الباحث القرآني

﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ قَوْلُهُ ”واتَّبَعُوا“ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وجَوابُهُ في قَوْلِهِ ﴿ولَمّا جاءَهم رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠١] الآيَةَ بِذِكْرِ خَصْلَةٍ لَهم عَجِيبَةٍ وهي أخْذُهم بِالأباطِيلِ بَعْدَ ذِكْرِ خَصْلَةٍ أُخْرى وهي نَبْذُهم لِلْكِتابِ الحَقِّ فَذَلِكَ هو مُناسَبَةُ عَطْفِ هَذا الخَبَرِ عَلى الَّذِي قَبْلَهُ. فَإنْ كانَ المُرادُ بِكِتابِ اللَّهِ في قَوْلِهِ ”﴿كِتابَ اللَّهِ وراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٠١]“ القُرْآنَ فالمَعْنى أنَّهم لَمّا جاءَهم رَسُولُ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم نَبَذُوا كِتابَهُ بِعِلَّةِ أنَّهم مُتَمَسِّكُونَ بِالتَّوْراةِ فَلا يَتَّبِعُونَ ما خالَفَ أحْكامَها وقَدِ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وهو مُخالِفٌ لِلتَّوْراةِ لِأنَّها تَنْهى عَنِ السِّحْرِ والشِّرْكِ فَكَما قِيلَ لَهم فِيما مَضى أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ يُقالُ لَهم أفَتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ تارَةً وتَكْفُرُونَ بِهِ تارَةً أُخْرى. (p-٦٢٧)وإنْ كانَ المُرادُ بِكِتابِ اللَّهِ التَّوْراةَ فالمَعْنى لَمّا جاءَهم رَسُولُ اللَّهِ نَبَذُوا ما في التَّوْراةِ مِن دَلائِلِ صِدْقِ هَذا الرَّسُولِ وهم مَعَ ذَلِكَ قَدْ نَبَذُوها مِن قَبْلُ حِينَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مَعَ أنَّ ذَلِكَ مُخالِفٌ لِأحْكامِ التَّوْراةِ. قالَ القُرْطُبِيُّ قالَ ابْنُ إسْحاقَ لَمّا ذَكَرَ النَّبِيءُ ﷺ سُلَيْمانَ في الأنْبِياءِ قالَتِ اليَهُودُ إنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أنَّ سُلَيْمانَ نَبِيٌّ وما هو بِنَبِيٍّ ولَكِنَّهُ ساحِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ‌‌‌ و”الشَّياطِينُ“ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا شَياطِينَ مِنَ الجِنِّ وهو الإطْلاقُ المَشْهُورُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ ناسٌ تَمَرَّدُوا وكَفَرُوا وأتَوْا بِالفَظائِعِ الخَفِيَّةِ فَأطْلَقَ عَلَيْهِمُ الشَّياطِينَ عَلى وجْهِ التَّشْبِيهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ﴾ [الأنعام: ١١٢] وقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ”يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ“ فَإنَّهُ ظاهِرٌ في أنَّهم يُدَرِّسُونَهُ لِلنّاسِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) إذْ هَذا الِاسْتِدْراكُ في الإخْبارِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم مِنِ الإنْسِ لِأنَّ كُفْرَ الشَّياطِينِ مِنَ الجِنِّ أمْرٌ مُقَرَّرٌ لا يَحْتاجُ لِلْإخْبارِ عَنْهُ. وعَنِ ابْنِ إسْحاقَ أيْضًا أنَّهُ لَمّا ماتَ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمَدَتِ الشَّياطِينُ فَكَتَبُوا أصْنافًا مِنَ السِّحْرِ وقالُوا: مَن أحَبَّ أنْ يَبْلُغَ كَذا وكَذا فَلْيَفْعَلْ كَذا لِأصْنافٍ مِنَ السِّحْرِ وخَتَمُوهُ بِخاتَمٍ يُشْبِهُ نَقْشَ خاتَمِ سُلَيْمانَ ونَسَبُوهُ إلَيْهِ ودَفَنُوهُ وزَعَمُوا أنَّ سُلَيْمانَ دَفَنَهُ وأنَّهم يَعْلَمُونَ مَدْفِنَهُ ودَلُّوا النّاسَ عَلى ذَلِكَ المَوْضِعِ فَأخْرَجُوهُ، فَقالَتِ اليَهُودُ: ما كانَ سُلَيْمانُ إلّا ساحِرًا وما تَمَّ لَهُ المُلْكُ إلّا بِهَذا. وقِيلَ كانَ آصَفُ بْنُ بَرَخْيا كاتِبُ سُلَيْمانَ يَكْتُبُ الحِكْمَةَ بِأمْرِ سُلَيْمانَ ويَدْفِنُ كُتُبَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ لِتَجِدَها الأجْيالُ فَلَمّا ماتَ سُلَيْمانُ أغَرْتِ الشَّياطِينُ النّاسَ عَلى إخْراجِ تِلْكَ الكُتُبِ وزادُوا في خِلالِ سُطُورِها سِحْرًا وكُفْرًا ونَسَبُوا الجَمِيعَ لِسُلَيْمانَ فَقالَتِ اليَهُودُ: كَفَرَ سُلَيْمانُ. والمُرادُ مِنَ الآيَةِ مَعَ سَبَبِ نُزُولِها إنْ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبٍ أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ماتَ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةُ إسْرائِيلَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ إلى مَمْلَكَتَيْنِ إحْداهُما مَمْلَكَةُ يَهُوذا ومَلِكُها رَحْبَعامُ بْنُ سُلَيْمانَ جَعَلُوهُ مَلِكًا بَعْدَ أبِيهِ وكانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ قَدْ سَئِمَتْ مُلْكَ سُلَيْمانَ لِحَمْلِهِ إيّاهم عَلى (p-٦٢٨)ما يُخالِفُ هَواهم فَجاءَتْ أعْيانُهم وفي مُقَدِّمَتِهِمْ يَرْبَعامُ بْنُ نَباطَ مَوْلى سُلَيْمانَ لِيُكَلِّمُوا رَحْبَعامَ قائِلِينَ إنَّ أباكَ قاسٍ عَلَيْنا وأمّا أنْتَ فَخَفِّفْ عَنّا مِن عُبُودِيَّةِ أبِيكَ لِنُطِيعَكَ فَأجابَهُمُ اذْهَبُوا ثُمَّ ارْجِعُوا إلَيَّ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ واسْتَشارَ رَحْبَعامُ أصْحابَ أبِيهِ ووُزَراءَهُ فَأشارُوا عَلَيْهِ بِمُلايَنَةِ الأُمَّةِ لِتُطِيعَهُ. واسْتَشارَ أصْحابَهُ مِنَ الفِتْيانِ فَأشارُوا عَلَيْهِ أنْ يَقُولَ لِلْأُمَّةِ إنَّ خِنْصَرِي أغْلَظُ مِن مَتْنِ أبِي فَإذا كانَ أبِي قَدْ أدَّبَكم بِالسِّياطِ فَأنا أُؤَدِّبُكم بِالعَقارِبِ فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ شُيُوخُ بَنِي إسْرائِيلَ في اليَوْمِ الثّالِثِ وأجابَهم بِما أشارَ بِهِ الأحْداثُ خَلَعَتْ بَنُو إسْرائِيلَ طاعَتَهُ ومَلَّكُوا عَلَيْهِمْ يَرْبَعامَ ولَمْ يَبْقَ عَلى طاعَةِ رَحْبَعامَ إلّا سِبْطا يَهُوذَ وبِنْيامِينَ واعْتَصَمَ رَحْبَعامُ بِأُورَشْلِيمَ وكُلُّ أُمَّتِهِ لا تَزِيدُ عَلى مِائَةٍ وثَمانِينَ ألْفَ مُحارِبٍ يَعْنِي رِجالًا قادِرِينَ عَلى حَمْلِ السِّلاحِ وانْقَسَمَتِ المَمْلَكَةُ مِن يَؤْمِئِذٍ إلى مَمْلَكَتَيْنِ مَمْلَكَةُ يَهُوذا وقاعِدَتُها أُورَشْلِيمُ. ومَمْلَكَةُ إسْرائِيلَ ومَقَرُّها السّامِرَةُ. وذَلِكَ سَنَةَ ٩٧٥ قَبْلَ المَسِيحِ كَما قَدَّمْناهُ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى (﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢]) الآيَةَ ولا يَخْفى ما تَكُونُ عَلَيْهِ حالَةُ أُمَّةٍ في هَذا الِانْتِقالِ فَإنَّ خُصُومَ رَحْبَعامَ لَمّا سَلَبُوا مِنهُ القُوَّةَ المادِّيَّةَ لَمْ يَغْفُلُوا عَمّا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنَ القُوَّةِ الأدَبِيَّةِ وهي كَوْنُهُ ابْنَ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ مِن بَيْتِ المُلْكِ والنُّبُوءَةِ والسُّمْعَةِ الحَسَنَةِ فَلَمْ يَأْلُ أعْداؤُهُ جُهْدَهم مِن إسْقاطِ هاتِهِ القُوَّةِ الأدَبِيَّةِ وذَلِكَ بِأنِ اجْتَمَعَ مُدَبِّرُو الأمْرِ عَلى أنْ يَضَعُوا أكاذِيبَ عَنْ سُلَيْمانَ يَبُثُّونَها في العامَّةِ لِيَقْضُوا بِها وطَرَيْنِ: أحَدُهُما نِسْبَةُ سُلَيْمانَ إلى السِّحْرِ والكُفْرِ لِتَنْقِيصِ سُمْعَةِ ابْنِهِ رَحْبَعامَ كَما صَنَعَ دُعاةُ الدَّوْلَةِ العَبّاسِيَّةِ فِيما وضَعُوهُ مِنَ الأخْبارِ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ والثّانِي: تَشْجِيعُ العامَّةِ الَّذِينَ كانُوا يَسْتَعْظِمُونَ مُلْكَ سُلَيْمانَ وابْنِهِ عَلى الخُرُوجِ عَنْ طاعَةِ ابْنِهِ بِأنَّ سُلَيْمانَ ما تَمَّ لَهُ المُلْكُ إلّا بِتِلْكَ الأسْحارِ والطَّلاسِمِ وأنَّهم لَمّا ظَفِرُوا بِها فَإنَّهم يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُؤَسِّسُوا مُلْكًا يُماثِلُ مُلْكَ سُلَيْمانَ كَما صَنَعَ دُعاةُ انْقِلابِ الدُّوَلِ في تارِيخِ الإسْلامِ مِن وضْعِ أحادِيثِ انْتِظارِ المَهْدِيِّ وكَما يَفْعَلُونَهُ مِن بَثِّ أخْبارٍ عَنِ الصّالِحِينَ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ زَوالِ الدَّوْلَةِ. ولا يَخْفَي ما تُثِيرُهُ هَذِهِ الأوْهامُ في نُفُوسِ العامَّةِ مِنَ الجَزْمِ بِنَجاحِ السَّعْيِ وجَعْلِهِمْ في مَأْمَنٍ مِن خَيْبَةِ أعْمالِهِمْ ولَحاقِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ فَإذا قُضِيَ الوَطَرُ بِذَلِكَ الخَبَرِ التَصَقَ أثَرُهُ في النّاسِ فَيَبْقى ضُرُّ ضَلالِهِ بَعْدَ اجْتِناءِ ثِمارِهِ. والِاتِّباعُ في الأصْلِ هو المَشْيُ وراءَ الغَيْرِ ويَكُونُ مَجازًا في العَمَلِ بِقَوْلِ الغَيْرِ وبِرَأْيهِ وفي الِاعْتِقادِ بِاعْتِقادِ الغَيْرِ تَقُولُ: اتَّبَعَ مَذْهَبَ مالِكٍ واتَّبَعَ عَقِيدَةَ الأشْعَرِيِّ، والِاتِّباعُ هُنا مَجازٌ (p-٦٢٩)لا مَحالَةَ لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ مِمّا لا يَصِحُّ اتِّباعُهُ حَقِيقَةً. والتِّلاوَةُ قِراءَةُ المَكْتُوبِ والكِتابِ وعَرْضِ المَحْفُوظِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وفِعْلُها يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ ”يَتْلُونَ عَلَيْكم آياتِي“ فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ يَدُلُّ عَلى تَضَمُّنِهِ مَعْنى تَكْذِبُ أيْ تَتْلُو تِلاوَةَ كَذِبٍ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ كَما يُقالُ، تَقُولُ عَلى فُلانٍ أيْ قالَ عَلَيْهِ ما لَمْ يَقُلْهُ، وإنَّما فُهِمَ ذَلِكَ مِن حَرْفِ (عَلى) . والمُرادُ بِالمُلْكِ هُنا مُدَّةُ المُلْكِ أوْ سَبَبُ المُلْكِ بِقَرِينَةِ أنَّ التِّلاوَةَ لا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ المُلْكِ، وحَذْفُ المُضافِ مَعَ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ الوَقْتِ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ كَقَوْلِهِمْ وقَعَ هَذا في حَياةِ رَسُولِ اللَّهِ أوْ في خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: ؎وما هي إلّا في إزارٍ وعِلْقَةٍ مُغارَ ابْنِ هَمّامٍ عَلى حَيِّ خَثْعَما يُرِيدُ أزْمانَ مُغارِ ابْنِ هَمّامٍ. وكَذَلِكَ حَذَفَ المُضافَ إذا أُرِيدَ بِهِ الحَوادِثَ أوِ الأسْبابَ كَما تَقُولُ تَكَلَّمَ فُلانٌ عَلى خِلافَةِ عُمَرَ أوْ هَذا كِتابٌ في مُلْكِ العَبّاسِيِّينَ، وذَلِكَ أنَّ الِاسْمَ إذا اشْتُهِرَ بِصِفَةٍ أوْ قِصَّةٍ صَحَّ إطْلاقُهُ وإرادَةُ تِلْكَ الصِّفَةِ أوِ القِصَّةِ بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَتْ لَكانَتْ مُضافَةً إلى الِاسْمِ، قالَ النّابِغَةُ: ؎ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَواكِبِ أرادَ مَتاعِبَ لَيْلٍ لِأنَّ اللَّيْلَ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أهْلِ الغَرامِ بِأنَّهُ وقْتُ الشَّوْقِ والأرَقِ. والشَّياطِينُ قِيلَ أُرِيدَ بِها شَياطِينَ الإنْسِ أيِ المُضَلِّلُونَ وهو الظّاهِرُ. وقِيلَ أُرِيدَتْ شَياطِينَ الجِنِّ وألْ لِلْجِنْسِ عَلى الوَجْهَيْنِ. وعِنْدِي أنَّ المُرادَ بِالشَّياطِينِ أهْلُ الحِيَلِ والسَّحَرَةُ كَما يَقُولُونَ: فُلانٌ مِن شَياطِينِ العَرَبِ وقَدْ عُدَّ مِن أُولَئِكَ ناشِبٌ الأعْوَرُ أحَدُ رِجالِ يَوْمِ الوَقِيطِ. وقَوْلُهُ ”تَتْلُو“ جاءَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِحِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ عَلى ما قالَهُ الجَماعَةُ. أوْ هو مُضارِعٌ عَلى بابِهِ عَلى ما اخْتَرْناهُ مِن أنَّ الشَّياطِينَ هم أحْبارُهم فَإنَّهم لَمْ يَزالُوا يَتْلُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ المَعْنى أنَّهُمُ اتَّبَعُوا أيِ اعْتَقَدُوا ما تَلَتْهُ الشَّياطِينُ ولَمْ تَزَلْ تَتْلُوهُ. وسُلَيْمانُ هو النَّبِيءُ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ بْنِ يَسِي مِن سِبْطِ يَهُوذا وُلِدَ سَنَةَ ١٠٣٢ اثْنَتَيْنِ وثَلاثِينَ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ وتُوُفِّيَ في أُورَشْلِيمَ سَنَةَ ٩٧٥ خَمْسٍ وسَبْعِينَ وتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ المَسِيحِ ووَلِيَ (p-٦٣٠)مُلْكَ إسْرائِيلَ سَنَةَ ١٠١٤ أرْبَعَ عَشْرَةَ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ بَعْدَ وفاةِ أبِيهِ داوُدَ النَّبِيءِ مَلِكِ إسْرائِيلَ، وعَظُمَ مُلْكُ بَنِي إسْرائِيلَ في مُدَّتِهِ وهو الَّذِي أمَرَ بِبِناءِ مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ وكانَ نَبِيًّا حَكِيمًا شاعِرًا، وجَعَلَ لِمَمْلَكَتِهِ أُسْطُولًا بَحْرِيًّا عَظِيمًا كانَتْ تَمْخُرُ سُفُنُهُ البِحارَ إلى جِهاتٍ قاصِيَةٍ مِثْلَ شَرْقِ إفْرِيقْيا. وقَوْلُهُ: (﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أثارَ اعْتِراضُها ما أشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ ﴿ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ مِن مَعْنى أنَّهم كَذَبُوا عَلى سُلَيْمانَ ونَسَبُوهُ إلى الكُفْرِ، فَهي مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ”واتَّبَعُوا“ وبَيْنَ قَوْلِهِ ”وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ“ إنَّ كانَ ”وما أُنْزِلَ“ مَعْطُوفًا عَلى (ما تَتْلُو) وبَيْنَ ”اتَّبَعُوا“ وبَيْنَ ”ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ“ إلَخْ إنْ كانَ ”وما أُنْزِلَ“ مَعْطُوفًا عَلى السِّحْرِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلى ”واتَّبَعُوا“ إذا كانَ المُرادُ مِنَ الشَّياطِينِ أحْبارَ اليَهُودِ لِأنَّ هَذا الحُكْمَ حِينَئِذٍ مِن جُمْلَةِ أحْوالِ اليَهُودِ لِأنَّ مَآلَهُ (واتَّبَعُوا وكَفَرُوا) وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّهُ قَدَّمَ نَفْيَ كُفْرِ سُلَيْمانَ لِأنَّهُ الأهَمُّ تَعْجِيلًا بِإثْباتِ نَزاهَتِهِ وعِصْمَتِهِ ولِأنَّ اعْتِقادَ كُفْرِهِ كانَ سَبَبَ ضَلالٍ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا ما كَتَبَتْهُ الشَّياطِينُ، فَلا شَكَّ أنَّ حُكْمَ الأتْباعِ وحُكْمَ المَتْبُوعِينَ واحِدٌ، فَكانَ خَبَرًا عَنِ اليَهُودِ كَذَلِكَ. وقَدْ كانَ اليَهُودُ يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ سُلَيْمانَ في كُتُبِهِمْ فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ أنَّ سُلَيْمانَ في زَمَنِ شَيْخُوخَتِهِ أمالَتْ نِساؤُهُ المِصْرِيّاتُ والصَّيْدَوِنِيّاتُ والعَمُونِيّاتُ قَلْبَهُ إلى آلِهَتِهِنَّ مِثْلَ عَشْتَرُوتَ إلَهِ الصَّيدَوَنِيِّينَ (ومُولُوكَ) إلَهِ العَمُونِيِّينَ (الفِينِيقِيِّينَ) وبَنى لِهاتِهِ الآلِهَةِ هَياكِلَ فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِأنَّ قَلْبَهُ مالَ عَنْ إلَهِ إسْرائِيلَ الَّذِي أوْصاهُ أنْ لا يَتَّبِعَ آلِهَةً أُخْرى. وقَوْلُهُ ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ كَفَرُوا والمَقْصِدُ مِنهُ تَشْنِيعُ حالِ كُفْرِهِمْ إذْ كانَ مَصْحُوبًا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَهي حالٌ مُؤَسِّسَةٌ. والسِّحْرُ الشَّعْوَذَةُ وهي تَمْوِيهُ الحِيَلِ بِإخْفائِها تَحْتَ حَرَكاتٍ وأحْوالٍ يَظُنُّ الرّائِي أنَّها هي المُؤَثِّرَةُ مَعَ أنَّ المُؤَثِّرَ خَفِيَ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: ١٤] ولِذَلِكَ أُطْلِقَ السِّحْرُ عَلى الخَدِيعَةِ تَقُولُ: سَحَرْتُ الصَّبِيَّ إذا عَلَلْتَهُ بِشَيْءٍ. قالَ لَبِيدٌ: ؎فَإنْ تَسْألِينا فِيمَ نَحْنُ فِإنَّنا ∗∗∗ عَصافِيرُ مِن هَذا الأنامِ المُسَحَّرِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى ما عُلِمَ ظاهِرُهُ وخَفِيَ سَبَبُهُ وهو التَّمْوِيهُ والتَّلْبِيسُ وتَخَيُّيلُ غَيْرِ الواقِعِ واقِعًا (p-٦٣١)وتَرْوِيجُ المُحالِ، تَقُولُ العَرَبُ: عَنْزٌ مَسْحُورَةٌ إذا عَظُمَ ضَرْعُها وقَلَّ لَبَنُها، وأرْضٌ مَسْحُورَةٌ لا تَنْبُتُ قالَ أبُو عَطاءٍ: ؎فَواللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لَصادِقٌ ∗∗∗ أداءٌ عَرانِي مِن حُبابِكِ أمْ سِحْرُ أيْ: شَيْءٌ لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. والعَرَبُ تَزْعُمُ أنَّ الغِيلانَ سَحَرَةُ الجِنِّ لِما تَتَشَكَّلُ بِهِ مِنَ الأشْكالِ وتَعْرِضُها لِلْإنْسانِ. والسِّحْرُ مِنَ المَعارِفِ القَدِيمَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ في مَنبَعِ المَدِينَةِ الأُولى أعْنِي بِبِلادِ المَشْرِقِ فَإنَّهُ ظَهَرَ في بِلادِ الكَلْدانِ والبابِلِيِّنَ وفي مِصْرَ في عَصْرٍ واحِدٍ وذَلِكَ في القَرْنِ الأرْبَعِينَ قَبْلَ المَسِيحِ مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّها كانَتْ في تَيْنِكَ الأُمَّتَيْنِ مِن تَعالِيمِ قَوْمٍ نَشَئُوا قَبْلَهُما فَقَدْ وُجِدَتْ آثارٌ مِصْرِيَّةٌ سِحْرِيَّةٌ في عَصْرِ العائِلَةِ الخامِسَةِ مِنَ الفَراعِنَةِ والعائِلَةِ السّادِسَةِ ٣٩٥١ - ٣٧٠٣ ق. م. ولِلْعَرَبِ في السِّحْرِ خَيالٌ واسِعٌ وهو أنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ السِّحْرَ يُقَلِّبُ الأعْيانَ ويُقَلِّبُ القُلُوبَ ويُطَوِّعُ المَسْحُورَ لِلسّاحِرِ ولِذَلِكَ كانُوا يَقُولُونَ إنَّ الغُولَ ساحِرَةُ الجِنِّ ولِذَلِكَ تَتَشَكَّلُ لِلرّائِي بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وقالَتْ قُرَيْشٌ لَمّا رَأوْا مُعْجِزاتِ رَسُولِ اللَّهِ: إنَّهُ ساحِرٌ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر: ٢] وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ [الحجر: ١٤] ﴿لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: ١٥] وفي حَدِيثِ البُخارِيِّ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أنَّ القَوْمَ عَطِشُوا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَطَلَبُوا الماءَ فَوَجَدُوا امْرَأةً عَلى بَعِيرٍ لَها مَزاداتانِ مِن ماءٍ فَأتَيا بِها رَسُولَ اللَّهِ فَسَقى رَسُولُ اللَّهِ جَمِيعَ الجَيْشِ ثُمَّ رَدَّ إلَيْها مَزادَتَيْها كامِلَتَيْنِ فَقالَتْ لِقَوْمِها: فَواللَّهِ إنَّهُ لَأسْحَرُ مَن بَيْنَ هَذِهِ وهَذِهِ، تَعْنِي السَّماءَ والأرْضَ» وفي الحَدِيثِ «إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا» . ولَمْ أرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ العَرَبَ كانُوا يَتَعاطَوْنَ السِّحْرَ فَإنَّ السِّحْرَ مُسْتَمَدٌّ مِن خَصائِصِ الأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ والتَّرْكِيبِ ولَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ ضَلاعَةٌ في الأُمُورِ اليَدَوِيَّةِ بَلْ كانَتْ ضَلاعَتُهم فِكْرِيَّةً مَحْضَةً، وكانَ العَرَبُ يَزْعُمُونَ أنَّ أعْلَمُ النّاسِ بِالسِّحْرِ اليَهُودَ والصّابِئَةَ وهم أهْلُ بابِلَ، ومَساقُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى شُهْرَةِ هَؤُلاءِ بِالسِّحْرِ عِنْدَ العَرَبِ. وقَدِ اعْتَقَدَ المُسْلِمُونَ أنَّ اليَهُودَ في يَثْرِبَ سَحَرُوهم فَلا يُولَدُ لَهم فَلِذَلِكَ اسْتَبْشَرُوا لَمّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وهو أوَّلُ مَوْلُودٍ لِلْمُهاجِرِينَ بِالمَدِينَةِ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ. ولِذَلِكَ لَمْ يَكْثُرْ ذِكْرُ السِّحْرِ بَيْنَ (p-٦٣٢)العَرَبِ المُسْلِمِينَ إلّا بَعْدَ أنْ هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ إذْ قَدْ كانَ فِيها اليَهُودُ وكانُوا يُوهِمُونَ بِأنَّهم يَسْحَرُونَ النّاسَ. ويُداوِي مِنَ السِّحْرِ العَرّافُ ودَواءُ السِّحْرِ السَّلْوَةُ وهي خَرَزاتٌ مَعْرُوفَةٌ تُحَكُّ في الماءِ ويُشْرَبُ ماؤُها. ووَرَدَ في التَّوْراةِ النَّهْيُ عَنِ السِّحْرِ فَهو مَعْدُودٌ مِن خِصالِ الشِّرْكِ وقَدْ وصَفَتِ التَّوْراةُ بِهِ أهْلَ الأصْنامِ فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ في الإصْحاحِ ١٨ إذا دَخَلْتَ الأرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ لا تَتَعَلَّمْ أنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الأُمَمِ لا يُوجَدُ فِيكَ مَن يَزُجُّ ابْنَهُ أوِ ابْنَتَهُ في النّارِ ولا مَن يَعْرُفُ عِرافَةً ولا عائِفٌ ولا مُتَفائِلٌ ولا ساحِرٌ ولا مَن يَرْقى رُقْيَةً ولا مَن يَسْألُ جانًّا أوْ تابِعَةً ولا مَن يَسْتَشِيرُ المَوْتى لِأنَّ كُلَّ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الرَّبِّ. وفِي سِفْرِ اللّاوِيِّينَ الإصْحاحِ ٢٠ ”(٦) والنَّفْسُ الَّتِي تَلْتَفِتُ إلى الجانِّ وإلى التَّوابِعِ لِتَزْنِيَ وراءَهم أجْعَلُ وجْهِي ضِدَّ تِلْكَ النَّفْسِ وأقْطَعُها مِن شِعْبِها (٢٧) وإذا كانَ في رَجُلٍ أوِ امْرَأةٍ جانٌّ أوْ تابِعَةٌ فَإنَّهُ يُقْتَلُ بِالحِجارَةِ يَرْجُمُونَهُ دَمُهُ عَلَيْهِ. وكانُوا يَجْعَلُونَهُ أصْلًا دِينِيًّا لِمُخاطَبَةِ أرْواحِ المَوْتى وتَسْخِيرِ الشَّياطِينِ وشِفاءِ الأمْراضِ وقَدِ اسْتَفْحَلَ أمْرُهُ في بَلَدِ الكَلْدانِ وخَلَطُوهُ بِعُلُومِ النُّجُومِ وعِلْمِ الطِّبِّ. وأرْجَعَ المِصْرِيُّونَ المَعارِفَ السِّحْرِيَّةَ إلى جُمْلَةِ العُلُومِ الرِّياضِيَّةِ الَّتِي أفاضَها عَلَيْهِمْ“ طُوطٌ ”الَّذِي يَزْعُمُونَ أنَّهُ إدْرِيسُ وهو هَرْمَسَ عِنْدَ اليُونانِ. وقَدِ اسْتَخْدَمَ الكَلْدانُ والمِصْرِيُّونَ فِيهِ أسْرارًا مِنَ العُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ والفَلْسَفِيَّةِ والرُّوحِيَّةِ قَصْدًا لِإخْراجِ الأشْياءِ في أبْهَرِ مَظاهِرِها حَتّى تَكُونَ فاتِنَةً أوْ خادِعَةً وظاهِرَةً، كَخَوارِقِ عاداتٍ، إلّا أنَّهُ شاعَ عِنْدَ عامَّتِهِمْ وبَعْدَ ضَلالِهِمْ عَنِ المَقْصِدِ العِلْمِيِّ مِنهُ فَصارَ عِبارَةً عَنِ التَّمْوِيهِ والتَّضْلِيلِ وإخْراجِ الباطِلِ في صُورَةِ الحَقِّ، أوِ القَبِيحِ في صُورَةٍ حَسَنَةٍ أوِ المُضِرِّ في صُورَةِ النّافِعِ. وقَدْ صارَ عِنْدَ الكَلْدانِ والمِصْرِيِّينَ خاصِّيَّةً في يَدِ الكَهَنَةِ وهم يَوْمَئِذٍ أهْلُ العِلْمِ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ في ذَواتِهِمُ الرِّئاسَةَ الدِّينِيَّةَ والعِلْمِيَّةَ فاتَّخَذُوا قَواعِدَ العُلُومِ الرِّياضِيَّةِ والفَلْسَفِيَّةِ والأخْلاقِيَّةِ لِتَسْخِيرِ العامَّةِ إلَيْهِمْ وإخْضاعِهِمْ بِما يُظْهِرُونَهُ مِنَ المَقْدِرَةِ عَلى عِلاجِ الأمْراضِ والِاطِّلاعِ عَلى الضَّمائِرِ بِواسِطَةِ الفِراسَةِ والتَّأْثِيرِ بِالعَيْنِ وبِالمَكائِدِ. وقَدْ نَقَلَتْهُ الأُمَمُ عَنْ هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ وأكْثَرُ ما نَقَلُوهُ عَنِ الكَلْدانِيِّينَ فاقْتَبَسَهُ مِنهُمُ السُّرْيانُ (الأشُورِيُّونَ) واليَهُودُ والعَرَبُ وسائِرُ الأُمَمِ المُتَدَيِّنَةِ والفُرْسُ واليُونانُ والرُّومانُ. (p-٦٣٣)وأُصُولُ السِّحْرِ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ زَجْرُ النُّفُوسِ بِمُقْدِماتٍ تَوْهِيمِيَّةٍ وإرْهابِيَّةٍ بِما يَعْتادُهُ السّاحِرُ مِنَ التَّأْثِيرِ النَّفْسانِيِّ في نَفْسِهِ ومِنَ الضَّعْفِ في نَفْسِ المَسْحُورِ ومِن سَوابِقَ شاهَدَها المَسْحُورُ واعْتَقَدَها فَإذا تَوَجَّهَ إلَيْهِ السّاحِرُ سُخِّرَ لَهُ وإلى هَذا الأصْلِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى في ذِكْرِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ [الأعراف: ١١٦] . الثّانِي اسْتِخْدامُ مُؤَثِّراتٍ مِن خَصائِصِ الأجْسامِ مِنَ الحَيَوانِ والمَعْدِنِ وهَذا يَرْجِعُ إلى خَصائِصَ طَبِيعِيَّةٍ كَخاصِّيَّةِ الزِّئْبَقِ ومِن ذَلِكَ العَقاقِيرُ المُؤَثِّرَةُ في العُقُولِ صَلاحًا أوْ فَسادًا والمُفْتِرَةُ لِلْعَزائِمِ والمُخَدِّراتُ والمُرْقِداتُ عَلى تَفاوُتِ تَأْثِيرِها وإلى هَذا الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى في سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ ﴿إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ﴾ [طه: ٦٩] . الثّالِثُ: الشَّعْوَذَةُ واسْتِخْدامُ خَفايا الحَرَكَةِ والسُّرْعَةِ والتَّمَوُّجِ حَتّى يُخَيَّلَ الجَمادُ مُتَحَرِّكًا وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمُ أنَّها تَسْعى﴾ [طه: ٦٦] . هَذِهِ أصُولُ السِّحْرِ بِالِاسْتِقْراءِ وقَدْ قَسَّمَها الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ إلى ثَمانِيَةِ أقْسامٍ لا تَعْدُو هَذِهِ الأُصُولَ الثَّلاثَةَ وفي بَعْضِها تَداخَلٌ. ولِعُلَماءِ الإفْرِنْجِ تَقْسِيمٌ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ جَدْوى. وهَذِهِ الأُصُولُ الثَّلاثَةُ كُلُّها أعْمالٌ مُباشِرَةٌ لِلْمَسْحُورِ ومُتَّصِلَةٌ بِهِ ولَها تَأْثِيرٌ عَلَيْهِ بِمِقْدارِ قابِلِيَّةِ نَفْسِهِ الضَّعِيفَةِ وهو لا يَتَفَطَّنُ لَها، ومَجْمُوعُها هو الَّذِي أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ، وهو الَّذِي لا خِلافَ في إثْباتِهِ عَلى الجُمْلَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وما عَداها مِنَ الأوْهامِ والمَزاعِمِ هو شَيْءٌ لا أثَرَ لَهُ وذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لا مُباشَرَةَ لَهُ بِذاتِ مَن يُرادُ سِحْرُهُ ويَكُونُ غائِبًا عَنْهُ فَيَدَّعِي أنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ، وهَذا مِثْلَ رَسْمِ أشْكالٍ يُعَبَّرُ عَنْها بِالطَّلاسِمِ، أوْ عَقْدِ خُيُوطٍ والنَّفْثُ عَلَيْها بَرُقْياتٍ مُعَيَّنَةٍ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِنْجادَ بِالكَواكِبِ أوْ بِأسْماءِ الشَّياطِينِ والجِنِّ وآلِهَةِ الأقْدَمِينَ، وكَذا كِتابَةُ اسْمِ المَسْحُورِ في أشْكالٍ. أوْ وضْعِ صُورَتِهِ أوْ بَعْضِ ثِيابِهِ وعَلائِقِهِ وتَوْجِيهِ كَلامٍ إلَيْها بِزَعْمِ أنَّهُ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ في حَقِيقَةِ ذاتِ المَسْحُورِ، أوْ يَسْتَعْمِلُونَ إشاراتٍ خاصَّةً نَحْوَ جِهَتِهِ أوْ نَحْوَ بَلَدِهِ وهو ما يُسَمُّونَهُ بِالأرْصادِ وذَكَرَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ في القَبَسِ أنَّ قُرَيْشًا لَمّا أشارَ النَّبِيءُ ﷺ بِأُصْبُعِهِ في التَّشَهُّدِ قالُوا: هَذا مُحَمَّدٌ يَسْحَرُ النّاسَ، أوْ جَمْعِ أجْزاءٍ مُعَيَّنَةٍ وضَمِّ بَعْضِها إلى بَعْضٍ مَعَ نِيَّةٍ أنَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ أوِ الجَمْعَ لِتَأْثِيرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِضُرٍّ أوْ خَيْرٍ أوْ مَحَبَّةٍ أوْ بُغْضَةٍ (p-٦٣٤)أوْ مَرَضٍ أوْ سَلامَةٍ، ولا سِيَّما إذا قُرِنَ بِاسْمِ المَسْحُورِ وصُورَتِهِ أوْ بِطالِعِ مِيلادِهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ التَّوَهُّماتِ ولَيْسَ عَلى تَأْثِيرِها دَلِيلٌ مِنَ العَقْلِ ولا مِنَ الطَّبْعِ ولا ما يُثْبِتُهُ مِنَ الشَّرْعِ، وقَدِ انْحَصَرَتْ أدِلَّةُ إثْباتِ الحَقائِقِ في هَذِهِ الأدِلَّةِ، ومِنَ العَجائِبِ أنَّ الفَخْرَ في التَّفْسِيرِ حاوَلَ إثْباتَهُ بِما لَيْسَ بِمُقْنِعٍ. وقَدْ تَمَسَّكَ جَماعَةٌ لِإثْباتِ تَأْثِيرِ هَذا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ بِما رُوِيَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «قَوْلِ عائِشَةَ أنَّ لَبِيدَ بْنَ الأعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيءَ ﷺ ورُؤْيا النَّبِيءِ ﷺ أنَّ مَلَكَيْنِ أخْبَراهُ بِذَلِكَ السِّحْرِ»، وفي النَّسائِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ مِثْلَهُ مُخْتَصَرًا، ويَنْبَغِي التَّثَبُّتُ في عِباراتِهِ ثُمَّ في تَأْوِيلِهِ، ولا شَكَّ أنَّ لَبِيدًا حاوَلَ أنْ يَسْحَرَ النَّبِيءَ ﷺ فَقَدْ كانَ اليَهُودُ سَحَرَةً في المَدِينَةِ وأنَّ اللَّهَ أطْلَعَ رَسُولَهُ عَلى ما فَعَلَهُ لَبِيدٌ لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ في إبْطالِ سِحْرِ لَبِيدٍ ولِيَعْلَمَ اليَهُودُ أنَّهُ نَبِيءٌ لا تَلْحَقُهُ أضْرارُهم وكَما لَمْ يُؤَثِّرْ سِحْرُ السَّحَرَةِ عَلى مُوسى كَذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ سِحْرُ لَبِيدٍ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإنَّما عَرَضَ لِلنَّبِيءِ ﷺ عارِضٌ جَسَدِيٌّ شَفاهُ اللَّهُ مِنهُ فَصادَفَ أنْ كانَ مُقارَنًا لِما عَمِلَهُ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ مِن مُحاوَلَةِ سِحْرِهِ وكانَتْ رُؤْيا النَّبِيءِ ﷺ إنْباءً مِنَ اللَّهِ لَهُ بِما صَنَعَ لَبِيدٌ، والعِبارَةُ عَنْ صُورَةِ تِلْكَ الرُّؤْيا كانَتْ مُجْمَلَةً فَإنَّ الرَّأْيَ رُمُوزٌ ولَمْ يَرِدْ في الخَبَرِ تَعْبِيرُ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَلا تَكُونُ أصْلًا لِتَفْصِيلِ القِصَّةِ. ثُمَّ إنَّ لِتَأْثِيرِ هاتِهِ الأسْبابِ أوِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ شُرُوطًا وأحْوالًا بَعْضُها في ذاتِ السّاحِرِ وبَعْضُها في ذاتِ المَسْحُورِ، فَيَلْزَمُ في السّاحِرِ أنْ يَكُونَ مُفْرِطَ الذَّكاءِ مُنْقَطِعًا لِتَجْدِيدِ المُحاوَلاتِ السِّحْرِيَّةِ جَسُورًا قَوِيَّ الإرادَةِ كَتُومًا لِلسِّرِّ قَلِيلَ الِاضْطِرابِ لِلْحَوادِثِ سالِمَ البِنْيَةِ مُرْتاضَ الفِكْرِ خَفِيَّ الكَيْدِ والحِيلَةِ، ولِذَلِكَ كانَ غالِبُ السَّحَرَةِ رِجالًا ولَكِنْ كانَ الحَبَشَةُ يَجْعَلُونَ السَّواحِرَ نِساءً وكَذَلِكَ كانَ الغالِبُ في الفُرْسِ والعَرَبِ، قالَ تَعالى ﴿ومِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ﴾ [الفلق: ٤] فَجاءَ بِجَمْعِ الإناثِ وكانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَقُولُ: إنَّ الغِيلانَ عَجائِزُ مِنَ الجِنِّ ساحِراتٌ فَلِذَلِكَ تَسْتَطِيعُ التَّشَكُّلَ بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وكانَ مُعَلِّمُو السِّحْرِ يَمْتَحِنُونَ صَلاحِيَةَ تَلامِذَتِهِمْ لِهَذا العِلْمِ بِتَعْرِيضِهِمْ لِلْمَخاوِفِ وأمْرِهِمْ بِارْتِكابِ المَشاقِّ تَجْرِبَةً لِمِقْدارِ عَزائِمِهِمْ وطاعَتِهِمْ. وأمّا ما يَلْزَمُ في المَسْحُورِ فَخَوْرُ العَقْلِ، وضَعْفُ العَزِيمَةِ، ولَطافَةُ البِنْيَةِ، وجَهالَةُ العَقْلِ (p-٦٣٥)ولِذَلِكَ كانَ أكْثَرَ النّاسِ قابِلِيَّةً لَهُ النِّساءُ والصِّبْيانُ والعامَّةُ ومَن يَتَعَجَّبُ في كُلِّ شَيْءٍ. ولِذَلِكَ كانَ مِن أصُولِ السِّحْرِ إلْقاءُ أقْوالٍ كاذِبَةٍ عَلى المَسْحُورِ لِاخْتِبارِ مِقْدارِ عَقْلِهِ في التَّصْدِيقِ بِالأشْياءِ الواهِيَةِ والثِّقَةِ بِالسّاحِرِ، قالَ تَعالى ﴿ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٧] فَجَعَلُوا ذَلِكَ القَوْلَ الغَرِيبَ سِحْرًا. ثُمَّ تَحُفُّ بِالسِّحْرِ أعْمالٌ القَصْدُ مِنها التَّمْوِيهُ وهَذِهِ الأعْمالُ أنْواعٌ. نَوْعٌ الغَرَضُ مِنهُ تَقْوِيَةُ اعْتِقادِ السّاحِرِ في نَجاحِ عَمَلِهِ لِتَقْوى عَزِيمَتُهُ فَيَشْتَدُّ تَأْثِيرُهُ عَلى النُّفُوسِ وهَذا مِثْلُ تَلْقِينِ مُعَلِّمِي هَذا الفَنِّ تَلامِذَتَهم عِبادَةَ كَواكِبَ ومُناجاتِها لِاسْتِخْدامِ أرْواحِها والِاسْتِنْجادِ بِتِلْكَ الأرْواحِ عَلى اسْتِخْدامِ الجِنِّ والقُوى المُتَعاصِيَةِ لِيَعْتَقِدَ المُتَعَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَجاحِ عَمَلِهِ فَيُقْدِمَ عَلَيْهِ بِعَزْمٍ، وفي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ نَفْسانِيٌّ عَجِيبٌ، ولِذَلِكَ يُسَمُّونَ تِلْكَ الأقْوالَ والمُناجاةَ عَزائِمَ جَمْعُ عَزِيمَةٍ، ويَقُولُونَ فُلانٌ يَعْزِمُ إذا كانَ يَسْحَرُ، ثُمَّ هو إذا اسْتَكْمَلَ المَعْرِفَةَ قَدْ يَتَفَطَّنُ لِقِلَّةِ جَدْوى تِلْكَ العَزائِمِ وقَدْ لا يَتَفَطَّنُ وعَلى كِلْتا الحالَتَيْنِ فَمُعَلِّمُوهُ لا يَتَعَرَّضُونَ لَهُ في نِهايَةِ التَّعْلِيمِ بِالتَّنْبِيهِ عَلى فَسادِ ذَلِكَ لِئَلّا يُدْخِلُوا عَلَيْهِ الشُّكُوكَ في مَقْدِرَتِهِ، فَلِذَلِكَ بَقِيَتْ تِلْكَ الأوْهامُ يَتَلَقّاها الأخْلافُ عَنْ أسْلافِهِمْ، ومِن هَذا النَّوْعِ ضُرُوبٌ هي في الأصْلِ تَجارِبُ لِمِقْدارِ طاعَةِ المُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ، بَقِيَتْ مُتَلَقّاةً عِنْدَهم عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِثْلَ ارْتِكابِ الخَبائِثِ وإهانَةِ الصّالِحاتِ والأُمُورِ المُقَدَّسَةِ إيهامًا بِأنَّها تُبَلِّغُ إلى مَرْضاةِ الشَّياطِينِ وتَسْخِيرِها، وذَلِكَ في الواقِعِ اخْتِبارٌ لِمِقْدارِ خُضُوعِ المُتَعَلِّمِ، لِأنَّ أكْبَرَ شَيْءٍ عَلى النَّفْسِ نَبْذُ أعَزِّ الأشْياءِ وهو الدِّينُ، ولِأنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا مِنَ المِلِّيِّينَ فَهم يَبْلُغُونَ بِمُرِيدِيهِمْ إلى مَبالِغِهِمُ السّافِلَةِ، وقَدْ سَمِعْنا أنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعاطَوْنَ السِّحْرَ في المُسْلِمِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم لا يَتَأتّى لَهم نَجاحٌ إلّا بَعْدَ أنْ يُلَطِّخُوا أيْدِيَهم بِالنَّجاساتِ أوْ نَحْوٍ مِن هَذا الضَّلالِ. ونَوْعٌ الغَرَضُ مِنهُ إخْفاءُ الأسْبابِ الحَقِيقِيَّةِ لِتَمْوِيهاتِهِمْ حَتّى لا يَطَّلِعَ النّاسُ عَلى كُنْهِها، فَيَسْتَنِدُونَ في تَعْلِيلِ أعْمالِهِمْ إلى أسْبابٍ كاذِبَةٍ كَنِدائِهِمْ بِأسْماءٍ سَمَّوْها لا مُسَمَّياتِ لَها، ووَضْعِهِمْ أشْكالًا عَلى الوَرَقِ أوْ في الجُدْرانِ يَزْعُمُونَ أنَّ لَها خَصائِصَ التَّأْثِيرِ، واسْتِنادِهِمْ لِطَوالِعِ كَواكِبَ في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ لا سِيَّما القَمَرِ، ومِن هَذا تَظاهُرُهم لِلنّاسِ بِمَظْهَرِ الزُّهْدِ والهِمَّةِ. ونَوْعٌ يُسْتَعانُ بِهِ عَلى نُفُوذِ السِّحْرِ وهو التَّجَسُّسُ والتَّطَلُّعُ عَلى خَفايا الأشْياءِ وأسْرارِ النّاسِ بِواسِطَةِ السَّعْيِ بِالنَّمِيمَةِ وإلْقاءِ العَداواتِ بَيْنَ الأقارِبِ والأصْحابِ والأزْواجِ (p-٦٣٦)حَتّى يُفْشِيَ كُلٌّ مِنهم سِرَّ الآخَرِ فَيَتَّخِذَ السّاحِرُ تِلْكَ الأسْرارَ وسِيلَةً يُلْقِي بِها الرُّعْبَ في قُلُوبِ أصْحابِها بِإظْهارِ أنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ والضَّمائِرَ، ثُمَّ هو يَأْمُرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أرْهَبَهم ويَسْتَخْدِمُهم بِما يَشاءُ فَيُطِيعُونَهُ فَيَأْمُرُ المَرْأةَ بِمُغاضَبَةِ زَوْجِها وطَلَبِ فِراقِهِ ويَأْمُرُ الزَّوْجَ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ وهَكَذا، وفي هَذا القِسْمِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ السّاحِرِ الفِكْرِيَّةُ وبِهِ تَكْثُرُ أضْرارُهُ وأخْطارُهُ عَلى النّاسِ وجُرْأتُهُ عَلى ارْتِكابِ المُرْعِباتِ والمُطَوِّعاتِ بِاسْتِئْصالِ الأمْوالِ بِالسَّرِقَةِ يَسْرِقُها مَن لا يَتَّهِمُهُ المَسْرُوقُ، ومِنهُ أنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِن خاصَّتِهِ وأبْنائِهِ وزَوْجِهِ الَّذِينَ يَسْتَهْوِيهِمُ السَّحَرَةُ ويُسَخِّرُونَهم لِلْإخْلاصِ لَهم، ويَنْتَهِي فِعْلُ السَّحَرَةِ في هَذا إلى حَدِّ إزْهاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يَشْعُرُونَ بِأنَّها تَفَطَّنَتْ لِخَدِيعَتِهِمْ أوِ الَّتِي تَعاصَتْ عَنِ امْتِثالِ أوامِرِهِمْ يُغْرُونَ بِها مَن هي آمَنُ النّاسِ مِنهُ، ثُمَّ اسْتِطْلاعُ ضَمائِرِ النّاسِ بِتَقْرِيراتٍ خَفِيَّةٍ وأسْئِلَةٍ تَدْرِيجِيَّةٍ يُوهِمُهُ بِها أنَّهُ يَسْألُهُ عَنْها لِيُعْلِمَهُ بِمُسْتَقْبَلِهِ. ونَوْعٌ يُجْعَلُ اخْتِبارًا لِمِقْدارِ مَراتِبِ أذْهانِ النّاسِ في قابِلِيَّةِ سِحْرِهِ، وذَلِكَ بِوَضْعِ أشْياءَ في الأطْعِمَةِ خِيفَةَ الظُّهُورِ لِيَرى هَلْ يَتَفَطَّنُ لَها مَن وضَعَها، وبِإبْرازِ خَيالاتٍ أوْ أشْباحٍ يُوهِمُ بِها النّاظِرَ أنَّها جِنٌّ أوْ شَياطِينُ أوْ أرْواحٌ، وما هي إلّا أشْكالٌ مُمَوَّهَةٌ أوْ أعْوانٌ مِن أعْوانِهِ مُتَنَكِّرَةٌ، لِيَنْظُرَ هَلْ يَقْتَنِعُ رائِيها بِما أخْبَرَهُ السّاحِرُ عَنْها أمْ يَتَطَلَّبُ كَشْفَ حَقِيقَتِها أوِ اسْتِقْصاءَ أثَرِها. فَكانَ السِّحْرُ قَرِينَ خَباثَةِ نَفْسِ، وفَسادِ دِينٍ، وشَرِّ عَمَلٍ، وإرْعابٍ وتَهْوِيلٍ عَلى النّاسِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ ما فَتِئَتِ الأدْيانُ الحَقَّةُ تُحَذِّرُ النّاسَ مِنهُ وتَعُدُّ الِاشْتِغالَ بِهِ مُرُوقًا عَنْ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى اعْتِقادِ تَأْثِيرِ الآلِهَةِ والجِنِّ المَنسُوبِينَ إلى الآلِهَةِ في عَقائِدِ الأقْدَمِينَ، وقَدْ حَذَّرَ مُوسى قَوْمَهُ مِنَ السِّحْرِ وأهْلِهِ فَفي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الإصْحاحِ ١٨ أنَّ مِمّا خاطَبَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قَوْمَهُ“ مَتى دَخَلْتَ الأرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ لا تَتَعَلَّمْ أنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الأُمَمِ لا يُوجَدْ فِيكَ مَن يُجِيزُ ابْنَهُ أوِ ابْنَتَهُ في النّارِ ولا مَن يَعْرُفُ عِرافَةً ولا عائِفٌ ولا مُتَفائِلٌ ولا ساحِرٌ ولا مَن يَرْقِي رُقْيَةً ولا مَن يَسْألُ جانًّا أوْ تابِعَةً ولا مَن يَسْتَثِيرُ المَوْتى ”. وجَعَلَتِ التَّوْراةُ جَزاءَ السَّحَرَةِ القَتْلَ، فَفي سِفْرِ اللّاوِيِّينَ الإصْحاحَيْنِ ٢٠ - ٢٧“ وإذا كانَ في رَجُلٍ أوِ امْرَأةٍ جانٌّ أوْ تابِعَةٌ فَإنَّهُ يُقْتَلُ ”. (p-٦٣٧)وذَكَرُوا عَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: الأسْماءُ الَّتِي يَكْتُبُها السَّحَرَةُ في التَّمائِمِ أسْماءُ أصْنامٍ. وقَدْ حَذَّرَ الإسْلامُ مِن عَمَلِ السِّحْرِ وذَمَّهُ في مَواضِعَ ولَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي إثْباتِ حَقِيقَةٍ وُجُودِيَّةٍ لِلسِّحْرِ عَلى الإطْلاقِ ولَكِنَّهُ تَحْذِيرٌ مِن فَسادِ العَقائِدِ وخَلْعِ قُيُودِ الدِّيانَةِ ومِن سَخِيفِ الأخْلاقِ. وقَدِ اخْتَلَفَ عُلَماءُ الإسْلامِ في إثْباتِ حَقِيقَةِ السِّحْرِ وإنْكارِها وهو اخْتِلافٌ في الأحْوالِ فِيما أراهُ، فَكُلُّ فَرِيقٍ نَظَرَ إلى صِنْفٍ مِن أصْنافِ ما يُدْعى بِالسِّحْرِ. وحَكى عِياضٌ في إكْمالِ العِلْمِ أنَّ جُمْهُورَ أهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلى إثْباتِ حَقِيقَتِهِ. قُلْتُ: ولَيْسَ في كَلامِهِمْ وصْفُ كَيْفِيَّةِ السِّحْرِ الَّذِي أثْبَتُوا حَقِيقَتَهُ فَإنَّما أثْبَتُوهُ عَلى الجُمْلَةِ. وذَهَبَ عامَّةُ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّ السِّحْرَ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وإنَّما هو تَمْوِيهٌ وتَخَيُّلٌ وأنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الخِفَّةِ والشَّعْوَذَةِ ووافَقَهم عَلى ذَلِكَ بَعْضُ أهْلِ السُّنَّةِ كَما اقْتَضَتْهُ حِكايَةُ عِياضٍ في الإكْمالِ، قُلْتُ: ومِمَّنْ سُمِّيَ مِنهم أبُو إسْحاقَ الِإسْتِرابادِيُّ مِنَ الشّافِعِيَّةِ. والمَسْألَةُ بِحَذافِرِها مِن مَسائِلِ الفُرُوعِ الفِقْهِيَّةِ تَدْخُلُ في عِقابِ المُرْتَدِّينَ والقاتِلِينَ والمُتَحَيِّلِينَ عَلى الأمْوالِ، ولا تَدَخُلُ في أُصُولِ الدِّينِ. وهو وإنْ أنْكَرَهُ المَلاحِدَةُ لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ إنْكارُهُ إلْحادًا. وهَذِهِ الآيَةُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ. وأمّا الحَدِيثُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ آنِفًا. وشَدَّدَ الفُقَهاءُ العُقُوبَةَ في تَعاطِيهِ. قالَ مالِكٌ: يُقْتَلُ السّاحِرُ ولا يُسْتَتابُ إنْ كانَ مُسْلِمًا وإنْ كانَ ذِمِّيًّا لا يُقْتَلُ بَلْ يُؤَدَّبُ إلّا إذا أدْخَلَ بِسِحْرِهِ أضْرارًا عَلى مُسْلِمٍ فَإنَّهُ يُقْتَلُ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ ناقِضًا لِلْعَهْدِ لِأنَّ مِن جُمْلَةِ العَهْدِ أنْ لا يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْلِمِينَ بِالأذى، قالَ الباجِيُّ في المُنْتَقى: رَأى مالِكٌ أنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وشِرْكٌ ودَلِيلٌ عَلَيْهِ، وإنَّهُ لَمّا كانَ يَسْتَتِرُ صاحِبُهُ بِفِعْلِهِ فَهو كالزَّنْدَقَةِ لِأجْلِ إظْهارِ الإسْلامِ وإبِطانِ الكُفْرِ ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ وابْنُ المَوّازِ وأصْبَغُ هو كالزِّنْدِيقِ إنْ أسَرَّ السِّحْرَ لا يُسْتَتابُ وإنْ أظْهَرَهُ اسْتُتِيبَ وهو تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ مالِكٍ لا خِلافٌ لَهُ قالَ الباجِيُّ فَلا يُقْتَلُ حَتّى يَثْبُتَ أنَّ ما يَفْعَلُهُ مِنَ السِّحْرِ هو الَّذِي وصَفَهُ اللَّهُ بِأنَّهُ كُفْرٌ قالَ أصْبَغُ يَكْشِفُ ذَلِكَ مَن يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ ويُثْبِتُ ذَلِكَ عِنْدَ الإمامِ. وفِي الكافِي لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ إذا عَمِلَ السِّحْرَ لِأجْلِ القَتْلِ وقَتَلَ بِهِ قُتِلَ وإنْ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا، وقَدْ أدْخَلَ مالِكٌ في المُوَطَّأِ السِّحْرَ في بابِ الغِيلَةِ، فَقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في القَبَسِ: وجْهُ ذَلِكَ أنَّ المَسْحُورَ لا يَعْلَمُ بِعَمَلِ السِّحْرِ حَتّى يَقَعَ فِيهِ، قُلْتُ: لا شَكَّ أنَّ السِّحْرَ الَّذِي جُعِلَ جَزاؤُهُ القَتْلُ هو ما كانَ كُفْرًا صَرِيحًا مَعَ الِاسْتِتارِ بِهِ أوْ حَصَلَ بِهِ إهْلاكُ النُّفُوسِ وذَلِكَ أنَّ السّاحِرَ كانَ يَعِدُ مَن يَأْتِيهِ لِلسِّحْرِ بِأنَّ فُلانًا يَمُوتُ اللَّيْلَةَ أوْ غَدًا أوْ يُصِيبُهُ جُنُونٌ ثُمَّ يَتَحَيَّلُ في إيصالِ (p-٦٣٨)سُمُومٍ خَفِيَّةٍ مِنَ العَقاقِيرِ إلى المَسْحُورِ تُلْقى لَهُ في الطَّعامِ بِواسِطَةِ أُناسٍ مِن أهْلِ المَسْحُورِ فَيُصْبِحُ المَسْحُورُ مَيِّتًا أوْ مُخْتَلَّ العَقْلِ فَهَذا هو مُرادُ مالِكٍ بِأنَّ جَزاءَهُ القَتْلُ أيْ إنْ قَتَلَ، ولِذَلِكَ قالَ: لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وبِدُونِ هَذا التَّأْوِيلِ لا يَصِحُّ فِقْهُ هَذِهِ المَسْألَةِ، فَقَوْلُ مالِكٍ في السِّحْرِ لَيْسَ اسْتِنادًا لِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ في خُصُوصِ السِّحْرِ ولَكِنَّهُ مِن بابِ تَحْقِيقِ المُناطِ بِتَطْبِيقِ قَواعِدِ التَّعْزِيرِ والإضْرارِ، ولِبَعْضِ فُقَهاءِ المَذْهَبِ في حِكايَةِ هَذِهِ المَسْألَةِ إطْلِاقاتٌ عَجِيبٌ صُدُورُها مِن أمْثالِهِمْ، عَلى أنَّ السِّحْرَ أكْثَرُ ما يُتَطَلَّبُ لِأجْلِ تَسْخِيرِ المُحِبِّينَ مَحْبِوبِيهِمْ، فَهو وسِيلَةٌ في الغالِبِ لِلزِّنا أوْ لِلِانْتِقامِ مِنَ المَحْبُوبِ أوِ الزَّوْجِ. سُئِلَ مالِكٌ عَمَّنْ يَعْقِدُ الرِّجالَ عَنِ النِّساءِ، وعَنِ الجارِيَةِ تُطْعِمُ رَجُلًا شَيْئًا فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ فَقالَ: لا يُقْتَلانِ، فَأمّا الَّذِي يَعْقِدُ فَيُؤَدَّبُ، وأمّا الجارِيَةُ فَقَدْ أتَتْ أمْرًا عَظِيمًا قِيلَ أفَتُقْتَلُ ؟ فَقالَ: لا، قالَ ابْنُ رُشْدٍ في البَيانِ: رَأى أنَّ فِعْلَها لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ اهـ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ السّاحِرُ ولا يُسْتَتابُ، وأمّا المَرْأةُ فَتُحْبَسُ حَتّى تَتْرُكَهُ فَجَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ المُرْتَدِّ، ووَجَّهَ أبُو يُوسُفَ بِأنَّهُ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ في الأرْضِ بِالفَسادِ. وعَنِ الشَّيْخِ أبِي مَنصُورٍ أنَّ القَوْلَ بِأنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلى الإطْلاقِ خَطَأٌ بَلْ يَجِبُ البَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَإنْ كانَ في ذَلِكَ رَدُّ ما لَزِمَ مِن شَرْطِ الإيمانِ فَهو كُفْرٌ وإلّا فَلا، وما لَيْسَ بِكُفْرٍ وفِيهِ إهْلاكُ النَّفْسِ فَفِيهِ حُكْمُ قُطّاعِ الطَّرِيقِ، ويَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ والإناثُ، وتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إذا تابَ، ومَن قالَ لا تُقْبَلُ فَقَدْ خَلَطَ، فَإنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمُ اهـ. وهَذا اسْتِدْلالٌ بِشَرْعِ مَن قَبْلَنا. وقالَ الشّافِعِيُّ يُسْألُ السّاحِرُ عَنْ سِحْرِهِ فَإنْ ظَهَرَ مِنهُ ما هو كُفْرٌ فَهو كالمُرْتَدِّ يُسْتَتابُ، فَإنْ أصَرَّ قُتِلَ، وإنْ ظَهَرَ مِنهُ تَجْوِيزُ تَغْيِيرِ الأشْكالِ لِأسْبابِ قِراءَةِ تِلْكَ الأساطِيرِ أوْ تَدْخِينِ الأدْوِيَةِ وعُلِمَ أنَّهُ يَفْعَلُ مُحَرَّمًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الجِنايَةِ، فَإنِ اعْتَرَفَ بِسَحْرِ إنْسانٍ وأنَّ سِحْرَهُ يَقْتُلُ غالِبًا قُتِلَ قَوَدًا، يَعْنِي إذا ثَبَتَ أنَّهُ ماتَ بِسَبَبِهِ وإنْ قالَ إنَّ سِحْرِي قَدْ يَقْتُلُ وقَدْ لا يَقْتُلُ فَهو شِبْهُ عَمْدٍ، وإنْ كانَ سِحْرُهُ لِغَيْرِ القَتْلِ فَماتَ مِنهُ فَهو قَتْلٌ خَطَأٌ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ مُخَفَّفَةً في مالِهِ. ويَجِبُ أنْ يُسْتَخْلَصَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ ومِن مُفْتَرَقِ أقْوالِهِمْ ما يَكُونُ فِيهِ بَصِيرَةٌ لِإجْراءِ أعْمالِ ما يُسَمّى بِالسِّحْرِ وصاحِبُهُ بِالسّاحِرِ مَجْرى جِناياتِ أمْثالِهِ ومِقْدارِ ما أثَّرَهُ مِنَ (p-٦٣٩)الِاعْتِداءِ دُونَ مُبالَغَةٍ ولا أوْهامٍ، وقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ السّاحِرِ اليَوْمَ عَلى اللّاعِبِ بِالشَّعْوَذَةِ في الأسْمارِ، وذَلِكَ مِن أصْنافِ اللَّهْوِ فَلا يَنْبَغِي عَدُّ ذَلِكَ جِنايَةً. * * * ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ يَتَعَيَّنُ أنَّ ما مَوْصُولَةٌ وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ مُلْكِ سُلَيْمانَ أيْ وما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ، والمُرادُ بِما أُنْزِلَ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ لَكِنَّهُ سِحْرٌ يَشْتَمِلُ عَلى كُفْرٍ عَظِيمٍ وتَعْلِيمِ الخُضُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ الِاسْتِخْفافِ بِالدِّينِ ومَعَ الإضْرارِ بِالنّاسِ، كَما بَيَّناهُ آنِفًا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلى“ ما تَتْلُو ”الَّذِي هو صادِقٌ عَلى السِّحْرِ فَعُطِفَ“ ما أُنْزِلَ ”عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ نَوْعٌ مِنهُ أشَدُّ مِمّا تَتْلُوهُ الشَّياطِينُ الَّذِينَ كانُوا يُعَلِّمُونَهُ النّاسَ مَعَ السِّحْرِ المَوْضُوعِ مِنهم، فالعَطْفُ لِتَغايُرِ الِاعْتِبارِ أوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ أصْلَ السِّحْرِ مُقْتَبَسٌ مِمّا ظَهَرَ بِبابِلَ في زَمَنِ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ، وعَطْفُ شَيْءٍ عَلى نَفْسِهِ بِاعْتِبارِ تَغايُرِ المَفْهُومِ والِاعْتِبارِ وارِدٌ في كَلامِهِمْ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ (وهو مِن شَواهِدِ النَّحْوِ): ؎إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُما مِ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمِ وقِيلَ أُرِيدَ مِنَ السِّحْرِ أخَفُّ مِمّا وضَعَتْهُ الشَّياطِينُ عَلى عَهْدِ سُلَيْمانَ لِأنَّ غايَةَ ما وُصِفَ بِهِ هَذا الَّذِي ظَهَرَ بِبابِلَ في زَمَنِ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ أنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ، وذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ وفِيهِ ضَعْفٌ. والقِراءَةُ المُتَواتِرَةُ“ المَلَكَيْنِ ”بِفَتْحِ لامِ المَلَكَيْنِ وقَرَأهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ والحَسَنُ وابْنُ أبْزى بِكَسْرِ اللّامِ. وكُلُّ هاتِهِ الوُجُوهِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ نُزُولِ شَيْءٍ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ وذَلِكَ هو الَّذِي يَعْنِيهِ سِياقُ الآيَةِ إذا فَصَّلْتَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ عِلْمَ السِّحْرِ. فالوَجْهُ أنَّ قَوْلَهُ“ وما أُنْزِلَ ”عُطِفَ عَلى“ مُلْكِ سُلَيْمانَ ”فَهو مَعْمُولٌ لِتَتْلُو الَّذِي هو بِمَعْنى تَكْذِبُ فَيَكُونُ المُرادُ عَدَمَ صِحَّةِ هَذا الخَبَرِ، أيْ ما تَكْذِبُهُ الشَّياطِينُ عَلى ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ، أيْ يَنْسُبُونَ بَعْضَ السِّحْرِ إلى ما أُنْزِلَ بِبابِلَ. قالَ الفَخْرُ وهو اخْتِيارُ أبِي (p-٦٤٠)مُسْلِمٍ ٥٥، وأنْكَرَ أبُو مُسْلِمٍ أنْ يَكُونَ السِّحْرُ نازِلًا عَلى المَلَكَيْنِ إذْ لا يَجُوزُ أمْرُ اللَّهِ بِهِ، وكَيْفَ يَتَوَلّى المَلائِكَةُ تَعْلِيمَهُ مَعَ أنَّهُ كُفْرٌ أوْ فِسْقٌ، وقِيلَ ما نافِيَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى (ما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أيْ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ بِوَضْعِ السِّحْرِ كَما يَزْعُمُ الَّذِينَ وضَعُوهُ، ولا أُنْزِلَ السِّحْرُ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ. وتَعْرِيفُ المَلَكَيْنِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أوْ هو تَعْرِيفُ العَهْدِ بِأنْ يَكُونَ المَلَكانِ مَعْهُودَيْنِ لَدى العارِفِينَ بِقِصَّةِ ظُهُورِ السِّحْرِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ هارُوتَ ومارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينِ وأنَّ المُرادَ بِالشَّياطِينِ شَيْطانانِ وضَعا السِّحْرَ لِلنّاسِ هُما هارُوتُ ومارُوتُ عَلى أنَّهُ مِن إطْلاقِ الجَمْعِ عَلى المُثَنّى كَقَوْلِهِ“ قُلُوبُكُما ”وهَذا تَأْوِيلٌ خَطَأٌ إذْ يَصِيرُ قَوْلُهُ“ عَلى المَلَكَيْنِ ”كَلامًا حَشْوًا. وعَلى ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ إشْكالٌ مِن أرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أحَدُها: كَوْنُ السِّحْرِ مُنْزَلًا إنَّ حُمِلَ الإنْزالُ عَلى المَعْرُوفِ مِنهُ وهو الإنْزالُ مِنَ اللَّهِ، الثّانِي: كَوْنُ المُباشِرِ لِذَلِكَ مَلَكَيْنِ مِنَ المَلائِكَةِ عَلى القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ، الثّالِثُ: كَيْفَ يَجْمَعُ المَلَكانِ بَيْنَ قَوْلِهِما (نَحْنُ فِتْنَةٌ) وقَوْلِهِما (فَلا تَكْفُرْ) فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ قَصْدُ الفِتْنَةِ مَعَ التَّحْذِيرِ مِنَ الوُقُوعِ فِيها. الرّابِعُ: كَيْفَ حَصَرا حالَهُما في الِاتِّصافِ بِأنَّهُما فِتْنَةٌ، فَما هي الحِكْمَةُ في تَصَدِّيهِما لِذَلِكَ ؟ لِأنَّهُما إنْ كانا مَلَكَيْنِ فالإشْكالُ ظاهِرٌ، وإنْ كانا مَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللّامِ فَهُما قَدْ عَلِما مَضَّرَةَ الكُفْرِ بِدَلِيلِ نَهْيِهِما عَنْهُ، وعَلِما مَعْنى الفِتْنَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِما (﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾) فَلِماذا تَوَرَّطا في هَذِهِ الحالَةِ ؟ ودَفْعُ هَذا الإشْكالِ بِرُمَّتِهِ أنَّ الإنْزالَ هو الإيصالُ وهو إذا تَعَدّى بِعَلى دَلَّ عَلى إيصالٍ مِن عُلُوٍّ، واشْتُهِرَ ذَلِكَ في إيصالِ العِلْمِ مِن وحْيٍ أوْ إلْهامٍ أوْ نَحْوِهِما، فالإنْزالُ هُنا بِمَعْنى الإلْهامِ وبِمَعْنى الإيداعِ في العَقْلِ، أوْ في الخِلْقَةِ بِأنْ يَكُونَ المَلَكانِ قَدْ بَرَعا في هَذا السِّحْرِ وابْتَكَرا مِنهُ أسالِيبَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُما تَلَقِّيها مِن مُعَلِّمٍ شَأْنُ العَلّامَةِ المُتَصَرِّفِ في عِلْمِهِ المُبْتَكِرِ لِوُجُوهِ المَسائِلِ وعِلَلِها وتَصارِيفِها وفُرُوعِها، والظّاهِرُ عِنْدِي أنْ لَيْسَ المُرادُ بِالإنْزالِ إنْزالَ السِّحْرِ، إذِ السِّحْرُ أمْرٌ مَوْجُودٌ مِن قَبْلُ ولَكِنَّهُ إنْزالُ الأمْرِ لِلْمَلَكَيْنِ أوْ إنْزالُ الوَحْيِ أوِ الإلْهامِ لِلْمَلَكَيْنِ، بِأنْ يَتَصَدَّيا لِبَثِّ خَفايا السِّحْرِ بَيْنَ المُتَعَلِّمِينَ لِيَبْطُلَ انْفِرادُ شِرْذِمَةٍ بِعِلْمِهِ فَيَنْدَفِعُ الوَجْهانِ الأوَّلُ والثّانِي. ثُمَّ إنَّ الحِكْمَةَ مِن تَعْمِيمِ تَعْلِيمِهِ أنَّ السَّحَرَةَ في بابِلَ كانُوا اتَّخِذُوا السِّحْرَ وسِيلَةً لِتَسْخِيرِ العامَّةِ لَهم في أبْدانِهِمْ وعُقُولِهِمْ وأمْوالِهِمْ، ثُمَّ تَطَلَّعُوا مِنهُ إلى تَأْسِيسِ عِبادَةِ الأصْنامِ والكَواكِبِ وزَعَمُوا أنَّهم - أيِ السَّحَرَةُ - مُتَرْجِمُونَ عَنْهم وناطِقُونَ بِإرادَةِ الآلِهَةِ فَحَدَثَ فَسادٌ عَظِيمٌ، وعَمَّتِ الضَّلالَةُ، فَأرادَ اللَّهُ عَلى مُعْتادِ حِكْمَتِهِ إنْقاذَ الخَلْقِ مِن ذَلِكَ فَأرْسَلَ (p-٦٤١)أوْ أوْحى أوْ ألْهَمَ هارُوتَ ومارُوتَ أنْ يَكْشِفا دَقائِقَ هَذا الفَنِّ لِلنّاسِ حَتّى يَشْتَرِكَ النّاسُ كُلُّهم في ذَلِكَ فَيَعْلَمُوا أنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا عَلى ذَلِكَ ويَرْجِعَ النّاسُ إلى صَلاحِ الحالِ، فانْدَفَعَ الوَجْهُ الثّالِثُ. وأمّا الوَجْهُ الرّابِعُ فَسَتَعْرِفُ دَفْعَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ الآيَةَ. وفي قِراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ (المَلِكَيْنِ) بِكَسْرِ اللّامِ وهي قِراءَةٌ صَحِيحَةُ المَعْنى، فَمَعْنى ذَلِكَ أنَّ مَلِكَيْنِ كانا يَمْلِكانِ بِبابِلَ قَدْ عَلِما عِلْمَ السِّحْرِ. وعَلى قِراءَةِ فَتْحِ اللّامِ فالأظْهَرُ في تَأْوِيلِهِ أنَّهُ اسْتِعارَةٌ، وأنَّهُما رَجُلانِ صالِحانِ كانَ حَكَما مَدِينَةَ بابِلَ وكانا قَدِ اطَّلَعا عَلى أسْرارِ السِّحْرِ الَّتِي كانَتْ تَأْتِيها السَّحَرَةُ بِبابِلَ أوْ هُما وضَعا أصْلَهُ ولَمْ يَكُنْ فِيهِ كُفْرٌ، فَأدْخَلَ عَلَيْهِ النّاسُ الكُفْرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وقِيلَ هُما مَلَكانِ أنْزَلَهُما اللَّهُ تَعالى تَشَكَّلا لِلنّاسِ يُعَلِّمانِهِمُ السِّحْرَ لِكَشْفِ أسْرارِ السَّحَرَةِ لِأنَّ السَّحَرَةَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهم آلِهَةٌ أوْ رُسُلٌ، فَكانُوا يُسَخِّرُونَ العامَّةَ لَهم، فَأرادَ اللَّهُ تَكْذِيبَهم ذَبّا عَنْ مَقامِ النُّبُوءَةِ فَأنْزَلَ مَلَكَيْنِ لِذَلِكَ. وقَدْ أُجِيبُ بِأنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ في زَمَنِ هارُوتَ ومارُوتَ جائِزٌ عَلى جِهَةِ الِابْتِلاءِ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، فالطّائِعُ لا يَتَعَلَّمُهُ والعاصِي يُبادِرُ إلَيْهِ وهو فاسِدٌ لِمُنافاتِهِ عُمُومَ قَوْلِهِ“ يُعَلِّمُونَ النّاسَ ”قالُوا: كَما امْتَحَنَ اللَّهُ قَوْمَ طالُوتَ بِالنَّهْرِ إلَخْ ولا يَخْفى فَسادُ التَّنْظِيرِ. وبابِلُ بَلَدٌ قَدِيمٌ مِن مُدُنِ العالَمِ وأصْلُ الِاسْمِ بِاللُّغَةِ الكَلْدانِيَّةِ بابُ إيلُو أيْ بابُ اللَّهِ ويُرادِفُهُ بِالعِبْرانِيَّةِ بابُ إيلَ وهو بَلَدٌ كائِنٌ عَلى ضَفَّتَيِ الفُراتِ بِحَيْثُ يَخْتَرِقُهُ الفُراتُ يَقْرُبُ مَوْضِعُهُ مِن مَوْقِعِ بَلَدِ الحِلَّةِ الآنَ عَلى بُعْدِ أمْيالٍ مِن مُلْتَقى الفُراتِ والدِّجْلَةِ. كانَتْ مِن أعْظَمِ مُدُنِ العالَمِ القَدِيمِ بَناها أوَّلًا أبْناءُ نُوحٍ بَعْدَ الطُّوفانِ فِيما يُقالُ ثُمَّ تَوالى عَلَيْها اعْتِناءُ أصْحابِ الحَضارَةِ بِمُواطِنِ العِراقِ في زَمَنِ المَلِكِ النَّمْرُوذِ في الجِيلِ الثّالِثِ مِن أبْناءِ نُوحٍ ولَكِنَّ ابْتِداءَ عَظَمَةِ بابِلَ كانَ في حُدُودِ سَنَةِ ٣٧٥٥ ثَلاثَةِ آلافٍ وسَبْعِمِائَةٍ وخَمْسٍ وخَمْسِينَ قَبْلَ المَسِيحِ فَكانَتْ إحْدى عَواصِمَ أرْبَعَةٍ لِمَمْلَكَةِ الكَلْدانِيِّينَ وهي أعْظَمُها وأشْهَرُها ولَمْ تَزَلْ هِمَمُ مُلُوكِ الدَّوْلَتَيْنِ الكَلْدانِيَّةِ والأشُورِيَّةِ مُنْصَرِفَةً إلى تَعْمِيرِ هَذا البَلَدِ وتَنْمِيقِهِ فَكانَ بَلَدَ العَجائِبِ مِنَ الأبْنِيَةِ والبَساتِينِ ومَنبَعِ المَعارِفِ الأسْيَوِيَّةِ والعَجائِبِ السِّحْرِيَّةِ وقَدْ نَسَبُوا إلَيْها قَدِيمًا الخَمْرَ المُعَتَّقَةَ والسِّحْرَ قالَ أبُو الطَّيِّبِ:(p-٦٤٢) ؎سَقى اللَّهُ أيّامَ الصِّبا ما يَسُرُّها ∗∗∗ ويَفْعَلُ فِعْلَ البابِلِيِّ المُعَتَّقِ ولِاشْتِهارِ بابِلَ عِنْدَ الأُمَمِ القَدِيمَةِ بِمَعارِفِ السِّحْرِ كَما قَدَّمْنا في تَعْرِيفِ السِّحْرِ صَحَّ جَعْلُ صِلَةِ المَوْصُولِ قَوْلُهُ ﴿أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ﴾ إشارَةً إلى قِصَّةٍ يَعْلَمُونَها. وهارُوتَ ومارُوتَ بَدَلٌ مِنَ المَلَكَيْنِ وهُما اسْمانِ كَلْدانِيّانِ دَخَلَهُما تَغْيِيرُ التَّعْرِيفِ لِإجْرائِهِما عَلى خِفَّةِ الأوْزانِ العَرَبِيَّةِ، والظّاهِرُ أنَّ هارُوتَ مُعَرَّبُ (هارُوكا) وهو اسْمُ القَمَرِ عِنْدَ الكَلْدانِيِّينَ وأنَّ مارُوتَ مُعَرَّبُ (ما رُوداخَ) وهو اسْمُ المُشْتَرِي عِنْدَهم وكانُوا يَعُدُّونَ الكَواكِبَ السَّيّارَةَ مِنَ المَعْبُوداتِ المُقَدَّسَةِ الَّتِي هي دُونَ الآلِهَةِ لا سِيَّما القَمَرِ فَإنَّهُ أشَدُّ الكَواكِبِ تَأْثِيرًا عِنْدَهم في هَذا العالَمِ وهو رَمْزُ الأُنْثى، وكَذَلِكَ المُشْتَرِي فَهو أشْرَفُ الكَواكِبِ السَّبْعَةِ عِنْدَهم ولَعَلَّهُ كانَ رَمْزَ الذَّكَرِ عِنْدَهم كَما كانَ بَعْلٌ عِنْدَ الكَنْعانِيِّينَ الفِنِيقِيِّينَ. ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ إسْنادَ هَذا التَّقْدِيسِ لِلْكَواكِبِ ناشِئٌ عَنِ اعْتِقادِهِمْ أنَّهم كانُوا مِنَ الصّالِحِينَ المُقَدَّسِينَ وأنَّهم بَعْدَ مَوْتِهِمْ رُفِعُوا لِلسَّماءِ في صُورَةِ الكَواكِبِ، فَيَكُونُ (هارُوكا ومارُوداخُ) قَدْ كانا مِن قُدَماءِ عُلَمائِهِمْ وصالِحِيهِمْ والحاكِمَيْنِ في البِلادِ وهُما اللَّذانِ وضَعا السِّحْرَ ولَعَلَّ هَذا وجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْهُما في القِصَّةِ بِالمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللّامِ، ولِأهْلِ القِصَصِ هُنا قِصَّةٌ خُرافِيَّةٌ مِن مَوْضُوعاتِ اليَهُودِ في خُرافاتِهِمُ الحَدِيثَةِ اعْتادَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ ذِكْرَها مِنهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ والبَيْضاوِيُّ وأشارَ المُحَقِّقُونَ مِثْلُ البَيْضاوِيِّ والفَخْرِ وابْنِ كَثِيرٍ والقُرْطُبِيِّ وابْنِ عَرَفَةَ إلى كَذِبِها وأنَّها مِن مَرْوِيّاتِ كَعْبِ الأحْبارِ وقَدْ وهِمَ فِيها بَعْضُ المُتَساهِلِينَ في الحَدِيثِ فَنَسَبُوا رِوايَتَها عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أوْ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ بِأسانِيدَ واهِيَةٍ والعَجَبُ لِلْإمامِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى كَيْفَ أخْرَجَها مُسْنَدَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ ولَعَلَّها مَدْسُوسَةٌ عَلى الإمامِ أحْمَدَ أوْ أنَّهُ غَرَّهُ فِيها ظاهِرُ حالِ رُواتِها، مَعَ أنَّ فِيهِمْ مُوسى بْنَ جُبَيْرٍ وهو مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، واعْتَذَرَ عَبْدُ الحَكِيمِ بِأنَّ الرِّوايَةَ صَحِيحَةٌ إلّا أنَّ المَرْوِيَّ راجِعٌ إلى أخْبارِ اليَهُودِ فَهو باطِلٌ (p-٦٤٣)فِي نَفْسِهِ ورُواتُهُ صادِقُونَ فِيما رَوَوْا وهَذا عُذْرٌ قَبِيحٌ لِأنَّ الرِّوايَةَ أُسْنِدَتْ إلى النَّبِيءِ ﷺ قالَ ابْنُ عَرَفَةَ في تَفْسِيرِهِ وقَدْ كانَ الشُّيُوخُ يُخَطِّئُونَ ابْنَ عَطِيَّةَ في هَذا المَوْضِعِ لِأجْلِ ذِكْرِهِ القِصَّةَ، ونَقَلَ بَعْضُهم عَنِ القَرافِيِّ أنَّ مالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أنْكَرَ ذَلِكَ في حَقِّ هارُوتَ ومارُوتَ. وقَوْلُهُ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن هارُوتَ ومارُوتَ، وما نافِيَةٌ، والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِحِكايَةِ الحالِ إشارَةٌ إلى أنَّ قَوْلَهُما لِمُتَعَلِّمِي السِّحْرِ ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ قَوْلٌ مُقارِنٌ لِوَقْتِ التَّعْلِيمِ لا مُتَأخِّرٌ عَنْهُ. وقَدْ عُلِمَ مِن هَذا أنَّهُما كانا مُعَلِّمَيْنِ وطَوى ذَلِكَ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِمَضْمُونِ هاتِهِ الجُمْلَةِ، فَهو مِن إيجازِ الحَذْفِ أوْ هو مِن لَحْنِ الخِطابِ مَفْهُومٌ لِلْغايَةِ. وقَوْلُهُ“ ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ”الفِتْنَةُ لَفْظٌ يَجْمَعُ مَعْنى مَرَجٍ واضْطِرابِ أحْوالِ أحَدٍ وتَشَتُّتِ بالِهِ بِالخَوْفِ والخَطَرِ عَلى الأنْفُسِ والأمْوالِ عَلى غَيْرِ عَدْلٍ ولا نِظامٍ، وقَدْ تُخَصَّصُ وتُعَمَّمُ بِحَسَبِ ما تُضافُ إلَيْهِ أوْ بِحَسَبِ المَقامِ، يُقالُ فِتْنَةُ المالِ وفِتْنَةُ الدِّينِ. ولِما كانَتْ هَذِهِ الحالَةُ يَخْتَلِفُ ثَباتُ النّاسِ فِيها بِحَسَبِ اخْتِلافِ رَجاحَةِ عُقُولِهِمْ وصَبْرِهِمْ ومَقْدِرَتِهِمْ عَلى حُسْنِ المَخارِجِ مِنها، كانَ مِن لَوازِمِها الِابْتِلاءُ والِاخْتِبارُ فَكانَ ذَلِكَ مِنَ المَعانِي الَّتِي يُكَنّى بِالفِتْنَةِ عَنْها كَثِيرًا، ولِذَلِكَ تَسامَحَ بَعْضُ عُلَماءِ اللُّغَةِ فَفَسَّرَ الفِتْنَةَ بِالِابْتِلاءِ وجَرَّأهُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ النّاسِ فَتَنْتُ الذَّهَبَ أوِ الفِضَّةَ إذا أذابَهُما بِالنّارِ لِتَمْيِيزِ الرَّدِيءِ مِنَ الجَيِّدِ، وهَذا الإطْلاقُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُوَلَّدًا فَإنَّ مَعْنى الِاخْتِبارِ غَيْرُ مَنظُورٍ إلَيْهِ في لَفْظِ الفِتْنَةِ، وإنَّما المَنظُورُ إلَيْهِ ما في الإذابَةِ مِنَ الِاضْطِرابِ والمَرَجِ وقَدْ سَمّى القُرْآنُ هارُوتَ ومارُوتَ فِتْنَةً وقالَ ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [البروج: ١٠] وقالَ ﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ﴾ [الأعراف: ٢٧] والإخْبارُ عَنْ أنْفُسِهِمْ بِأنَّهم فِتْنَةٌ إخْبارٌ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ، وقَدْ أُكِّدَتِ المُبالَغَةُ بِالحَصْرِ الإضافِيِّ، والمَقْصِدُ مِن ذَلِكَ أنَّهُما كانا يُصَرِّحانِ أنْ لَيْسَ في عِلْمِهِما شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ الإلَهِيِّ، وأنَّهُ فِتْنَةٌ مَحْضَةٌ، ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ في مِقْدارِ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، وإنَّما كانا فِتْنَةً لِأنَّ كُلَّ مَن تَعَلَّمَ مِنهُما عَمِلَ بِهِ. فَلا تَكْفُرْ كَما كَفَرَ السَّحَرَةُ حِينَ نَسَبُوا التَّأْثِيراتِ لِلْآلِهَةِ وقَدْ عَلِمْتَ سِرَّها. وفي هَذا ما يُضْعِفُ أنْ يَكُونَ المَقْصِدُ مِن تَعْلِيمِهِما النّاسَ السِّحْرَ إظْهارَ كَذِبِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ نَسَبُوا أنْفُسَهم لِلْأُلُوهِيَّةِ أوِ النُّبُوءَةِ. والَّذِي يَظْهَرُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ أنَّ قَوْلَهُما“ ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ”قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ لِلْمُبالَغَةِ، فَجَعَلا كَثْرَةَ افْتِتانِ النّاسِ بِالسِّحْرِ الَّذِي تَصَدَّيا لِتَعْلِيمِهِ بِمَنزِلَةِ انْحِصارِ أوْصافِهِما في الفِتْنَةِ، ووَجْهُ (p-٦٤٤)ابْتِدائِهِما لِمَن يُعَلِّمانِهِ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ أنْ يُبَيِّنا لَهُ أنَّ هَذا العِلْمَ في مَبادِئِهِ يَظْهَرُ كَأنَّهُ فِتْنَةٌ وشَرٌّ فَيُوشِكُ أنْ يَكْفُرَ مُتَعَلِّمُهُ عِنْدَ مُفاجَأةِ تِلْكَ التَّعالِيمِ إيّاهُ إذا كانَتْ نَفْسُهُ قَدْ تَوَطَّنَتْ عَلى اعْتِقادِ أنَّ ظُهُورَ خَوارِقِ العاداتِ عَلّامَةٌ عَلى أُلُوهِيَّةِ مَن يُظْهِرُها، وقَوْلُهُما“ ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ ”أيْ لا تَعْجَلْ بِاعْتِقادِ ذَلِكَ فِينا فَإنَّكَ إذا تَوَغَّلْتَ في مَعارِفِ السِّحْرِ عَلِمْتَ أنَّها مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ مِن خَصائِصِ النُّفُوسِ أوْ خَصائِصِ الأشْياءِ، فالفِتْنَةُ تَحْصُلُ لِمَن يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ حِينَ يَرى ظَواهِرَهُ وعَجائِبَهُ عَلى أيْدِي السَّحَرَةِ ولِمَن كانَ في مَبْدَأِ التَّعْلِيمِ، فَإذا تَحَقَّقَ في عِلْمِهِ انْدَفَعَتِ الفِتْنَةُ فَذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِما“ ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ ”بِمَنزِلَةِ فَلا تَفْتَتِنْ وقَدِ انْدَفَعَ الإشْكالُ الرّابِعُ المُتَقَدِّمُ. * * * ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ تَفْرِيعٌ عَمّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا﴾ المُقْتَضِي أنَّ التَّعْلِيمَ حاصِلٌ فَيَتَعَلَّمُونَ، والضَّمِيرُ في فَيَتَعَلَّمُونَ راجِعٌ لِأحَدِ الواقِعِ في حَيِّزِ النَّفْيِ مَدْخُولًا لِـ (مِن) الِاسْتِغْراقِيَّةِ في قَوْلِهِ تَعالى“ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ ”فَإنَّهُ بِمَعْنى كُلُّ أحَدٍ، فَصارَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا. قَوْلُهُ ﴿ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ إشارَةٌ إلى جُزْئِيٍّ مِن جُزْئِيّاتِ السِّحْرِ وهو أقْصى تَأْثِيراتِهِ إذْ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ طَرَفِي آصِرَةٍ مَتِينَةٍ إذْ هي آصِرَةُ مَوَدَّةٍ ورَحْمَةٍ، قالَ تَعالى ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] فَإنَّ المَوَدَّةَ وحْدَها آصِرَةٌ عَظِيمَةٌ وهي آصِرَةُ الصَّداقَةِ والأُخُوَّةِ وتَفارِيعِهِما: والرَّحْمَةُ وحْدَها آصِرَةٌ مِنها الأُبُوَّةٌ والبُنُوَّةٌ، فَما ظَنُّكم بِآصِرَةٍ جَمَعَتِ الأمْرَيْنِ وكانَتْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعالى وما هو بِجَعْلِ اللَّهِ فَهو في أقْصى دَرَجاتِ الإتْقانِ، وقَدْ كانَ يُشِيرُ إلى هَذا المَعْنى شَيْخُنا الجَلِيلُ سالِمٌ أبُو حاجِبٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] وهَذا التَّفْرِيقُ يَكُونُ إمّا بِاسْتِعْمالِ مُفْسِداتٍ لِعَقْلِ أحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتّى يُبْغِضَ زَوْجَهُ، وإمّا بِإلْقاءِ الحِيَلِ والتَّمْوِيهاتِ والنَّمِيمَةِ حَتّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُما. وقَوْلُهُ ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وضَمِيرُ هم عائِدٌ إلى أحَدٍ مِن قَوْلِهِ“ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ ”لِوُقُوعِهِ في سِياقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ أحَدٍ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ أيْ وما المُتَعَلِّمُونَ بِضارِّينَ بِالسِّحْرِ أحَدًا. وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ السِّحْرَ لا تَأْثِيرَ لَهُ بِذاتِهِ وإنَّما يَخْتَلِفُ (p-٦٤٥)تَأْثِيرُ حِيَلِهِ بِاخْتِلافِ قابِلِيَّةِ المَسْحُورِ، وتِلْكَ القابِلِيَّةُ مُتَفاوِتَةٌ ولَها أحْوالٌ كَثِيرَةٌ أجْمَلَتْها الآيَةُ بِالِاسْتِثْناءِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾، أيْ يَجْعَلُ اللَّهُ أسْبابَ القابِلِيَّةِ لِأثَرِ السِّحْرِ في بَعْضِ النُّفُوسِ فَهَذا إجْمالٌ حَسَنٌ مُناسِبٌ لِحالِ المُسْلِمِينَ المُوَجَّهِ إلَيْهِمُ الكَلامُ لِأنَّهم تَخَلَّقُوا بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ، ولَيْسَ المَقامُ مَقامَ تَفْصِيلِ الأسْبابِ والمُؤَثِّراتِ، ولَكِنَّ المَقْصُودَ إبْطالُ أنْ تَكُونَ لِلسِّحْرِ حالَةٌ ذاتِيَّةٌ وقَواعِدُ غَيْرُ مُمَوَّهَةٍ، فالباءُ في قَوْلِهِ بِإذْنِ اللَّهِ لِلْمُلابَسَةِ. وأصْلُ الإذْنِ في اللُّغَةِ هو إباحَةُ الفِعْلِ، واسْتَأْذَنَ طَلَبَ الإذْنَ في الفِعْلِ أوْ في الدُّخُولِ لِلْبَيْتِ وقَدِ اسْتَعْمَلَهُ القُرْآنُ مَجازًا في مَعْنى التَّمْكِينِ إمّا بِخَلْقِ أسْبابِ الفِعْلِ الخارِقَةِ لِلْعادَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي﴾ [المائدة: ١١٠] وإمّا بِاسْتِمْرارِ الأسْبابِ المُودَعَةِ في الأشْياءِ والقُوى، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما أصابَكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٦٦] فَقَوْلُهُ ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ إلّا بِما أعَدَّ اللَّهُ في قابِلِ السِّحْرِ مِنِ اسْتِعْدادٍ لِأنْ يُضَرَّ بِهِ فَإنَّ هَذا الِاسْتِعْدادَ وإمْكانَ التَّأثُّرِ مَخْلُوقٌ في صاحِبِهِ فَهو بِإذْنِ اللَّهِ ومَشِيئَتِهِ كَذا قَرَّرَهُ الرّاغِبُ وهو يَرْجِعُ إلى اسْتِعْمالِ مِمّا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَلِمَةُ إذَنْ ( ومِن هَذا القَبِيلِ ونَظِيرِهِ لَفْظَةُ الأمْرِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: ١١] أيْ مِمّا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُلْحِقُ أضْرارَها لِلنّاسِ وقَدِ اشْتُهِرَ هَذا الِاسْتِعْمالُ في لِسانِ الشَّرْعِ حَتّى صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً في مَعْنى المَشِيئَةِ والإرادَةِ فَيَنْبَغِي أنْ يَلْحَقَ بِالألْفاظِ الَّتِي فَرَّقَ المُتَكَلِّمُونَ بَيْنَ مَدْلُولاتِها وهي الرِّضا والمَحَبَّةُ والأمْرُ والمَشِيئَةُ والإرادَةُ. فَلَيْسَ المَعْنى أنَّ السِّحْرَ قَدْ يَضُرُّ وقَدْ لا يَضُرُّ بَلِ المَعْنى أنَّهُ لا يَضُرُّ مِنهُ إلّا ما كانَ إيصالُ أشْياءَ ضارٌّ بِطَبْعِها وقَوْلُهُ ﴿ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ يَعْنِي: ما يَضُرُّ النّاسَ ضُرًّا آخَرَ غَيْرَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ فَضَمِيرُ يَضُرُّهم عائِدٌ عَلى غَيْرِ ما عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَتَعَلَّمُونَ والمَعْنى: أنَّ أُمُورَ السِّحْرِ لا يَأْتِي مِنها إلّا الضُّرُّ أيْ في الدُّنْيا فالسّاحِرُ لا يَسْتَطِيعُ سِحْرَ أحَدٍ لِيَصِيرَ ذَكِيًّا بَعْدَ أنْ كانَ بَلِيدًا أوْ لِيَصِيرَ غَنِيًّا بَعْدَ الفَقْرِ وهَذا زِيادَةُ تَنْبِيهٍ عَلى سَخافَةِ عُقُولِ المُشْتَغِلِينَ بِهِ وهو مَقْصِدُ الآيَةِ وبِهَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ عَطْفُ قَوْلِهِ ولا يَنْفَعُهم تَأْسِيسًا لا تَأْكِيدًا والمُلاحَظُ في هَذا الضُّرِّ والنَّفْعِ هو ما يَحْصُلُ في الدُّنْيا وأمّا حالُهم في الآخِرَةِ فَسَيُفِيدُهُ قَوْلُهُ ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ وقَدْ أفادَتِ الآيَةُ بِجَمْعِها بَيْنَ إثْباتِ الضُّرِّ ونَفْيِ النَّفْعِ الَّذِي هو ضِدُّهُ مُفادَ الحَصْرِ كَأنَّهُ قِيلَ: ويَتَعَلَّمُونَ ما لَيْسَ إلّا ضُرًّا كَقَوْلِ السَّمَوْألِ وعَبْدِ المَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الحارِثِيِّ:(p-٦٤٦) ؎تَسِيلُ عَلى حَدِّ الظُّباتِ نُفُوسُنا ولَيْسَ عَلى غَيْرِ الظُّباتِ تَسِيلُ وعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ القَصْرِ لِتِلْكَ النُّكْتَةِ المُتَقَدِّمَةِ وهي التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ ضُرٌّ. وإعادَةُ فِعْلِ يَتَعَلَّمُونَ مَعَ حَرْفِ العَطْفِ لِأجْلِ ما وقَعَ مِنَ الفَصْلِ بِالجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ. * * * ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ﴾ أيِ اتَّبَعُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وهم قَدْ عَلِمُوا إلَخْ والضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ تَبَعًا لِضَمِيرِ واتَّبَعُوا، أوِ الواوُ لِلْحالِ أيْ في حالِ أنَّهم تَحَقَّقَ عِلْمُهم. واللّامُ في لَقَدْ عَلِمُوا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لامَ القَسَمِ وهي اللّامُ الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ تَدْخُلَ عَلى جَوابِ القَسَمِ لِرَبْطِهِ بِالقَسَمِ ثُمَّ يَحْذِفُونَ القَسَمَ كَثِيرًا اسْتِغْناءً لِدَلالَةِ الجَوابِ عَلَيْهِ دَلالَةً التِزامِيَّةً؛ لِأنَّهُ لا يَنْتَظِمُ جَوابٌ بِدُونِ مُجابٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لامَ الِابْتِداءِ، وهي لامٌ تُفِيدُ تَأْكِيدَ القَسَمِ ويَكْثُرُ دُخُولُها في صَدْرِ الكَلامِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَها لامُ الِابْتِداءِ والِاحْتِمالانِ حاصِلانِ في كُلِّ كَلامٍ صالِحٍ لِلْقَسَمِ ولَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ، فَإنَّ حَذْفَ لَفْظِ القَسَمِ مُشْعِرٌ في المَقامِ الخَطابِيِّ بِأنَّ المُتَكَلِّمَ غَيْرُ حَرِيصٍ عَلى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ كَما كانَ ذِكْرُ إنَّ وحْدَها في تَأْكِيدِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أضْعَفَ تَأْكِيدًا مِنَ الجَمْعِ بَيْنَها وبَيْنَ لامِ الِابْتِداءِ؛ لِأنَّهُما أداتا تَأْكِيدٍ. قالَ الرَّضِيُّ إنَّ مَواقِعَ لامِ القَسَمِ في نَظَرِ الجُمْهُورِ هي كُلُّها لاماتُ الِابْتِداءِ. والكُوفِيُّونَ لا يُثْبِتُونَ لامَ الِابْتِداءِ ويَحْمِلُونَ مَواقِعَها عَلى مَعْنى القَسَمِ المَحْذُوفِ، والخِلافُ في هَذا مُتَقارِبٌ. واللّامُ في قَوْلِهِ“ ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ ”يَجُوزُ كَوْنُها لامَ قَسَمٍ أيْضًا تَأْكِيدًا لِلْمَعْلُومِ أيْ عَلِمُوا تَحْقِيقَ أنَّهُ لا خَلاقَ لِمُشْتَرِي السِّحْرِ ويَجُوزُ كَوْنُها لامَ ابْتِداءٍ. والِاشْتِراءُ هو اكْتِسابُ شَيْءٍ بِبَذْلِ غَيْرِهِ فالمَعْنى أنَّهُمُ اكْتَسَبُوهُ بِبَذْلِ إيمانِهِمُ المُعَبِّرِ عَنْهُ فِيما يَأْتِي بِقَوْلِهِ“ أنْفُسَهم ”. والخَلاقُ الحَظُّ مِنَ الخَيْرِ خاصَّةً. فَفِي الحَدِيثِ ( «إنَّما يَلْبَسُ هَذا مِن لا خَلاقَ لَهُ» ( وقالَ البُعَيْثُ بْنُ حُرَيْثٍ: ؎ولَسْتُ وإنْ قَرُبْتُ يَوْمًا بِبائِعٍ خَلاقِي ولا دِينِي ابْتِغاءَ التَّحَبُّبِ ونَفْيُ الخَلاقِ وهو نَكِرَةٌ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِمِنَ الِاسْتِغْراقِيَّةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ تَعاطِيَ هَذا السِّحْرِ جُرْمُ كُفْرٍ أوْ دُونَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُتَعاطِيهِ حَظٌّ مِنَ الخَيْرِ في الآخِرَةِ وإذا انْتَفى كُلُّ (p-٦٤٧)حَظٍّ مِنَ الخَيْرِ ثَبَتَ الشَّرُّ كُلُّهُ لِأنَّ الرّاحَةَ مِنَ الشَّرِّ خَيْرٌ وهي حالَةُ الكَفافِ وقَدْ تَمَنّاها الفُضَلاءُ أوْ دُونَهُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى. قَوْلُهُ ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى“ ولَقَدْ عَلِمُوا ”عَطْفُ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ و“ شَرَوْا ”بِمَعْنى: باعُوا بِمَعْنى بَذَلُوا وهو مُقابِلُ قَوْلِهِ“ لَمَنِ اشْتَراهُ ”ومَعْنى بَذْلِ النَّفْسِ هو التَّسَبُّبُ لَها في الخَسارِ والبَوارِ. وقَوْلُهُ“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ”مُقْتَضٍ لِنَفْيِ العِلْمِ بِطَرِيقِ لَوِ الِامْتِناعِيَّةِ. والعِلْمُ المَنفِيُّ عَنْهم هُنا هو غَيْرُ العِلْمِ المُثْبَتِ لَهم في قَوْلِهِ“ ولَقَدْ عَلِمُوا ”إلّا أنَّ الَّذِي عَلِمُوهُ هو أنَّ مُكْتَسِبَ السِّحْرِ ما لَهُ خَلاقٌ في الآخِرَةِ والَّذِي جَهِلُوهُ هُنا هو أنَّ السِّحْرَ شَيْءٌ مَذْمُومٌ وفِيهِ تَجْهِيلٌ لَهم حَيْثُ عَلِمُوا أنَّ صاحِبَهُ لا خَلاقَ لَهُ ولَمْ يَهْتَدُوا إلى أنَّ نَفْيَ الخَلاقِ يَسْتَلْزِمُ الخُسْرانَ إذْ ما بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ وهَذا هو الوَجْهُ لِأنَّ“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ”ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ دَلِيلُ مَفْعُولِهِ، وبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ الإشْكالُ عَنْ إثْباتِ العِلْمِ ونَفْيِهِ في مَعْلُومٍ واحِدٍ بِناءً عَلى أنَّ العِلْمَ بِأنَّهُ لا خَلاقَ لِصاحِبِ السِّحْرِ عَيْنُ مَعْنى كَوْنِ السِّحْرِ مَذْمُومًا، فَكَيْفَ يُعَدُّونَ غَيْرَ عالِمَيْنِ بِذَمِّهِ ؟ وقَدْ عَلِمْتَ وجْهَهُ وهَذا هو الَّذِي تُحْمَلُ عَلَيْهِ الآيَةُ. ولَهم في الجَوابِ عَنْ دَفْعِ الإشْكالِ وُجُوهٌ أُخْرى أحَدُها ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ وتَبِعَهُ صاحِبُ المِفْتاحِ مِن أنَّ المُرادَ مِن نَفْيِ العِلْمِ هو أنَّهم لَمّا كانُوا في عِلْمِهِمْ كَمَن لا يَعْلَمُ بِعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِهِ نَفْيُ العِلْمِ عَنْهم لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِهِ، أيْ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ المَنفِيِّ هو عِلْمُ كَوْنِ ما يَتَعاطَوْنَهُ مِن جُمْلَةِ السِّحْرِ المَنهِيِّ عَنْهُ، فَكَأنَّهم عَلِمُوا مَذَمَّةَ السِّحْرِ عِلْمًا كُلِّيًّا، ولَمْ يَتَفَطَّنُوا لِكَوْنِ صَنِيعِهِمْ مِنهُ كَما قالُوا: إنَّ الفَقِيهَ يَعْلَمُ كُبْرى القِياسِ والقاضِيَ والمُفْتِيَ يَعْلَمانِ صُغْراهُ وأنَّ الفَقِيهَ كالصَّيْدَلانِيِّ والقاضِيَ والمُفْتِيَ كالطَّبِيبِ وهَذا الوَجْهُ الَّذِي اخْتَرْناهُ. الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ”ما يَتْبَعُهُ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ أيْ فَهم ظَنُّوا أنَّ عَدَمَ الخِلافِ لا يَسْتَلْزِمُ العَذابَ وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي ذَكَرْناهُ. الرّابِعُ: أنَّ المُرادَ مِنَ العِلْمِ المَنفِيِّ التَّفَكُّرُ ومِنَ المُثْبَتِ العِلْمُ الغَرِيزِيُّ وهَذا وجْهٌ بَعِيدٌ جِدًّا إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عِلْمُهم بِأنَّ مَنِ اكْتَسَبَ السِّحْرَ لا خَلاقَ لَهُ عِلْمًا غَرِيزِيًّا فَلَوْ قِيلَ العِلْمُ التَّصَوُّرِيُّ والعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ. وفي الجَمْعِ بَيْنَ لَقَدْ عَلِمُوا ولَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ طِباقٌ عَجِيبٌ. (p-٦٤٨)وهُنالِكَ جَوابٌ آخَرُ مَبْنِيٌّ عَلى اخْتِلافِ مُعادِ ضَمِيرِ“ عَلِمُوا ”وضَمِيرَيِّ“ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ”فَضَمِيرُ“ لَقَدْ عَلِمُوا ”راجِعٌ إلى الجِنِّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ السِّحْرَ وضَمِيرا“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ " راجِعانِ إلى الإنْسِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا السِّحْرَ وشَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم، قالَهُ قُطْرُبٌ والأخْفَشُ وبِذَلِكَ صارَ الَّذِينَ أُثْبِتَ لَهُمُ العِلْمُ غَيْرَ المَنفِيِّ عَنْهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب