الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ ، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى، وراء ظهورهم، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه ﷺ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين. * * * واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ . فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ، لأنهم خاصموا رسول الله ﷺ بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة، تأمر من اتباع محمد ﷺ وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان. * ذكر من قال ذلك: ١٦٤٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ - على عهد سليمان - قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، [[في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٩: "ما يكون في الأرض. . أو غيب".]] فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا اسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ [[لا تأكلونه: أي لا تنفدونه أبدا. يقال: أكل فلان عمره: إذا أفناه.]] قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. [[في المطبوعة: "فقام"، والصواب ما أثبته من تفسير ابن كثير.]] فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد ﷺ خاصموه بها، فذلك حين يقول: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . [[الأثر: ١٦٤٦ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٩.]] ١٦٤٧ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا ﷺ زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. [[خاصمني فخصمته أخصمه: غلبته بالحجة في خصومي.]] فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله جل وعز: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان - [[في تفسير ابن كثير: "تحت كرسي مجلس سليمان".]] وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي ﷺ بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم. [[الأثر: ١٦٤٧ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٩ - ٢٥٠.]] * * * ١٦٤٨ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، قال: لما جاءهم رسول الله ﷺ مصدقا لما معهم، ﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب﴾ الآية، قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: ﴿ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . * * * وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان. * ذكر من قال ذلك: ١٦٤٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان، فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان. ١٦٥٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر:"من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا". حتى إذا صنعوا أصناف السحر، [[في تفسير ابن كثير: "صنفوا أصناف السحر". وهي أجود.]] جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله ﷺ، فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! [[في المطبوعة: "لمحمد ﷺ"، والذي أثبته مقتضى سياق كلامهم.]] يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد ﷺ: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ . [[إلى هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره عن أبي جعفر ١: ٢٥٠، أما سائر الخبر، فإنه رواه في ١: ٢٤٧، وصدره بقوله: "وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية - وكان حين ذهب ملك سليمان. . "، وساق الخبر بنصه هذا. فلست أدري أفي نسخ الطبري سقط، أم هذه جزء من رواية الطبري عن ابن إسحاق من حديث ابن عباس.]] * * * قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، [[الفئام: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه.]] فلما رجع الله إلى سليمان ملكه، قام الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك، [[حدثان الشيء (بكسر فسكون) : أوله وابتداؤه وقرب العهد به. وهو منصوب على الظرفية.]] فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله: ﴿ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ ، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله ﷺ، فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٨ - ٣٩.]] * * * وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: ﴿واتبعوا﴾ بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله ﷺ أثر منقول، ولا حجة تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ما تتلوا الشياطين﴾ ، الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين. * * * واختلف في تأويل قوله: ﴿تتلو﴾ . فقال بعضهم: يعني بقوله: ﴿تتلو﴾ ، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو "تِلاوة" الرجل للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم. * ذكر من قال ذلك: ١٦٥١ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو، عن مجاهد في قول الله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر. [[الأثر: ١٦٥١ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٠.]] ١٦٥٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، من الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. ١٦٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ ، قال: نراه ما تحدث. ١٦٥٤ - حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس. [[الأثر: ١٦٥٤ - كان في المطبوعة: "سالم بن جنادة"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر رقم: ٤٨ في الجزء الأول. وهو جزء من خبر سيأتي برقم: ١٦٦٠.]] * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿ما تتلو﴾ ، ما تتبعه وترويه وتعمل به. * ذكر من قال ذلك: ١٦٥٥ - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: ﴿تتلوا﴾ ، قال: تتبع. [[الأثر: ١٦٥٥ - في المطبوعة"العبقري"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر رقم: ١٦٢٥.]] ١٦٥٦ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي رزين مثله. [[الأثر: ١٦٥٦ - في المطبوعة"نصر بن عبد الرحمن الأودي"، وهو خطأ وانظر التعليق على الأثر: ٤٢٣ في الجزء الأول.]] * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين. * * * ولقول القائل:"هو يتلو كذا" في كلام العرب معنيان. أحدهما: الاتباع، كما يقال:"تلوت فلانا" إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه: ﴿هُنَالِكَ تتلو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ﴾ [يونس: ٣٠] ، [["هنالك تتلو" إحدى القراءتين، والأخرى"هنالك تبلو"، وهي التي في مصاحفنا اليوم وقال أبو جعفر في تفسيره ١١: ٧٩"إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل منهما أئمة من القراء".]] يعني بذلك تتبع. والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول:"فلان يتلو القرآن"، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت: نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد [[ديوانه: ٨٨، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد، حين خرج رسول الله مهاجرا إلى المدينة. ورواية الديوان: "في كل مسجد"، ورواية الطبري أمثل.]] ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى"التلاوة" كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته. [[كان ينبغي أن يكون في هذا المكان تفسير قوله" ما تتلو" الذي سيأتي في: ٤١٨]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿على ملك سليمان﴾ ، في ملك سليمان. وذلك أن العرب تضع"في" موضع"على" و"على" في موضع"في". [[انظر ما سلف ١: ٢٩٩.]] من ذلك قول الله جل ثناؤه: ﴿وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [سورة طه: ٧١] يعني به: على جذوع النخل، وكما قالوا:"فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا"، بمعنى واحد. [[في المطبوعة: "وكما قال: فعلت كذا. . " ولا يستقيم إلا على تمريض.]] وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله: ١٦٥٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: ﴿على ملك سليمان﴾ ، يقول: في ملك سليمان. * * * ١٦٥٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق في قوله: ﴿على ملك سليمان﴾ ، أي: في ملك سليمان. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، [[قوله: "وما هذا الكلام" الإشارة فيه إلى الآية التي يؤولها: "وما كفر سليمان" يقولون: ما مكان هذا الكلام - من هذا الكلام وهو قوله: "واتبعوا ما تتلو الشياطين".]] ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟ قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم، [[في المطبوعة"لأنفسهم"، والصواب إسقاط هذه اللام، كما يدل عليه السياق.]] عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان، وهو نبي الله ﷺ - منهم بشر، [[سياق العبارة: "وتبرأ. . من سليمان. . منهم بشر". ولعل"بشر" هذه"نفر"، أي جماعة. يقول: تبرأت جماعة أخرى من سليمان، إذ نسب إلى السحر، وكفروه.]] وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر = لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها = وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه. * * * * ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار: * * * ١٦٥٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد ﷺ براءة سليمان. فقال: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ الآية، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. [[الثر: ١٦٥٩ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٠.]] ١٦٦٠ - حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا ﷺ، فأنزل جل ثناؤه: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ ، فأنزل الله جل وعز وعذره. [[الأثر: ١٦٦٠ - انظر الأثر السالف: ١٦٥٤ والتعليق عليه.]] ١٦٦١ - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير، عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . [[الأثر: ١٦٦١ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥١، وفيه"فزاد الناس". . مكان"فرأى" والصواب ما في الطبري.]] ١٦٦٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا حدث منه صدق، [[في تفسير ابن كثير: "فإذا جرت منه وصدق"، ولعلها تصحيف.]] كذب معها سبعين كذبة. قال: فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - [[في تفسير ابن كثير: "حتى بقاياها".]] فأنزل الله عذر سليمان: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . [[الأثر: ١٦٦٢ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٨ - ٢٤٩، مع اختلاف في بعض اللفظ غير الذي أثبته.]] . ١٦٦٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. [[في المطبوعة: "وأعلموهم إياه"، وقد مضى في رقم: ١٦٥٢، "وعلموهم"، وكذلك أثبتها هنا.]] فلما سمع بذلك سليمان نبي الله ﷺ تتبع تلك الكتب، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه، [[في المطبوعة: "فتتبع تلك الكتب" بزيادة الفاء، ولا موضع لها.]] كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ . ١٦٦٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل وعز: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . ١٦٦٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. [[الأثر: ١٦٦٥ - كان في المطبوعة: "حدثنا القاسم قال حدثنا حجاج" أسقط منه"قال حدثنا الحسين"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه إلينا رقم: ١٦٥٧، وسيأتي في الذي يلي.]] ١٦٦٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت:"من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا". فكتبته وجعلت عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نبيا، وإنما كان ساحرا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا ﷺ، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل الله عذر سليمان: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ الآية. [[الأثر: ١٦٦٦ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥١.]] ١٦٦٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ . وذلك أن رسول الله ﷺ -فيما بلغني- لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ ،-أي باتباعهم السحر وعملهم به- ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ . [[الأثر: ١٦٦٧ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٢ - ١٩٣.]] * * * قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وتأويل قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ ما ذكرنا = فبين أن في الكلام متروكا، [[في المطبوعة: "فتبين" وما أثبت أشبه بعبارة الطبري.]] ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان، وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ على ما قلنا. ١٦٦٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ ، يقول: ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه. * * * وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى"تتلو"، [[انظر ما سلف قريبا: ٤١١.]] وتوجيه من وجه ذلك إلى أن"تتلو" بمعنى"تلت"، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: ﴿واتبعوا﴾ ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول، [[قوله: "وتوجيه من وجه ذلك أن: تتلو - بمعنى: تلت" لم يأت هنا في تفسير الآية، بل جاء في تفسير آية مضت من سورة البقرة: ٩١، ص ٣٥٠ - ٣٥٢.]] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. * * * وأما معنى قوله: ﴿ما تتلوا﴾ ، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو السحر. [[هذه الفقرة، والأخرى التي قبلها، والأثر الآتي رقم: ١٦٦٩، كان أولى أن تكون في آخر تفسير قوله: "ما تتلو الشياطين" فيما مضى: ٤١١.]] ١٦٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ ، أي السحر. [[الأثر: ١٦٦٩ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٢.]] * * * قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر. [فإن] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل"ما" التي في قوله: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ . فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى"لم". * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ فإنه يقول: لم ينزل الله السحر. ١٦٧١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ ، قال: ما أنزل الله عليهما السحر. * * * فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ إلى: ولم ينزل على الملكين-: واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين = ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ="ببابل، هاروت وماروت". فيكون حينئذ قوله:" ﴿ببابل هاروت وماروت﴾ ، من المؤخر الذي معناه التقديم. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف - وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [من السحر] ، وما أنزل [الله السحر] على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت - فيكون معنيا بـ "الملكين": جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمدا ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس [ذلك] ببابل، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: [[في المطبوعة وابن كثير: "وأن الذين يعلمونهم"، وما أثبت هو الصواب.]] اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون"هاروت وماروت"، على هذا التأويل، ترجمة على"الناس" وردا عليهم. [["الترجمة" عند الكوفيين هي"البدل"، وانظر ما سلف ٢: ٣٤٠ وانظر ما سيأتي: ٤٢٣. والزيادات التي بين الأقواس في هذه الفقرة، من تفسير ابن كثير ١: ٢٥٢، وقد نقل كلام الطبري بنصه.]] * * * وقال آخرون: بل تأويل"ما" التي في قوله: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ -"الذي". * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ ، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، [[حاف له يحيف حيفا: مال معه فجاز وظلم غيره. وحاف عليه: ظلمه وجار عليه.]] ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". ١٦٧٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا. [[الأثر: ١٦٧٣ - هو من تتمة الأثر السالف: ١٦٤٦، ويرجع الضمير في قوله: "وخاصموه به أيضًا - إلى رسول الله ﷺ، ثم اليهود، كما تبين ذلك من مراجعة الأثر هناك.]] ١٦٧٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿يعلمون الناس السحر وما أنزل على الناس ببابل هاروت وماروت﴾ . فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت. ١٦٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ ، قال: التفريق بين المرء وزوجه. ١٦٧٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ﴿ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين﴾ ، فقرأ حتى بلغ: ﴿فلا تكفر﴾ ، قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى. * * * قال أبو جعفر [[كان في المطبوعة هنا: "وقالوا: إن قال لنا قائل. . ". والضمير في"قالوا"، لا يعود إلى مذكورين قبل. وكأن الناسخ تعاظمه أن يكون الرد الآتي من كلام أبي جعفر، فحذف ما جرى عليه في تفسيره من قوله"قال أبو جعفر"، وأقحم"وقالوا" مكانها، ثم زاد فحشا هذه الفقرات الآتية بكلمته"وقالوا"، كما سنبينه في مواضعه من التعليق. وهذا أسلوب لم يطرقه أبو جعفر قط في تفسيره كله. والذي استبشعه بعض النساخ - فيما نرجح - سيأتي بعد قليل في ص ٤٢٣ - ٤٢٦ بأوضح مما قاله هنا. وقد عد ابن كثير قول أبي جعفر مسلكا غريبا، فقال في تفسيره ١: ٢٥٣، وذكر ما ذكره أبو جعفر من قول من قال"ما" بمعنى"لم" فقال: "ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن"ما" بمعنى"الذي"، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر، اختبارا لعباده وامتحانا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به. وهذا الذي سلكه غريب جدا". ولست أستنكر ما قاله أبو جعفر، كما استنكره ابن كثير، ولو أنت أنصفت وتتبعت كلام أبي جعفر، لرأيت فيه حجة بينه ساطعة على صواب مذهبه الذي ذهب إليه، ولرأيت دقة ولطفا في تناول المعاني، وتدبير الألفاظ، لا تكاد تجدهما في غير هذا التفسير الجليل القدر.]] إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟ قلنا له: إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله، وبين جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها. [[كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ليس في العلم. . ". انظر ما سلف.]] وليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته. وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به. [[كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) فليس في إنزال الله. . " انظر ما سلف.]] فليس في إنزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. [[كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ولو كان الله أباح. . " انظر ما سلف.]] ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حرجا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما به. [[استعمل أبو جعفر: هو"حرج" - على وزن: هو"فرح" - بمعنى: آثم. وأهل اللغة ينكرون ذلك. لا يقال للآثم إلا"الحارج" على النسب. لأن"الحرج" بمعنى الإثم، لا فعل له. ولعل الناسخ أخطأ فكتب"حرجا. . وحرجين" مكان"حارجا. . وحارجين"، بمعنى: آثم، وآثمين، ولكني تركتها هنا على حالها مخافة أن تكون من كلام أبي جعفر خطأ اجتهاد، أو صوابا علمه هو لم يبلغنا.]] إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما. [[سيأتي بيان قوله هذا كله بأوفى من هذا وأتم في ص: ٤٢٣ - ٤٢٦.]] * * * وقال آخرون: معنى"ما" معنى"الذي"، وهي عطف على"ما" الأولى. غير أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه. فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول الله جل ثناؤه: ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا﴾ . وكان يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين، وأما الذي يعلم الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه، كما قال الله تعالى. * * * وقال آخرون: جائز أن تكون"ما" بمعنى"الذي"، وجائز أن تكون"ما" بمعنى"لم". * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٨ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله: ﴿يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنزل عليهما، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. * ١٦٧٩ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض، عن بعض أصحابه، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ ، فقيل له: أنزل أو لم ينزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان، إلا أني آمنت به. [[الخبر: ١٦٧٩ - يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري: إمام معروف، يروى عنه الطبري كثيرا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة. وقال ابن أبي حاتم ٤ /٢ /٢٤٣: "كتبت عنه، وأقمت عليه سبعة أشهر". وقال: "سمعت أبي يوثق يونس بن عبد الأعلى، ويرفع من شأنه". ولد سنة ١٧٠، ومات سنة ٢٦٤. وأما شيخه هنا فهو: "أنس بن عياض بن ضمرة": وهو ثقة، خرج له أصحاب الكتب الستة. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ /٢ /٣٤، وابن أبي حاتم ١ /١ /٢٨٩. وكتب في المطبوعة"بشر" بدل"أنس". وهو تحريف واضح. صوابه في ابن كثير ١: ٢٥٣، نقلا عن هذا الموضع من الطبري. ولم نجد في الرواة من يسمى"بشر بن عياض" أبدا.]] . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه"ما" التي في قوله: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ إلى معنى"الذي"، دون معنى"ما" التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن"ما" إن وجهت إلى معنى الجحد، تنفي عن"الملكين" أن يكونا منزلا إليهما، [[في المطبوعة: "فتنفي. . . " بزيادة فاء لا خير فيها.]] ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني"هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما [[انظر معنى "الترجمة" آنفًا: ٤٢٠ تعليق: ٢.]] أو بدلا من"الناس" في قوله: ﴿يعلمون الناس السحر﴾ ، وترجمة عنهما. [[في المطبوعة "يعلمان الناس السحر" وهو خطأ. وانظر ما سلف: ٤٢٠.]] فإن جعلا بدلا من"الملكين" وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: ﴿وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنه فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به من بين المرء وزوجه﴾ . لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ [[في المطبوعة: "ما يفرق"، والصواب ما أثبت.]] وبعد، فإن"ما" التي في قوله: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: ﴿وما كفر سليمان﴾ ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: ﴿وما كفر سليمان﴾ ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: ﴿وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين. وإن كان قوله"هاروت وماروت" ترجمة عن"الناس" الذين في قوله: ﴿ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو"هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين: إما أن يكونا ملكين، فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا ﴿إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم. [[يقول في سياقه: قد ارتفع من بني آدم - السحر، والعلم به والعمل.]] لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما. وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله. [[بطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا. وهذا باطل بين البطول والبطلان.]] * * * فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبَيِّنٌ أن معنى ﴿ما﴾ التي في قوله: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ بمعنى"الذي"، وأن"هاروت وماروت"، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لأنهما في موضع خفض على الرد على"الملكين". ولكنهما لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما. * * * فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: ﴿إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه = يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا، إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. [[هذه حجة رجل يبصر دقيق المعاني، ولا يغفل عن مواضع السقط في كلام من يتكلم وهو لا يضبط ما يقتضيه كلامه. وقد استخف به ابن كثير، لأنه لم يضبط ما ضبطه هذا الإمام المتمكن من عقله وفهمه.]] فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: ﴿إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ ، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك، كما:- ١٦٨٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن في قوله: ﴿وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ إلى قوله: ﴿فلا تكفر﴾ ، أخذ عليهما ذلك. * * * ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: ﴿ببابل﴾ : * * * ١٦٨١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب، عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فاهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها"بيذخت" فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل. [[الخبر: ١٦٨١ - أبو شعبة العدوي، هذا الذي يروى هنا عن ابن عباس: لم أعرف من هو؟ ولا وجدت له ذكرا في شيء من المراجع. والراجح عندي أن اسمه محرف عن شيء لا أعرفه.]] ١٦٨٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حجاج، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! [[في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٦، والدر المنثور ١: ٩٩: "ربنا، لا تمهلهم"، وكأنها هي الصواب، وإن كانت الأولى صحيحة المعنى.]] فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! [[هذه العبارة صحيحة المعنى، ولكنها جاءت في تفسير ابن كثير: "إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". وجاءت في الدر المنثور: "إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". مختصرا.]] قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكان أهل فارس يسمونها"بيذخت". قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. [[في المطبوعة: "وكانت الملائكة" بالواو، والصواب من ابن كثير والدر المنثور.]] ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا﴾ . فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. [[الخبر: ١٦٨٢ - الحجاج بن المنهال الأنماطي: ثقة فاضل، أخرج له الجماعة. شيخه"حماد": الراجح عندنا أنه"حماد بن سلمة"، وإن كان في التهذيب أنه يروى عن"الحمادين"، يعني حماد بن زيد وحماد بن سلمة. ولكن اقتصر البخاري في ترجمته في الكبير ١ /٢ / ٣٧٦ على ذكر"حماد بن سلمة"، وكذلك صنع ابن أبي حاتم ١ /٢ /١٦٧. فصنيعهما يدل على أنه عرف بالرواية عنه أكثر - ووقع في المطبوعة هنا"حجاج" بدل"حماد". والتصحيح من ابن كثير ١: ٢٥٦، إذ نقل هذا الخبر عن الطبري.]] ١٦٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد قال، سمعت عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا. [[الخبر: ١٦٨٣ - خالد الحذاء: هو"خالد بن مهران"، ثقة كثير الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ /٢ /١٥٩، وابن أبي حاتم ١ /٢ / ٣٥٢ - ٣٥٣. عمير بن سعيد النخعي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ /١ /٣٧٦. ووقع في المطبوعة هنا"عمرو" بدل"عمير". وهو خطأ، صوابه في ابن كثير ١: ٢٥٥ عن رواية الطبري هذه. والخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٥ - ٢٦٦، مطولا، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، "عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت عليا. . "، فذكره بطوله.]] ١٦٨٤ - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق - جميعا، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما. [[الخبر: ١٦٨٤ - راه البخاري بإسنادين: من طريق مؤمل بن إسماعيل، ومن طريق عبد الرازق، كلاهما عن الثوري. موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي: هو صاحب المغازي، كان ثقة ثبتا. كان مالك يقول:"عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة". وهو مترجم في الكبير للبخاري ٤/ ١/ ٢٩٢ وابن أبي حاتم ٤/ ١ /١٥٤ - ١٥٥. والذي أثبتنا هو الصواب، وكان في المطبوعة"محمد بن عقبة"، بدل"موسى". و"محمد ابن عقبة": هو أخو موسى بن عقبة. وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، والكبير ١/١ /١٩٨ - ١٩٩، وابن أبي حاتم ٤/١/٣٥. وكان من المحتمل أن يكون ما في المطبوعة صحيحا، لأن سفيان الثوري يروي عن محمد بن عقبة، كما يروي عن أخيه موسى. لولا الدلائل والقرائن، التي جزمنا معها بخطأ ذلك: فأولا: أن محمد بن عقبة لم يذكر في ترجمته بالرواية عن سالم بن عبد الله بن عمر. وثانيا: أن ابن كثير نقل هذا الخبر عن تفسير عبد الرزاق، عن الثوري، عن موسى بن عقبة ١: ٢٥٥، ثم ذكر أن الطبري رواه من طريق عبد الرزاق. وثالثا: الخبر ثابت في تفسير عبد الرزاق، في نسخة مصورة عندي، عن مخطوطة دار الكتب المصرية، المكتوبة سنة ٧٢٤. وفيها"عن موسى بن عقبة". فاتفق على هذا الكتابان: الكتاب الذي نقل عنه الطبري، والكتاب الذي نقل عن الطبري. ورابعا: أن ابن كثير قال أيضًا:"رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مؤمل، عن سفيان الثوري، به". والطبري هنا رواه - كما ذكرنا - عن مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري. فاتفقت روايته مع رواية ابن أبي حاتم. وليس بعد هذا ثبت ويقين.]] ١٦٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي، فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول، انزلا إلى الأرض، ولا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما. [[الخبر: ١٦٨٥ - هو تكرار للخبر قبله، من رواية عبد العزيز بن المختار، عن موسى ابن عقبة. وعبد العزيز بن المختار الدباغ: ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم /٢/٣٩٣ - ٣٩٤.]] ١٦٨٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية،"الزُّهَرة"، وبالنبطية"بيذخت"، واسمها بالفارسية"أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها، قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها، [[في ابن كثير ١: ٢٥٩: "فثبتت مكانها".]] وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا الهلك، [[في ابن كثير ١: ٢٥٩: "الهلكة"، وهما سواء.]] فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة، فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر. ١٦٨٧ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. [[ما أدري ما يعني بقوله: "إنهم في غيب"، إلا أن يكون أراد الغيب: وهو ما غيبك من الأرض، لبعده وانقطاعه، وهبوطه عما حوله. كأنه يقول: إنهم في مكان غيبهم عما تشهدون أنتم - أيتها الملائكة - من آيات ربكم. وانظر ص: ٤٣٣.]] فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل بهما شهوات بني آدم، [[في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٧: "فجعل لهما. . ".]] وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، [[في تفسير ابن كثير: "أتيا عليها".]] فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله، [[في المطبوعة: "فصبرا ما شاء الله"، وفي ابن كثير: "فعبرا". وغبر: مكث وبقى.]] ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية [[انظر ص: ٤٣٢ تعليق: ١.]] فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان. [[الأثر: ١٦٨٧ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٧ - ٢٥٨ عن أبي حاتم قال: "أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس رضي الله عنهما"، وهو غير إسناد ابن جرير، وكلاهما من طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس، ولكن ابن جرير لم يرفعه إلى ابن عباس. ونصهما واحد إلا بعض خلاف يسير في بعض اللفظ.]] ١٦٨٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثا- [[في المطبوعة: "قالها مرتين أو ثلاثا"، والصواب من ابن كثير في تفسيره ١: ٢٥٥، والدر المنثور ١: ٩٧.]] ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله ﷺ، [[في ابن كثير: "أو قال - قال لي رسول الله. . ".]] وقال: قال لي رسول الله ﷺ:"إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت. [[الفرج بن فضالة التنوخي القضاعي: ضعيف قال البخاري: "منكر الحديث"، وهو مترجم في التهذيب، والكبير ٤ /١/١٣٤، والصغير: ١٩٢، ١٩٩، والضعفاء للبخاري: ٢٩، والنسائي: ٢٥، وابن أبي حاتم ٣ /٢ /٨٥ - ٨٦. وهذا الحديث هنا مختصر. وقد رواه الخطيب في ترجمة سنيد، مطولا، من طريق عبد الكريم بن الهيثم، عن سنيد، بهذا الإسناد. وهذه الأخبار، في قصة هاروت وماروت، وقصة الزهرة، وأنها كانت امرأة فمسخت كوكبا - أخبار أعلها أهل العلم بالحديث. وقد جاء هذا المعنى في حديث مرفوع، ورواه أحمد في المسند: ٦١٧٨، من طريق موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر. وقد فصلت القول في تعليله في شرح المسند، ونقلت قول ابن كثير في التفسير ١: ٢٥٥"وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي ﷺ". واستدل بروايتي الطبري السالفتين: ١٦٨٤، ١٦٨٥ عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار. وقد أشار ابن كثير أيضًا في التاريخ ١: ٣٧ - ٣٨ قال: "فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سيبل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل ":. وقال أيضًا، بعد الإشارة إلى أسانيد أخر: "وإذا أحسنا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها". وقال في التفسير أيضًا ١: ٢٦٠، بعد ذكر كثير من الروايات التي في الطبري وغيره: "وقد روى في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وظاهر سياق القرآن إجمال القصة" من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى. والله أعلم بحقيقة الحال". وهذا هو الحق، وفيه القول الفصل. والحمد لله.]] ١٦٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، [[في ابن كثير ١: ٢٥٩: "أعجبتم من بني آدم. . وإنكما ليس بيني وبينكم رسول".]] وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر ونهاهما. [[في ابن كثير: "فأمرهما بأمور ونهاهما".]] ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم، فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالالها -وقضيا لها-: ائتينا! فأتتهما، [[في ابن كثير: "قالا وقضيا لها فأتتهما"، وليس بصواب.]] فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، [[في ابن كثير: "فزجرا ولم يؤذن لهما، وهما سواء.]] ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. [[في ابن كثير: "فقالا: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله. . وفي الدنيا تسع مرات مثلها". وفي الدر المنثور: "فقالا: نعلم أن أفواج عذاب الله. . نعم، ومع الدنيا سبع مرات. . " وقوله"ومع الدنيا. . " أي إذا قيس بعذاب الدنيا، كان سبعة أمثال عذابها.]] فأمرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما. [[الأثر: ١٦٨٩ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٩ - ٢٦٠، وفي الدر المنثور ١: ١٠٢]] * * * قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: ﴿وما أنزل على الملكين﴾ ، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، [[انظر ما سلف ص: ٤٢٥ - ٤٢٦.]] فأما من جهة النقل، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها. * * * وأمأ قوله ﴿ببابل﴾ ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها"بابل دُنْبَاوَنْد". ١٦٩٠ - حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. [[الأثر: ١٦٩٠ - هو الأثر السابق ١٦٨٦.]] * * * وقال بعضهم: بل ذلك"بابل العراق". * ذكر من قال ذلك: ١٦٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر. [[الأثر: ١٦٩١ الحسين: هو سنيد، كما مضى مرارا. حجاج: هو ابن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة رفيع الشأن، من شيوخ أحمد وابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٣٧٦، وابن أبي حاتم ١/٢/١٦٦، وتاريخ بغداد ٨: ٢٣٦ - ٢٣٩. وهذا الخبر قطعة من خبر مطول، سيأتي: ١٦٩٢، من طريق ابن أبي الزناد أيضًا.]] قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته: يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:- ١٦٩٢ - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي ﷺ لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. [[الحديث: ١٦٩٢ - أحمد بن الوليد، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ وسفيان بن وكيع بن الجراح: ضعيف قال البخاري في التاريخ الصغير، ص: ٢٤٦"يتكلمون فيه لأشياء لقنوه". وقال النسائي في الضعفاء، ص: ١٦"ليس بشيء". بل اتهمه أبو زرعة بالكذب. ودفع عنه أبو حاتم هذه السبة، وإنما جاءه ذلك من وراقه، أفسد عليه حديثه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٣١ - ٢٣٢، والمجروحين لابن حبان (مخطوط مصور) ، رقم: ٤٧٠. وليس ضعفه بسبب لضعف هذا الحديث فقد جاء بأسانيد صحاح، سنشير إليها في الحديث التالي. يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام الحافظ.]] ١٦٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت، سحر رسول الله ﷺ يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله ﷺ يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. [[الحديث: ١٦٩٣- هو تكرار للحديث السابق بإسناد آخر، رواه سفيان بن وكيع عن ابن نمير. ابن نمير: هو عبد الله بن نمير الهمداني: ثقة صاحب سنة، روى عنه الأئمة، أحمد، وابن المديني. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٧٤ - ٢٧٥. وابن أبي حاتم ٢ /٢ /١٨٦. وهذا الحديث - بطريقيه - مختصر من حديث مطول: أما من رواية ابن نمير، فقد رواه أحمد في المسند ٦: ٥٧ (حلبي) عن ابن نمير. ورواه مسلم في صحيحه ٢: ١٨٠، عن أبي كريب. ورواه ابن ماجه: ٣٥٤٥، عن أبي بكر بن شيبة - كلاهما عن ابن نمير، به مطولا. وقد رواه كثير من الثقات الأثبات عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: فرواه أحمد في المسند ٦: ٦٣، من طريق معمر. ورواه أحمد أيضًا ٦: ٦٣، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، وكذلك رواه البخاري ١٠: ٢٠١، ومسلم ٢: ١٨٠ - كلاهما من طريق أبي أسامة. ورواه أحمد أيضًا ٦: ٩٦، وابن سعد ٢ /٢ /٤ - كلاهما من طريق وهيب. ورواه البخاري ١٠: ١٩٢ - ١٩٧، من طريق عيسى بن يونس. و١٠: ١٩٩ - ٢٠١، من طريق ابن عيينة. و ١٠: ٤٠٠، من طريق سفيان، وهو ابن عيينة. و١١: ١٦٣، من طريق أنس ابن عياض أبي ضمرة. ورواه أيضًا ٦: ٢٣٩، معلقا من رواية الليث بن سعد، - كل هؤلاء رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقال البخاري ١٠: ١٩٧، عقب رواية عيسى بن يونس: أنه سمعه قبل ذلك من ابن جريح"يقول: حدثني آل عروة عن عروة".، وأنه - أي ابن عيينة - سأل هشاما عنه، فحدثه به عن أبيه عن عائشة. وذكر ابن كثير بعض طرقه، في تفسير سورة الفلق ٩: ٣٥٣ - ٣٥٤. وإنما فصلنا القول في طرقه هنا، لأن الطبري لم يذكره هناك في موضعه. وقد ثبت مثل هذه القصة من حديث زيد بن أرقم. رواه أحمد في المسند ٤: ٣٦٧ (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، به وهذا إسناد صحيح. يزيد بن حيان أبو حيان التيمي: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤/ ٢/٣٢٤ - ٣٢٥، وابن أبي حاتم ٤ /٢ /٢٥٥ - ٢٥٦. ورواه أيضًا ابن سعد ٢/٢/٦، عن موسى بن مسعود، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ثمامة المحلمي، عن زيد بن أرقم. وهذا إسناد صحيح أيضًا. موسى بن مسعود النهدي: سبق توثيقه: ٢٨٠. و"ثمامة بن عقبة المحلمي": ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ /٢ /١٧٦، والجرح ١/١/٤٦٥ - ٤٦٦. و"المحلمي"بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشددة بعدهما ميم، نسبة إلى"محلم بن تميم". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٢٨١، بروايتين، وقال:"رواه النسائي باختصار"، ثم قال:"رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح". وذكره الحافظ في الفتح ١٠: ١٩٤ أنه"صححه الحاكم وعبد حميد". وقصة السحر هذه عرض لها كثير من أهل عصرنا بالإنكار؛ وهم في إنكارهم مقلدون، ويزعمون أنهم بعقلهم يهتدون. وقد سبقهم إلى ذلك غيرهم، ورد عليهم العلماء: فقال الحافظ في الفتح ١٠: ١٩٢"قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها! ١٠: ١٩٢"قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم! وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء!! قال المازري: وهذا كله مردود. لأن الدليل قد قام على صدق النبي ﷺ فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها - فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض. فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك من أمور الدين". ثم أفاض الحافظ في هذا البحث الدقيق، بقوته المعروفة، في جمع الروايات وتفسيرها، بما لا يدع شكا عند من ينصف. وعقد القاضي عياض فصلا جيدا في هذا البحث، في كتاب الشفاء. انظره في شرح العلامة على القارئ٢: ١٩٠ - ١٩٣ من طبعة بولاق سنة ١٢٥٧.]] ١٦٩٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله ﷺ، فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله ﷺ إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان رسول الله ﷺ يقول: سحرتني يهود بني زريق. [[الحديث: ١٦٩٤ - هذا في معنى الحديثين قبله. ولكن هذا مرسل. وقد روى ابن سعد ٢/٢/٥، نحوه مختصرا، عن الزهري، "عن ابن المسيب وعروة بن الزبير قالا: فكان رسول الله ﷺ يقول: سحرتني يهود بني زريق". وقد أشار الحافظ في الفتح ١٠: ١٩٣ إلى أن مرسل سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق، وذكر من بعض ألفاظه ما يدل على أنه أطول مما هنا. وقوله"بئر حزم"، لا يعرف. والذي في الروايات جميعا: "بئر ذروان".]] * * * وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الحق والباطل فصل، [[في المطبوعة: "فضل"، وهو خطأ.]] ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [سورة طه: ٦٦] ، وفي خبر عائشة عن رسول الله ﷺ أنه كان إذْ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين =: أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان = وصحة ما قلنا. [[سياق العبارة: "أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين. . وصحة ما قلنا" معطوفا.]] * * * وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا، وأن يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك بما:- ١٦٩٥ - حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي ﷺ أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله ﷺ بعد موته حداثة ذلك، [[يقال: "كان في حدثان كذا وكذا" (بكسر فسكون) ، و"في حداثته": أي على قرب عهد به.]] تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله ﷺ فيشفيها، [[يشفيها: أي يجيبها بما يبلغ بها سكينة القلب فتبرأ من حيرتها. ومنه: "شفاء العي السؤال". والجهل والحيرة مرض القلوب والنفوس.]] كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، [[في ابن كثير ١: ٢٦٠: "فلم يكن شيء"، والصواب ما هنا وفي الدر المنثور ١: ١٠١ وقولها: "فلم يكن كشيء" عبارة جيدة، بمعنى: لم يكن ما مضى كشيء يعد، بل أقل من القليل. والعرب تقول: تأخرت عنك شيئا، أي قليلا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة. وقالت لهن: اربعن شيئا، لعلني ... وإن لامني فيما ارتأيت مليم أي قفن قليلا. ويقولون في مثل ذلك أيضًا: "لم يكن إلا كلا ولا"، كل ذلك بمعنى السرعة الخاطفة.]] فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. [[في المطبوعة: "فقالا، اذهبي. . "، وأثبت ما في الدر المنثور وابن كثير، فهي أجود.]] فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت، [[في المطبوعة: "فأبيت" بحذف"فأرببت". وأرب بالمكان لزمه ولم يبرحه. والزيادة من ابن كثير في الموضعين.]] فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك! [[يقال: أنت على رأس أمرك، وعلى رئاس أمرك: أي في أوله وعلى شرف منه. وزعم الجوهري أن قولهم: "على رأس أمرك" من كلام العامة، وهذا الخبر ينقض ما قال.]] فأربيت وأبيت، فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، [[في تفسير ابن كثير والدر المنثور: "فرأيت فارسا"، وما هنا صواب جيد.]] فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت، وقلت: أطلعي! فأطلعت، وقلت: أحقلي! فأحقلت، ثم قلت: أفركي! فأفركت، ثم قلت: أيبسي! فأيبست، ثم قلت: أطحني! فأطحنت، ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. [[في هذه الفقرة كلمات لم تثبتها كتب اللغة، سأذكرها في مدرج شرحها. "أطلعي فأطلعت" أي أخرجي شطأك، من قولهم: أطلع الزرع، إذا بدا أول نباته من الأرض. "أحقل الزرع: تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه. "أفركي فأفركت"، أي كوني فريكا. وهو حب السنبلة إذا اشتد وصلح أن يفرك. أفرك السنبل: صار فريكا، وهو حين يصلح أن يفرك فيؤكل. و"أيبسي فأيبست" أي كوني حبا يابسا، أيبس البقل: يبس وجف. "أطحني فأطحنت". أي كوني طحينا. ولم يرد في كتب اللغة: "أطحن"، ولكنها أتبعت هذا الحرف ما مضى من أخواته، وهي عربية سليمة ماضية على سنن اللغة في هذا الموضع. "أخبزي فأخبزت"، أي كوني خبزا يؤكل، وهذه أيضًا لم ترد في كتب اللغة، ولكنها عريقة كأختها السالفة. وقد قال ابن كثير أن إسناد هذا الحديث جيد إلى عائشة، وأن الحاكم صححه، فإن كان ذلك كما قالا، فلا شك في عربية هذه الألفاظ من طريق الرواية أيضًا.]] فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. [[الخبر: ١٦٩٥ - مضت قطعة منه، بإسناد آخر إلى ابن أبي الزناد: ١٦٩١. وهذا الخبر نقله ابن كثير ١: ٢٦٠ - ٢٦١، بطوله، عن الطبري. وقدم له بكلمة قال"وقد ورد في ذلك أثر غريب، وسياق عجيب في ذلك. أحببنا أن ننبه عليه". ثم قال بعد نقله. "فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها". وذكر أنه رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان، بأطول منه. وذكره السيوطي ١: ١٠١، ونسبه أيضًا للحاكم وصححه. والبيهقي في سننه. وهي قصة عجيبة، لا ندري أصدقت تلك المرأة فيما أخبرت به عائشة؟ أما عائشة فقد صدقت في أن المرأة أخبرتها. والإسناد إلى عائشة جيد، بل صحيح. الربيع بن سليمان: هو المرادي المصري المؤذن، صاحب الشافعي وراوية كتبه، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٦٤. ابن أبي الزناد: هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان"، وهو ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة، في روايته عن أبيه، وفي رواية البغداديين عنه. والحق أنه ثقة، وخاصة في حديث هشام بن عروة. فقد قال ابن معين - فيما رواه أبو داود عنه عند الخطيب وغيره -"أثبت الناس في هشام بن عروة: عبد الرحمن بن أبي الزناد". وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن ٣: ٥٩، في حديث له صححه، وفيه حرف لم يروه غيره، فقال: "وإنما ذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ثقة حافظ".]] قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان، لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة. * * * وقال آخرون: بل"السحر" أخذ بالعين. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:- ١٦٩٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة! فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه، [[في المطبوعة: "وقيل شيء أسود. . " كلام بلا معنى. والتصحيح من ابن كثير ١: ٢٦٢.]] فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: ﴿وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ الآية. ١٦٩٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: ﴿حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ ، قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. [[في المطبوعة: أخذ عليها أن لا يعلما" والزيادة من ابن كثير ١: ٢٦٢.]] ١٦٩٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". ١٦٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". ١٧٠٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك. ١٧٠١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". لا يجترئ على السحر إلا كافر. * * * وأما الفتنة في هذا الموضع، فإن معناها: الاختبار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر. [[نسبه الطبري في تاريخه ١: ١٥١ - ١٥٢ للحتات بن يزيد المجاشعي عم الفرزدق. ونسبه البلاذري في أنساب الأشراف ٥: ١٠٤ إلى: علي بن الغدير بن المضرس الغنوي، وإلى: إهاب بن همام بن صعصة بن ناجية بن عقال المجاشعي، وإلى: ابن الغريرة النهشلي، وهو كثير بن عبد الله بن مالك النهشلي، وهو مخضرم، وإليه أيضًا في معجم الشعراء: ٣٤٩، وفي الكامل للمبرد ٢: ٣٤، وقال أبو الحسن الأخفش: "ابن الغريرة الضبي"، وهو خطأ محض، إنما هو النهشلي.]] وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا [[أول هذه القصيدة: نأتك أمامة نأيا طويلا ... وحملك الحب عبئا ثقيلا ثم قال: لعمر أبيك فلا تجزعي ... لقد ذهب الخير إلا قليلا لقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا أعاذل كل امرئ هالك ... فسيرى إلى الله سيرا جميلا فإن الزمان له لذة ... ولا بد لذته أن تزولا وروى الطبري صدر البيت الذي استشهد به هنا في تاريخه: * لقد سفه الناس في دينهم *]] ومنه قوله:"فتنت الذهب في النار"، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته، "أفتنه فتنة وفتونا"، كما:- ١٧٠٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ﴿إنما نحن فتنة﴾ ، أي بلاء. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: ﴿فيتعلمون منهما﴾ ، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله: ﴿وما يعلمان من أحد﴾ ، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع فقيل:"فيتعلمون". فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. [[يعني الطبري أن في الكلام حذف اجتزأ بفهم سامعه عن ذكره، وهو قوله: "فيأتون قبول ذلك منهما".]] وقد قيل: إن قوله: ﴿فيتعلمون﴾ ، خبر عن اليهود معطوف على قوله:"ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت"،"فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) . وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم. * * * والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، [[قوله: "ما كان للتأويل. . "، هي ما يقولونه في العربية الركيكة"ما دام للتأويل. . "]] أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام. و"الهاء" و"الميم" و"الألف" من قوله: ﴿منهما﴾ ، من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه. * * * و"ما" التي مع"يفرقون" بمعنى"الذي". وقيل: معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل. [[انظر ما سلف: ٤٢٣ - ٤٢٤.]] وأما"المرء"، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني آدم، والأنثى منه"المرأة". يوحد ويثنى، ولا تجمع ثلاثته على صورته، [[في المطبوعة: "ولا يجمع ثلاثيه" خطأ محض.]] يقال منه:"هذا امرؤ صالح، وهذان امرآن صالحان". ولا يقال: هؤلاء امرؤو صدق، ولكن يقال:"هؤلاء رجال صدق"، وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه امرأة، وهاتان امرأتان". ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن:"هؤلاء نسوة". * * * وأما"الزوج"، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل:"هي زوجه" بمنزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [سورة الأحزاب: ٣٧] ، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون:"هي زوجته". [[انظر ما سلف ١: ٥١٤، ففيه زيادة عما هنا.]] كما قال الشاعر: [[هو الفرزدق.]] وإن الذي يمشي يحرش زوجتي ... كماش إلى أسد الشرى يستبيلها [[ديوانه: ٦٠٥، والأغاني ٩: ٣٢٦، و١٩: ٨ (ساسى) ، في قصته مع النوار، ويقول هذا الشعر لبني أم النسير (طبقات فحول الشعراء: ٢٨١، والأغاني) ، وكانت خرجت مع رجل يقال له زهير بن ثعلبة ومع بني أم النسير، فقال هذا الشعر، وبعد البيت: ومن دون أبوال الأسود بسالة ... وصولة أيد يمنع الضيم طولها ورواية الديوان وغيره: وإن امرءا يسعى يخبب زوجتي وقوله: "يخبب"، أي يفسدها على. ويحرش: يحرض ويغرى بيني وبينها. و"يستبيلها": أي يطلب أن تبول في يده.]] فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى"السحر": تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. [[انظر ما سلف: ٤٣٥ وما بعدها.]] فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، [[في المطبوعة: "فإن كان ذلك صحيحا"، والأجود ما أثبت.]] فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا. فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف ١: ١٩٦.]] فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٧٠٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه﴾ ، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه، [[أخذه تأخيذا. والتأخيذ: حبس السواحر أزواج النساء عن غيرهن من النساء، ويقال لهذه الحيلة: الأخذة (بضم فسكون) .]] ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه. * * * وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: ﴿فيتعلمون منهما﴾ إلى"فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا"، أي مكان كذا، كما قال الشاعر: ججَمَعَت من الخيرات وَطبا وعلبة ... وصرا لأخلاف المُزَنَّمة البزل [[لم أعرف قائلهما، ولم أجدها إلا في أمالي الشريف المرتضى ١: ٤٢١، وكأنه نقلهما عن الطبري، لأنهما جاءا في تفسير هذه الآية، على هذا المعنى. والوطب: سقاء اللبن خاصة. والعلبة: جلدة تؤخذ من جنب البعير، فتسوى مستديرة، ثم تملأ رملا سهلا، ثم تضم أطرافها بخلال حتى تجف وتيبس، ثم يقطع رأسها وقد قامت قائمة لجفافها تشبه قصعة مدورة، فكأنها نحتت نحتا، ويعلقها الراعي ويشرب بها، وله فيها رفق وخفة لأنها لا تنكسر إذا حركها البعير أو طاحت إلى الأرض. والصر: شد ضرع النوق الحلوبات إذا أرسلوها للمرعي سارحة، ويسمون ذلك الرباط: صرارا. والأخلاف جمع خلف (بكسر فسكون) ، وهو ضرع الناقة أو البعير إذا استكمل الثامنة وطعن في التاسعة، وبزل نابه، أي انشق عن اللحم. وهو أقصى سنه وتمام قوته. وفي المطبوعة هنا"المذممة"، وفي أمالي الشريف:"المزممة"، وفي نسخة أخرى منها"المزهمة"، وقد علق أحد أصحاب الحواشي على الأمالي فقال: "المزممة: التي علق عليها الزمام ". واخترت أن تكون "المزنمة" فهي أشبه بهذا الشعر. يقال: ناقة مزنمة وهي التي عليها سمة التزنيم، وهو أن يقطع طرف أذنه ويترك له زنمة مشرفة. وإنما يفعل ذلك بالكرام من الإبل. وهذا هجاء يقول له: إنما أنت راع خسيس، ترعى على السادة الكرام كرام إبلهم، ولا تجمع من خيرات ما يتمتع به سادتك، إلا وطبا وعلبة وعلاجا لإبلهم التي ترعاها عليهم.]] ومن كل أخلاق الكرام نميمة ... وسعيا على الجار المجاور بالنَّجْل [[الجار: الذي قرب منزله من منزلك، ووصفه بقوله: "المجاور" للدلالة على شدة قربه، وهو الجار الجنب، فهو أشد حرمة لنزوله في جواره ومنعته، وركونه إلى أمان عهده. والنجل: تمزيق عرضه بالغيبة والمعابة والسب بظهر الغيب. وفي الحديث: "من نجل الناس نجلوه" أي سبهم وقطع أعراضهم بالشتم كما يقطع بالمنجل، جازوه بمثل فعله.]] يريد بقوله:"جمعت من الخيرات"، مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر: صلدت صفاتك أن تلين حيودها ... وورثت من سلف الكرام عقوقا [[لم أعرف قائله. صلدت: صلبت وقست. والصفاة: الحجر الصلد الأملس الضخم الذي لا ينبت شيئا. والحيود جمع حيد: وهو التنوء في الجبل أو القرن أو غيرهما. وهذا مثل: يقول له أنت غليظ جاف لا يصلحك شيء، ولا خير فيك، كالصفاة الملساء ذات النتوء، لا يصلحها شيء ولا تأتي بخير. والسلف: سلف الإنسان: من تقدمه من آبائه وذوي قرابته ممن هم فوقه في السن والفضل. يقول: ورثت من والديك مكان مآثر الأسلاف الكرام، عقوقا، فأنت تعقهم، كما عقوا هم آباءهم. فأنتم خلف يلعن سلفا لئيما عاقا، يلعن أسلافه. فأنتم معرقون في العقوق، وهو شر أخلاق الناس.]] يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ ، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه، بضارين - بالذي تعلموه منهما، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى، فإن ذلك غير ضاره، ولا نائله أذاه. * * * ولـ لإذن" في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: ﴿وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ ، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة. [[كأنه يريد: حرم التفريق على لسان الأمة: أن تنطق به وتأمر بفعله]] ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه. ومنها العلم بالشيء، يقال منه:"قد أذنت بهذا الأمر" إذا علمت به"آذن به إذنا"، ومنه قول الحطيئة: ألا يا هند إن جددت وصلا ... وإلا فأذنيني بانصرام [[لم أجد البيت في ديوان الحطيئة المطبوع. وقوله"فأذنيني"، يدل على أن الفعل متعد: "أذنه بالشيء يأذنه إذنا" أعلمه به، مثل"آذنه به". ولم يرد ذلك في شيء من كتب اللغة، والبيت شاهد عليه، وشرح الطبري بعد دال أيضًا على مراده.]] يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة: ٢٧٩] ، وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وما هم بضارين، بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:- ١٧٠٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: ﴿وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ ، قال: بقضاء الله. * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ﴿ويتعلمون﴾ ، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: [[في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه". ويتعلمون أي الناس الذين يتعلمون. . " وهو كلام غير مستقيم، كأنه تصرف من بعض النساخ.]] ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون - من يهود بني إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم = التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت = لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:- ١٧٠٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة. ١٧٠٦ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما له في الآخرة من خلاق. ١٧٠٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه. ١٧٠٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله: ﴿لمن اشتراه﴾ ، فإن"من" في موضع رفع، وليس قوله: ﴿ولقد علموا﴾ بعامل فيها. لأن قوله: ﴿ولقد علموا﴾ ، [[في المطبوعة: "لأن قوله: علموا، بمعنى اليمين"، وآثرت إثبات"ولقد"، لأن الجملة كلها بمعنى اليمين.]] بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: ﴿قد علموا﴾ بمعنى اليمين، حققت بـ "لام اليمين"، فقيل: ﴿لمن اشتراه﴾ ، كما يقال:"أقسم لمن قام خير ممن قعد". وكما يقال:"قد علمت، لعمرو خير من أبيك". وأما"من" فهو حرف جزاء. وإنما قيل"اشتراه" ولم يقل"يشتروه"، لدخول"لام القسم" على"من". ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ "فعل" دون"يفعل"، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم، كما قال الله جل ثناؤه: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ [سورة الحشر: ١٢] ، وقد يجوز إظهار فعله بعده على"يفعل" مجزوما، [[هذا كله في معاني الفراء ١: ٦٥ - ٦٩، مع تصرف في اللفظ.]] كما قال الشاعر: لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع [[رواه الفراء في معاني الفراء ١: ٦٦ غير منسوب، ولكن صاحب الخزانة ٤: ٢٢٠ نسبه لكميت بن معروف، ولكني لم أجده منسوبا إليه في كتاب آخر، وأخشى أن يكون صاحب الخزانة قدوهم. هذا، والبيت وما قبله جميعا في معاني الفراء ١: ٦٥ - ٦٦.]] * * * واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ . فقال بعضهم:"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب. * ذكر من قال ذلك: ١٧٠٩ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، يقول: من نصيب. ١٧١٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، من نصيب. ١٧١١ - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: ﴿وما له في الآخرة من خلاق﴾ ، أنه ما له في الآخرة من نصيب. * * * وقال بعضهم:"الخلاق" ههنا الحجة. * ذكر من قال ذلك: ١٧١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ﴿وما له في الآخرة من خلاق﴾ ، قال: ليس له في الآخرة حجة. وقال آخرون: الخلاق: الدين. * ذكر من قال ذلك: ١٧١٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، قال: ليس له دين. * * * وقال آخرون:"الخلاق" ههنا القوام. * ذكر من قال ذلك: ١٧١٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، قال: قوام. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب. ومنه قول النبي ﷺ: ١٧١٥ -"ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". [[الحديث: ١٧١٥ - هكذا علق الطبري هذا الحديث، بدون إسناد وقد رواه أحمد في المسند ٥: ٤٥ (حلبي) ، من حديث أبي بكرة، بلفظ: "إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٥: ٣٠٢، ثم قال: "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات". وذكره أيضًا بعده، من حديث أنس، وقال: "رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد البزار ثقات الرجال". (كذا بالأصل) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير: ١٨٣٨، ونسبه للنسائي وابن حبان من حديث أنس، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة. ونقل شارحه المناوي أن الحافظ العراقي قال: "إسناده جيد". وحديث أنس رواه أيضًا أبو نعيم في الحلية ٦: ٢٦٢. ورواه قبل ذلك ٣: ١٣، من حديث الحسن مرسلا. ثم أشار إلى حديث أنس.]] يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: يَدْعُون بالويل فيها لا خَلاق لهم ... إلا سرابيلُ من قِطْر وأغلال [[ديوانه: ٤٧ بيت مفرد:. وقوله"فيها"، أظنه يعني النار. والقطر: النحاس الذائب.]] يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال. * * * فكذلك قوله: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ : ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) ﴾ قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"شروا":"باعوا". [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٤٠ - ٣٤٢.]] فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما: ١٧١٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي ﴿ولبئس ما شروا به أنفسهم﴾ ، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: ﴿ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون﴾ ؟ وقد قال قبل: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: ﴿لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون﴾ ، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف حلاله وحرامه، وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم، وبغيا على رسله، وتعديا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله. * * * وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، يعني به الشياطين، وأن قوله: ﴿لو كانوا يعلمون﴾ ، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف. وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه﴾ ، معني به اليهود دون الشياطين: ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنزيل. لأن الآيات قبل قوله: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه﴾ ، وبعد قوله: ﴿لو كانوا يعلمون﴾ ، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ ، أحد تلك الأخبار عنهم. * * * وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: ﴿ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون﴾ ، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ . وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: ﴿لو كانوا يعلمون﴾ - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: ﴿ولقد علموا﴾ - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما:"لو علمت لأقصرت" كما قال كعب بن زهير المزني، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده: إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه!! ... ألم تعلما أني من الزاد مرمل [[ديوانه: ٥١، وأمالي الشريف المرتضى ١: ٤٢٤، وكأنه كان ينقل كلام الطبري في تفسير هذه الآية، مع التصرف. والمرمل: الذي نفد زاده. أرمل الرجل فهو مرمل، كأنه لصق بالرمل لما أنفض.]] فأخبر أنه قال لهما:"لو تعلمانه"، فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: ﴿ولقد علموا لمن اشتراه﴾ و ﴿لو كانوا يعلمون﴾ * * * وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: ﴿ولقد علموا﴾ وقوله: ﴿لو كانوا يعلمون﴾ ، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب = دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن = أولى. [[يقول: "وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر من الخطاب. . أولى" وفصل فأطال.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب