنْ يُحْمَلَ إلى الشّامِ حَتّى يَدْفِنَهُ عِنْدَ أبِيهِ إسْحاقَ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وكانَ عُمْرُهُ مِائَةً وسَبْعًا وأرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ تاقَ إلى الجَنَّةِ، وعَلِمَ أنَّ الدُّنْيا لا تَدُومُ فَتَمَنّى المَوْتَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: ولَمْ يَتَمَنَّ المَوْتَ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، فَقالَ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ﴾ يَعْنِي: مُلْكَ مِصْرَ ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ وقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُها [يُوسُفَ:٦] . وَفِي " مِن " قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها صِلَةٌ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّانِي: أنَّها لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كُلَّ المُلْكِ، ولا كُلَّ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ قَدْ شَرَحْناهُ في (الأنْعامِ:٦) . ﴿أنْتَ ولِيِّي﴾ أيِ: الَّذِي تَلِي أمْرِي. ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ: لا تَسْلُبْنِي الإسْلامَ حَتّى تَتَوَفّانِي عَلَيْهِ. وكانَ ابْنُ عَقِيلٍ يَقُولُ: لَمْ يَتَمَنَّ يُوسُفُ المَوْتَ، وإنَّما سَألَ أنْ يَمُوتَ عَلى صِفَةٍ، والمَعْنى: تَوَفَّنِي إذا تَوَفَّيْتَنِي مُسْلِمًا، قالَ الشَّيْخُ: وهَذا الصَّحِيحُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ والمَعْنى: ألْحِقْنِي بِدَرَجاتِهِمْ، وفِيهِمْ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهم أهْلُ الجَنَّةِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. والثّانِي: آباؤُهُ إبْراهِيمُ وإسْحاقُ ويَعْقُوبُ، قالَهُ الضَّحّاكُ، قالُوا: فَلَمّا احْتُضِرَ يُوسُفُ، أوْصى إلى يَهُوذا، وماتَ، فَتَشاحَّ النّاسُ في دَفْنِهِ، كُلٌّ يُحِبُّ أنْ يُدْفَنَ في مَحِلَّتِهِ رَجاءَ البَرَكَةِ، فاجْتَمَعُوا عَلى دَفْنِهِ في النَّيْلِ لِيَمُرَّ الماءُ عَلَيْهِ ويَصِلَ إلى الجَمِيعِ، فَدَفَنُوهُ في صُنْدُوقٍ مِن رُخامٍ، فَكانَ هُنالِكَ إلى أنْ حَمْلَهُ مُوسى حِينَ خَرَجَ مِن مِصْرَ ودَفَنَهُ بِأرْضِ كَنْعانَ. قالَ الحَسَنُ: ماتَ يُوسُفُ وهو ابْنُ مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَة. وذَكَرَ مُقاتِلٌ أنَّهُ ماتَ بَعْدَ يَعْقُوبَ بِسَنَتَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب