الباحث القرآني

ولَمّا كانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ جارِيَةً بِأنَّهُ ما أماتَ أحَدٌ سُنَّةً إلّا زادَ في خِذْلانِهِ بِأنْ أحْيا عَلى يَدِهِ بِدْعَةً أعْقَبَهم نَبْذَهم لِكَلامِ اللَّهِ أُولى الأوْلِياءِ إقْبالُهم عَلى كَلامِ الشَّياطِينِ الَّذِينَ هم أعْدى الأعْداءِ فَقالَ تَعالى: ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو﴾: أيْ: تَقْرَأُ أوْ تَتْبَعُ، وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ إشارَةً إلى كَثْرَتِهِ وفُشُوِّهِ، (p-٧٣)واسْتِمْرارِهِ، ﴿الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ﴾ أيْ: زَمَنَ مُلْكِ ﴿سُلَيْمانَ﴾ مِنَ السِّحْرِ الَّذِي هو كَفْرٌ، قالَ الحَرالِّيُّ: مِن حَيْثُ إنَّ حَقِيقَتَهُ أمْرٌ يَبْطُلُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، ويَظْهَرُ أثَرُهُ فِيما قُصِرَ عَلَيْهِ مِنَ التَّخْيِيلِ والتَّمْرِيضِ ونَحْوِهِ بِالِاقْتِصارِ بِهِ مِن دُونِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هو كُفْرٌ، انْتَهى. وكَأنَّ السِّحْرَ كانَ في تِلْكَ الأيّامِ ظاهِرًا عالِيًا عَلى ما يُفْهِمُهُ التَّعْبِيرُ بِـ”عَلى“، وأحْسَنُ مِن هَذا أنْ يُضَمَّنَ ”تَتْلُوَ“ تَكْذِبُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: تَتْلُو كَذِبًا عَلى مُلْكِهِ، كَما أشارَ إلَيْهِ ما رَواهُ البَغَوِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ الكَلْبِيِّ، وكَذا ما رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ، وقالَ أبُو حاتِمٍ أحْمَدُ بْنُ حَمْدانَ الرّازِيُّ في كِتابِ الزِّينَةِ: ورُوِيَ في الحَدِيثِ: «أنَّهُ لَمّا ماتَ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمَدَتِ الشَّياطِينُ فَكَتَبَتْ أصْنافَ السِّحْرِ: مَن كانَ يُحِبُّ أنْ يَبْلُغَ كَذا فَلْيَفْعَلْ كَذا، وجَعَلُوهُ في كِتابٍ ثُمَّ خَتَمُوهُ بِخاتَمِ سُلَيْمانَ وكَتَبُوا في عُنْوانِهِ: هَذا كِتابُ آصَفَ بْنِ بَرْخِيا الصِّدِّيقِ لِسُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ مِن ذَخائِرِ (p-٧٤)كُنُوزِ العِلْمِ، ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ؛ فاسْتَخْرَجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَقايا بَنِي إسْرائِيلَ حِينَ أحْدَثُوا ما أحْدَثُوا، فَلَمّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قالُوا: ما كانَ مُلْكُ سُلَيْمانَ إلّا بِهَذا، فَأفْشَوُا السِّحْرَ في النّاسِ؛ فَلَيْسَ هو في أحَدٍ أكْثَرَ مِنهُ في يَهُودٍ»، انْتَهى. وسُلَيْمانُ -عَلى ما ذُكِرَ في أوَّلِ إنْجِيلِ مَتّى أثْناءَ إنْجِيلِ لُوقا- هو ابْنُ داوُدَ بْنِ لَسّى بْنِ عُونِيدَ بْنِ باعازَ بْنِ سَلَمُونَ بْنِ يَصُونَ بْنِ عَمِينادابَ بْنِ أرامَ بْنِ يُورامَ بْنِ حَصَرُونَ بْنِ فارِضِ بْنِ يَهُودا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والحاصِلُ أنَّهم مَعَ تَرْكِهِمْ لِلْكُتُبِ المُصَدِّقَةِ لِما مَعَهُمُ، الكَفِيلَةِ بِكُلِّ هُدًى وبَرَكَةٍ، الآتِيَةِ مِن عِنْدِ اللَّهِ المُتَحَبَّبِ إلى عِبادِهِ بِكُلِّ جَمِيلٍ، عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ الَّذِينَ هم أصْدَقُ النّاسِ وأنْصَحُهم وأهْداهم، لا سِيَّما هَذا الكِتابَ المُعْجِزَ الَّذِينَ كانُوا يَتَباشَرُونَ بِقُرْبِ زَمَنِ صاحِبِهِ، اتَّبَعُوا السِّحْرَ الَّذِي هو أضَرُّ الأشْياءِ وأبْشَعُها، الآتِي بِهِ الشَّياطِينُ الَّذِينَ هم أعْدى الأعْداءِ وأفْظَعُها، وأعْجَبُ ما في ذَلِكَ أنَّهم نَسَبُوا السِّحْرَ إلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَذِبًا وفُجُورًا وكَفَّرُوهُ بِهِ ثُمَّ كانُوا هم أشَدَّ النّاسِ تَطَلُّبًا لَهُ ومُصاحَبَةً عِلْمًا وعَمَلًا وأكْثَرَ ما يُوجَدُ فِيهِمْ، فَكانُوا بِذَلِكَ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ؛ ومِنَ المَحاسِنِ أيْضًا أنَّهُ لَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ (p-٧٥)آتَيْنا مُوسى الكِتابَ وقَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ [البقرة: ٨٧] وما بَعْدَهُ في الكُتُبِ والأنْبِياءِ والرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ والمَلائِكَةِ كانَتْ فَذْلَكَتُهُ أنَّ الكَفَرَةَ مِن أهْلِ الكِتابِ نَبَذُوا ذَلِكَ كُلَّهُ ونابَذُوهُ وأقْبَلُوا عَلى السِّحْرِ الَّذِي كانَ إبْطالُهُ مِن أوَّلِ مُعْجِزاتِ نَبِيِّهِمْ وأعْظَمِها؛ فَهو أشَدُّ شَيْءٍ مُنافاةً لِشَرْعِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهم في الدّارَيْنِ ولا يَنْفَعُهم. ولَمّا اعْتَقَدَ أهْلُ الكِتابِ بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ السِّحْرَ مِنهُ، وأنَّ انْتِظامَ مُلْكِهِ عَلى الإنْسِ والجِنِّ والطَّيْرِ والوَحْشِ والرِّيحِ إنَّما كانَ بِهِ، نَفى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: يُقالُ: هو مِنَ السَّلامَةِ، فَإنَّهُ مِن سَلامَةِ صَدْرِهِ مِن تَعَلُّقِهِ بِما خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعالى مِن مُلْكِهِ ﴿هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ﴾ [النمل: ٤٠] (p-٧٦)وهُوَ واحِدُ كَمالٍ في مُلْكِ العالَمِ المَشْهُودِ مِنَ الأرْكانِ الأرْبَعَةِ وما مِنها مِنَ المَخْلُوقاتِ، انْتَهى. أيْ: ما وقَعَ مِنهُ كُفْرٌ ما فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ بِالسِّحْرِ الَّذِي هو أبْعَدُ الأشْياءِ عَنْ آياتِ الأنْبِياءِ، ﴿ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ ثُمَّ بَيَّنَ كُفْرَهم بِقَوْلِهِ: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ﴾ أيِ: المُضْطَرِّينَ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إلى سِنِّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴿السِّحْرَ﴾ أيِ: الَّذِي ولَّدُوهُ هم بِما يُزَيِّنُونَهُ مِن حالِهِ لِيُعْتَقَدَ أنَّهُ مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ ونَحْوَ ذَلِكَ، كَما أنَّ الأنْبِياءَ وأتْباعَهم يُعَلِّمُونَ النّاسَ الحَقَّ بِما يُبَيِّنُونَهُ مِن أمْرِهِ، والسِّحْرُ: قالَ الحَرالِّيُّ: هو قَلْبُ الحَواسِّ في مُدْرِكاتِها عَنِ الوَجْهِ المُعْتادِ لَها في صِحَّتِها عَنْ سَبَبٍ باطِلٍ لا يَثْبُتُ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وقالَ الكَرْمانِيُّ: أمْرٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ صادِرٌ عَنْ نَفْسٍ شِرِّيرَةٍ لا تَتَعَذَّرُ مُعارَضَتُهُ، وقالَ الأصْفَهانِيُّ: اخْتَلَفُوا في تَعَلُّمِهِ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ حَرامٌ، الثّانِي: أنَّهُ مَكْرُوهٌ، الثّالِثُ: أنَّهُ مُباحٌ، والحَقُّ أنَّهُ إنْ كانَ تَعَلُّمُهُ لِلْعَمَلِ فَهو حَرامٌ، وإنْ كانَ لِتَوَقِّيهِ وعَدَمِ الِاغْتِرارِ بِهِ فَهو مُباحٌ، وقالَ: والمُرادُ بِالسِّحْرِ: ما يُسْتَعانُ (p-٧٧)فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إلى الشَّيْطانِ مِمّا لا يَسْتَقِلُّ بِهِ الإنْسانُ، وذَلِكَ لا يَسْتَتِبُّ إلّا لِمَن يُناسِبُهُ في الشَّرارَةِ وخُبْثِ النَّفْسِ، فَإنَّ التَّناسُبَ شَرْطٌ في التَّضامِّ والتَّعاوُنِ وبِهَذا يُمَيَّزُ السّاحِرُ عَنِ الوَلِيِّ والنَّبِيِّ؛ وأمّا ما يُتَعَجَّبُ مِنهُ كَما يَفْعَلُهُ أصْحابُ الحِيَلِ بِمَعُونَةِ الآلاتِ والأدْوِيَةِ أوْ يُرِيهِ صاحِبُ خِفَّةِ اليَدِ فَغَيْرُ حَرامٍ، وتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلى التَّجَوُّزِ لِما فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ، لِأنَّهُ في الأصْلِ لِما خَفِيَ سَبَبُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿وما﴾ أيْ: واتَّبَعُوا أوْ ويُعَلِّمُونَ ما، ﴿أُنْـزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ إنْباءٌ بِأنَّ هَذا التَّخْيِيلَ ضَرْبانِ؛ مُودَعٌ في الكَوْنِ هو أمْرُ الشَّياطِينِ، ومُنَزَّلٌ مِن غَيْبٍ هو المُتَعَلَّمُ مِنَ المَلَكَيْنِ؛ وقالَ: ﴿بِبابِلَ﴾ تَحْقِيقًا لِنُزُولِهِما إلى الأرْضِ، ﴿هارُوتَ ومارُوتَ﴾ بَدَلٌ مِنَ المَلَكَيْنِ، كَأنَّهُما لَمّا كانا مَعَ الحاجَةِ إلَيْهِما لا يَحْتاجانِ إلى أحَدٍ (p-٧٨)وُصِفا أيْضًا بِكَوْنِهِما مَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللّامِ، وعِبارَةُ الحَرالِّيِّ: مَلَكانِ جُعِلا مَلِكَيْنِ في الأرْضِ، والآيَةُ مِن إظْهارِ اللَّهِ لِلْمَلائِكَةِ أفْضَلِ الخَلِيفَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ نَصِيحَةَ المَلَكَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما﴾ فَأنْبَأ أنَّ التَّقْدِيرَ: وما كَفَرَ المَلَكانِ كَما كَفَرَ الشَّياطِينُ فَإنَّهُما ما ﴿يُعَلِّمانِ﴾ وزِيادَةُ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِن أحَدٍ﴾ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْراقِ ﴿حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أيْ: عَلى صُورَةِ الِاخْتِبارِ مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ، فَإنَّهُ يَعْلَمُ نَبَأ مَن يَخْتارُ السِّحْرَ لِما فِيهِ مِنَ النَّفْعِ العاجِلِ عَلى أمْرِ النُّبُوَّةِ فَيَكْفُرُ، ومَن يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ لِئَلّا يَقَعَ فِيهِ وهو لا يَشْعُرُ ثُمَّ يَتْرُكُهُ إقْبالًا عَلى دِينِ اللَّهِ؛ ووَحَّدَ والمُخْبَرُ عَنْهُ اثْنانِ لِأنَّها مَصْدَرٌ وهو لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ. قالَ الحَرالِّيُّ: وأصْلُ مَعْناها مِن فَتْنِ الذَّهَبِ وهو تَسْخِيرُهُ لِيَظْهَرَ جَوْهَرُهُ ويَتَخَلَّصَ طَيِّبُهُ مِن خَبِيثِهِ، انْتَهى. ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ بِالعَمَلِ بِما نُعَلِّمَكَهُ، فَإنَّ العَمَلَ بِهِ كُفْرٌ، أوْ بِاعْتِقادِ أنَّهُ حَقٌّ مُغْنٍ عَمّا جاءَ عَنِ اللَّهِ، أوْ مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾ مُخالَفَةً لِلْمَلَكَيْنِ في النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وذَكَرَ الفُرْقَةَ في أشَدِّ الِاتِّصالِ لِيُفْهَمَ مِنهُ ما دُونَهُ فَقالَ: ﴿بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ والمَرْءُ: اسْمُ سِنٍّ مِن أسْنانِ (p-٧٩)الطَّبْعِ يُشارِكُ الرَّجُلُ بِهِ المَرْأةَ ويَكُونُ لَهُ فِيهِ فَضْلٌ ما ويُسَمّى مَعْناهُ: المَرْوَةُ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ولَمّا ذَكَرَ السَّبَبَ القَرِيبَ لِلضَّرَرِ رَدَّهُ إلَيْهِ تَرْقِيَةً لِلذِّهْنِ الثّاقِبِ إلى أعْلى المَراتِبِ وصَوْنًا لَهُ عَنِ اعْتِقادِهِ ما لا يُناسِبُ فَقالَ: ﴿وما هم بِضارِّينَ﴾ وهو مِنَ الضَّرِّ -بِالفَتْحِ والضَّمِّ- وهو ما يُؤْلِمُ الظّاهِرَ مِنَ الجِسْمِ وما يَتَّصِلُ بِمَحْسُوسِهِ، في مُقابَلَةِ الأذى وهو إيلامُ النَّفْسِ وما يَتَّصِلُ بِأحْوالِها، وتُشْعِرُ الضَّمَّةُ في الضُّرِّ بِأنَّهُ عَنْ عُلُوٍّ وقَهْرٍ، والفَتْحَةُ بِأنَّهُ ما يَكُونُ عَنْ مُماثِلٍ ونَحْوِهِ، وقَلَّ ما يَكُونُ عَنِ الأدْنى إلّا أذى، ومِنهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلا أذًى﴾ [آل عمران: ١١١] قالَهُ الحَرالِّيُّ. ﴿بِهِ مِن أحَدٍ﴾ ولَمّا أكَّدَ اسْتِغْراقَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ تَلاهُ بِمِعْيارِ العُمُومِ فَقالَ: ﴿إلا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا ولا كُفُؤَ لَهُ، وفِيهِ إعْلامٌ لَهم بِأنَّ ضَرَرَهُ (p-٨٠)لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ الضَّرَرُ الضَّعِيفُ حَيْثُ سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ إنَّما هو كَضَرَرِ غَيْرِهِ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي قَدْ تَخْفى فَيُضافُ الأمْرُ في ضَرَرِها إلى اللَّهِ تَعالى، وقَدْ تُعْرَفُ فَيُضافُ الضَّرَرُ إلَيْها كَما كانَ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ مِن إخْوانِهِ مِنَ الأنْبِياءِ مِنهم ومِن غَيْرِهِمْ، والعِلْمُ حاصِلٌ بِأنَّ المُؤَثِّرَ في الجَمِيعِ في الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ تَعالى، وسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها﴾ [الأنعام: ٩٧] في سُورَةِ الأنْعامِ ما يَنْفَعُ اسْتِحْضارُهُ هُنا. ولَمّا كانَ هَذا الَّذِي تَقَدَّمَ وإنْ كانَ لِلْعامِلِ بِهِ نَفْعٌ عَلى زَعْمِهِ فَضُرُّهُ أكْبَرُ مِن نَفْعِهِ أتْبَعَهُ قِسْمًا آخَرَ لَيْسَ لِلْعامِلِ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الضُّرِّ؛ فَلَيْسَ الحامِلُ عَلى تَعَلُّمِهِ إلّا إيثارًا لِلَّحاقِ بِإبْلِيسَ وحِزْبِهِ فَقالَ: ﴿ويَتَعَلَّمُونَ﴾ أيْ: مِنَ السِّحْرِ الَّذِي ولَّدَهُ الشَّياطِينُ لا مِنَ المَلَكَيْنِ، ﴿ما يَضُرُّهُمْ﴾ لِأنَّ مُجَرَّدَ العَمَلِ بِهِ كُفْرٌ أوْ مَعْصِيَةٌ ثُمَّ حَقَّقَ أنَّهُ ضَرَرٌ كُلُّهُ لا شائِبَةَ لِلنَّفْعِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ (p-٨١)لِأنَّهُ لا تَأْثِيرَ لَهُ أصْلًا، والنَّفْعُ وصُولُ مَوافِقِ الجِسْمِ الظّاهِرِ وما يَتَّصِلُ بِهِ في مُقابَلَةِ الضُّرِّ، ولِذَلِكَ يُخاطَبُ بِهِ الكُفّارُ كَثِيرًا لِوُقُوعِ مَعْنَيَيْهِما في الظّاهِرِ الَّذِي هو مَقْصِدُهم مِن ظاهِرِ الحَياةِ الدُّنْيا، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ثُمَّ أتْبَعُهُ ما يُعْرَفُ أنَّهُمُ ارْتَكَبُوهُ عَلى عِلْمٍ فَقالَ مُحَقِّقًا مُؤَكِّدًا: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ بَيانًا لِأنَّهم أسْفَهُ النّاسِ، ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ أيْ: آثَرَهُ عَلى ما يَعْلَمُ نَفْعَهُ مِنَ الإيمانِ، ﴿ما لَهُ في الآخِرَةِ﴾ الباقِيَةِ الباقِي نَفْعُها، ﴿مِن خَلاقٍ﴾ أيْ: نَصِيبٍ مُوافِقٍ أصْلًا، والخَلاقُ: الحَظُّ اللّائِقُ لِمَن يُقَسَّمُ لَهُ النَّصِيبُ مِنَ الشَّيْءِ كَأنَّهُ مُوازِنٌ بِهِ خَلْقَ نَفْسِهِ وخَلْقَ جِسْمِهِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ثُمَّ جَمَعَ لَهُمُ المَذامَّ عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ فَقالَ: ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا﴾ أيْ: باعُوا عَلى وجْهِ اللَّجاجَةِ، ﴿بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ مِمّا أحاطَ بِهِمْ فاجْتُثَّتْ نُفُوسُهم مِن أصْلِها فَأوْجَبَ لَهُمُ الخُلُودَ في النّارِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَ إثْباتِ العِلْمِ لَهم: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: لَوْ كانَ لَهم قابِلِيَّةٌ لِتَلَقِّي وارِداتِ (p-٨٢)الحَقِّ، إشارَةً إلى أنَّ هَذا لا يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَن لَهُ أدْنى عِلْمٍ، فَعِلْمُهُمُ الَّذِي أوْجَبَ لَهُمُ الجُرْأةَ عَلى هَذا عَدَمٌ بَلِ العَدَمُ خَيْرٌ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب