الباحث القرآني
* بابُ السِّحْرِ وحُكْمُ السّاحِرِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾ إلى آخَرِ القِصَّةِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: الواجِبُ أنْ نُقَدِّمَ القَوْلَ في السِّحْرِ لِخَفائِهِ عَلى كَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ فَضْلًا عَنِ العامَّةِ، ثُمَّ نُعَقِّبُهُ بِالكَلامِ في حُكْمِهِ في مُقْتَضى الآيَةِ في المَعانِي والأحْكامِ، فَنَقُولُ: إنَّ أهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أنَّ أصْلَهُ في اللُّغَةِ لِما لَطُفَ وخَفِيَ سَبَبُهُ، والسَّحْرُ عِنْدَهم بِالفَتْحِ وهو الغِذاءِ لِخَفائِهِ ولُطْفِ مَجارِيهِ. قالَ لَبِيدٌ:
؎أرانا مَوْضِعَيْنِ لِأمْرِ غَيْبٍ ونُسْحِرُ بِالطَّعامِ وبِالشَّرابِ
قِيلِ: فِيهِ وجْهانِ: نُعَلَّلُ ونُخْدَعُ كالمَسْحُورِ والمَخْدُوعِ، والآخَرُ: نُغَذّى، وأيَّ الوَجْهَيْنِ كانَ فَمَعْناهُ الخَفاءُ وقالَ آخَرُ:
؎فَإنْ تَسْألِينا فِيمَ نَحْنُ فَإنَّنا ∗∗∗ عَصافِيرُ مِن هَذا الأنامِ المُسَحَّرِ
وهَذا البَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنَ المَعْنى ما احْتَمَلَهُ الأوَّلُ، ويَحْتَمِلُ أيْضًا أنَّهُ أرادَ بِالمُسَحَّرِ أنَّهُ ذُو سِحْرٍ والسَّحْرُ الرِّئَةُ وما يَتَعَلَّقُ بِالحُلْقُومِ، وهَذا يَرْجِعُ إلى مَعْنى الخَفاءِ، ومِنهُ قَوْلُ عائِشَةَ: " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ سَحْرِي ونَحْرِي "، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ [الشعراء: ١٥٣] يَعْنِي مِنَ المَخْلُوقِ الَّذِي يُطْعَمُ ويُسْقى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما أنْتَ إلا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ [الشعراء: ١٨٦] وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٧] ويُحْتَمَلُ أنَّهُ ذُو سِحْرٍ مِثْلُنا وإنَّما يُذْكَرُ السِّحْرُ في مِثْلِ هَذِهِ المَواضِعِ لِضَعْفِ هَذِهِ الأجْسادِ ولَطافَتِها ورِقَّتِها وبِها مَعَ ذَلِكَ قَوامُ (p-٥١)الإنْسانِ، فَمَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهو ضَعِيفٌ مُحْتاجٌ. وهَذا هو مَعْنى السِّحْرِ في اللُّغَةِ، ثُمَّ نُقِلَ هَذا الِاسْمُ إلى كُلِّ أمْرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وتُخُيِّلَ عَلى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ ويَجْرِي مَجْرى التَّمْوِيهِ والخِداعِ،
ومَتى أُطْلِقَ ولَمْ يُقَيَّدْ أفادَ ذَمَّ فاعِلِهِ وقَدْ أُجْرِيَ مُقَيَّدًا فِيما يُمْتَدَحُ ويُحْمَدُ كَما رُوِيَ: «إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا» .
حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ الحَرّانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: «قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الزِّبْرِقانُ بْنُ بَدْرٍ وعَمْرُو بْنُ الأهْتَمِ وقَيْسُ بْنُ عاصِمٍ، فَقالَ لِعَمْرٍو: خَبِّرْنِي عَنِ الزِّبْرِقانَ فَقالَ: مُطاعٌ في نادِيهِ، شَدِيدُ العارِضَةِ مانِعٌ لِما وراءَ ظَهْرِهِ فَقالَ الزِّبْرِقانُ: هو واللَّهِ يَعْلَمْ أنِّي أفْضَلُ مِنهُ فَقالَ عَمْرٌو: إنَّهُ زَمِرُ المُرُوءَةِ ضَيِّقُ العَطَنِ أحْمَقُ الأبِ لَئِيمُ الخالِ يا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقْتَ فِيهِ لَمّا أرْضانِي فَقُلْتُ أحْسَنَ ما عَلِمْتُ، وأسْخَطَنِي فَقُلْتُ أسْوَأُ ما عَلِمْتُ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا» .
وحَدَّثَنا إبْراهِيمُ الحَرّانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا مالِكُ بْنُ أنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «قَدِمَ رَجُلانِ فَخَطَبَ أحَدُهُما فَعَجِبَ النّاسُ لِذَلِكَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا» .
قالَ: وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ فارِسٍ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو تُمَيْلَةَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثابِتٍ قالَ: حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا، وإنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلًا، وإنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا، وإنَّ مِنَ القَوْلِ عِيالًا» .
قالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحانَ: صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ أمّا قَوْلُهُ: " إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا " فالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الحَقُّ وهو ألْحَنُ بِالحُجَجِ مِن صاحِبِ الحَقِّ فَيَسْحَرُ القَوْمَ بِبَيانِهِ فَيَذْهَبُ بِالحَقِّ.
وأمّا قَوْلُهُ: " مِنَ العِلْمِ جَهْلًا " فَيَتَكَلَّفُ العالِمُ إلى عِلْمِهِ ما لا يَعْلَمُ فَيُجَهِّلُهُ ذَلِكَ وأمّا قَوْلُهُ: " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا " فَهي هَذِهِ الأمْثالُ والمَواعِظُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِها النّاسُ وأمّا قَوْلُهُ: " إنَّ مِنَ القَوْلِ عِيالًا " فَعَرْضُكَ كَلامَكَ وحَدِيثَكَ عَلى مَن لَيْسَ مِن شَأْنِهِ ولا يُرِيدُهُ فَسَمّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْضَ البَيانِ سِحْرًا؛ لِأنَّ صاحِبَهُ بَيْنَ أنْ يُنْبِئَ عَنْ حَقٍّ فَيُوضِحَهُ ويُجَلِّيَهِ بِحُسْنِ بَيانِهِ بَعْدَ أنْ كانَ خَفِيّا؛ فَهَذا مِنَ السِّحْرِ الحَلالِ الَّذِي أقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمْرَو بْنَ الأهْتَمِ عَلَيْهِ ولَمْ يُسْخِطْهُ مِنهُ.
ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ بَلِيغٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فَقالَ عُمَرُ: " هَذا واللَّهِ السِّحْرُ الحَلالُ " وبَيْنَ أنْ يُصَوِّرَ الباطِلَ في صُورَةِ الحَقِّ بِبَيانِهِ ويَخْدَعَ السّامِعِينَ بِتَمْوِيهِهِ ومَتى أُطْلِقَ فَهو اسْمٌ لِكُلِّ أمْرٍ مُمَوَّهٍ باطِلٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ ولا ثَباتَ، (p-٥٢)قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦] يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتّى ظَنُّوا أنَّ حِبالَهم وعِصِيَّهم تَسْعى وقالَ: ﴿يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى﴾ [طه: ٦٦] فَأخْبَرَ أنَّ ما ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنها لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وإنَّما كانَ تَخْيِيلًا وقَدْ قِيلَ: إنَّها كانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا، وكَذَلِكَ الحِبالُ كانَتْ مَعْمُولَةً مِن أدَمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا، وقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَ المَواضِعِ أسْرابًا وجَعَلُوا آزاجًا ومَلَئُوها نارًا، فَلَمّا طُرِحَتْ عَلَيْهِ وحَمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَها؛ لِأنَّ مِن شَأْنِ الزِّئْبَقِ إذا أصابَتْهُ النّارُ أنْ يَطِيرَ، فَأخْبَرَ اللَّهُ أنَّ ذَلِكَ كانَ مُمَوَّهًا عَلى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ والعَرَبُ تَقُولُ لِضَرْبٍ مِنَ الحُلِيِّ " مَسْحُورٌ " أيْ مُمَوَّهٌ عَلى مَن رَآهُ مَسْحُورٌ بِهِ عَيْنُهُ فَما كانَ مِنَ البَيانِ عَلى حَقٍّ ويُوَضِّحُهُ فَهو مِنَ السِّحْرِ الحَلالِ، وما كانَ مِنهُ مَقْصُودًا بِهِ إلى تَمْوِيهٍ وخَدِيعَةٍ وتَصْوِيرِ باطِلٍ في صُورَةِ الحَقِّ فَهو مِنَ السِّحْرِ المَذْمُومِ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ مَوْضُوعُ السِّحْرِ التَّمْوِيهَ والإخْفاءَ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُسَمّى ما يُوَضِّحُ الحَقَّ ويُنْبِئُ عَنْهُ سِحْرًا، وهو إنَّما أظْهَرَ بِذَلِكَ ما خَفِيَ ولَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلى إخْفاءِ ما ظَهَرَ وإظْهارُهُ غَيْرُ حَقِيقَةٍ ؟
قِيلَ لَهُ: سُمِّيَ ذَلِكَ سِحْرًا مِن حَيْثُ كانَ الأغْلَبُ في ظَنِّ السّامِعِ أنَّهُ لَوْ ورَدَ عَلَيْهِ المَعْنى بِلَفْظٍ مُسْتَنْكَرٍ غَيْرِ مُبَيَّنٍ لَما صادَفَ مِنهُ قَبُولًا ولا أصْغى إلَيْهِ، ومَتى سَمِعَ المَعْنى بِعِبارَةٍ مَقْبُولَةٍ عَذْبَةٍ لا فَسادَ فِيها ولا اسْتِنْكارَ وقَدْ تَأتّى لَها بِلَفْظِهِ وحُسْنِ بَيانِهِ بِما لا يَتَأتّى لَهُ الغَبِيُّ الَّذِي لا بَيانَ لَهُ أصْغى إلَيْهِ وسَمِعَهُ وقَبِلَهُ، فَسَمّى اسْتِمالَتَهُ لِلْقُلُوبِ بِهَذا الضَّرْبِ مِنَ البَيانِ سِحْرًا كَما يَسْتَمِيلُ السّاحِرُ قُلُوبَ الحاضِرِينَ إلى ما مَوَّهَ بِهِ ولَبَّسَهُ، فَمِن هَذا الوَجْهِ سُمِّيَ البَيانُ سِحْرًا لا مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إنَّما سَمّى البَيانَ سِحْرًا؛ لِأنَّ المُقْتَدِرَ عَلى البَيانِ رُبَّما قَبَّحَ بَيانُهُ بَعْضَ ما هو حَسَنٌ وحَسَّنَ عِنْدَهُ بَعْضَ ما هو قَبِيحٌ فَسَمّاهُ لِذَلِكَ سِحْرًا، كَما سَمّى ما مَوَّهَ بِهِ صاحِبُهُ وأُظْهِرَ عَلى غَيْرِ حَقِيقَةٍ سِحْرًا.
قالَ أبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: واسْمُ السِّحْرِ إنَّما أُطْلِقَ عَلى البَيانِ مَجازًا لا حَقِيقَةً والحَقِيقَةُ ما وصَفْنا، ولِذَلِكَ صارَ عِنْدَ الإطْلاقِ إنَّما يَتَناوَلُ كُلَّ أمْرٍ مُمَوَّهٍ قَدْ قُصِدَ بِهِ الخَدِيعَةُ والتَّلْبِيسُ وإظْهارُ ما لا حَقِيقَةَ لَهُ ولا ثَباتَ وإذْ قَدْ بَيَّنّا أصْلَ السِّحْرِ في اللُّغَةِ وحُكْمَهُ عِنْدَ الإطْلاقِ والتَّقْيِيدِ فَلْنَقُلْ في مَعْناهُ في التَّعارُفِ والضُّرُوبِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْها هَذا الِاسْمُ وما يَقْصِدُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِن مُنْتَحِلِيهِ والغَرَضِ الَّذِي يَجْرِي إلَيْهِ مُدَّعُوهُ، فَنَقُولُ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلى أنْحاءٍ مُخْتَلِفَةٍ: فَمِنها سِحْرُ أهْلِ بابِلِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ﴾ وكانُوا قَوْمًا صابِئِينَ يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ (p-٥٣)السَّبْعَةَ ويُسَمُّونَها آلِهَةً ويَعْتَقِدُونَ أنَّ حَوادِثَ العالَمِ كُلَّها مِن أفْعالِها وهم مُعَطِّلَةٌ لا يَعْتَرِفُونَ بِالصّانِعِ الواحِدِ المُبْدِعِ لِلْكَواكِبِ وجَمِيعِ أجْرامِ العالَمِ وهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِمْ إبْراهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَدَعاهم إلى اللَّهِ تَعالى وحاجَّهم بِالحِجاجِ الَّذِي بَهَرَهم بِهِ وأقامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الحُجَّةَ مِن حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهم دَفْعُهُ ثُمَّ ألْقَوْهُ في النّارِ فَجَعَلَها اللَّهُ تَعالى بَرْدًا وسَلامًا، ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالهِجْرَةِ إلى الشّامِ.
وكانَ أهْلُ بابِلَ وإقْلِيمِ العِراقِ والشّامِ ومِصْرَ والرُّومِ عَلى هَذِهِ المَقالَةِ إلى أيّامِ بُيُوراسِبَ الَّذِي تُسَمِّيهِ العَرَبُ " الضَّحّاكَ " وإنَّ أفْرِيدُونَ وكانَ مِن أهْلِ دِنَباوِنْدَ اسْتَجاشَ عَلَيْهِ بِلادَهُ وكاتَبَ سائِرَ مَن يُطِيعُهُ ولَهُ قِصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتّى أزالَ مُلْكَهُ وأسَرَهُ، وجُهّالُ العامَّةِ والنِّساءِ عِنْدَنا يَزْعُمُونَ أنَّ أفْرِيدُونَ حَبَسَ بُيُوراسِبَ في جَبَلِ دِنْباوِنْدَ العالِي عَلى الجِبالِ، وأنَّهُ حَيٌّ هُناكَ مُقَيَّدٌ، وأنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُناكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ، وأنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلى الأرْضِ، وأنَّهُ هو الدَّجّالُ الَّذِي أخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ وحَذَّرَناهُ، وأحْسَبُهم أخَذُوا ذَلِكَ عَنِ المَجُوسِ وصارَتْ مَمْلَكَةُ إقْلِيمِ بابِلَ لِلْفُرْسِ فانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إلَيْها في بَعْضِ الأزْمانِ فاسْتَوْطَنُوها.
ولَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أوْثانٍ بَلْ كانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاللَّهِ وحْدَهُ، إلّا أنَّهم مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ العَناصِرَ الأرْبَعَةَ: الماءَ، والنّارَ، والأرْضَ، والهَواءَ؛ لِما فِيها مِن مَنافِعِ الخَلْقِ وأنَّ بِها قِوامَ الحَيَوانِ وإنَّما حَدَثَتِ المَجُوسِيَّةُ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ في زَمانِ ( كَشْتاسِبَ ) حِينَ دَعاهُ ( زَرادُشْتُ ) فاسْتَجابَ لَهُ عَلى شَرائِطَ وأُمُورٍ يَطُولُ شَرْحُها، وإنَّما غَرَضُنا في هَذا المَوْضِعِ الإبانَةُ عَمّا كانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ بابِلَ.
ولَمّا ظَهَرَتِ الفُرْسُ عَلى هَذا الإقْلِيمِ كانَتْ تَتَدَيَّنُ بِقَتْلِ السَّحَرَةِ وإبادَتِها، ولَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِيهِمْ ومِن دِينِهِمْ بَعْدَ حُدُوثِ المَجُوسِيَّةِ فِيهِمْ وقَبْلَهُ إلى أنْ زالَ عَنْهُمُ المُلْكُ وكانَتْ عُلُومُ أهْلِ بابِلَ قَبْلَ ظُهُورِ الفُرْسِ عَلَيْهِمُ الحِيَلَ والنَّيْرَنْجِياتِ وأحْكامِ النُّجُومِ، وكانُوا يَعْبُدُونَ أوْثانًا قَدْ عَمِلُوها عَلى أسْماءِ الكَواكِبِ السَّبْعَةِ وجَعَلُوا لِكُلِّ واحِدٍ مِنها هَيْكَلًا فِيهِ صَنَمُهُ ويَتَقَرَّبُونَ إلَيْها بِضُرُوبٍ مِنَ الأفْعالِ عَلى حَسَبِ اعْتِقاداتِهِمْ مِن مُوافَقَةِ ذَلِكَ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنهُ بِزَعْمِهِمْ فِعْلَ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، فَمَن أرادَ شَيْئًا مِنَ الخَيْرِ والصَّلاحِ بِزَعْمِهِ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِما يُوافِقُ المُشْتَرى مِنَ الدَّخَنِ والرُّقى والعَقْدِ والنَّفْثِ عَلَيْها، ومَن طَلَبَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ والحَرْبِ والمَوْتِ والبَوارِ لِغَيْرِهِ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إلى زُحَلَ بِما يُوافِقُهُ مِن ذَلِكَ، ومَن أرادَ البَرْقَ والحَرْقَ والطّاعُونَ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إلى المِرِّيخِ بِما يُوافِقُهُ مِن ذَلِكَ مِن ذَبْحِ (p-٥٤)بَعْضِ الحَيَواناتِ وجَمِيعُ تِلْكَ الرُّقى بِالنَّبَطِيَّةِ تَشْتَمِلُ عَلى تَعْظِيمِ تِلْكَ الكَواكِبِ إلى ما يُرِيدُونَ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ ومَحَبَّةٍ وبُغْضٍ، فَيُعْطِيهِمْ ما شاءُوا مِن ذَلِكَ، فَيَزْعُمُونَ أنَّهم عِنْدَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ ما شاءُوا في غَيْرِهِمْ مِن غَيْرِ مُماسَّةٍ ولا مُلامَسَةٍ سِوى ما قَدَّمُوهُ مِنَ القُرُباتِ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي طَلَبُوا ذَلِكَ مِنهُ؛ فَمِنَ العامَّةِ مَن يَزْعُمُ أنَّهُ يَقْلِبُ الإنْسانَ حِمارًا أوْ كَلْبًا ثُمَّ إذا شاءَ أعادَهُ، ويَرْكَبُ البَيْضَةَ والمِكْنَسَةَ والخابِيَةَ، ويَطِيرُ في الهَواءِ فَيَمْضِي مِنَ العِراقِ إلى الهِنْدِ وإلى ما شاءَ مِنَ البُلْدانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِن لَيْلَتِهِ.
وكانَتْ عَوامُّهم تَعْتَقِدُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ، وكُلُّ ما دَعا إلى تَعْظِيمِها اعْتَقَدُوهُ وكانَتِ السَّحَرَةُ تَحْتالُ في خِلالِ ذَلِكَ بِحِيَلٍ تُمَوِّهُ بِها عَلى العامَّةِ إلى اعْتِقادِ صِحَّتِهِ بِأنْ يَزْعُمَ أنَّ ذَلِكَ لا يَنْفُذُ ولا يَنْتَفِعُ بِهِ أحَدٌ ولا يَبْلُغُ ما يُرِيدُ إلّا مَنِ اعْتَقَدَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وتَصْدِيقَهم فِيما يَقُولُونَ ولَمْ تَكُنْ مُلُوكُهم تَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ، بَلْ كانَتِ السَّحَرَةُ عِنْدَها بِالمَحَلِّ الأجَلِّ؛ لِما كانَ لَها في نُفُوسِ العامَّةِ مِن مَحَلِّ التَّعْظِيمِ والإجْلالِ، ولِأنَّ المُلُوكَ في ذَلِكَ الوَقْتِ كانَتْ تَعْتَقِدُ ما تَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ لِلْكَواكِبِ، إلى أنْ زالَتْ تِلْكَ المَمالِكُ ألا تَرى أنَّ النّاسَ في زَمَنِ فِرْعَوْنَ كانُوا يَتَبارَوْنَ بِالعِلْمِ والسِّحْرِ والحِيَلِ والمَخارِيقِ ولِذَلِكَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالعَصا والآياتِ الَّتِي عَلِمَتِ السَّحَرَةُ أنَّها لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ في شَيْءٍ وأنَّها لا يَقْدِرُ عَلَيْها غَيْرُ اللَّهِ تَعالى ؟ فَلَمّا زالَتْ تِلْكَ المَمالِكُ وكانَ مَن مُلْكِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَطْلُبُونَهم ويَتَقَرَّبُونَ إلى اللَّهِ تَعالى بِقَتْلِهِمْ، وكانُوا يَدْعُونَ عَوامَّ النّاسِ وجُهّالَهم سِرًّا كَما يَفْعَلُهُ السّاعَةَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مَعَ النِّساءِ والأحْداثِ والأغْمارِ والجُهّالِ الحَشْوِ وكانُوا يَدْعُونَ مَن يَعْمَلُونَ لَهُ ذَلِكَ إلى تَصْدِيقِ قَوْلِهِمْ والِاعْتِرافِ بِصِحَّتِهِ والمُصَدِّقُ لَهم بِذَلِكَ يَكْفُرُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: التَّصْدِيقُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِهِ الكَواكِبَ وتَسْمِيَتِها آلِهَةً.
والثّانِي: اعْتِرافُهُ بِأنَّ الكَواكِبَ تَقْدِرُ عَلى ضَرِّهِ ونَفْعِهِ.
والثّالِثُ: أنَّ السَّحَرَةَ تَقْدِرُ عَلى مِثْلِ مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ يُبَيِّنانِ لِلنّاسِ حَقِيقَةَ ما يَدَّعُونَ وبُطْلانَ ما يَذْكُرُونَ، ويَكْشِفانِ لَهم ما بِهِ يُمَوِّهُونَ، ويُخْبِرانِهِمْ بِمَعانِي تِلْكَ الرُّقى وأنَّها شِرْكٌ وكُفْرٌ وبِحِيَلِهِمُ الَّتِي كانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِها إلى التَّمْوِيهِ عَلى العامَّةِ ويُظْهِرُونَ لَهم حَقائِقَها ويَنْهَوْنَهم عَنْ قَبُولِها والعَمَلِ بِها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ فَهَذا أصْلُ سِحْرِ بابِلَ، ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كانُوا يَسْتَعْمِلُونَ سائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ والحِيَلِ الَّتِي نَذْكُرُها ويُمَوِّهُونَ بِها عَلى العامَّةِ ويَعْزُونَها إلى فِعْلِ الكَواكِبِ لِئَلّا يَبْحَثَ (p-٥٥)عَنْها ويُسَلِّمَها لَهم فَمِن ضُرُوبِ السِّحْرِ كَثِيرٌ مِنَ التَّخْيِيلاتِ الَّتِي مَظْهَرُها عَلى خِلافِ حَقائِقِها فَمِنها ما يَعْرِفُهُ النّاسُ بِجَرَيانِ العادَةِ بِها وظُهُورِها ومِنها ما يَخْفى ويَلْطُفُ ولا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ ومَعْنى باطِنِهِ إلّا مَن تَعاطى مَعْرِفَةَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ كُلَّ عِلْمٍ لا بُدَّ أنْ يَشْتَمِلَ عَلى جَلِيٍّ وخَفِيٍّ وظاهِرٍ وغامِضٍ.
فالجَلِيُّ مِنهُ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَن رَآهُ وسَمِعَهُ مِنَ العُقَلاءِ، والغامِضُ الخَفِيُّ لا يَعْرِفُهُ إلّا أهْلُهُ ومَن تَعاطى مَعْرِفَتَهُ وتَكَلَّفْ فِعْلَهُ والبَحْثَ عَنْهُ، وذَلِكَ نَحْوُ ما يَتَخَيَّلُ راكِبُ السَّفِينَةِ إذا سارَتْ في النَّهْرِ فَيَرى أنَّ الشَّطَّ بِما عَلَيْهِ مِنَ النَّخْلِ والبُنْيانِ سائِرٌ مَعَهُ، وكَما يَرى القَمَرَ في مَهَبِّ الشَّمالِ يَسِيرُ لِلْغَيْمِ في مَهَبِّ الجَنُوبِ، وكَدَوَرانِ الدَّوّامَةِ فِيها الشّامَةُ فَيَراها كالطَّوْقِ المُسْتَدِيرِ في أرْجائِها، وكَذَلِكَ يَرى هَذا في الرَّحى إذا كانَتْ سَرِيعَةَ الدَّوْرانِ، وكالعُودِ في طَرَفِهِ الجَمْرَةُ إذا أدارَهُ مُدِيرُهُ رَأى إذًا تِلْكَ النّارَ الَّتِي في طَرَفِهِ كالطَّوْقِ المُسْتَدِيرِ، وكالعِنَبَةِ الَّتِي يَراها في قَدَحٍ فِيهِ ماءٌ كالخَوْخَةِ والإجّاصَةِ عِظَمًا، وكالشَّخْصِ الصَّغِيرِ يَراهُ في الضَّبابِ عَظِيمًا جَسِيمًا، وكَبُخارِ الأرْضِ الَّذِي يُرِيكَ قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِها عَظِيمًا فَإذا فارَقَتْهُ وارْتَفَعَتْ صَغُرَتْ، وكَما يُرى المُرَدّى في الماءِ مُنْكَسِرًا أوْ مُعْوَجًّا، وكَما يُرى الخاتَمُ إذا قَرَّبْتَهُ مِن عَيْنِكَ في سَعَةِ حَلْقَةِ السِّوارِ، ونَظائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُتَخَيَّلُ عَلى غَيْرِ حَقائِقِها فَيَعْرِفُها عامَّةُ النّاسِ ومِنها ما يَلْطُفُ فَلا يَعْرِفُهُ إلّا مَن تَعاطاهُ وتَأمَّلَهُ كَخَيْطِ السَّحّارَةِ الَّذِي يَخْرُجُ مَرَّةً أحْمَرَ ومَرَّةً أصْفَرَ ومَرَّةً أسْوَدَ، ومِن لَطِيفِ ذَلِكَ ودَقِيقِهِ ما يَفْعَلُهُ المُشَعْوِذُونَ مِن جِهَةِ الحَرَكاتِ وإظْهارِ التَّخْيِيلاتِ الَّتِي تَخْرُجُ عَلى غَيْرِ حَقائِقِها حَتّى يُرِيَكَ عُصْفُورًا مَعَهُ أنَّهُ قَدْ ذَبَحَهُ ثُمَّ يُرِيكَهُ وقَدْ طارَ بَعْدَ ذَبْحِهِ وإبانَةِ رَأْسِهِ، وذَلِكَ لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ، والمَذْبُوحُ غَيْرُ الَّذِي طارَ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ اثْنانِ قَدْ خَبَّأ أحَدَهُما وأظْهَرَ الآخَرَ، ويُخَبِّئُ لِخِفَّةِ الحَرَكَةِ المَذْبُوحَ ويُظْهِرُ الَّذِي نَظِيرُهُ.
ويُظْهِرُ أنَّهُ قَدْ ذَبَحَ إنْسانًا وأنَّهُ قَدْ بَلَعَ سَيْفًا وأدْخَلَهُ في جَوْفِهِ، ولَيْسَ لِشَيْءٍ مِنهُ حَقِيقَةٌ ومِن نَحْوِ ذَلِكَ ما يَفْعَلُهُ أصْحابُ الحَرَكاتِ لِلصُّوَرِ المَعْمُولَةِ مِن صُفْرٍ أوْ غَيْرِهِ فَيَرى فارِسَيْنِ يَقْتَتِلانِ فَيَقْتُلُ أحَدُهُما الآخَرَ، ويَنْصَرِفُ بِحِيَلٍ قَدْ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ وكَفارِسٍ مِن صُفْرٍ عَلى فَرَسٍ في يَدِهِ بُوقٌ كُلَّما مَضَتْ ساعَةٌ مِنَ النَّهارِ ضَرَبَ بِالبُوقِ مِن غَيْرِ أنْ يَمَسَّهُ أحَدٌ ولا يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وقَدْ ذَكَرَ الكَلْبِيُّ أنَّ رَجُلًا مِنَ الجُنْدِ خَرَجَ بِبَعْضِ نَواحِي الشّامِ مُتَصَيِّدًا ومَعَهُ كَلْبٌ لَهُ وغُلامٌ فَرَأى ثَعْلَبًا فَأغْرى بِهِ الكَلْبَ فَدَخَلَ الثَّعْلَبُ ثُقْبًا في تَلٍّ هُناكَ ودَخَلَ الكَلْبُ خَلْفَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَأمَرَ الغُلامَ أنْ يَدْخُلَ فَدَخَلَ وانْتَظَرَهُ (p-٥٦)صاحِبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَوَقَفَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَأخْبَرَهُ بِشَأْنِ الثَّعْلَبِ والكَلْبِ والغُلامِ وأنَّ واحِدًا مِنهم لَمْ يَخْرُجْ وأنَّهُ مُتَأهِّبٌ لِلدُّخُولِ، فَأخَذَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ فَأدْخَلَهُ إلى هُناكَ، فَمَضَيا إلى سِرْبٍ طَوِيلٍ حَتّى أفْضى بِهِما إلى بَيْتٍ قَدْ فُتِحَ لَهُ ضَوْءٌ مِن مَوْضِعٍ يُنْزَلُ إلَيْهِ بِمِرْقاتَيْنِ، فَوَقَفَ بِهِ عَلى المِرْقاةِ الأُولى حَتّى أضاءَ البَيْتَ حِينًا ثُمَّ قالَ لَهُ: اُنْظُرْ فَنَظَرَ فَإذا الكَلْبُ والرَّجُلُ والثَّعْلَبُ قَتْلى، وإذا في صَدْرِ البَيْتِ رَجُلٌ واقِفٌ مُقَنَّعٌ في الحَدِيدِ وفي يَدِهِ سَيْفٌ، فَقالَ لَهُ الرَّجُلُ: أتَرى هَذا لَوْ دَخَلَ إلَيْهِ هَذا المَدْخَلَ ألْفُ رِجْلٍ لَقَتَلَهم كُلَّهم فَقالَ: وكَيْفَ ؟ قالَ: لِأنَّهُ قَدْ رُتِّبَ وهُنْدِمَ عَلى هَيْئَةٍ مَتى وضَعَ الإنْسانُ رِجْلَهُ عَلى المِرْقاةِ الثّانِيَةِ لِلنُّزُولِ تَقَدَّمَ الرَّجُلُ المَعْمُولُ في الصَّدْرِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي في يَدِهِ، فَإيّاكَ أنْ تَنْزِلْ إلَيْهِ فَقالَ: فَكَيْفَ الحِيلَةُ في هَذا ؟
قالَ: يَنْبَغِي أنْ تَحْفِرْ مِن خَلْفِهِ سَرَبًا يُفْضِي بِكَ إلَيْهِ، فَإنْ وصَلْتَ إلَيْهِ مِن تِلْكَ النّاحِيَةِ لَمْ يَتَحَرَّكْ فاسْتَأْجَرَ الجُنْدِيُّ أُجَراءَ وصُنّاعًا حَتّى حَفَرُوا سَرَبًا مِن خَلْفِ التَّلِّ فَأفْضَوْا إلَيْهِ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وإذا رَجُلٌ مَعْمُولٌ مِن صُفْرٍ أوْ غَيْرِهِ قَدْ أُلْبِسَ السِّلاحَ وأُعْطِيَ السَّيْفَ فَقَلَعَهُ، ورَأى بابًا آخَرَ في ذَلِكَ البَيْتِ فَفَتَحَهُ فَإذا هو قَبْرٌ لِبَعْضِ المُلُوكِ مَيِّتٍ عَلى سَرِيرِ هُناكَ وأمْثالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ومِنها الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُها مُصَوِّرُو الرُّومِ والهِنْدِ حَتّى لا يُفَرِّقَ النّاظِرُ بَيْنَ الإنْسانِ وبَيْنَها، ومَن لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ أنَّها صُورَةٌ لا يَشُكُّ في أنَّها إنْسانٌ، وحَتّى تَصَوُّرُها ضاحِكَةً أوْ باكِيَةً، وحَتّى يُفَرَّقَ فِيها بَيْنَ الضَّحِكِ مِنَ الخَجَلِ والسُّرُورِ وضَحِكِ الشّامِتِ فَهَذِهِ الوُجُوهُ مِن لَطِيفِ أُمُورِ التَّخايِيلِ وخَفِيِّها وما ذَكَرْناهُ قَبْلُ مِن جَلِيِّها وكانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِن هَذا الضَّرْبِ عَلى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنّا مِن حِيَلِهِمْ في العِصِيِّ والحِبالِ والَّذِي ذَكَرْناهُ مِن مَذاهِبِ أهْلِ بابِلَ في القَدِيمِ وسِحْرِهِمْ ووُجُوهِ حِيَلِهِمْ بَعْضُهُ سَمِعْناهُ مِن أهْلِ المَعْرِفَةِ بِذَلِكَ وبَعْضُهُ وجَدْناهُ في الكُتُبِ قَدْ نُقِلَتْ حَدِيثًا مِنَ النَّبَطِيَّةِ إلى العَرَبِيَّةِ، مِنها كِتابٌ في ذِكْرِ سِحْرِهِمْ وأصْنافِهِ ووُجُوهِهِ، وكُلُّها مَبْنِيَّةٌ عَلى الأصْلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن قُرْباناتِ الكَواكِبِ وتَعْظِيمِها وخُرافاتٍ مَعَها لا تُساوِي ذِكْرَها ولا فائِدَةَ فِيها وضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ: وهو ما يَدَّعُونَهُ مِن حَدِيثِ الجِنِّ والشَّياطِينِ وطاعاتِهِمْ لَهم بِالرُّقى والعَزائِمِ.
ويَتَوَصَّلُونَ إلى ما يُرِيدُونَ مِن ذَلِكَ بِتَقْدِمَةِ أُمُورٍ ومُواطَأةِ قَوْمٍ قَدْ أعَدُّوهم لِذَلِكَ، وعَلى ذَلِكَ كانَ يَجْرِي أمْرُ الكُهّانِ مِنَ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَتْ أكْثَرُ مَخارِيقِ الحَلّاجِ مِن بابِ المُواطَآتِ ولَوْلا أنَّ هَذا الكِتابَ لا يَحْتَمِلُ اسْتِقْصاءَ ذَلِكَ لَذَكَرْتُ مِنها (p-٥٧)ما يُوقِفُ عَلى كَثِيرٍ مِن مَخارِيقِهِ ومَخارِيقِ أمْثالِهِ.
وضَرَرُ أصْحابِ العَزائِمِ وفِتْنَتُهم عَلى النّاسِ غَيْرُ يَسِيرٍ، وذَلِكَ أنَّهم يَدْخُلُونَ عَلى النّاسِ مِن بابِ أنَّ الجِنَّ إنَّما تُطِيعُهم بِالرُّقى الَّتِي هي أسْماءُ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّهم يُجِيبُونَ بِذَلِكَ مَن شاءُوا ويُخْرِجُونَ الجِنَّ لِمَن شاءُوا فَتُصَدِّقُهُمُ العامَّةُ عَلى اغْتِرارٍ بِما يُظْهِرُونَ مِنِ انْقِيادِ الجِنِّ لَهم بِأسْماءِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي كانَتْ تُطِيعُ بِها سُلَيْمانَ بْنَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأنَّهم يُخْبِرُونَهم بِالخَبايا وبِالسُّرُقِ وقَدْ كانَ المُعْتَضِدُ بِاللَّهِ مَعَ جَلالَتِهِ وشَهامَتِهِ ووُفُورِ عَقْلِهِ اغْتَرَّ بِقَوْلِ هَؤُلاءِ، وقَدْ ذَكَرَهُ أصْحابُ التَّوارِيخِ، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَظْهَرُ في دارِهِ الَّتِي كانَ يَخْلُو فِيها بِنِسائِهِ وأهْلِهِ شَخْصٌ في يَدِهِ سَيْفٌ في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وأكْثَرُهُ وقْتُ الظُّهْرِ، فَإذا طُلِبَ لَمْ يُوجَدْ ولَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ ولَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلى أثَرٍ مَعَ كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ وقَدْ رَآهُ هو بِعَيْنِهِ مِرارًا، فَأهَمَّتْهُ نَفْسُهُ ودَعا بِالمُعَزِّمِينَ فَحَضَرُوا وأحْضَرُوا مَعَهم رِجالًا ونِساءً وزَعَمُوا أنَّ فِيهِمْ مَجانِينَ وأصِحّاءَ، فَأمَرَ بَعْضَ رُؤَسائِهِمْ بِالعَزِيمَةِ، فَعَزَّمَ عَلى رَجُلٍ مِنهم زَعَمَ أنَّهُ كانَ صَحِيحًا فَجُنَّ وتَخَبَّطَ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِ.
وذَكَرُوا لَهُ أنَّ هَذا غايَةُ الحِذْقِ بِهَذِهِ الصِّناعَةِ؛ إذْ أطاعَتْهُ الجِنُّ في تَخْبِيطِ الصَّحِيحِ وإنَّما كانَ ذَلِكَ مِنَ المُعَزِّمِ بِمُواطَأةٍ مِنهُ لِذَلِكَ الصَّحِيحِ عَلى أنَّهُ مَتى عَزَّمَ عَلَيْهِ جَنَّنَ نَفْسَهُ وخَبَّطَ فَجازَ ذَلِكَ عَلى المُعْتَضِدِ، فَقامَتْ نَفْسُهُ مِنهُ وكَرِهَهُ، إلّا أنَّهُ سَألَهم عَنْ أمْرِ الشَّخْصِ الَّذِي يَظْهَرُ في دارِهِ، فَخَرَقُوا عَلَيْهِ بِأشْياءَ عَلَّقُوا قَلْبَهُ بِها مِن غَيْرِ تَحْصِيلٍ لِشَيْءِ مِن أمْرِ ما سَألَهم عَنْهُ، فَأمَرَهم بِالِانْصِرافِ وأمَرَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم مِمَّنْ حَضَرَ بِخَمْسَةِ دَراهِمَ ثُمَّ تَحَرَّزَ المُعْتَضِدُ بِغايَةِ ما أمْكَنَهُ وأمَرَ بِالِاسْتِيثاقِ مِن سُورِ الدّارِ حَيْثُ لا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ مِن تَسَلُّقٍ ونَحْوِهِ، وبُطِحَتْ في أعْلى السُّورِ خَوابٍ لِئَلّا يَحْتالَ بِإلْقاءِ المَعالِيقِ الَّتِي يَحْتالُ بِها اللُّصُوصُ؛ ثُمَّ لَمْ يُوقَفْ لِذَلِكَ الشَّخْصِ عَلى خَبَرٍ إلّا ظُهُورُهُ لَهُ الوَقْتَ بَعْدَ الوَقْتَ، إلى أنْ تُوُفِّيَ المُعْتَضِدُ وهَذِهِ الخَوابِي المَبْطُوحَةُ عَلى السُّورِ وقَدْ رَأيْتُها عَلى سُوَرِ الثُّرَيّا الَّتِي بَناها المُعْتَضِدُ فَسَألْتُ صَدِيقًا لِي كانَ قَدْ حَجَبَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ عَنْ أمْرِ هَذا الشَّخْصِ، وهَلْ تَبَيَّنَ أمْرُهُ ؟ فَذَكَرَ لِي أنَّهُ لَمْ يُوقَفْ عَلى حَقِيقَةِ هَذا الأمْرِ إلّا في أيّامِ المُقْتَدِرِ، وأنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ كانَ خادِمًا أبْيَضَ يُسَمّى يَقَقَ، وكانَ يَمِيلُ إلى بَعْضِ الجَوارِي اللّاتِي في داخِلِ دُورِ الحَرَمِ، وكانَ قَدِ اتَّخَذَ لِحًى عَلى ألْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وكانَ إذا لَبِسَ بَعْضَ تِلْكَ اللِّحى لا يَشُكُّ مَن رَآهُ أنَّها لِحْيَتُهُ، وكانَ يَلْبَسُ في الوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِحْيَةً مِنها ويَظْهَرُ في ذَلِكَ المَوْضِعِ وفي يَدِهِ سَيْفٌ أوْ غَيْرُهُ مِنَ السِّلاحِ حَيْثُ يَقَعُ نَظَرُ المُعْتَضِدِ.
فَإذا طُلِبَ دَخَلَ بَيْنَ (p-٥٨)الشَّجَرِ الَّذِي في البُسْتانِ أوْ في بَعْضِ تِلْكَ المَمَرّاتِ أوِ العَطَفاتِ، فَإذا غابَ عَنْ أبْصارِ طالِبِيهِ نَزَعَ اللِّحْيَةَ وجَعَلَها في كُمِّهِ أوْ حَزَّتِهِ ويَبْقى السِّلاحُ مَعَهُ كَأنَّهُ بَعْضُ الخَدَمِ الطّالِبِينَ لِلشَّخْصِ، ولا يَرْتابُونَ بِهِ ويَسْألُونَهُ هَلْ رَأيْتَ في هَذِهِ النّاحِيَةِ أحَدًا فَإنّا قَدْ رَأيْناهُ صارَ إلَيْها ؟ فَيَقُولُ: ما رَأيْتُ أحَدًا وكانَ إذا وقَعَ مِثْلُ هَذا الفَزَعِ في الدّارِ خَرَجَتِ الجَوارِي مِن داخِلِ الدُّورِ إلى هَذا المَوْضِعِ فَيَرى هو تِلْكَ الجارِيَةَ ويُخاطِبُها بِما يُرِيدُ، وإنَّما كانَ غَرَضُهُ مُشاهَدَةَ الجارِيةِ، وكَلامَها، فَلَمْ يَزَلْ دَأْبَهُ إلى أيّامِ المُقْتَدِرِ ثُمَّ خَرَجَ إلى البُلْدانِ وصارَ إلى طَرَسُوسَ وأقامَ بِها إلى أنْ ماتَ، وتَحَدَّثَتِ الجارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ ووُقِفَ عَلى احْتِيالِهِ فَهَذا خادِمٌ قَدِ احْتالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الحِيلَةِ الخَفِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ لَها أحَدٌ مَعَ شِدَّةِ عِنايَةِ المُعْتَضِدِ، وأعْياهُ مَعْرِفَتُها والوُقُوفُ عَلَيْها ولَمْ تَكُنْ صِناعَتُهُ الحِيَلَ والمَخارِيقَ، فَما ظَنُّكَ بِمَن قَدْ جَعَلَ هَذا صِناعَةً ومَعاشًا ؟ وضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ وهو السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ والوِشايَةِ بِها والبَلاغاتِ، والإفْسادِ والتَّضْرِيبِ مِن وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، وذَلِكَ عامٌّ شائِعٌ في كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ.
وقَدْ حُكِيَ أنَّ امْرَأةً أرادَتْ إفْسادَ ما بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَصارَتْ إلى الزَّوْجَةِ فَقالَتْ لَها: إنَّ زَوْجَكِ مُعْرِضٌ وقَدْ سُحِرَ وهو مَأْخُوذٌ عَنْكِ وسَأسْحَرُهُ لَكِ حَتّى لا يُرِيدَ غَيْرَكِ ولا يَنْظُرَ إلى سِواكِ، ولَكِنْ لا بُدَّ أنْ تَأْخُذِي مِن شَعْرٍ حَلَقَهُ بِالمُوسى ثَلاثَ شَعَراتٍ إذا نامَ وتُعْطِينِيها، فَإنَّ بِها يَتِمُّ الأمْرُ فاغْتَرَّتِ المَرْأةُ بِقَوْلِها وصَدَّقَتْها ثُمَّ ذَهَبَتْ إلى الرَّجُلِ وقالَتْ لَهُ: إنَّ امْرَأتَكَ قَدْ عَلِقَتْ رَجُلًا وقَدْ عَزَمَتْ عَلى قَتْلِكَ وقَدْ وقَفْتُ عَلى ذَلِكَ مِن أمْرِها فَأشْفَقْتُ عَلَيْكَ ولَزِمَنِي نُصْحُكَ، فَتَيَقَّظْ ولا تَغْتَرَّ فَإنَّها عَزَمَتْ عَلى ذَلِكَ بِالمُوسى، وسَتَعْرِفُ ذَلِكَ مِنها، فَما في أمْرِها شَكٌّ فَتَناوَمَ الرَّجُلُ في بَيْتِهِ، فَلَمّا ظَنَّتِ امْرَأتُهُ أنَّهُ قَدْ نامَ عَمَدَتْ إلى مُوسى حادٍّ وهَوَتْ بِهِ لِتَحْلِقَ مِن حَلْقِهِ ثَلاثَ شَعَراتٍ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَهُ فَرَآها وقَدْ أهْوَتْ بِالمُوسى إلى حَلْقِهِ فَلَمْ يَشُكَّ في أنَّها أرادَتْ قَتْلَهُ، فَقامَ إلَيْها فَقَتَلَها وقُتِلَ وهَذا كَثِيرٌ لا يُحْصى وضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ، وهو الِاحْتِيالُ في إطْعامِهِ بَعْضَ الأدْوِيَةِ المُبَلِّدَةِ المُؤَثِّرَةِ في العَقْلِ والدَّخَنِ المُسَدِّرَةِ المُسْكِرَةِ، نَحْوُ دِماغِ الحِمارِ إذا طَعِمَهُ إنْسانٌ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ وقَلَّتْ فِطْنَتُهُ مَعَ أدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ هي مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الطِّبِّ، ويَتَوَصَّلُونَ إلى أنْ يَجْعَلُوهُ في طَعامٍ حَتّى يَأْكُلَهُ فَتَذْهَبَ فِطْنَتُهُ ويَجُوزَ عَلَيْهِ أشْياءُ مِمّا لَوْ كانَ تامَّ الفِطْنَةِ لَأنْكَرَها، فَيَقُولُ النّاسُ: إنَّهُ مَسْحُورٌ.
وحِكْمَةٌ كافِيَةٌ تُبَيِّنُ لَكَ أنَّ هَذا كُلَّهُ مَخارِيقُ وحِيَلٌ لا حَقِيقَةَ لِما يَدَّعُونَ لَها أنَّ (p-٥٩)السّاحِرَ والمُعَزِّمَ لَوْ قَدَرا عَلى ما ادَّعَيانِهِ مِنَ النَّفْعِ والضَّرَرِ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي يَدَّعُونَ وأمْكَنَهُما الطَّيَرانُ والعِلْمُ بِالغُيُوبِ وأخْبارِ البُلْدانِ النّائِيَةِ والخَبِيئاتِ والسُّرُقِ والإضْرارِ بِالنّاسِ مِن غَيْرِ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا، لَقَدَرُوا عَلى إزالَةِ المَمالِكِ واسْتِخْراجِ الكُنُوزِ والغَلَبَةِ عَلى البُلْدانِ بِقَتْلِ المُلُوكِ بِحَيْثُ لا يَبْدَأُهم مَكْرُوهٌ، ولَما مَسَّهُمُ السُّوءُ ولا امْتَنَعُوا عَمَّنْ قَصَدَهم بِمَكْرُوهٍ، ولاسْتَغْنَوْا عَنِ الطَّلَبِ لِما في أيْدِي النّاسِ فَإذا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وكانَ المُدَّعُونَ لِذَلِكَ أسْوَأ النّاسِ حالًا وأكْثَرَهم طَمَعًا واحْتِيالًا وتَوَصُّلًا لِأخْذِ دَراهِمِ النّاسِ وأظْهَرَهم فَقْرًا وإمْلاقًا عَلِمْتَ أنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ ورُؤَساءُ الحَشْوِنِ والجُهّالُ مِنَ العامَّةِ مِن أسْرَعِ النّاسِ إلى التَّصْدِيقِ بِدَعاوى السَّحَرَةِ والمُعَزِّمِينَ وأشَدِّهِمْ نَكِيرًا عَلى مَن جَحَدَها، ويَرْوُونَ في ذَلِكَ أخْبارًا مُفْتَعَلَةً مُتَخَرِّصَةً يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَها، كالحَدِيثِ الَّذِي يَرْوُونَ أنَّ امْرَأةً أتَتْ عائِشَةَ فَقالَتْ: إنِّي ساحِرَةٌ فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ ؟ فَقالَتْ: وما سِحْرُكِ ؟ قالَتْ: سِرْتُ إلى المَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هارُوتُ ومارُوتُ بِبابِلَ لِطَلَبِ عِلْمِ السِّحْرِ فَقالا لِي: يا أمَةَ اللَّهِ لا تَخْتارِي عَذابَ الآخِرَةِ بِأمْرِ الدُّنْيا فَأبَيْتُ، فَقالا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلى ذَلِكَ الرَّمادِ فَذَهَبْتُ لِأبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ في نَفْسِي فَقُلْتُ لا فَعَلْتُ وجِئْتُ إلَيْهِما فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقالا: ما رَأيْتِ ؟ فَقُلْتُ: ما رَأيْتُ شَيْئًا؛ فَقالا: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَيْهِ فَذَهَبْتُ وفَعَلْتُ فَرَأيْتُ كَأنَّ فارِسًا قَدْ خَرَجَ مِن فَرْجِي مُقَنَّعًا بِالحَدِيدِ حَتّى صَعِدَ إلى السَّماءِ، فَجِئْتُهُما فَأخْبَرْتُهُما فَقالا: ذَلِكَ إيمانُكِ خَرَجَ عَنْكِ وقَدْ أحْسَنْتِ السِّحْرَ فَقُلْتُ: وما هو ؟ فَقالا: لا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِينَهُ في وهْمِكِ إلّا كانَ فَصَوَّرْتُ في نَفْسِي حَبًّا مِن حِنْطَةٍ، فَإذا أنا بِالحَبِّ.
فَقُلْتُ لَهُ: انْزَرِعْ فانْزَرَعَ وخَرَجَ مِن ساعَتِهِ سُنْبُلًا، فَقُلْتُ لَهُ: انْطَحِنْ وانْخَبِزْ إلى آخَرِ الأمْرِ حَتّى صارَ خُبْزًا وإنِّي كُنْتُ لا أُصَوِّرُ في نَفْسِي شَيْئًا إلّا كانَ فَقالَتْ لَها عائِشَةُ: لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ فَيَرْوِي القُصّاصُ والمُحَدِّثُونَ الجُهّالُ مِثْلَ هَذا لِلْعامَّةِ، فَتُصَدِّقُهُ وتَسْتَعِيدُهُ وتَسْألُهُ أنْ يُحَدِّثَها بِحَدِيثِ ساحِرَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَيَقُولُ لَها: إنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ أخَذَ ساحِرَةً فَأقَرَّتْ لَهُ بِالسِّحْرِ، فَدَعا الفُقَهاءَ فَسَألَهم عَنْ حُكْمِها، فَقالُوا: القَتْلُ فَقالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: لَسْتُ أقْتُلُها إلّا تَغْرِيقًا قالَ: فَأخَذَ رَحى البَذْرِ فَشَدَّها في رِجْلِها وقَذَفَها في الفُراتِ، فَقامَتْ فَوْقَ الماءِ مَعَ الحَجَرِ، فَجَعَلَتْ تَنْحَدِرُ مَعَ الماءِ، فَخافُوا أنْ تَفُوتَهم، فَقالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: مَن يُمْسِكُها ولَهُ كَذا وكَذا ؟ فَرَغِبَ رَجُلٌ مِنَ السَّحَرَةِ كانَ حاضِرًا فِيما بَذَلَهُ فَقالَ: أعْطَوْنِي قَدَحَ زُجاجٍ فِيهِ ماءٌ فَجاءُوهُ بِهِ، فَقَعَدَ عَلى القَدَحِ ومَضى إلى الحَجَرِ فَشَقَّ الحَجَرَ (p-٦٠)بِالقَدَحِ فَتَقَطَّعَ الحَجَرُ قِطْعَةً قِطْعَةً، فَغَرِقَتِ السّاحِرَةُ فَيُصَدِّقُونَهُ ومَن صَدَّقَ هَذا فَلَيْسَ يَعْرِفُ النُّبُوَّةَ ولا يُؤْمِنُ أنْ تَكُونَ مُعْجِزاتُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن هَذا النَّوْعِ وأنَّهم كانُوا سَحَرَةً.
وقالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ولا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أتى﴾ [طه: ٦٩] وقَدْ أجازُوا مِن فِعْلِ السّاحِرِ ما هو أطَمُّ مِن هَذا وأفْظَعُ، وذَلِكَ أنَّهم زَعَمُوا أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ سُحِرَ، وأنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتّى قالَ فِيهِ: «إنَّهُ يُتَخَيَّلُ لِي أنِّي أقُولُ الشَّيْءَ وأفْعَلُهُ ولَمْ أقُلْهُ ولَمْ أفْعَلْهُ» وأنَّ امْرَأةً يَهُودِيَّةً سَحَرَتْهُ في جُفِّ طَلْعَةٍ ومُشْطٍ ومُشاقَةٍ، حَتّى أتاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأخْبَرَهُ أنَّها سَحَرَتْهُ في جُفِّ طَلْعَةٍ وهو تَحْتَ راعُوفَةِ البِئْرِ، فاسْتُخْرِجَ وزالَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ العارِضُ وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى مُكَذِّبًا لِلْكُفّارِ فِيما ادَّعَوْهُ مِن ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ جَلَّ مِن قائِلٍ: ﴿وقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلا رَجُلا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨] ومِثْلُ هَذِهِ الأخْبارِ مِن وضْعِ المُلْحِدِينَ تَلَعُّبًا بِالحَشْوِ الطِّغامِ واسْتِجْرارًا لَهم إلى القَوْلِ بِإبْطالِ مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والقَدْحِ فِيها، وأنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ وفِعْلِ السَّحَرَةِ، وأنَّ جَمِيعَهُ مِن نَوْعٍ واحِدٍ والعَجَبُ مِمَّنْ يَجْمَعُ بَيْنَ تَصْدِيقِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وإثْباتِ مُعْجِزاتِهِمْ وبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمِثْلِ هَذا مِن فِعْلِ السَّحَرَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أتى﴾ [طه: ٦٩] فَصَدَّقَ هَؤُلاءِ مَن كَذَّبَهُ اللَّهُ وأخْبَرَ بِبُطْلانِ دَعْواهُ وانْتِحالِهِ وجائِزٌ أنْ تَكُونَ المَرْأةُ اليَهُودِيَّةُ بِجَهْلِها فَعَلَتْ ذَلِكَ ظَنًّا مِنها بِأنَّ ذَلِكَ يَعْمَلُ في الأجْسادِ.
وقَصَدَتْ بِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ فَأطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلى مَوْضِعِ سِرِّها وأظْهَرَ جَهْلَها فِيما ارْتَكَبَتْ وظَنَّتْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِن دَلائِلِ نُبُوَّتِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ضَرَّهُ وخَلَطَ عَلَيْهِ أمْرَهُ ولَمْ يَقُلْ كُلُّ الرُّواةِ إنَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ أمْرُهُ، وإنَّما هَذا اللَّفْظُ زِيدَ في الحَدِيثِ ولا أصْلَ لَهُ والفَرْقُ بَيْنَ مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ وبَيْنَ ما ذَكَرْنا مِن وُجُوهِ التَّخْيِيلاتِ، أنَّ مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ هي عَلى حَقائِقِها، وبَواطِنُها كَظَواهِرِها، وكُلَّما تَأمَّلْتَها ازْدَدْتَ بَصِيرَةً في صِحَّتِها، ولَوْ جَهَدَ الخَلْقُ كُلُّهم عَلى مُضاهاتِها ومُقابَلَتِها بِأمْثالِها ظَهَرَ عَجْزُهم عَنْها؛ ومَخارِيقُ السَّحَرَةِ وتَخْيِيلاتُهم إنَّما هي ضَرْبٌ مِنَ الحِيلَةِ والتَّلَطُّفِ لِإظْهارِ أُمُورٍ لا حَقِيقَةَ لَها، وما يَظْهَرُ مِنها عَلى غَيْرِ حَقِيقَتِها، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأمُّلِ والبَحْثِ ومَتى شاءَ أنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغَ غَيْرِهِ ويَأْتِي بِمِثْلِ ما أظْهَرَهُ سِواهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنا في مَعْنى السِّحْرِ وحَقِيقَتِهِ ما يَقِفُ النّاظِرُ عَلى جُمْلَتِهِ وطَرِيقَتِهِ، ولَوِ اسْتَقْصَيْنا ذَلِكَ مِن وُجُوهِ الحِيَلِ لَطالَ واحْتَجْنا إلى اسْتِئْنافِ كِتابٍ لِذَلِكَ، وإنَّما الغَرَضُ (p-٦١)فِي هَذا المَوْضِعِ بَيانُ مَعْنى السِّحْرِ وحُكْمِهِ والآنَ حَيْثُ انْتَهى بِنا القَوْلُ إلى ذِكْرِ قَوْلِ الفُقَهاءِ فِيهِ وما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ مِن حُكْمِهِ وما يَجْرِي عَلى مُدَّعِي ذَلِكَ مِنَ العُقُوباتِ عَلى حَسَبِ مَنازِلِهِمْ في عِظَمِ المَأْثَمِ وكَثْرَةِ الفَسادِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابٌ اخْتِلافُ الفُقَهاءِ في حُكْمِ السّاحِرِ وقَوْلُ السَّلَفِ فِيهِ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي، حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَجاءٍ قالَ: أخْبَرَنا إسْرائِيلُ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: " مَن أتى كاهِنًا أوْ عَرّافًا أوْ ساحِرًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ " .
ورَوى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ نافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ جارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْها فَوَجَدُوا سِحْرَها واعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ، فَأمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَها، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمانَ فَأنْكَرَهُ، فَأتاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأخْبَرَهُ أمْرَها؛ وكانَ عُثْمانُ إنَّما أنْكَرَ ذَلِكَ؛ لِأنَّها قُتِلَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وذَكَرَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، أنَّهُ سَمِعَ بَجالَةَ يَقُولُ: كُنْتُ كاتِبًا لِجُزَيِّ بْنِ مُعاوِيَةَ فَأتى كِتابُ عُمَرَ أنِ: اقْتُلُوا كُلَّ ساحِرٍ وساحِرَةٍ فَقَتَلْنا ثَلاثَ سَواحِرَ.
ورَوى أبُو عاصِمٍ عَنِ الأشْعَثِ عَنِ الحَسَنِ قالَ: " يُقْتَلُ السّاحِرُ ولا يُسْتَتابُ " ورَوى المُثَنّى بْنُ الصَّبّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: " أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ أخَذَ ساحِرًا فَدَفَنَهُ إلى صَدْرِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتّى ماتَ " .
ورَوى سُفْيانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْدِ قالَ: كانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ أمِيرًا عَلى مِصْرَ فَجَعَلَ يَفْشُو سِرُّهُ، فَقالَ: مَن هَذا الَّذِي يُفْشِي سِرِّي ؟ فَقالُوا: ساحِرٌ هَهُنا فَدَعاهُ، فَقالَ لَهُ: إذا نَشَرْتَ الكِتابَ عَلِمْنا ما فِيهِ، فَأمّا ما دامَ مَخْتُومًا فَلَيْسَ نَعْلَمُهُ؛ فَأمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ورَوى أبُو إسْحاقَ الشَّيْبانِيُّ عَنْ جامِعِ بْنِ شَدّادٍ عَنِ الأسْوَدِ بْنِ هِلالٍ قالَ: قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: " إنَّ هَؤُلاءِ العَرّافِينَ كُهّانُ العَجَمِ، فَمَن أتى كاهِنًا يُؤْمِنُ لَهُ بِما يَقُولُ فَهو بَرِيءٌ مِمّا أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ " .
ورَوى مُبارَكٌ عَنِ الحَسَنِ أنَّ جُنْدُبًا قَتَلَ ساحِرًا ورَوى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قالَ: " يُقْتَلُ ساحِرُ المُسْلِمِينَ ولا يُقْتَلُ ساحِرُ أهْلِ الكِتابِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ يُقالُ لَهُ ابْنُ أعْصَمَ وامْرَأةٌ مِن يَهُودِ خَيْبَرَ يُقالُ لَها زَيْنَبُ فَلَمْ يَقْتُلْهُما " . وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ قالَ: " يُقْتَلُ السّاحِرُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ هَؤُلاءِ السَّلَفُ عَلى وُجُوبِ قَتْلِ السّاحِرِ، ونَصَّ بَعْضُهم عَلى كُفْرِهِ واخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ في حُكْمِهِ عَلى ما نَذْكُرُهُ؛ فَرَوى ابْنُ شُجاعٍ عَنِ الحَسَنِ بْنِ زِيادٍ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ قالَ في السّاحِرِ: " يُقْتَلُ إذا عُلِمَ أنَّهُ ساحِرٌ ولا يُسْتَتابُ ولا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنِّي أتْرُكُ السِّحْرَ وأتُوبُ مِنهُ، (p-٦٢)فَإذا أقَرَّ أنَّهُ ساحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ، وإنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شاهِدانِ أنَّهُ ساحِرٌ فَوَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أنَّهُ سِحْرٌ قُتِلَ ولا يُسْتَتابُ.
وإنَّ أقَرَّ فَقالَ: كُنْتَ أسْحَرُ وقَدْ تَرَكْتُ مُنْذُ زَمانٍ قُبِلَ مِنهُ ولَمْ يُقْتَلْ، وكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أنَّهُ كانَ مَرَّةً ساحِرًا وأنَّهُ تَرَكَ مُنْذُ زَمانٍ لَمْ يُقْتَلْ إلّا أنْ يَشْهَدُوا أنَّهُ السّاعَةَ ساحِرٌ وأقَرَّ بِذَلِكَ فَيُقْتَلُ، وكَذَلِكَ العَبْدُ المُسْلِمُ والذِّمِّيُّ والحُرُّ الذِّمِّيُّ مَن أقَرَّ مِنهم أنَّهُ ساحِرٌ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ فَيُقْتَلُ ولا يُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وكَذَلِكَ لَوْ شُهِدَ عَلى عَبْدٍ أوْ ذِمِّيٍّ أنَّهُ ساحِرٌ ووَصَفُوا ذَلِكَ بِصِفَةٍ يُعْلَمُ أنَّهُ سَحَرَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ ويُقْتَلُ، وإنْ أقَرَّ العَبْدُ أوِ الذِّمِّيُّ أنَّهُ كانَ ساحِرًا وتَرَكَ ذَلِكَ مُنْذُ زَمانٍ قُبِلَ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أنَّهُ كانَ مَرَّةً ساحِرًا ولَمْ يَشْهَدُوا أنَّهُ السّاعَةَ ساحِرٌ لَمْ يُقْتَلْ، وأمّا المَرْأةُ فَإذا شَهِدُوا عَلَيْها أنَّها ساحِرَةٌ أوْ أقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وحُبِسَتْ وضُرِبَتْ حَتّى يَسْتَيْقِنَ لَهم تَرْكُها لِلسِّحْرِ، وكَذَلِكَ الأمَةُ والذِّمِّيَّةُ إذا شَهِدُوا أنَّها ساحِرَةٌ أوْ أقَرَّتْ بِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلْ وحُبِسَتْ حَتّى يُعْلَمَ مِنها تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ " وهَذا كُلُّهُ قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ قالَ ابْنُ شُجاعٍ: فَحَكَمَ في السّاحِرِ والسّاحِرَةِ حُكْمَ المُرْتَدِّ والمُرْتَدَّةِ؛ إلّا أنْ يَجِيءَ فَيُقِرَّ بِالسِّحْرِ أوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أنَّهُ عَمِلَهُ، فَإنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ الثَّباتِ عَلى الرِّدَّةِ وحَكى مُحَمَّدُ بْنُ شُجاعٍ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الرّازِيِّ قالَ: سَألْتُ أبا يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ في السّاحِرِ " يُقْتَلُ ولا يُسْتَتابُ " لِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ المُرْتَدِّ ؟ فَقالَ: السّاحِرُ قَدْ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ في الأرْضِ بِالفَسادِ.
والسّاعِي بِالفَسادِ إذا قَتَلَ قُتِلَ. قالَ: فَقُلْتُ لِأبِي يُوسُفَ: ما السّاحِرُ ؟ قالَ: الَّذِي يُقْتَصُّ لَهُ مِنَ العَمَلِ مِثْلُ ما فَعَلَتِ اليَهُودُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبِما جاءَتْ بِهِ الأخْبارُ إذا أصابَ بِهِ قَتْلًا، فَإذا لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْ؛ لِأنَّ لَبِيدَ بْنَ الأعْصَمِ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَقْتُلْهُ؛ إذْ كانَ لَمْ يُصِبْ بِهِ قَتْلًا
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيما ذَكَرَ بَيانُ مَعْنى السِّحْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فاعِلُهُ القَتْلَ، ولا يَجُوزُ أنْ يُظَنَّ بِأبِي يُوسُفَ أنَّهُ اعْتَقَدَ في السِّحْرِ ما يَعْتَقِدُهُ الحَشْوُ مِن إيصالِهِمُ الضَّرَرَ إلى المَسْحُورِ مِن غَيْرِ مُماسَّةٍ ولا سَقْيِ دَواءٍ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ سِحْرُ اليَهُودِ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلى جِهَةِ إرادَتِهِمُ التَّوَصُّلَ إلى قَتْلِهِ بِإطْعامِهِ، وأطْلَعَهُ اللَّهُ عَلى ما أرادُوا، كَما سَمَّتْهُ زَيْنَبُ اليَهُودِيَّةُ في الشّاةِ المَسْمُومَةِ فَأخْبَرَتْهُ الشّاةُ بِذَلِكَ، فَقالَ: «إنَّ هَذِهِ الشّاةَ لَتُخْبِرُنِي أنَّها مَسْمُومَةٌ». قالَ أبُو مُصْعَبٍ عَنْ مالِكٍ في المُسْلِمِ إذا تَوَلّى عَمَلَ السِّحْرِ قُتِلَ ولا يُسْتَتابُ؛ لِأنَّ المُسْلِمَ إذا ارْتَدَّ باطِنًا لَمْ تُعْرَفْ تَوْبَتُهُ بِإظْهارِهِ الإسْلامَ قالَ إسْماعِيلُ بْنُ إسْحاقَ: فَأمّا ساحِرُ أهْلِ الكِتابِ فَإنَّهُ لا يُقْتَلُ عِنْدَ مالِكٍ، إلّا أنْ يَضُرَّ المُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ (p-٦٣)لِنَقْضِ العَهْدِ وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا قالَ السّاحِرُ: أنا أعْمَلُ عَمَلًا لِأقْتُلَ فَأُخْطِئُ وأُصِيبُ وقَدْ ماتَ هَذا الرَّجُلُ مِن عَمَلِي؛ فَفِيهِ الدِّيَةُ وإنْ قالَ: عَمَلِي يَقْتُلُ المَعْمُولَ بِهِ وقَدْ تَعَمَّدْتُ قَتْلَهُ؛ قُتِلَ بِهِ قَوَدًا، وإنْ قالَ: مَرِضَ مِنهُ ولَمْ يَمُتْ أقْسَمَ أوْلِياؤُهُ لَماتَ مِنهُ ثُمَّ تَكُونُ الدِّيَةُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَلَمْ يَجْعَلِ الشّافِعِيُّ السّاحِرَ كافِرًا بِسِحْرِهِ وإنَّما جَعَلَهُ جانِيًا كَسائِرِ الجُناةِ وما قَدَّمْنا مِن قَوْلِ السَّلَفِ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِاسْتِحْقاقِ سِمَةِ السِّحْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم رَأوْهُ كافِرًا، وقَوْلُ الشّافِعِيِّ في ذَلِكَ خارِجٌ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ؛ يَعْتَبِرُ أحَدٌ مِنهم قَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِعَمَلِهِ السِّحْرَ في إيجابِ قَتْلِهِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ بَيَّنّا فِيما سَلَفَ مَعانِيَ السِّحْرِ وضُرُوبَهُ؛ وأمّا الضَّرْبُ الأوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنا مِن سِحْرِ أهْلِ بابِلَ في القَدِيمِ ومَذاهِبِ الصّابِئِينَ فِيهِ، وهو الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ فِيما يُرى واللَّهُ أعْلَمُ، فَإنَّ القائِلَ بِهِ والمُصَدِّقَ بِهِ والعامِلَ بِهِ كافِرٌ؛ وهو الَّذِي قالَ أصْحابُنا فِيهِ عِنْدِي إنَّهُ لا يُسْتَتابُ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ هَذا الضَّرْبُ مِنَ السِّحْرِ، ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا نُطَيْرٌ قالَ: حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ القَطّانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأخْنَسِ قالَ: حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ ماهَكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ» .
وهَذا يَدُلُّ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ هو السِّحْرُ الَّذِي نَسَبَهُ عامِلُوهُ إلى النُّجُومِ، وهو الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن سِحْرِ أهْلِ بابِلَ والصّابِئِينَ؛ لِأنَّ سائِرَ ضُرُوبِ السِّحْرِ الَّذِي ذَكَرْنا لَيْسَ لَها تَعَلُّقٌ بِالنُّجُومِ عِنْدَ أصْحابِها. والثّانِي: أنَّ إطْلاقَ لَفْظِ السِّحْرِ المَذْمُومِ يَتَناوَلُ هَذا الضَّرْبَ مِنهُ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُتَعارَفَ عِنْدَ السَّلَفِ مِنَ السِّحْرِ هو هَذا الضَّرْبُ مِنهُ ومِمّا يَدَّعِي فِيهِ أصْحابُها المُعْجِزاتِ، وإنْ لَمْ يُعَلِّقُوا ذَلِكَ بِفِعْلِ النُّجُومِ دُونَ غَيْرِها مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا؛ وأنَّهُ هو المَقْصُودُ بِقَتْلِ فاعِلِهِ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِ بَيْنَ عامِلِ السِّحْرِ بِالأدْوِيَةِ والنَّمِيمَةِ والسِّعايَةِ والشَّعْوَذَةِ وبَيْنَ غَيْرِهِ ومَعْلُومٌ عِنْدَ الجَمِيعِ أنَّ هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ السَّحَرِ لا تُوجِبُ قَتْلَ فاعِلَها إذا لَمْ يَدَّعِ فِيهِ مُعْجِزَةً لا يُمْكِنُ العِبادَ فِعْلُها؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ إيجابَهم قَتْلَ السّاحِرِ إنَّما كانَ لِمَنِ ادَّعى بِسِحْرِهِ مُعْجِزاتٍ لا يَجُوزُ وُجُودُ مِثْلِها إلّا مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ دَلالَةً عَلى صِدْقِهِمْ وذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: ما بَدَأْنا بِذِكْرِهِ مِن سِحْرِ أهْلِ بابِلَ؛ والآخَرُ: ما يَدَّعِيهِ المُعَزِّمُونَ وأصْحابُ النَّيْرَنْجِيّاتِ مِن خِدْمَةِ الشَّياطِينِ لَهم والفَرِيقانِ جَمِيعًا كافِرانِ؛ أمّا الفَرِيقُ الأوَّلُ فَلِأنَّ في (p-٦٤)سِحْرِهِ تَعْظِيمَ الكَواكِبِ واعْتِقادَها آلِهَةً، وأمّا الفَرِيقُ الثّانِي فَلِأنَّها وإنْ كانَتْ مُعْتَرِفَةً بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ فَإنَّها حَيْثُ أجازَتْ أنْ تُخْبِرَها الجِنُّ بِالغُيُوبِ وتَقْدِرُ عَلى تَغْيِيرِ فُنُونِ الحَيَوانِ والطَّيَرانِ في الهَواءِ والمَشْيِ عَلى الماءِ وما جَرى مَجْرى ذَلِكَ فَقَدْ جَوَّزَتْ وُجُودَ مِثْلِ أعْلامِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعَ الكَذّابِينَ المُتَخَرِّصَيْنِ.
ومَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَعْلَمُ صِدْقَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِتَجْوِيزِهِ كَوْنَ مِثْلِ هَذِهِ الأعْلامِ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَلا يَأْمَنُ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَن ظَهَرَتْ عَلى يَدِهِ مُتَخَرِّصًا كَذّابًا فَإنَّما كُفْرُ هَذِهِ الطّائِفَةِ مِن هَذا الوَجْهِ، وهو جَهْلُهُ بِصِدْقِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والأظْهَرُ مِن أمْرِ السّاحِرِ الَّذِي رَأتِ الصَّحابَةُ قَتْلَهُ مِن غَيْرِ بَحْثٍ مِنهم عَنْ حالِهِ ولا بَيانٍ لِمَعانِي سِحْرِهِ أنَّهُ السّاحِرُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ وهو السّاحِرُ الَّذِي بَدَأْنا بِذِكْرِهِ عِنْدَ ذِكْرِنا ضُرُوبَ السِّحْرِ، وهو سِحْرُ أهْلِ بابِلَ في القَدِيمِ، وعَسى أنْ يَكُونَ هو الأغْلَبَ الأعَمَّ في ذَلِكَ الوَقْتِ؛ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في ذَلِكَ الوَقْتِ مَن يَتَعاطى سائِرَ ضُرُوبِ السِّحْرِ الَّذِي ذَكَرْنا وكانُوا يَجْرُونَ في دَعْواهُمُ الإخْبارَ بِالغُيُوبِ وتَغْيِيرِ صُوَرِ الحَيَوانِ عَلى مِنهاجِ سَحَرَةِ بابِلَ، وكَذَلِكَ كُهّانُ العَرَبِ، يَشْمَلُ الجَمِيعَ اسْمُ الكُفْرِ لِظُهُورِ هَذِهِ الدَّعاوى مِنهم وتَجْوِيزِهِمْ مُضاهاةِ الأنْبِياءِ في مُعْجِزاتِهِمْ وعَلى أيِّ وجْهٍ كانَ مَعْنى السِّحْرِ عِنْدَ السَّلَفِ فَإنَّهُ لَمْ يُحْكَ عَنْ أحَدٍ إيجابُ قَتْلِ السّاحِرِ مِن طَرِيقِ الجِنايَةِ عَلى النُّفُوسِ، بَلْ إيجابُ قَتْلِهِ بِاعْتِقادِهِ عَمَلَ السِّحْرِ مِن غَيْرِ اعْتِبارٍ مِنهم لِجِنايَتِهِ عَلى غَيْرِهِ، فَأمّا ما يَفْعَلُهُ المُشَعْوِذُونَ وأصْحابُ الحَرَكاتِ والخِفَّةِ بِالأيْدِي، وما يَفْعَلُهُ مَن يَتَعاطى ذَلِكَ بِسَقْيِ الأدْوِيَةِ المُبَلِّدَةِ لِلْعَقْلِ أوِ السُّمُومِ القاتِلَةِ.
ومَن يَتَعاطى ذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّعْيِ بِالنَّمائِمِ والوِشايَةِ والتَّضْرِيبِ والإفْسادِ؛ فَإنَّهم إذا اعْتَرَفُوا بِأنَّ ذَلِكَ حِيَلٌ ومَخارِيقُ، حُكْمُ مَن يَتَعاطى مِثْلَها مِنَ النّاسِ لَمْ يَكُنْ كافِرًا ويَنْبَغِي أنْ يُؤَدَّبَ ويُزْجَرَ عَنْ ذَلِكَ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ السّاحِرَ المَذْكُورَ في الآيَةِ مُسْتَحِقٌّ لِاسْمِ الكُفْرِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾ أيْ عَلى عَهْدِ سُلَيْمانَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ المُفَسِّرِينَ وقَوْلُهُ ﴿تَتْلُو﴾ مَعْناهُ تُخْبِرُ وتَقْرَأُ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ما أخْبَرَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وادَّعَتْهُ مِنَ السِّحْرِ عَلى سُلَيْمانَ كانَ كُفْرًا، فَنَفاهُ اللَّهُ عَنْ سُلَيْمانَ وحَكَمَ بِكُفْرِ الشَّياطِينِ الَّذِينَ تَعاطَوْهُ وعَمِلُوهُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ (p-٦٥)ومارُوتَ وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ فَأخْبَرَ عَنِ المَلَكَيْنِ أنَّهُما يَقُولانِ لِمَن يُعَلِّمانِهِ ذَلِكَ: لا تَكْفُرْ بِعَمَلِ هَذا السِّحْرِ واعْتِقادِهِ فَثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ إذا عُمِلَ بِهِ واعْتُقِدَ ثُمَّ قالَ: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ يَعْنِي، واللَّهُ أعْلَمْ: مِنَ اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ اللَّهِ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ، يَعْنِي مِن نَصِيبٍ ثُمَّ قالَ: ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿ولَوْ أنَّهم آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فَجَعَلَ ضِدَّ هَذا الإيمانِ فِعْلَ السِّحْرِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَ الإيمانَ في مُقابَلَةِ فِعْلِ السِّحْرِ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ السّاحِرَ كافِرٌ.
وإذا ثَبَتَ كُفْرُهُ فَإنْ كانَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ أوْ قَدْ ظَهَرَ مِنهُ الإسْلامُ في وقْتِ كُفْرِهِ بِفِعْلِ السِّحْرِ فاسْتَحَقَّ القَتْلَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَن بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ» وإنَّما قالَ أبُو حَنِيفَةَ ولا نَعْلَمُ أحَدًا مِن أصْحابِنا خالَفَهُ فِيما ذَكَرَهُ الحَسَنُ عَنْهُ: " إنَّهُ يُقْتَلُ ولا يُسْتَتابُ " فَأمّا ما رُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ في فَرْقِ أبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ السّاحِرِ وبَيْنَ المُرْتَدِّينَ، فَإنَّ السّاحِرَ قَدْ جَمَعَ إلى كُفْرِهِ السَّعْيَ بِالفَسادِ في الأرْضِ فَإنْ قالَ قائِلُ: فَأنْتَ لا تَقْتُلُ الخُنّاقَ والمُحارِبِينَ إلّا إذا قَتَلُوا، فَهَلّا قُلْتَ مِثْلَهُ في السّاحِرِ قِيلَ لَهُ: يَفْتَرِقانِ مِن جِهَةِ أنَّ الخَنّاقَ والمُحارِبَ لَمْ يَكْفُرا قَبْلَ القَتْلِ ولا بَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَحِقّا القَتْلَ؛ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنهُما سَبَبٌ يَسْتَحِقّانِ بِهِ القَتْلَ، وأمّا السّاحِرُ فَقَدْ كَفَرَ بِسِحْرِهِ قَتَلَ بِهِ أوْ لَمْ يَقْتُلْ، فاسْتَحَقَّ القَتْلَ بِكُفْرِهِ ثُمَّ لَمّا كانَ مَعَ كُفْرِهِ ساعِيًا في الأرْضِ بِالفَسادِ كانَ وُجُوبُ قَتْلِهِ حَدًّا فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كالمُحارِبِ إذا اسْتَحَقَّ القَتْلَ لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ؛ فَهو مُشْبِهٌ لِلْمُحارِبِ الَّذِي قَتَلَ في أنَّ قَتْلَهُ حَدًّا لا تُزِيلُهُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، ويُفارِقَ المُرْتَدَّ مِن جِهَةِ أنَّ المُرْتَدَّ يَسْتَحِقُّ القَتْلَ بِإقامَتِهِ عَلى الكُفْرِ فَحَسْبُ فَمَتى انْتَقَلَ عَنْهُ زالَ عَنْهُ الكُفْرُ والقَتْلُ.
ولِما وصَفْنا مِن ذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ السّاحِرِ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ ومِنَ المُسْلِمِينَ، كَما لا يَخْتَلِفُ حُكْمُ المُحارِبِ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ والإسْلامِ فِيما يَسْتَحِقُّونَهُ بِالمُحارَبَةِ؛ ولِذَلِكَ لَمْ تُقْتَلِ المَرْأةُ السّاحِرَةُ؛ لِأنَّ المَرْأةَ مِنَ المُحارِبِينَ عِنْدَهم لا تُقْتَلُ حَدًّا وإنَّما تُقْتَلُ قَوَدًا ووَجْهٌ آخَرُ لِقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ في تَرْكِ اسْتِتابَةِ السّاحِرِ، وهو ما ذَكَرَهُ الطَّحاوِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي يُوسُفَ في نَوادِرَ ذَكَرَها عَنْهُ أدْخَلَها في أمالِيهِ عَلَيْهِمْ قالَ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ: " اُقْتُلُوا الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإنَّ تَوْبَتَهُ لا تُعْرَفُ " .
ولَمْ يَحْكِ أبُو يُوسُفَ خِلافَهُ ويَصِحُّ بِناءُ مَسْألَةِ السّاحِرِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ السّاحِرَ يَكْفُرُ سِرًّا فَهو بِمَنزِلَةِ الزِّنْدِيقِ فالواجِبُ أنْ لا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَعَلى هَذا يَنْبَغِي أنْ لا يُقْتَلَ (p-٦٦)السّاحِرُ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأنَّ كُفْرَهُ ظاهِرٌ وهو غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ لِأجْلِ الكُفْرِ قِيلَ لَهُ: الكُفْرُ الَّذِي أقْرَرْناهُ عَلَيْهِ هو ما أظْهَرَهُ لَنا، وأمّا الكُفْرُ الَّذِي صارَ إلَيْهِ بِسِحْرِهِ فَإنَّهُ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَيْهِ ولَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ عَلى إقْرارِهِ عَلَيْهِ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ سَألَنا إقْرارَهُ عَلى السِّحْرِ بِالجِزْيَةِ لَمْ نُجِبْهُ إلَيْهِ ولَمْ نُجِزْ إقْرارَهُ عَلَيْهِ ؟ ولا فَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ السّاحِرِ مِن أهْلِ المِلَّةِ وأيْضًا، فَلَوْ أنَّ الذِّمِّيَّ السّاحِرَ لَمْ يَسْتَحِقَّ القَتْلَ بِكُفْرِهِ لاسْتَحَقَّهُ بِسَعْيِهِ في الأرْضِ بِالفَسادِ كالمُحارِبِينَ عَلى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنا، وقَوْلُهم في تَرْكِ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، يُوجِبُ أنْ لا يُسْتَتابَ الإسْماعِيلِيَّةُ وسائِرُ المُلْحِدِينَ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ مِنهُمُ اعْتِقادُ الكُفْرِ كَسائِرِ الزَّنادِقَةِ وأنْ يُقْتَلُوا مَعَ إظْهارِهِمُ التَّوْبَةَ ويَدُلُّ عَلى وُجُوبِ قَتْلِ السّاحِرِ ما حَدَّثَنا بِهِ ابْنُ قانِعٍ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ الأصْبَهانِيِّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الحَسَنِ بْنِ جُنْدُبٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «حَدُّ السّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» . وقِصَّةُ جُنْدُبٍ في قَتْلِهِ السّاحِرَ بِالكُوفَةِ عِنْدَ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَشْهُورَةٌ وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «حَدُّ السّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» قَدْ دَلَّ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: وُجُوبُ قَتْلِهِ؛ والثّانِي: أنَّهُ حَدٌّ لا يُزِيلُهُ التَّوْبَةُ كَسائِرِ الحُدُودِ إذا وجَبَتْ، ولَمّا ذَكَرْنا مِن قَتْلِهِ عَلى وجْهِ قَتْلِ المُحارِبِ قالُوا فِيما حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: إنَّهُ إذا قالَ " كُنْتُ ساحِرًا وقَدْ تُبْتُ " أنَّهُ لا يُقْتَلُ، كَمَن أقَرَّ أنَّهُ كانَ مُحارِبًا وجاءَ تائِبًا أنَّهُ لا يُقْتَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى في شَأْنِ المُحارِبِينَ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٤] فاسْتَثْنى التّائِبَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ مِن جُمْلَةِ مَن أوْجَبَ عَلَيْهِ الحَدَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ ويُسْتَدَلُّ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ [المائدة: ٣٣] إلى آخِرِ الآيَةِ، عَلى وُجُوبِ قَتْلِ السّاحِرِ حَدًّا؛ لِأنَّهُ مِن أهْلِ السَّعْيِ في الأرْضِ بِالفَسادِ لِعَمَلِهِ السِّحْرَ واسْتِدْعائِهِ النّاسَ إلَيْهِ وإفْسادِهِ إيّاهم مَعَ ما صارَ إلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وأمّا مالِكُ بْنُ أنَسٍ فَإنَّهُ أجْرى السّاحِرَ مَجْرى الزِّنْدِيقِ، فَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ كَما لا يَقْبَلُ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ، ولَمْ يَقْتُلْ ساحِرَ أهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِكُفْرِهِ وقَدْ أقْرَرْناهُ عَلَيْهِ، فَلا يُقْتَلُ إلّا أنْ يَضُرَّ بِالمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ.
فَيُقْتَلُ كَما يُقْتَلُ الحَرْبِيُّ وقَدْ بَيَّنّا مُوافَقَةَ السّاحِرِ الذِّمِّيِّ لِلزِّنْدِيقِ مِن قِبَلِ أنَّهُ اسْتَحْدَثَ كُفْرًا سِرًّا، لا يَجُوزُ إقْرارُهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةِ ولا غَيْرِها، فَلا فَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ السّاحِرِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مِلَّةَ الإسْلامِ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ في مَعْنى المُحارِبِ فَلا يَخْتَلِفُ حُكْمُ أهْلِ الذِّمَّةِ ومُنْتَحِلِي الذِّمَّةِ، وأمّا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ فَقَدْ (p-٦٧)بَيَّنّا خُرُوجَهُ عَنْ أقاوِيلِ السَّلَفِ؛ لِأنَّ أحَدًا مِنهم لَمْ يَعْتَبِرْ قَتْلَهُ بِسِحْرِهِ وأوْجَبُوا قَتْلَهُ عَلى الإطْلاقِ بِحُصُولِ الِاسْمِ لَهُ، وهو مَعَ ذَلِكَ لا يَخْلُو مِن أحَدِ وجْهَيْنِ في ذِكْرِهِ قَتْلَ السّاحِرِ بِغَيْرِهِ: إمّا أنْ يُجِيزَ عَلى السّاحِرِ قَتْلَ غَيْرِهِ مِن غَيْرِ مُباشَرَةٍ ولا اتِّصالِ سَبَبٍ إلَيْهِ عَلى حَسَبِ ما يَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ، وذَلِكَ فَظِيعٌ شَنِيعٌ ولا يُجِيزُهُ أحَدٌ مِن أهْلِ العِلْمِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ مِن فِعْلِ السَّحَرَةِ لِما وصَفْنا مِن مُضاهاتِهِ أعْلامَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أوْ أنْ يَكُونَ إنَّما أجازَ ذَلِكَ مِن جِهَةِ سَقْيِ الأدْوِيَةِ ونَحْوِها، فَإنْ كانَ هَذا أرادَ فَإنَّ مِنَ احْتالَ في إيصالِ دَواءٍ إلى إنْسانٍ حَتّى شَرِبَهُ فَإنَّهُ لا يَلْزَمُهُ دِيَةٌ؛ إذْ كانَ هو الشّارِبَ لَهُ والجانِيَ عَلى نَفْسِهِ، كَمَن دَفَعَ إلى إنْسانٍ سَيْفًا فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ، وإنْ كانَ إنَّما أوْجَرَهُ إيّاهُ مِن غَيْرِ اخْتِيارٍ لِشُرْبِهِ، فَإنَّ هَذا لا يَكادُ يَقَعُ إلّا في حالِ الإكْراهِ والنَّوْمِ ونَحْوِهِ فَإنْ كانَ أرادَ ذَلِكَ فَإنَّ هَذا يَسْتَوِي فِيهِ السّاحِرُ وغَيْرُهُ ثُمَّ قَوْلُهُ: " إذا قالَ السّاحِرُ قَدْ أُخْطِئُ وأُصِيبُ وقَدْ ماتَ هَذا الرَّجُلُ مِن عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ " فَإنَّهُ لا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا بِحَدِيدَةِ قَدْ يَمُوتُ المَجْرُوحُ مِن مِثْلِهِ وقَدْ لا يَمُوتُ، لَكانَ عَلَيْهِ فِيهِ القِصاصُ؛ فَكانَ الواجِبُ عَلى قَوْلِهِ إيجابَ القِصاصِ كَما يَجِبُ في الحَدِيدَةِ وقَوْلُهُ: " قَدْ يَمُوتُ وقَدْ لا يَمُوتُ " لَيْسَ بِعِلَّةٍ في زَوالِ القِصاصِ لِوُجُودِها في الجارِحِ بِحَدِيدَةٍ بَعْدَ أنْ يُقِرَّ السّاحِرُ أنَّهُ قَدْ ماتَ مِن عَمَلِهِ.
فَإنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَنزِلَةِ شِبْهِ العَمْدِ والضَّرْبِ بِالعَصا واللَّطْمَةِ الَّتِي قَدْ تَقْتُلُ وقَدْ لا تَقْتُلُ قِيلَ لَهُ: ولِمَ صارَ بِالقَتْلِ بِالعَصا واللَّطْمَةِ أشْبَهَ مِنهُ بِالحَدِيدَةِ ؟ .
فَإنْ فَرَّقَ بَيْنَهُما مِن جِهَةِ أنَّ هَذا سِلاحٌ وذاكَ لَيْسَ بِسِلاحِ، لَزِمَهُ في كُلِّ ما لَيْسَ بِسِلاحِ أنْ لا يُقْتَصَّ مِنهُ، ويَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ اعْتِبارُ السِّلاحِ دُونَ غَيْرِهِ في إيجابِ القَوَدِ. وقَوْلُ الشّافِعِيِّ: " وإنْ قالَ مَرِضَ مِنهُ ولَمْ يَمُتْ أقْسَمَ أوْلِياؤُهُ لَماتَ مِنهُ " مُخالِفٌ في النَّظَرِ لِأحْكامِ الجِناياتِ؛ لِأنَّ مَن جَرَحَ رَجُلًا فَلَمْ يَزَلْ صاحِبَ فِراشٍ حَتّى ماتَ، لَزِمَهُ حُكْمُ جِنايَتِهِ وكانَ مَحْكُومًا بِحُدُوثِ المَوْتِ عِنْدَ الجِراحَةِ ولا يُحْتاجُ إلى أيْمانِ الأوْلِياءِ في مَوْتِهِ مِنها، فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ في السّاحِرِ إذا أقَرَّ أنَّ المَسْحُورَ مَرِضَ مِن سِحْرِهِ.
فَإنْ قِيلَ: كَذَلِكَ نَقُولُ في المَرِيضِ مِنَ الجِراحَةِ إذا لَمْ يَزَلْ صاحِبَ فِراشٍ حَتّى ماتَ أنَّهم إذا اخْتَلَفُوا لَمْ يُحْكَمْ بِالقَتْلِ حَتّى يُقْسِمَ أوْلِياءُ المَجْرُوحِ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أنْ تَقُولَ مِثْلَهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ووالى بَيْنَ الضَّرْبِ حَتّى قَتَلَهُ مِن ساعَتِهِ، فَقالَ الجارِحُ: ماتَ مِن عِلَّةٍ كانَتْ بِهِ قَبْلَ الضَّرْبَةِ الثّانِيَةِ، أوْ قالَ: اخْتَرَمَهُ اللَّهُ تَعالى ولَمْ يَمُتْ مِن ضَرْبَتِي؛ أنْ تُقْسِمَ الأوْلِياءُ وهَذا لا يَقُولُهُ أحَدٌ؛ وكَذَلِكَ ما وصَفْنا.
قالَ (p-٦٨)أبُو بَكْرٍ: قَدْ تَكَلَّمْنا في مَعْنى السِّحْرِ واخْتِلافِ الفُقَهاءِ بِما فِيهِ الكِفايَةُ في حُكْمِ السّاحِرِ، ونَتَكَلَّمُ الآنَ في مَعانِي الآيَةِ ومُقْتَضاها، فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ بِهِ اليَهُودُ الَّذِينَ كانُوا في زَمَنِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ وفي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وابْنِ إسْحاقَ وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ والسُّدِّيُّ: " المُرادُ بِهِ اليَهُودُ الَّذِينَ كانُوا في زَمَنِ سُلَيْمانَ " .
وقالَ بَعْضُهم: " أرادَ الجَمِيعَ، مَن كانَ مِنهم في زَمَنِ سُلَيْمانَ ومَن كانَ مِنهم في عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّ مُتَّبِعِي السِّحْرِ مِن اليَهُودِ لَمْ يَزالُوا مُنْذُ عَهْدِ سُلَيْمانَ إلى أنْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَوَصَفَ اللَّهُ هَؤُلاءِ اليَهُودَ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا القُرْآنَ ونَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وهو يُرِيدُ شَياطِينَ الجِنِّ والإنْسِ " .
ومَعْنى تَتْلُو: تُخْبِرُ وتَقْرَأُ، وقِيلَ: تَتْبَعُ؛ لِأنَّ التّالِيَ تابِعٌ وقَوْلُهُ: ﴿عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ قِيلَ فِيهِ: عَلى عَهْدِهِ، وقِيلَ فِيهِ: عَلى مُلْكِهِ، وقِيلَ فِيهِ: تَكْذِبُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ الخَبَرُ كَذِبًا قِيلَ تَلا عَلَيْهِ.
وإذا كانَ صِدْقًا قِيلَ: تَلا عَنْهُ، وإذا أُبْهِمَ جازَ فِيهِ الأمْرانِ جَمِيعًا؛ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أمْ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٨٠] وكانَتْ اليَهُودُ تُضِيفُ السِّحْرَ إلى سُلَيْمانَ وتَزْعُمُ أنَّ مُلْكَهُ كانَ بِهِ، فَبَرَّأهُ اللَّهُ تَعالى مِن ذَلِكَ؛ ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: قالَ بَعْضُ أحْبارِ اليَهُودِ: ألا تَعْجَبُونَ مِن مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أنَّ سُلَيْمانَ كانَ نَبِيًّا ؟ واللَّهِ ما كانَ إلّا ساحِرًا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾
وقِيلَ: إنَّ اليَهُودَ إنَّما أضافَتِ السِّحْرَ إلى سُلَيْمانَ تَوَصُّلًا مِنهم إلى قَبُولِ النّاسِ ذَلِكَ مِنهم ولِتُجَوِّزَهُ عَلَيْهِمْ، وكَذَبُوا عَلَيْهِ في ذَلِكَ وقِيلَ: إنَّ سُلَيْمانَ جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ ودَفَنَها تَحْتَ كُرْسِيِّهِ أوْ في خِزانَتِهِ لِئَلّا يَعْمَلَ بِهِ النّاسُ، فَلَمّا ماتَ ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَقالَتِ الشَّياطِينُ: بِهَذا كانَ يَتِمُّ مُلْكُهُ؛ وشاعَ ذَلِكَ في اليَهُودِ وقَبِلَتْهُ وأضافَتْهُ إلَيْهِ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ شَياطِينَ الإنْسِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الشَّياطِينُ دَفَنُوا السِّحْرَ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ في حَياتِهِ مِن غَيْرِ عِلْمِهِ، فَلَمّا ماتَ وظَهَرَ نَسَبُوهُ إلى سُلَيْمانَ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الفاعِلُونَ لِذَلِكَ شَياطِينَ الإنْسِ اسْتَخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وأوْهَمُوا النّاسَ أنَّ سُلَيْمانَ كانَ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُوهِمُوهم ويَخْدَعُوهم بِهِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ﴾ قَدْ قُرِئَ بِنَصْبِ اللّامِ وخَفْضِها؛ فَمَن قَرَأها بِنَصْبِها جَعَلَهُما مِنَ المَلائِكَةِ، ومَن قَرَأها بِخَفْضِها جَعَلَهُما مِن غَيْرِ المَلائِكَةِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُما كانا عِلْجَيْنِ مِن أهْلِ بابِلَ والقِراءَتانِ (p-٦٩)صَحِيحَتانِ غَيْرُ مُتَنافِيَتَيْنِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ اللَّهُ أنْزَلَ مَلَكَيْنِ في زَمَنِ هَذَيْنِ المَلَكَيْنِ لِاسْتِيلاءِ السِّحْرِ عَلَيْهِما واغْتِرارِهِما وسائِرِ النّاسِ بِقَوْلِهِما وقَبُولِهِمْ مِنهُما، فَإذا كانَ المَلَكانِ مَأْمُورَيْنِ بِإبْلاغِهِما وتَعْرِيفِهِما وسائِرِ النّاسِ مَعْنى السِّحْرِ ومَخارِيقِ السَّحَرَةِ وكُفْرِها جازَ أنْ نَقُولَ في إحْدى القِراءَتَيْنِ: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ اللَّذَيْنِ هُما مِنَ المَلائِكَةِ، بِأنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِما ذَلِكَ.
ونَقُولُ في القِراءَةِ الأُخْرى: وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ مِنَ النّاسِ؛ لِأنَّ المَلَكَيْنِ كانا مَأْمُورَيْنِ بِإبْلاغِهِما وتَعْرِيفِهِما، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى في خِطابِ رَسُولِهِ: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]
وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾ [البقرة: ١٣٦] فَأضافَ الإنْزالَ تارَةً إلى الرَّسُولِ ﷺ وتارَةً إلى المُرْسَلِ إلَيْهِمْ وإنَّما خَصَّ المَلَكَيْنِ بِالذِّكْرِ وإنْ كانا مَأْمُورَيْنِ بِتَعْرِيفِ الكافَّةِ؛ لِأنَّ العامَّةَ كانَتْ تَبَعًا لِلْمَلَكَيْنِ، فَكانَ أبْلَغُ الأشْياءِ في تَقْرِيرِ مَعانِي السِّحْرِ والدَّلالَةِ عَلى بُطْلانِهِ تَخْصِيصَ المَلَكَيْنِ بِهِ لِيَتْبَعَهُما النّاسُ.
كَما قالَ لِمُوسى وهارُونَ: ﴿اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ [طه: ٤٣] ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ [طه: ٤٤] وقَدْ كانا عَلَيْهِما السَّلامُ رَسُولَيْنِ إلى رَعاياهُ كَما أُرْسِلا إلَيْهِ، ولَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالمُخاطَبَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أنْفَعُ في اسْتِدْعائِهِ واسْتِدْعاءِ رَعِيَّتِهِ إلى الإسْلامِ وكَذَلِكَ كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ إلى كِسْرى وقَيْصَرَ وخَصَّهُما بِالذِّكْرِ دُونَ رَعاياهُما وإنْ كانَ رَسُولًا إلى كافَّةِ النّاسِ، لِما وصَفْناهُ مِن أنَّ الرَّعِيَّةَ تَبَعٌ لِلرّاعِي.
وكَذَلِكَ قالَ ﷺ في كِتابِهِ لِكِسْرى: «أمّا بَعْدُ فَأسْلِمْ تَسْلَمْ وإلّا فَعَلَيْكَ إثْمُ المَجُوسِ وقالَ لِقَيْصَرَ أسْلِمْ تَسْلَمْ وإلّا فَعَلَيْكَ إثْمُ الأرِيسِيِّينَ» يَعْنِي أنَّكَ إذا آمَنتَ تَبِعَتْكَ الرَّعِيَّةُ، وإنْ أبَيْتَ لَمْ تَسْتَجِبِ الرَّعِيَّةُ إلى الإسْلامِ خَوْفًا مِنكَ فَهم تَبَعٌ لَكَ في الإسْلامِ والكُفْرِ فَلِذَلِكَ واللَّهُ أعْلَمُ خَصَّ المَلَكَيْنِ مِن أهْلِ بابِلَ بِإرْسالِ المَلَكَيْنِ إلَيْهِما كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلا ومِنَ النّاسِ﴾ [الحج: ٧٥]
فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ المَلائِكَةُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ ومُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا جائِزٌ شائِعٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يُرْسِلُ المَلائِكَةَ بَعْضَهم إلى بَعْضٍ كَما يُرْسِلُهم إلى الأنْبِياءِ، كَثَّفَ أجْسامَهم وجَعَلَهم كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ لِئَلّا يَنْفِرُوا مِنهم، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلا﴾ [الأنعام: ٩] يَعْنِي هَيْئَةَ الرَّجُلِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ مَعْناهُ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ أرْسَلَ المَلَكَيْنِ لِيُبَيِّنا لِلنّاسِ مَعانِيَ السِّحْرِ ويَعْلَمُوهم أنَّهُ كُفْرٌ وكَذِبٌ وتَمْوِيهٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ حَتّى يَجْتَنِبُوهُ، كَما بَيَّنَ اللَّهُ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ سائِرَ المَحْظُوراتِ والمُحَرَّماتِ لِيَجْتَنِبُوهُ ولا يَأْتُوهُ؛ فَلَمّا كانَ السِّحْرُ كُفْرًا وتَمْوِيهًا وخِداعًا وكانَ أهْلُ ذَلِكَ (p-٧٠)الزَّمانِ قَدِ اغْتَرُّوا بِهِ وصَدَّقُوا السَّحَرَةَ فِيما ادَّعَوْهُ لِأنْفُسِهِمْ بِهِ، بَيَّنَ ذَلِكَ لِلنّاسِ عَلى لِسانِ هَذَيْنِ المَلَكَيْنِ لِيَكْشِفا عَنْهم غُمَّةَ الجَهْلِ ويَزْجُراهم عَنِ الِاغْتِرارِ بِهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠] يَعْنِي، واللَّهُ أعْلَمُ: بَيَّنّا سَبِيلَ الخَيْرِ والشَّرِّ لِيَجْتَبِيَ الخَيْرَ ويَجْتَنِبَ الشَّرَّ وكَما قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: فُلانٌ لا يَعْرِفُ الشَّرَّ. قالَ: " أجْدَرُ أنْ يَقَعَ فِيهِ " .
ولا فَرْقَ بَيْنَ بَيانِ مَعانِي السِّحْرِ والزَّجْرِ عَنْهُ، وبَيْنَ بَيانِ سائِرِ ضُرُوبِ الكُفْرِ وتَحْرِيمِ الأُمَّهاتِ والأخَواتِ وتَحْرِيمِ الزِّنا والرِّبا وشُرْبِ الخَمْرِ ونَحْوِهِ؛ لِأنَّ الغَرَضَ لِما بَيَّنّا في اجْتِنابِ المَحْظُوراتِ والمُقَبَّحاتِ كَهو في بَيانِ الخَيْرِ؛ إذْ لا يَصِلُ إلى فِعْلِهِ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِهِ؛ كَذَلِكَ اجْتِباءُ الطّاعاتِ والواجِباتِ، فَمِن حَيْثُ وجَبَتْ وجَبَ بَيانُ الشَّرِّ لِيَجْتَنِبَهُ؛ إذْ لا يَصِلُ إلى تَرْكِهِ واجْتِنابِهِ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِهِ ومِنَ النّاسِ مَن يَزْعُمُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ مَعْناهُ أنَّ الشَّياطِينَ كَذَبُوا عَلى ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ كَما كَذَبُوا عَلى سُلَيْمانَ، وأنَّ السِّحْرَ الَّذِي يَتْلُوهُ هَؤُلاءِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِما.
وزَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما﴾ مَعْناهُ: مِنَ السِّحْرِ والكُفْرِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ يَتَضَمَّنُ الكُفْرَ فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إلَيْهِما، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشى﴾ [الأعلى: ١٠] ﴿ويَتَجَنَّبُها الأشْقى﴾ [الأعلى: ١١] أيْ يَتَجَنَّبُ الأشْقى الذِّكْرى قالَ: وقَوْلُهُ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ مَعْناهُ أنَّ المَلَكَيْنِ لا يُعَلِّمانِ ذَلِكَ أحَدًا ومَعَ ذَلِكَ لا يَقْتَصِرانِ عَلى أنْ لا يُعَلِّماهُ حَتّى يُبالِغا في نَهْيِهِ فَيَقُولا: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾
والَّذِي حَمَلَهُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ اسْتِنْكارُهُ أنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَلى المَلَكَيْنِ السِّحْرَ مَعَ ذَمِّهِ السِّحْرَ والسّاحِرَ؛ وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ لا يُوجَبُ؛ لِأنَّ المَذْمُومَ مَن يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ لا مَن يُبَيِّنُهُ لِلنّاسِ ويَزْجُرُهم عَنْهُ، كَما أنَّ عَلى كُلِّ مَن عَلِمَ مِنَ النّاسِ مَعْنى السِّحْرِ أنْ يُبَيِّنَهُ لِمَن لا يَعْلَمُ ويَنْهاهُ عَنْهُ لِيَجْتَنِبَهُ؛ وهَذا مِنَ الفُرُوضِ الَّتِي ألْزَمَنا إيّاها اللَّهُ تَعالى إذا رَأيْنا مِنَ اخْتُدِعَ بِهِ وتَمَوَّهَ عَلَيْهِ أمْرُهُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ فَإنَّ الفِتْنَةَ ما يَظْهَرُ بِهِ حالُ الشَّيْءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ، تَقُولُ العَرَبُ: " فَتَنْتُ الذَّهَبَ " إذا عَرَضْتَهُ عَلى النّارِ لِتَعْرِفَ سَلامَتَهُ أوْ غِشَّهُ والِاخْتِبارُ كَذَلِكَ أيْضًا؛ لِأنَّ الحالَ تَظْهَرُ فَتَصِيرُ كالمُخْبِرَةِ عَنْ نَفْسِها. والفِتْنَةُ: العَذابُ، في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: ١٤] فَلَمّا كانَ المَلَكانِ يُظْهِرانِ حَقِيقَةَ السِّحْرِ ومَعْناهُ قالا ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ وقالَ قَتادَةُ: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ بَلاءٌ وهَذا سائِغٌ أيْضًا؛ لِأنَّ أنْبِياءَ اللَّهِ تَعالى ورُسُلَهُ فِتْنَةٌ لِمَن أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ لِيَبْلُوهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ: إنّا فِتْنَةٌ وبَلاءٌ؛ لِأنَّ مَن يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنهُما يُمْكِنُهُ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ في الشَّرِّ ولا يُؤْمَنُ (p-٧١)وُقُوعُهُ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِحْنَةً كَسائِرِ العِباداتِ، وقَوْلُهُما: ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَمَلَ السِّحْرِ كُفْرٌ؛ لِأنَّهُما يُعَلِّمانِهِ إيّاهُ لِئَلّا يَعْمَلَ بِهِ؛ لِأنَّهُما عَلَّماهُ ما السِّحْرُ وكَيْفَ الِاحْتِيالُ لِيَتَجَنَّبَهُ، ولِئَلّا يُتِمُّوهُ عَلى النّاسِ أنَّهُ مِن جِنْسِ آياتِ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلالُ بِها.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَعْمَلَ بِهِ السّامِعُ فَيَكْفُرُ فَيَقَعُ بِهِ الفُرْقَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجَتِهِ إذا كانَتْ مُسْلِمَةً بِالرِّدَّةِ، والوَجْهُ الآخَرُ: أنْ يَسْعى بَيْنَهُما بِالنَّمِيمَةِ والوِشايَةِ والبَلاغاتِ الكاذِبَةِ والإغْراءِ والإفْسادِ وتَمْوِيهِ الباطِلِ حَتّى يَظُنَّ أنَّهُ حَقٌّ فَيُفارِقَها.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلا بِإذْنِ اللَّهِ﴾؛ الإذْنُ هُنا العِلْمُ فَيَكُونُ اسْمًا إذا كانَ مُخَفَّفًا، وإذا كانَ مُحَرَّكًا كانَ مَصْدَرًا، كَما يَقُولُ: حَذِرَ الرَّجُلُ حَذَرًا فَهو حَذِرٌ؛ فالحَذِرُ الِاسْمُ؛ والحَذَرُ المَصْدَرُ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ مِمّا يُقالُ عَلى وجْهَيْنِ كَشَبَهٍ وشِبْهٍ ومَثَلٍ ومِثْلٍ، وقِيلَ فِيهِ ﴿إلا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ: بِتَخْلِيَتِهِ، وقالَ الحَسَنُ: " مَن شاءَ اللَّهُ مَنعَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ السِّحْرُ ومَن شاءَ خَلّى بَيْنَهُ وبَيْنَهُ فَضَرَّهُ " .
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ قِيلَ مَعْناهُ: مَنِ اسْتَبْدَلَ السِّحْرَ بِدِينِ اللَّهِ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ، وهو النَّصِيبُ مِنَ الخَيْرِ، وقالَ الحَسَنُ: " ما لَهُ مِن دِينٍ " وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ العَمَلَ بِالسِّحْرِ وقَبُولَهُ كُفْرٌ.
* * *
وقَوْلُهُ: ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ قِيلَ: باعُوا بِهِ أنْفُسَهم، كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎وشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي مِن بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هامَهْ
يَعْنِي: بِعْتُهُ، وهَذا أيْضًا يُؤَكِّدُ أنَّ قَبُولَهُ والعَمَلَ بِهِ كُفْرٌ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّهم آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ يَقْتَضِي ذَلِكَ أيْضًا.
{"ayahs_start":102,"ayahs":["وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَیۡمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ كَفَرُوا۟ یُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَیۡنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَۚ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ یَقُولَاۤ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةࣱ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَیَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَاۤرِّینَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنۡ خَلَـٰقࣲۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡا۟ بِهِۦۤ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ","وَلَوۡ أَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَمَثُوبَةࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ خَیۡرࣱۚ لَّوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَیۡمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ كَفَرُوا۟ یُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَیۡنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَۚ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ یَقُولَاۤ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةࣱ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَیَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَاۤرِّینَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنۡ خَلَـٰقࣲۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡا۟ بِهِۦۤ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق