الباحث القرآني

﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ﴾ عَطْفٌ عَلى (نَبَذَ)، والضَّمِيرُ لِفَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الِكَتابَ، عَلى ما تَقَدَّمَ عَنِ السُّدِّيِّ، وقِيلَ: عُطِفَ عَلى مَجْمُوعِ ما قَبْلَهُ، عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، والضَّمِيرُ لِلَّذِينِ تَقَدَّمُوا مِنَ اليَهُودِ، أوِ الَّذِينَ كانُوا في زَمَنِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أوِ الَّذِينَ كانُوا في زَمَنِ نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوْ ما يَتَناوَلُ الكُلُّ، لِأنَّ ذاكَ غَيْرُ ظاهِرٍ، إذْ يَقْتَضِي الدُّخُولَ في حَيِّزِ لِـ(ما)، وأتْباعِهِمْ، هَذا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلى مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وفِيهِ أنَّ ما عَلِمْتَ مِن قَوْلِ السُّدِّيِّ يَفْتَحُ بابَ الظُّهُورِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ المَبْنِيُّ غَيْرَهُ، وقِيلَ: عَطْفٌ عَلى (أُشْرِبُوا)، وهو في غايَةِ البُعْدِ، بَلْ لا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مَن جَرَعَ جَرْعَةً مِنَ الإنْصافِ، والمُرادُ بِالِاتِّباعِ التَّوَغُّلُ والإقْبالُ عَلى الشَّيْءِ بِالكُلِّيَّةِ، وقِيلَ: الِاقْتِداءُ، (وما) مَوْصُولَةٌ، (وتَتْلُو) صِلَتُها، ومَعْناهُ: تَتَّبِعُ، أوْ تَقْرَأُ، وهو حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ، والأصْلُ: تَلَتْ، وقَوْلُ الكُوفِيِّينَ: إنَّ المَعْنى ما كانَتْ تَتْلُو، مَحْمُولٌ عَلى ذَلِكَ، لا أنَّ كانَ هُناكَ مُقَدَّرَةٌ، والمُتَبادِرُ مِنَ الشَّياطِينِ مَرَدَةُ الجِنِّ، وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمْ شَياطِينُ الإنْسِ، وهو قَوْلُ المُتَكَلِّمِينَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ، والضَّحّاكُ (الشَّياطُونَ)، عَلى حَدِّ ما رَواهُ الأصْمَعِيُّ عَنِ العَرَبِ: بُسْتانُ فُلانٍ حَوْلَهُ بَساتُونَ، وهو مِنَ الشُّذُوذِ بِمَكانٍ، حَتّى قِيلَ: إنَّهُ لَحْنٌ، ﴿عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ(تَتْلُو)، وفي الكَلامِ مُضافٌ مَحْذُوفٌ، أيْ عَهْدَ مُلْكِهِ، وزَمانَهُ، أوِ المُلْكُ مَجازٌ عَنِ العَهْدِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، (عَلى) بِمَعْنى (فِي) كَما أنَّ (فِي) بِمَعْنى (عَلى) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وقَدْ صُرِّحَ في التَّسْهِيلِ بِمَجِيئِها لِلظَّرْفِيَّةِ، ومَثَّلَ لَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّ المُلْكَ (p-338)وكَذا العَهْدَ لا يَصْلُحُ كَوْنُهُ مَقْرُوءًا عَلَيْهِ، ومِنَ الأصْحابِ مَن أنْكَرَ مَجِيءَ (عَلى) بِمَعْنى (فِي) وجَعَلَ هَذا مِن تَضْمِينِ (تَتْلُو) مَعْنى تَتَقَوَّلُ، أوِ المُلْكُ عِبارَةٌ عَنِ الكُرْسِيِّ، لِأنَّهُ كانَ مِن آلاتِ مُلْكِهِ، فالكَلامُ عَلى حَدِّ: قَرَأْتُ عَلى المِنبَرِ، والمُرادُ بِما يَتْلُونَهُ السِّحْرُ، فَقَدْ أخْرَجَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: إنَّ الشَّياطِينَ كانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّماءِ، فَإذا سَمِعَ أحَدُهم بِكَلِمَةٍ كَذَبَ عَلَيْها ألْفَ كَذْبَةٍ، فَأُشْرِبَتْها قُلُوبُ النّاسِ، واتَّخَذُوها دَواوِينَ، فَأطْلَعَ اللَّهُ تَعالى عَلى ذَلِكَ سُلَيْمانَ بْنَ داوُدَ، فَأخَذَها وقَذَفَها تَحْتَ الكُرْسِيِّ، فَلَمّا ماتَ سُلَيْمانُ قامَ شَيْطانٌ بِالطَّرِيقِ، فَقالَ: ألا أدُلُّكم عَلى كَنْزِ سُلَيْمانَ الَّذِي لا كَنْزَ لِأحَدٍ مِثْلُ كَنْزِهِ المُمَنَّعِ؟ قالُوا: نَعَمْ فَأخْرَجُوهُ، فَإذا هو سِحْرٌ، فَتَناسَخَتْها الأُمَمُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عُذْرَ سُلَيْمانَ فِيما قالُوا مِنَ السِّحْرِ، وقِيلَ: رُوِيَ أنَّ سُلَيْمانَ كانَ قَدْ دَفَنَ كَثِيرًا مِنَ العُلُومِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ تَعالى بِها تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ خَوْفًا عَلى أنَّهُ إذا هَلَكَ الظّاهِرُ مِنها يَبْقى ذَلِكَ المَدْفُونُ، فَلَمّا مَضَتْ مُدَّةٌ عَلى ذَلِكَ، تَوَصَّلَ قَوْمٌ مِنَ المُنافِقِينَ إلى أنْ كَتَبُوا في خِلالِ ذَلِكَ أشْياءَ مِنَ السِّحْرِ تُناسِبُ تِلْكَ الأشْياءَ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ واطِّلاعِ النّاسِ عَلى تِلْكَ الكُتُبِ أوْهَمُوهم أنَّها مِن عِلْمِ سُلَيْمانَ، ولا يَخْفى ضَعْفُ هَذِهِ الرِّوايَةِ، وسُلَيْمانُ كَما في البَحْرِ: اسْمٌ أعْجَمِيٌّ، وامْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، ونَظِيرُهُ مِنَ الأعْجَمِيَّةِ في أنَّ آخِرَهُ ألِفٌ ونُونٌ هامانُ، وماهانُ وشامانُ، ولَيْسَ امْتِناعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وزِيادَةِ الألِفِ والنُّونِ كَعُثْمانَ، لِأنَّ زِيادَتَهُما مَوْقُوفَةٌ عَلى الِاشْتِقاقِ، والتَّصْرِيفِ، وهُما يَدْخُلانِ الأسْماءَ الأعْجَمِيَّةَ، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ اليَوْمَ عَلى خِلافِهِ، ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾ اعْتِراضٌ لِتَبْرِئَةِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَمّا نَسَبُوهُ إلَيْهِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قالَ: قالَ اليَهُودُ: انْظُرُوا إلى مُحَمَّدٍ يَخْلِطُ الحَقَّ بِالباطِلِ، يَذْكُرُ سُلَيْمانَ مَعَ الأنْبِياءِ، وإنَّما كانَ ساحِرًا، يَرْكَبُ الرِّيحَ، وعَبَّرَ سُبْحانَهُ عَنِ السِّحْرِ بِالكُفْرِ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ رِعايَةً لِمُناسَبَةِ (لَكِنَّ) الِاسْتِدْراكِيَّةِ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ فَإنَّ (كَفَرُوا) مَعَها مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، وجُمْلَةُ (يُعَلِّمُونَ) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وقِيلَ: مِنَ الشَّياطِينِ، ورُدَّ بِأنَّ (لَكِنْ) لا تَعْمَلُ في الحالِ، وأُجِيبَ بِأنَّ فِيها رائِحَةُ الفِعْلِ، وقِيلَ: بَدَلٌ مِن كَفَرُوا، وقِيلَ: اسْتِئْنافٌ، والضَّمِيرُ لِلشَّياطِينِ، أوْ لِلَّذِينِ اتَّبَعُوا، والسِّحْرُ في الأصْلِ مَصْدَرُ سَحَرَ يَسْحَرُ بِفَتْحِ العَيْنِ فِيهِما، إذا أبْدى ما يَدِقُّ ويَخْفى، وهو مِنَ المَصادِرِ الشّاذَّةِ، ويُسْتَعْمَلُ بِما لَطُفَ، وخَفِيَ سَبَبُهُ، والمُرادُ بِهِ أمْرٌ غَرِيبٌ يُشْبِهُ الخارِقَ، ولَيْسَ بِهَذا يَجْرِي فِيهِ التَّعَلُّمُ، ويُسْتَعانُ في تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إلى الشَّيْطانِ بِارْتِكابِ القَبائِحِ قَوْلًا كالرُّقى الَّتِي فِيها ألْفاظُ الشِّرْكِ، ومَدْحُ الشَّيْطانِ وتَسْخِيرُهُ، وعَمَلًا كَعِبادَةِ الكَواكِبِ والتِزامِ الجِنايَةِ وسائِرِ الفُسُوقِ، واعْتِقادًا كاسْتِحْسانِ ما يُوجِبُ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ، ومَحَبَّتَهُ إيّاهُ، وذَلِكَ لا يَسْتَتِبُّ إلّا بِمَن يُناسِبُهُ في الشَّرارَةِ، وخُبْثِ النَّفْسِ، فَإنَّ التَّناسُبَ شَرْطُ التَّضامِّ والتَّعاوُنِ، فَكَما أنَّ المَلائِكَةَ لا تُعاوِنُ إلّا أخْيارَ النّاسِ المُشَبَّهِينَ بِهِمْ في المُواظَبَةِ عَلى العِبادَةِ والتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ تَعالى بِالقَوْلِ والفِعْلِ، كَذَلِكَ الشَّياطِينُ لا تُعاوِنُ إلّا الأشْرارَ المُشَبَّهِينَ بِهِمْ في الخِيانَةِ والنَّجاسَةِ قَوْلًا وفِعْلًا واعْتِقادًا، وبِهَذا يَتَمَيَّزُ السّاحِرُ عَنِ النَّبِيِّ والوَلِيِّ، فَلا يَرُدُّ ما قالَ المُعْتَزِلَةُ: مِن أنَّهُ لَوْ أمْكَنَ لِلْإنْسانِ مِن جِهَةِ الشَّيْطانِ ظُهُورُ الخَوارِقِ والإخْبارُ عَنِ المُغَيَّباتِ لاشْتَبَهَ طَرِيقُ النُّبُوَّةِ بِطَرِيقِ السِّحْرِ، وأمّا ما يُتَعَجَّبُ مِنهُ كَما يَفْعَلُهُ أصْحابُ الحِيَلِ بِمَعُونَةٍ الآلاتِ المُرَكَّبَةِ عَلى النِّسْبَةِ الهَنْدَسِيَّةِ تارَةً، وعَلى صَيْرُورَةِ الخَلاءِ مِلاءً أُخْرى، وبِمَعُونَةِ الأدْوِيَةِ كالنّارِنْجِيّاتِ أوْ يُرِيهِ صاحِبُ خِفَّةِ اليَدِ فَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلى التَّجَوُّزِ، وهو مَذْمُومٌ أيْضًا (p-339)عِنْدَ البَعْضِ، وصَرَّحَ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ بِحُرْمَتِهِ، فَسَّرَهُ الجُمْهُورُ بِأنَّهُ خارِقُ العادَةِ يَظْهَرُ مِن نَفْسٍ شِرِّيرَةٍ بِمُباشَرَةِ أعْمالٍ مَخْصُوصَةٍ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وأنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ السّاحِرُ إلى حَيْثُ يَطِيرُ في الهَواءِ، ويَمْشِي عَلى الماءِ، ويَقْتُلُ النَّفْسَ، ويَقْلِبُ الإنْسانَ حِمارًا، والفاعِلُ الحَقِيقِيُّ في كُلِّ ذَلِكَ هو اللَّهُ تَعالى، ولَمْ تَجْرِ سُنَّتُهُ بِتَمْكِينِ السّاحِرِ مِن فَلْقِ البَحْرِ، وإحْياءِ المَوْتى، وإنْطاقِ العَجْماءِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن آياتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والمُعْتَزِلَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ الإسْتَراباذِيُّ مِن أصْحابِنا عَلى أنَّهُ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وإنَّما هو تَخْيِيلٌ، وأكْفَرَ المُعْتَزِلَةُ مَن قالَ بِبُلُوغِ السّاحِرِ إلى حَيْثُ ما ذَكَرْنا زَعْمًا مِنهم أنَّ بِذَلِكَ انْسِدادَ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ، ولَيْسَ كَما زَعَمُوا عَلى ما لا يَخْفى، ومِنَ المُحَقِّقِينَ مَن فَرَّقَ بَيْنَ السِّحْرِ والمُعْجِزَةِ بِاقْتِرانِ المُعْجِزَةِ بِالتَّحَدِّي بِخِلافِهِ، فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ ظُهُورُهُ عَلى يَدِ مُدَّعِي نُبُوَّةٍ كاذِبًا، كَما جَرَتْ بِهِ عادَةُ اللَّهِ تَعالى المُسْتَمِرَّةُ صَوْنًا لِهَذا المَنصِبِ الجَلِيلِ عَنْ أنْ يَتَسَوَّرَ حِماهُ الكَذّابُونَ، وقَدْ شاعَ أنَّ العَمَلَ بِهِ كُفْرٌ، حَتّى قالَ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ: لا يُرْوى خِلافٌ في ذَلِكَ، وعَدُّهُ نَوْعًا مِنَ الكَبائِرِ مُغايِرَ الإشْراكِ لا يُنافِي ذَلِكَ، لِأنَّ الكُفْرَ أعَمُّ، والإشْراكَ نَوْعٌ مِنهُ، وفِيهِ بَحْثٌ، أمّا أوَّلًا: فَلِأنَّ الشَّيْخَ أبا مَنصُورٍ ذَهَبَ إلى أنَّ القَوْلَ بِأنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلى الإطْلاقِ خَطَأٌ، بَلْ يَجِبُ البَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَإنْ كانَ في ذَلِكَ رَدُّ ما لَزِمَ مِن شَرْطِ الإيمانِ فَهو كُفْرٌ، وإلّا فَلا، ولَعَلَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ العَلّامَةُ مَبْنِيٌّ عَلى التَّفْسِيرِ أوَّلًا، فَإنَّهُ عَلَيْهِ مِمّا يُمْتَرى في كُفْرِ فاعِلِهِ، وأمّا ثانِيًا: فَلِأنَّ المُرادَ مِنَ الإشْراكِ فِيما عَدا الكَبائِرَ مُطْلَقُ الكُفْرِ، وإلّا تَخْرُجُ أنْواعُ الكُفْرِ مِنها، ثُمَّ السِّحْرُ الَّذِي هو كُفْرٌ يُقْتَلُ عَلَيْهِ الذُّكُورُ لا الإناثُ، وما لَيْسَ بِكُفْرٍ وفِيهِ إهْلاكُ النَّفْسِ فَفِيهِ حُكْمُ قُطّاعِ الطَّرِيقِ، ويَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ والإناثُ، وتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إذا تابَ، ومَن قالَ لا تُقْبَلُ، فَقَدْ غَلِطَ، فَإنَّ سَحَرَةَ مُوسى قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، كَذا في المَدارِكِ، ولَعَلَّهُ إلى الأُصُولِ أقْرَبُ، والمَشْهُورُ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ السّاحِرَ يُقْتَلُ مُطْلَقًا، إذا عُلِمَ أنَّهُ ساحِرٌ، ولا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أتْرُكُ السِّحْرَ، وأتُوبُ عَنْهُ، فَإنْ أقَرَّ بِأنِّي كُنْتُ أسْحَرُ مُدَّةً، وقَدْ تَرَكْتُ مُنْذُ زَمانٍ قُبِلَ مِنهُ، ولَمْ يُقْتَلْ، واحْتُجَّ بِما رُوِيَ أنَّ جارِيَةً لِحَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها سَحَرَتْها، فَأخَذُوها فاعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ، فَأمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَها، وإنْكارُ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إنَّما كانَ لِقَتْلِها بِغَيْرِ إذْنِهِ، وبِما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: اقْتُلُوا كُلَّ ساحِرٍ وساحِرَةٍ، فَقَتَلُوا ثَلاثَ سَواحِرَ، والشّافِعِيَّةُ نَظَرُوا في هَذا الِاحْتِجاجِ، واعْتَرَضُوا عَلى القَوْلِ بِالقَتْلِ مُطْلَقًا بِأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلِ اليَهُودِيَّ الَّذِي سَحَرَهُ، فالمُؤْمِنُ مِثْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «(لَهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وعَلَيْهِمْ ما عَلى المُسْلِمِينَ)،» وتَحْقِيقُهُ في الفُرُوعِ، واخْتُلِفَ في تَعْلِيمِهِ وتَعَلُّمِهِ، فَقِيلَ: كُفْرٌ لِهَذِهِ الآيَةِ، إذْ فِيها تَرْتِيبُ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ المُناسِبِ، وهو مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّةِ، وأُجِيبَ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ فِيها ذَلِكَ، لِأنَّ المَعْنى أنَّهم كَفَرُوا، وهم مَعَ ذَلِكَ يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ، وقِيلَ: إنَّهُما حَرامانِ، وبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وقِيلَ: مَكْرُوهانِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ البَعْضُ، وقِيلَ: مُباحانِ، والتَّعْلِيمُ المُساقُ لِلذَّمِّ هُنا مَحْمُولٌ عَلى التَّعْلِيمِ لِلْإغْواءِ والإضْلالِ، وإلَيْهِ مالَ الإمامُ الرّازِيُّ قائِلًا: اتَّفَقَ المُحَقِّقُونَ عَلى أنَّ العِلْمَ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ ولا مَحْظُورٍ، لِأنَّ العِلْمَ لِذاتِهِ شَرِيفٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ولَوْ لَمْ يُعْلَمِ السِّحْرُ لَما أمْكَنَ الفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُعْجِزَةِ، والعِلْمُ بِكَوْنِ المُعْجِزِ مُعْجِزًا واجِبٌ، وما يَتَوَقَّفُ الواجِبُ عَلَيْهِ فَهو واجِبٌ، فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ العِلْمِ بِالسِّحْرِ واجِبًا، وما يَكُونُ واجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرامًا وقَبِيحًا، ونَقَلَ بَعْضُهم وُجُوبَ تَعَلُّمِهِ عَلى المُفْتِي حَتّى يَعْلَمَ ما يَقْتُلُ بِهِ، وما لا يَقْتُلُ بِهِ، فَيُفْتِيَ بِهِ في وُجُوبِ القِصاصِ انْتَهى، والحَقُّ عِنْدِي الحُرْمَةُ تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ، إلّا لِداعٍ شَرْعِيٍّ، وفِيما قالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى نَظَرٌ، أمّا أوَّلًا: فَلِأنّا لا نَدَّعِي أنَّهُ قَبِيحٌ لِذاتِهِ، وإنَّما قُبْحُهُ بِاعْتِبارِ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَتَحْرِيمُهُ (p-340)مِن بابِ سَدِّ الذَّرائِعِ، وكَمْ مِن أمْرٍ حُرِّمَ لِذَلِكَ، وفي الحَدِيثِ: «(مَن حامَ حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فِيهِ)،» وأمّا ثانِيًا: فَلِأنَّ تَوَقُّفَ الفَرْقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُعْجِزَةِ عَلى العِلْمِ بِهِ مَمْنُوعٌ، ألا تَرى أنَّ أكْثَرَ العُلَماءِ، أوْ كُلَّهم إلّا النّادِرَ عَرَفُوا الفَرْقَ بَيْنَهُما، ولَمْ يَعْرِفُوا عِلْمَ السِّحْرِ، وكَفى فارِقًا بَيْنَهُما ما تَقَدَّمَ، ولَوْ كانَ تَعَلُّمُهُ واجِبًا لِذَلِكَ لَرَأيْتَ أعْلَمَ النّاسِ بِهِ الصَّدْرَ الأوَّلَ، مَعَ أنَّهم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، أفَتَراهم أخَلُّوا بِهَذا الواجِبِ، وأتى بِهِ هَذا القائِلُ، أوْ أنَّهُ أخَلَّ بِهِ كَما أخَلُّوا، وأمّا ثالِثًا: فَلِأنَّ ما نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّ إفْتاءَ المُفْتِي بِوُجُوبِ القَوَدِ أوْ عَدَمِهِ لا يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَتَهُ عِلْمَ السِّحْرِ، لِأنَّ صُورَةَ إفْتائِهِ عَلى ما ذَكَرَهُ العَلّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ إنْ شَهِدَ عَدْلانِ عَرَفا السِّحْرَ وتابا مِنهُ أنَّهُ يُقْتَلُ غالِبًا قَتْلَ السّاحِرِ، وإلّا فَلا، هَذا وقَدْ أطْلَقَ بَعْضُ العُلَماءِ السِّحْرَ عَلى المَشْيِ بَيْنَ النّاسِ بِالنَّمِيمَةِ، لِأنَّ فِيها قَلْبَ الصَّدِيقِ عَدُوًّا، والعَدُوَّ صَدِيقًا، كَما أُطْلِقَ عَلى حُسْنِ التَّوَسُّلِ بِاللَّفْظِ الرّائِقِ العَذْبِ لِما فِيهِ مِنَ الِاسْتِمالَةِ، ويُسَمّى سِحْرًا حَلالًا، ومِنهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا)،» والقَوْلُ بِأنَّهُ مُخَرَّجٌ مَخْرَجَ الذَّمِّ لِلْفَصاحَةِ والبَلاغَةِ بَعِيدٌ، وإنْ ذَهَبَ إلَيْهِ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ راوِي الحَدِيثِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: (يُعَلِّمُونَ) إلَخْ، أنَّهم يُفَهِّمُونَهم إيّاهُ بِالإقْراءِ والتَّعْلِيمِ، وقِيلَ: يَدُلُّونَهم عَلى تِلْكَ الكُتُبِ، فَأُطْلِقَ عَلى تِلْكَ الدِّلالَةِ تَعْلِيمًا إطْلاقًا لِلسَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ، وقِيلَ: المَعْنى يُوَقِّرُونَ في قُلُوبِهِمْ أنَّها حَقٌّ تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وأنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما تَمَّ لَهُ ما تَمَّ بِذَلِكَ، والإطْلاقُ عَلَيْهِ هو الإطْلاقُ، وقِيلَ: يُعَلِّمُونَ بِمَعْنى يُعْلِمُونَ مِنَ الإعْلامِ، وهو الإخْبارُ أيْ يُخْبِرُونَهم بِما أوْ بِمَن يَتَعَلَّمُونَ بِهِ، أوْ مِنهُ السِّحْرَ، وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو (لَكِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، وارْتِفاعُ ما بَعْدَها بِالِابْتِداءِ، والخَبَرِ، وهَلْ يَجُوزُ إعْمالُهُ إذا خُفِّفَتْ، فِيهِ خِلافٌ، والجَمْعُ عَلى المَنعِ، وهو الصَّحِيحُ، وعَنْ يُونُسَ والأخْفَشِ الجَوازُ، والصَّحِيحُ إنَّها بَسِيطَةٌ، ومِنهم مَن زَعَمَ أنَّها مُرَكَّبَةٌ مِن لا النّافِيَةِ، وكافِ الخِطابِ، وأنَّ المُؤَكِّدَةِ المَحْذُوفَةِ الهَمْزَةِ لِلِاسْتِثْقالِ، وهو إلى الفَسادِ أقْرَبُ، ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ المُرادُ الجِنْسُ، وهو عَطْفٌ عَلى السِّحْرِ، وهُما واحِدٌ إلّا أنَّهُ نَزَّلَ تَغايُرَ المَفْهُومِ مَنزِلَةَ تَغايُرِ الذّاتِ كَما في قَوْلِهِ: ؎إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ البَيْتَ، وفائِدَةُ العَطْفِ التَّنْصِيصُ بِأنَّهم يُعَلِّمُونَ ما هو جامِعٌ بَيْنَ كَوْنِهِ سِحْرًا وبَيْنَ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا عَلى المَلَكَيْنِ لِلِابْتِلاءِ، فَيُفِيدُ ذَمَّهم بِارْتِكابِهِمُ النَّهْيَ بِوَجْهَيْنِ، وقَدْ يُرادُ بِالمَوْصُولِ المَعْهُودُ، وهو نَوْعٌ آخَرُ أقْوى، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ إشارَةً إلى كَمالِهِ، وقالَ مُجاهِدٌ: هو دُونَ السِّحْرِ، وهو ما يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ لا غَيْرُ، والمَشْهُورُ الأوَّلُ، وجُوِّزَ العَطْفُ عَلى ما (تَتْلُو)، فَكَأنَّهُ قِيلَ: اتَّبَعُوا السِّحْرَ المُدَوَّنَ في الكُتُبِ وغَيْرِهِ، وهَذانِ المَلَكانِ أُنْزِلا لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ ابْتِلاءً مِنَ اللَّهِ تَعالى لِلنّاسِ، فَمَن تَعَلَّمَ وعَمِلَ بِهِ كَفَرَ، ومَن تَعَلَّمَ وتَوَقّى عَمَلَهُ ثَبَتَ عَلى الإيمانِ، ولِلَّهِ تَعالى أنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بِما شاءَ، كَما امْتَحَنَ قَوْمَ طالُوتَ بِالنَّهَرِ، وتَمْيِيزًا بَيْنَهُ وبَيْنَ المُعْجِزَةِ، حَيْثُ إنَّهُ كَثُرَ في ذَلِكَ الزَّمانِ، وأظْهَرَ السَّحَرَةُ أُمُورًا غَرِيبَةً وقَعَ الشَّكُّ بِها في النُّبُوَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى المَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ أبْوابِ السِّحْرِ، حَتّى يُزِيلا الشُّبَهَ ويُمِيطا الأذى عَنِ الطَّرِيقِ، قِيلَ: كانَ ذَلِكَ في زَمَنِ إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأمّا ما رُوِيَ أنَّ المَلائِكَةَ تَعَجَّبَتْ مِن بَنِي آدَمَ في مُخالَفَتِهِمْ ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ وقالُوا لَهُ تَعالى: لَوْ كُنّا مَكانَهم ما عَصَيْناكَ، فَقالَ: اخْتارُوا مَلَكَيْنِ مِنكم فاخْتارُوهُما، فَهَبَطا إلى الأرْضِ، ومَثُلا بَشَرَيْنِ، وألْقى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِما الشَّبَقَ، وحَكَما بَيْنَ النّاسِ، فافْتَتَنا بِامْرَأةٍ يُقالُ لَها زُهَرَةُ، فَطَلَباها وامْتَنَعَتْ إلّا أنْ يَعْبُدا صَنَمًا، أوْ يَشْرَبا خَمْرًا، أوْ يَقْتُلا (p-341)نَفْسًا، فَفَعَلا، ثُمَّ تَعَلَّمَتْ مِنهُما ما صَعِدَتْ بِهِ إلى السَّماءِ، فَصَعِدَتْ ومُسِخَتْ هَذا النَّجْمَ، وأرادا العُرُوجَ فَلَمْ يُمْكِنْهُما، فَخُيِّرا بَيْنَ عَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فاخْتارُوا عَذابَ الدُّنْيا، فَهُما الآنَ يُعَذَّبانِ فِيها، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآثارِ الَّتِي بَلَغَتْ طُرُقُها نَيِّفًا وعِشْرِينَ، فَقَدْ أنْكَرَهُ جَماعَةٌ مِنهُمُ القاضِي عِياضٌ، وذَكَرَ أنَّ ما ذَكَرَهُ أهْلُ الأخْبارِ، ونَقَلَهُ المُفَسِّرُونَ في قِصَّةِ هارُوتَ ومارُوتَ لَمْ يَرِدْ مِنهُ شَيْءٌ لا سَقِيمٌ ولا صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولَيْسَ هو شَيْئًا يُؤْخَذُ بِالقِياسِ، وذَكَرَ في البَحْرِ أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لا يَصِحُّ مِنهُ شَيْءٌ، ولَمْ يَصِحَّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَلْعَنُ الزُّهَرَةَ، وابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما خِلافًا لِمَن رَواهُ، وقالَ الإمامُ الرّازِيُّ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ الرِّوايَةَ في ذَلِكَ: إنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ فاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، ونَصَّ الشِّهابُ العِراقِيُّ عَلى أنَّ مَنِ اعْتَقَدَ في هارُوتَ ومارُوتَ أنَّهُما مَلَكانِ يُعَذَّبانِ عَلى خَطِيئَتِهِما مَعَ الزُّهَرَةِ فَهو كافِرٌ بِاللَّهِ تَعالى العَظِيمِ، فَإنَّ المَلائِكَةَ مَعْصُومُونَ، ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ والزُّهَرَةُ كانَتْ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ تَعالى السَّماواتِ والأرْضَ، والقَوْلُ بِأنَّها تَمَثَّلَتْ لَهُما فَكانَ ما كانَ، ورُدَّتْ إلى مَكانِها غَيْرُ مَعْقُولٍ ولا مَقْبُولٍ، واعْتَرَضَ الإمامُ السُّيُوطِيُّ عَلى مَن أنْكَرَ القِصَّةَ بِأنَّ الإمامَ أحْمَدَ وابْنَ حِبّانَ والبَيْهَقِيَّ وغَيْرَهم رَوَوْها مَرْفُوعَةً ومَوْقُوفَةً عَلى عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِأسانِيدَ عَدِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، يَكادُ الواقِفُ عَلَيْها يَقْطَعُ بِصِحَّتِها لِكَثْرَتِها وقُوَّةِ مُخَرِّجِيها، وذَهَبَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ ما رُوِيَ مَرْوِيٌّ حِكايَةً لِما قالَهُ اليَهُودُ، وهو باطِلٌ في نَفْسِهِ، وبُطْلانُهُ في نَفْسِهِ لا يُنافِي صِحَّةَ الرِّوايَةِ، ولا يَرُدُّ ما قالَهُ الإمامُ السُّيُوطِيُّ عَلَيْهِ، إنَّما يَرُدُّ عَلى المُنْكِرِينَ بِالكُلِّيَّةِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ مِن بابِ الرُّمُوزِ، والإشاراتِ، فَيُرادُ مِنَ المَلَكَيْنِ العَقْلُ النَّظَرِيُّ والعَقْلُ العَمَلِيُّ اللَّذانِ هُما مِن عالَمِ القُدْسِ، ومِنَ المَرْأةِ المُسَمّاةِ بِالزُّهَرَةِ النَّفْسُ النّاطِقَةُ، ومِن تَعَرُّضِهِما لَها تَعْلِيمُهُما لَها ما يُسْعِدُها، ومِن حَمْلِها إيّاهُما عَلى المَعاصِي تَحْرِيضُها إيّاهُما بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ المِزاجِيَّةِ إلى المَيْلِ إلى السُّفْلِيّاتِ المُدَنِّسَةِ لِجَوْهَرَيْهِما، ومِن صُعُودِها إلى السَّماءِ بِما تَعَلَّمَتْ مِنهُما عُرُوجُها إلى المَلَإ الأعْلى ومُخالَطَتُها مَعَ القُدْسِيِّينَ بِسَبَبِ انْتِصاحِها لِنُصْحِهِما، ومِن بَقائِهِما مُعَذَّبَيْنِ بَقاؤُهُما مَشْغُولَيْنِ بِتَدْبِيرِ الجَسَدِ، وحِرْمانِهِما عَنِ العُرُوجِ إلى سَماءِ الحَضْرَةِ، لِأنَّ طائِرَ العَقْلِ لا يَحُومُ حَوْلَ حِماها، ومِنَ الأكابِرِ مَن قالَ في حَلِّ هَذا الرَّمْزِ: إنَّ الرُّوحَ والعَقْلَ اللَّذَيْنِ هُما مِن عالَمِ المُجَرَّداتِ قَدْ نَزَلا مِن سَماءِ التَّجَرُّدِ إلى أرْضِ التَّعَلُّقِ، فَعَشِقا البَدَنَ الَّذِي هو كالزُّهَرَةِ في غايَةِ الحُسْنِ والجَمالِ، لِتَوَقُّفِ كَمالِهِما عَلَيْهِ، فاكْتَسَبا بِتَوَسُّطِهِ المَعاصِيَ، والشِّرْكَ، وتَحْصِيلَ اللَّذّاتِ الحِسِّيَّةَ الدَّنِيَّةَ، ثُمَّ صَعِدَ إلى السَّماءِ بِأنْ وصَلَ بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِما إلى الكَمالِ اللّائِقِ بِهِ، ثُمَّ مُسِخَ بِأنِ انْقَطَعَ التَّعَلُّقُ وتَفَرَّقَتِ العَناصِرُ، وهُما بَقِيا مُعَذَّبَيْنِ بِعَذابِ الحِرْمانِ عَنِ الِاتِّصالِ بِعالَمِ القُدْسِ مُتَألِّمَيْنِ بِالآلامِ الرُّوحانِيَّةِ مَنكُوسَيِ الحالِ، حَيْثُ غَلَبَ التَّعَلُّقُ عَلى التَّجَرُّدِ، وانْعَكَسَ القُرْبُ بِالبُعْدِ، وقِيلَ: المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ الإشارَةُ إلى أنَّ مَن كانَ مَلَكًا إنِ اتَّبَعَ الشَّهْوَةَ هَبَطَ عَنْ دَرَجَةِ المَلائِكَةِ إلى دَرَجَةِ البَهِيمَةِ، ومَن كانَ امْرَأةً ذاتَ شَهْوَةٍ إذا كَسَرَتْ شَهْوَتَها وغَلَبَتْ عَلَيْها، صَعِدَتْ إلى دَرَجِ المَلَكِ، واتَّصَلَتْ إلى سَماءِ المَنازِلِ والمَراتِبِ، وكَتَبَ بَعْضُهم لِحَلِّهِ: ؎مَلَّ وأيْمُ اللَّهِ نَفْسِي نَفْسِي ∗∗∗ وطالَ في مُكْثِ حَياتِي حَبْسِي ؎أصْبَحَ في مَضاجِعِي وأمْسى ∗∗∗ أمْسِي كَيَوْمِي وكَيَوْمِي أمْسِي ؎يا حَبَّذا يَوْمُ نُزُولِي رَمْسِي ∗∗∗ مَبْدَأُ سَعْدِي وانْتِهاءُ نَحْسِي ؎وكُلُّ جِنْسٍ لاحِقٍ بِالجِنْسِ ∗∗∗ مِن جَوْهَرٍ يَرْقى بِدارِ الأُنْسِ ؎(p-342)وعَرْضٌ يَبْقى بِدارِ الحِسِّ هَذا، ومَن قالَ: بِصِحَّةِ هَذِهِ القِصَّةِ في نَفْسِ الأمْرِ، وحَمَلَها عَلى ظاهِرِها فَقَدْ رَكِبَ شَطَطًا، وقالَ غَلَطًا، وفَتَحَ بابًا مِنَ السِّحْرِ يُضْحِكُ المَوْتى، ويُبْكِي الأحْياءَ، ويُنَكِّسُ رايَةَ الإسْلامِ، ويَرْفَعُ رُؤُوسَ الكَفَرَةِ الطَّغامِ، كَما لا يَخْفى ذَلِكَ عَلى المُنْصِفِينَ مِنَ العُلَماءِ المُحَقِّقِينَ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وأبُو الأسْوَدِ، والضَّحّاكُ (المَلِكَيْنِ)، بِكَسْرِ اللّامِ، حَمَلَ بَعْضُهم قِراءَةَ الفَتْحِ عَلى ذَلِكَ، فَقالَ: هُما رَجُلانِ، إلّا أنَّهُما سُمِّيا مَلَكَيْنِ بِاعْتِبارِ صَلاحِهِما، ويُؤَيِّدُهُ ما قِيلَ: إنَّهُما داوُدُ وسُلَيْمانُ، ويَرُدُّهُ قَوْلُ الحَسَنِ: إنَّهُما عِلْجانِ كانا بِبابِلِ العِراقِ، وبَعْضُهم يَقُولُ: إنَّهُما مِنَ المَلائِكَةِ ظَهَرا في صُورَةِ المُلُوكِ، وفِيهِ حَمْلُ الكَسْرِ عَلى الفَتْحِ عَلى عَكْسِ ما تَقَدَّمَ، والإنْزالُ إمّا عَلى ظاهِرِهِ، أوْ بِمَعْنى القَذْفِ في قُلُوبِهِما، (بِبابِلَ) الباءُ بِمَعْنى فِي، وهي مُتَعَلِّقَةٌ (بِأُنْزِلَ)، أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ المَلَكَيْنِ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في أُنْزِلَ، وهي كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: بَلَدٌ في سَوادِ الكُوفَةِ، وقِيلَ: بابِلُ العِراقِ، وقالَ قَتادَةُ: هي مِن نُصَيْبِينَ إلى رَأْسِ العَيْنِ، وقِيلَ: جَبَلُ دَماوَنْدَ، وقِيلَ: بَلَدٌ بِالمَغْرِبِ، والمَشْهُورُ اليَوْمَ الثّانِي، وعِنْدَ البَعْضِ هو الأوَّلُ، قِيلَ: وسُمِّيَتْ بابِلَ، لِتَبَلْبُلِ الألْسِنَةِ فِيها عِنْدَ سُقُوطِ صَرْحِ نُمْرُودَ، وأخْرَجَ الدِّينَوَرِيُّ في المُجالَسَةِ، وابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ سالِمٍ، وهو مُتَّهَمٌ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: لَمّا حَشَرَ اللَّهُ تَعالى الخَلائِقَ إلى بابِلَ بَعَثَ إلَيْهِمْ رِيحًا شَرْقِيَّةً وغَرْبِيَّةً، وقِبْلِيَّةً وبَحْرِيَّةً، فَجَمَعَتْهم إلى بابِلَ، فاجْتَمَعُوا يَوْمَئِذٍ يَنْظُرُونَ لِما حُشِرُوا لَهُ، إذْ نادى مُنادٍ: مَن جَعَلَ المَغْرِبَ عَنْ يَمِينِهِ والمَشْرِقَ عَنْ يَسارِهِ، واقْتَصَدَ إلى البَيْتِ الحَرامِ بِوَجْهِهِ، فَلَهُ كَلامُ أهْلِ السَّماءِ، فَقامَ يَعْرُبُ ابْنُ قَحْطانَ فَقِيلَ لَهُ: يا يَعْرُبُ بْنَ قَحْطانَ بْنِ هُودٍ أنْتَ هُوَ، فَكانَ أوَّلَ مَن تَكَلَّمَ بِالعَرَبِيَّةِ، فَلَمْ يَزَلِ المُنادِي يُنادِي مَن فَعَلَ كَذا وكَذا، فَلَهُ كَذا وكَذا، حَتّى افَتَرَقُوا عَلى اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ لِسانًا، وانْقَطَعَ الصَّوْتُ، وتَبَلْبَلَتِ الألْسُنُ، فَسُمِّيَتْ بابِلَ، وكانَ اللِّسانُ يَوْمَئِذٍ بابِلِيًّا، وعِنْدِي في القَوْلَيْنِ تَرَدُّدٌ، بَلْ عَدَمُ قَبُولٍ، والَّذِي أمِيلُ إلَيْهِ أنَّ بابِلَ اسْمٌ أعْجَمِيٌّ كَما نَصَّ عَلَيْهِ أبُو حَيّانَ لا عَرَبِيٌّ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ الأخْفَشِ، وأنَّهُ في الأصْلِ اسْمٌ لِلنَّهَرِ الكَبِيرِ في بَعْضِ اللُّغاتِ الأعْجَمِيَّةِ القَدِيمَةِ، وقَدْ أُطْلِقَ عَلى تِلْكَ الأرْضِ لِقُرْبِ الفُراتِ مِنها، ولَعَلَّ ذَلَكَ مِن قَبِيلِ تَسْمِيَةِ بَغْدادَ دارَ السَّلامِ بِناءً عَلى أنَّ السَّلامَ اسْمٌ لِدِجْلَةَ، وقَدْ رَأيْتُ لِذَلِكَ تَفْصِيلًا لا أدْرِيهِ اليَوْمَ في أيِّ كِتابٍ، وأظُنُّهُ قَرِيبًا مِمّا ذَكَرْتُهُ، فَلْيُحْفَظْ، ومَنَعَ بَعْضُهُمُ الصَّلاةَ بِأرْضٍ بابِلَ احْتِجاجًا بِما أخْرَجَ أبُو داوُدَ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ «عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّ حَبِيبِي صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ نَهانِي أنْ أُصَلِّيَ بِأرْضِ بابِلَ،» فَإنَّها مَلْعُونَةٌ، وقالَ الخَطّابِيُّ: في إسْنادِ هَذا الحَدِيثِ مَقالٌ، ولا أعْلَمُ أحَدًا مِنَ العُلَماءِ حَرَّمَ الصَّلاةَ بِها، ويُشْبِهُ إنْ ثَبَتَ الحَدِيثُ أنْ يَكُونَ نَهاهُ عَنْ أنْ يَتَّخِذَها وطَنًا ومَقامًا، فَإذا أقامَ بِها كانَتْ صَلاتُهُ فِيها، وهَذا مِن بابِ التَّعْلِيقِ في عِلْمِ البَيانِ، أوْ لَعَلَّ النَّهْيَ لَهُ خاصَّةً، ألا تَرى قالَ: نَهانِي، ومِثْلُهُ حَدِيثٌ آخَرُ: (نَهانِي) أقْرَأُ ساجِدًا أوْ راكِعًا، ولا أقُولُ: (نَهاكُمْ)، وكانَ ذَلِكَ إنْذارًا مِنهُ بِما لَقِيَ مِنَ المِحْنَةِ في تِلْكَ النّاحِيَةِ، ﴿هارُوتَ ومارُوتَ﴾ عَطْفُ بَيانٍ لِلْمَلَكَيْنِ، وهُما اسْمانِ أعْجَمِيّانِ لَهُما، مُنِعا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وقِيلَ: عَرَبِيّانِ مِنَ الهَرْتِ والمَرْتِ بِمَعْنى الكَسْرِ، وكانَ اسْمُهُما قَبْلُ: عَزا، وعَزايا، فَلَمّا قارَفا الذَّنْبَ سُمِّيا بِذَلِكَ، ويُشْكِلُ عَلَيْهِ مَنعُهُما مِنَ الصَّرْفِ، ولَيْسَ إلّا العَلَمِيَّةُ، وتَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُهم بِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُما مَعْدُولانِ مِنَ الهارِتِ والمارِتِ، وانْحِصارُ العَدْلِ في الأوْزانِ المَحْفُوظَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وهو كَما تَرى، وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ بِرَفْعِهِما عَلى أنَّ التَّقْدِيرَ هُما هارُوتُ ومارُوتُ، ومِمّا يَقْضِي مِنهُ العَجَبَ ما قالَهُ الإمامُ القُرْطُبِيُّ: إنَّ هارُوتَ ومارُوتَ (p-343)بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينِ عَلى قِراءَةِ التَّشْدِيدِ، (وما) في ﴿وما أُنْزِلَ﴾ نافِيَةٌ، والمُرادُ مِنَ المَلَكَيْنِ جَبْرائِيلُ ومِيكائِيلُ، لِأنَّ اليَهُودَ زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَهُما بِالسِّحْرِ، وفي الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والتَّقْدِيرُ: وما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ، ولَكِنَّ الشَّياطِينَ هارُوتَ ومارُوتَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ، وعَلَيْهِ فالبَدَلُ إمّا بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، ونُصَّ عَلَيْهِما بِالذِّكْرِ لِتَمَرُّدِهِما، ولِكَوْنِهِما رَأْسًا في التَّعْلِيمِ، أوْ بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ، إمّا بِناءً عَلى أنَّ الجَمْعَ يُطْلَقُ عَلى الِاثْنَيْنِ، أوْ عَلى أنَّهُما عِبارَتانِ عَنْ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الشَّياطِينِ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُما بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وأعْجَبُ مِن قَوْلِهِ هَذا قَوْلُهُ: وهَذا أوْلى ما حُمِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ مِنَ التَّأْوِيلِ وأصَحُّ ما قِيلَ فِيها، ولا تَلْتَفِتْ إلى ما سِواهُ، ولا يَخْفى لَدى كُلِّ مُنْصِفٍ أنَّهُ لا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ حَمْلُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى وهو في أعْلى مَراتِبِ البَلاغَةِ والفَصاحَةِ عَلى ما هو أدْنى مِن ذَلِكَ، وما هو إلّا مَسْخٌ لِكِتابِ اللَّهِ تَعالى عَزَّ شَأْنُهُ، وإهْباطٌ لَهُ عَنْ شَأْوْاهُ، ومَفاسِدُ قِلَّةِ البِضاعَةِ لا تُحْصى، وقِيلَ: إنَّهُما بَدَلٌ مِنَ النّاسِ، أيْ يُعَلِّمُونَ النّاسَ خُصُوصًا هارُوتَ ومارُوتَ، والنَّفْيُ هو النَّفْيُ. ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ أيْ ما يُعَلِّمُ المَلَكانِ أحَدًا حَتّى يَنْصَحاهُ ويَقُولا لَهُ: إنَّما نَحْنُ ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَمَن تَعَلَّمَ مِنّا وعَمِلَ بِهِ كَفَرَ، ومَن تَعَلَّمَ وتَوَقّى ثَبَتَ عَلى الإيمانِ، (فَلا تَكْفُرْ) بِاعْتِقادِهِ وجَوازِ العَمَلِ بِهِ، وقِيلَ: فَلا تَتَعَلَّمْ مُعْتَقِدًا إنَّهُ حَقٌّ، حَتّى تَكْفُرَ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى رَأْيِ الِاعْتِزالِ مِن أنَّ السِّحْرَ تَمْوِيهٌ، وتَخْيِيلٌ، ومَنِ اعْتَقَدَ حَقِّيَّتَهُ يَكْفُرُ، (ومِن) مَزِيدَةٌ في المَفْعُولِ بِهِ، لِإفادَةِ تَأْكِيدِ الِاسْتِغْراقِ، وإفْرادُ الفِتْنَةِ مَعَ تَعَدُّدِ المُخْبَرِ عَنْهُ لِكَوْنِها مَصْدَرًا، والحَمْلُ مُواطَأةً لِلْمُبالَغَةِ، والقَصْرُ لِبَيانِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُما فِيما يَتَعاطَيانِهِ شَأْنٌ سِواها، لِيَنْصَرِفَ النّاسُ عَنْ تَعَلُّمِهِ، (وحَتّى) لِلْغايَةِ، وقِيلَ: بِمَعْنى إلّا، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِيَّةِ مِن ضَمِيرِ (يُعَلِّمُونَ)، والظّاهِرُ أنَّ القَوْلَ مَرَّةٌ واحِدَةٌ، والقَوْلُ بِأنَّهُ ثَلاثٌ، أوْ سَبْعٌ، أوْ تِسْعٌ لا ثَبَتَ لَهُ، واخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي ذَلِكَ العِلْمِ مِنهُما، فَقالَ مُجاهِدٌ: إنَّهُما لا يَصِلُ إلَيْهِما أحَدٌ مِنَ النّاسِ، وإنَّما يَخْتَلِفُ إلَيْهِما شَيْطانانِ في كُلِّ سَنَةٍ اخْتِلافَةً واحِدَةً فَيَتَعَلَّمانِ مِنهُما، وقِيلَ: وهو الظّاهِرُ: إنَّهُما كانَ يُباشِرانِ التَّعْلِيمَ بِأنْفُسِهِما في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ، والأقْرَبُ أنَّهُما لَيْسا إذْ ذاكَ عَلى الصُّورَةِ المَلَكِيَّةِ، وأمّا ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أنَّها قالَتْ: (قَدِمَتْ عَلَيَّ امْرَأةٌ مِن أهْلِ دُومَةِ الجَنْدَلِ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، تَسْألُهُ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيهِ مِن أمْرِ السِّحْرِ، ولَمْ تَعْمَلْ بِهِ، قالَتْ: كانَ لِي زَوْجٌ غابَ عَنِّي، فَدَخَلْتُ عَلى عَجُوزٍ، فَشَكَوْتُ إلَيْها، فَقالَتْ: إنْ فَعَلْتِ ما آمُرُكِ أجْعَلُهُ يَأْتِيكِ، فَلَمّا كانَ اللَّيْلُ جاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أسْوَدَيْنِ، فَرَكِبَتْ أحَدَهُما، ورَكِبْتُ الآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ كَشَيْءٍ، حَتّى وقَفْنا بِبابِلَ، فَإذا أنا بَرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأرْجُلِهِما، فَقالا: ما جاءَ بِكِ؟ فَقُلْتُ: أتَعَلَّمُ السِّحْرَ فَقالا: إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرِي، وارْجِعِي فَأبَيْتُ وقُلْتُ: لا، قالا: فاذْهَبِي إلى ذَلِكَ التَّنُّورِ، فَبُولِي بِهِ، إلى أنْ قالَتْ: فَذَهَبْتُ فَبُلْتُ فِيهِ، فَرَأيْتُ فارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ، خَرَجَ مِنِّي حَتّى ذَهَبَ إلى السَّماءِ، وغابَ عَنِّي، حَتّى ما أراهُ، فَجِئْتُهُما، وذَكَرْتُ لَهُما، فَقالا: صَدَقْتِ، ذَلِكَ إيمانُكِ خَرَجَ مِنكِ، اذْهَبِي فَلَنْ تُرِيدِي شَيْئًا إلّا كانَ)، الخَبَرَ بِطُولِهِ، فَهو ونَظائِرُهُ مِمّا ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ مِنَ القِصَصِ في هَذا البابِ مِمّا لا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ ذَوُو الألْبابِ، والإقْدامُ عَلى تَكْذِيبِ مِثْلِ هَذِهِ الِامْرَأةِ الدُّوجَنْدِيَّةِ أوْلى مِنَ اتِّهامِ العَقْلِ في قَبُولِ هَذِهِ الحِكايَةِ الَّتِي لَمْ يَصِحَّ فِيها شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ رَبِّ البَرِيَّةِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ويا لَيْتَ كُتُبَ الإسْلامِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلى هَذِهِ الخُرافاتِ الَّتِي لا يُصَدِّقُها العاقِلُ، ولَوْ كانَتْ أضْغاثَ أحْلامٍ، واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ مَن جَوَّزَ تَعَلُّمَ السِّحْرِ، ووَجْهُهُ أنَّ فِيها دِلالَةً عَلى وُقُوعِ التَّعْلِيمِ مِنَ المَلائِكَةِ مَعَ عِصْمَتِهِمْ، والتَّعَلُّمُ مُطاوِعٌ لَهُ، بَلْ هُما مُتَّحِدانِ بِالذّاتِ مُخْتَلِفانِ بِالِاعْتِبارِ كالإيجابِ (p-344)والوُجُوبِ، ولا يَخْفى أنَّهُ لا دَلِيلَ فِيها عَلى الجَوازِ مُطْلَقًا، لِأنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيمَ كانَ لِلِابْتِلاءِ والتَّمْيِيزِ، كَما قَدَّمْنا، وقَدْ ذَكَرَ القائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ: إنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ إذا فُرِضَ فُشُّوهُ في صُقْعٍ، وأُرِيدَ تَبْيِينُ فَسادِهِ لَهُمْ، لِيَرْجِعُوا إلى الحَقِّ غَيْرُ حَرامٍ كَما لا يَحْرُمُ تَعَلُّمُ الفَلْسَفَةِ لِلْمَنصُوبِ لِلذَّبِّ عَنِ الدِّينِ بِرَدِّ الشُّبَهِ، وإنْ كانَ أغْلَبُ أحْوالِهِ التَّحْرِيمَ، وهَذا يُنافِي إطْلاقَ القَوْلِ بِهِ، ومَن قالَ: إنَّ هارُوتَ ومارُوتَ مِنَ الشَّياطِينِ قالَ: إنَّ مَعْنى الآيَةِ ما يُعَلِّمانِ السِّحْرَ أحَدًا حَتّى يَنْصَحاهُ ويَقُولا: إنّا مَفْتُونانِ بِاعْتِقادِ جَوازِهِ والعَمَلِ بِهِ، فَلا تَكُنْ مِثْلَنا في ذَلِكَ فَتَكْفُرَ، وحِينَئِذٍ لا اسْتِدْلالَ أصْلًا، وما ذَكَرْنا أنَّ القَوْلَ عَلى سَبِيلِ النُّصْحِ في هَذا الوَجْهِ هو الظّاهِرُ، وحَكى المَهْدَوِيُّ أنَّهُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ لا النَّصِيحَةِ، وهو الأنْسَبُ بِحالِ الشَّياطِينِ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (يُعْلِمانِ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الإعْلامِ، وعَلَيْها حَمَلَ بَعْضُهم قِراءَةَ التَّشْدِيدِ، وقَرَأ أُبَيٌّ بِإظْهارِ الفاعِلِ، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما﴾ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ، لِأنَّها في قُوَّةِ المُثْبَتَةِ كَأنَّهُ قالَ: يُعَلِّمانِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ القَوْلِ فَيَتَعَلَّمُونَ، ولَيْسَ عَطْفًا عَلى المَنفِيِّ بِدُونِ هَذا الِاعْتِبارِ، كَما تَوَهَّمَهُ أبُو عَلِيٍّ مِن كَلامِ الزَّجّاجِ، وعَطَفَهُ بَعْضُهم عَلى (يُعَلِّمانِ) مَحْذُوفًا، وبَعْضُهم عَلى (يَأْتُونَ) كَذَلِكَ، والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ لِما دَلَّ عَلَيْهِ (أحَدٍ) وهو النّاسُ، أوْ لِأحَدٍ، حَمْلًا لَهُ عَلى المَعْنى، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ وحَكى المَهْدَوِيُّ جَوازَ العَطْفِ عَلى ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ﴾ فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ حِينَئِذٍ ظاهِرٌ، وقِيلَ: في الكَلامِ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أيْ فَهم يَتَعَلَّمُونَ، فَتَكُونُ جُمْلَةً ابْتِدائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلى ما قَبْلَها مِن عَطْفِ الِاسْمِيَّةِ عَلى الفِعْلِيَّةِ، ونُسِبَ ذَلِكَ إلى سِيبَوَيْهِ، ولَيْسَ بِالجَيِّدِ، وضَمِيرُ (مِنهُما) عائِدٌ عَلى المَلَكَيْنِ، ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَهُ عائِدًا إلى السِّحْرِ والكُفْرِ، أوِ الفِتْنَةِ والسِّحْرِ، وعَطَفَ (يَتَعَلَّمُونَ) عَلى (يُعَلِّمُونَ)، وحَمَلَ (ما يُعَلِّمانِ) عَلى النَّفْيِ، (وحَتّى يَقُولا) عَلى التَّأْكِيدِ لَهُ، أيْ لا يُعَلِّمانِ السِّحْرَ لِأحَدٍ بَلْ يَنْهَيانِهِ حَتّى يَقُولا إلَخْ، فَهو كَقَوْلِكَ: ما أمَرْتُهُ بِكَذا حَتّى قُلْتُ لَهُ: إنْ فَعَلْتَ نالَكَ كَذا وكَذا، وجُعِلَ (ما أُنْزِلَ) أيْضًا نَفْيًا مَعْطُوفًا عَلى (ما كَفَرَ)، وهو كَما تَرى، ﴿ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ أيِ الَّذِي، أوْ شَيْئًا يُفَرِّقُونَ بِهِ، وهو السِّحْرُ المُزِيلُ بِطَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ الأُلْفَةَ والمَحَبَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، المُوقِعُ لِلْبَغْضاءِ والشَّحْناءِ المُوجِبَتَيْنِ لِلتَّفَرُّقِ بَيْنَهُما، وقِيلَ: المُرادُ ما يُفَرِّقُ لِكَوْنِهِ كُفْرًا، لِأنَّهُ إذا تَعَلَّمَ كَفَرَ فَبانَتْ زَوْجَتُهُ، أوْ إذا تَعَلَّمَ عَمِلَ فَتَراهُ النّاسُ فَيَعْتَقِدُونَ أنَّهُ حَقٌّ، فَيَكْفُرُونَ، فَتَبِينُ أزْواجُهُمْ، والمَرْءُ الرَّجُلُ، والأفْصَحُ فَتْحُ المِيمِ مُطْلَقًا، وحُكِيَ الضَّمُّ مُطْلَقًا، وحُكِيَ الإتْباعُ لِحَرَكَةِ الإعْرابِ، ومُؤَنَّثُهُ المَرْأةُ وقَدْ جاءَ جَمْعُهُ بِالواوِ والنُّونِ فَقالُوا: المَرْؤُونَ، والزَّوْجُ امْرَأةُ الرَّجُلِ وقِيلَ: المُرادُ بِهِ هُنا القَرِيبُ والأخُ المُلائِمُ، ومِنهُ ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ و﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ (المَرِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ مُخَفَّفًا، وابْنُ أبِي إسْحاقَ (المُرْءِ) بِضَمِّ المِيمِ مَعَ الهَمْزِ، والأشْهَبُ بِالكَسْرِ والهَمْزِ، ورُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ أيْضًا (المَرِّ) بِالفَتْحِ وإسْقاطِ الهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ الرّاءِ، ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ﴾ الضَّمِيرُ لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ عادَ إلَيْهِمْ ضَمِيرُ (فَيَتَعَلَّمُونَ)، وقِيلَ: لِلْيَهُودِ الَّذِينَ عادَ إلَيْهِمْ ضَمِيرُ (واتَّبَعُوا)، وقِيلَ: لِلشَّياطِينِ، وضَمِيرُ بِهِ عائِدٌ (لِما)، (ومِن) زائِدَةٌ لِاسْتِغْراقِ النَّفْيِ كَأنَّهُ قِيلَ: وما يَضُرُّونَ بِهِ أحَدًا، وقَرَأ الأعْمَشُ (بِضارِّي) مَحْذُوفَ النُّونِ، وخُرِّجَ عَلى أنَّها حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وإنْ كانَ اسْمُ الفاعِلِ لَيْسَ صِلَةً لِألْ، فَقَدْ نَصَّ ابْنُ مالِكٍ عَلى عَدَمِ الِاشْتِراطِ لِقَوْلِهِ: ؎ولَسْنا إذا تَأْتُونَ سَلْمى بِمُدَّعِي ∗∗∗ لَكم غَيْرَ أنّا أنْ نُسالَمَ نُسالِمُ وقَوْلُهم: قَطاقَطا بَيْضُكَ ثِنْتا وبَيْضِي مِائَتا، وقِيلَ: إنَّها حُذِفَتْ لِلْإضافَةِ إلى مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ لَفْظًا عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ، في أحَدِ الوُجُوهِ، وقِيلَ: لِلْإضافَةِ إلى أحَدٍ عَلى جَعْلِ الجارِّ جُزْءًا مِنهُ، والفَصْلُ بِالظَّرْفِ (p-345)مَسْمُوعٌ، كَما في قَوْلِهِ: ؎هُما أخَوا في الحَرْبِ مَن لا أخالُهُ ∗∗∗ وإنْ خافَ يَوْمًا كَبْوَةً فَدَعاهُما واخْتارَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفِيهِ أنَّ جَعْلَ الجارِّ جُزْءًا مِنَ المَجْرُورِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ، وجُزْءُ الشَّيْءِ لا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وأيْضًا الفَصْلُ بَيْنَ المُتَضايِفَيْنِ بِالظَّرْفِ، وإنْ سُمِعَ مِن ضَرائِرِ الشِّعْرِ كَما صَرَّحَ بِهِ أبُو حَيّانَ، ولِظَنٍّ تَعَيَّنَ هَذا مَخْرَجًا، قالَ ابْنُ جِنِّي: إنَّ هَذِهِ القِراءَةَ أبْعَدُ الشَّواذِّ ﴿إلا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الأحْوالِ، والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن ضَمِيرِ (ضارِّينَ) أوْ مِن مَفْعُولِهِ المُعْتَمِدِ عَلى النَّفْيِ، أوِ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ في (بِهِ) أوِ المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنَ الوَصْفِ، والمُرادُ مِنَ الإذْنِ هُنا التَّخْلِيَةُ بَيْنَ المَسْحُورِ وضَرَرِ السِّحْرِ، قالَهُ الحَسَنُ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ فِيهِ ضَرَرًا مُودَعًا، إذا شاءَ اللَّهُ تَعالى حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، وإذا شاءَ خَلّاهُ، وما أوْدَعَهُ فِيهِ، وهَذا مَذْهَبُ السَّلَفِ في سائِرِ الأسْبابِ والمُسَبَّباتِ، وقِيلَ: الإذْنُ بِمَعْنى الأمْرِ، ويُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ التَّكْوِينِ بِعَلاقَةِ تَرَتُّبِ الوُجُودِ عَلى كُلٍّ مِنهُما في الجُمْلَةِ، والقَرِينَةُ عَدَمُ كَوْنِ القَبائِحِ مَأْمُورًا بِها، فَفِيهِ نَفْيُ كَوْنِ الأسْبابِ مُؤَثِّرَةً بِنَفْسِها، بَلْ بِجَعْلِهِ إيّاها أسْبابًا إمّا عادِيَّةً أوْ حَقِيقِيَّةً، وقِيلَ: إنَّهُ هُنا بِمَعْنى العِلْمِ، ولَيْسَ فِيهِ إشارَةٌ إلى نَفْيِ التَّأْثِيرِ بِالذّاتِ كالوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ. ﴿ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ﴾ لِأنَّهم يَقْصِدُونَ بِهِ العَمَلَ قَصْدًا جازِمًا، وقَصْدُ المَعْصِيَةِ كَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، أوْ لِأنَّ العِلْمَ يَدْعُو إلى العَمَلِ، ويَجُرُّ إلَيْهِ لا سِيَّما عَمَلُ الشَّرِّ الَّذِي هو هَوى النَّفْسِ، فَصِيغَةُ المُضارِعِ لِلْحالِ عَلى الأوَّلِ، ولِلِاسْتِقْبالِ عَلى الثّانِي، (ولا يَنْفَعُهُمْ) عُطِفَ عَلى ما قَبْلَهُ لِلْإيذانِ بِأنَّهُ شَرٌّ بَحْتٌ وضَرَرٌ مَحْضٌ، لا كَبَعْضِ المَضارِّ المَشُوبَةِ بِنَفْعٍ وضَرَرٍ، لِأنَّهم لا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّخَلُّصَ عَنِ الِاغْتِرارِ بِأكاذِيبِ السَّحَرَةِ، ولا إماطَةَ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ حَتّى يَكُونَ فِيهِ نَفْعٌ في الجُمْلَةِ، وفي الإتْيانِ (بِلا) إشارَةٌ إلى أنَّهُ غَيْرُ نافِعٍ في الدّارَيْنِ، لِأنَّهُ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِانْتِظامِ المَعاشِ ولا المَعادِ، وفي الحُكْمِ بِأنَّهُ ضارٌّ غَيْرُ نافِعٍ تَحْذِيرٌ بَلِيغٌ لِمَن ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، عَنْ تَعاطِيهِ، وتَحْرِيضٌ عَلى التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ (لا يَنْفَعُهُمْ) عَلى إضْمارِ هُوَ، فَيَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وتَكُونَ الواوُ لِلْحالِ، ولا يَخْفى ضَعْفُهُ، ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَمّا جاءَهُمْ﴾ إلَخْ، وقِصَّةُ السِّحْرِ مُسْتَطْرِدَةٌ في البَيْنِ، فالضَّمِيرُ لِأُولَئِكَ اليَهُودِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كانُوا عَلى عَهْدِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: لِلْمَلَكَيْنِ لِأنَّهُما كانا يَقُولانِ: فَلا تَكْفُرْ، وأتى بِضَمِيرِ الجَمْعِ عَلى قَوْلِ مَن يَرى ذَلِكَ، ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ أيِ اسْتَبْدَلَ ما تَتْلُو الشَّياطِينُ بِكِتابِ اللَّهِ، واللّامُ لِلِابْتِداءِ، وتَدْخُلُ عَلى المُبْتَدَإ، وعَلى المُضارِعِ، ودُخُولُها عَلى الماضِي مَعَ قَدْ كَثِيرٌ، وبِدُونِهِ مُمْتَنِعٌ، وعَلى خَبَرِ المُبْتَدَإ، إذا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وعَلى مَعْمُولِ الخَبَرِ إذا وقَعَ مَوْقِعَ المُبْتَدَإ، والكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَها في الجَمِيعِ جَوابَ القَسَمِ المُقَدَّرِ، ولَيْسَ في الوُجُودِ عِنْدَهم لامُ ابْتِداءٍ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ الرَّضِيِّ، وقَدْ عُلِّقَتْ هُنا (عَلِمَ) عَنِ العَمَلِ سَواءٌ كانَتْ مُتَعَدِّيَةً لِمَفْعُولٍ، أوْ مَفْعُولَيْنِ، فَمِن مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، واشْتَراهُ صِلَتُها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ جُمْلَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ خَبَرُها، (ومِن) مَزِيدَةٌ في المُبْتَدَإ، (وفِي الآخِرَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، أوْ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِيهِ، أوْ مِن مَرْجِعِهِ، والخَلاقُ النَّصِيبُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوِ القِوامُ، قالُهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، أوِ القَدْرُ، قالَهُ قَتادَةُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎فَما لَكَ بَيْتٌ لَدى الشّامِخاتِ ∗∗∗ وما لَكَ في غالِبٍ مِن خَلاقِ (p-346)قالَ الزَّجّاجُ: وأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ في الخَيْرِ، ويَكُونُ لِلشَّرِّ عَلى قِلَّةٍ، وذَهَبَ أبُو البَقاءِ تَبَعًا لِلْفَرّاءِ إلى أنَّ اللّامَ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، (ومِن) شَرْطِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ، (واشْتَراهُ) خَبَرُها، (وما لَهُ) إلَخْ، جَوابُ القَسَمِ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ هو عَلَيْهِ، لِأنَّهُ إذا اجْتَمَعَ قَسَمٌ وشَرْطٌ يُجابُ سابِقُهُما غالِبًا، وفِيهِ ما فِيهِ لِأنَّهُ نُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ رَدُّ مَن قالَ بِشَرْطِيَّةِ (مَن) هُنا بِأنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ، ووَجَّهَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ الفِعْلَ ماضٍ لَفْظًا، ومَعْنًى، لِأنَّ الِاشْتِراءَ قَدْ وقَعَ، فَجَعْلُهُ شَرْطًا لا يَصِحُّ، لِأنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إذا كانَ ماضِيًا لَفْظًا فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا مَعْنًى، وقَدْ ذَكَرَ الرَّضِيُّ فِي: لَزَيْدٌ قائِمٌ، أنَّ الأوْلى كَوْنُ اللّامِ فِيهِ لامَ الِابْتِداءِ مُفِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ، ولا يُقَدَّرُ القَسَمُ كَما فَعَلَهُ الكُوفِيَّةُ، لِأنَّ الأصْلَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، والتَّأْكِيدُ المَطْلُوبُ مِنَ القَسَمِ حاصِلٌ مِنَ اللّامِ، والقَوْلُ بِأنَّ اللّامَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولى أوْ زائِدَةٌ مِمّا لا يَكادُ يَصِحُّ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ بِناءَ الكَلِمَةِ إذا كانَ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ لا يُكَرَّرُ وحْدَهُ، بَلْ مَعَ عِمادِهِ، إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، عَلى ما ارْتَضاهُ الرَّضِيُّ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ المَعْهُودَ زِيادَةُ اللّامِ الجارَّةِ، وهي مَكْسُورَةٌ في الِاسْمِ الظّاهِرِ. ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ اللّامُ فِيهِ لامُ ابْتِداءٍ أيْضًا، والمَشْهُورُ إنَّها جَوابُ القَسَمِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى القَسَمِيَّةِ الأُولى، (وما) نَكِرَةٌ مُمَيِّزَةٌ لِلضَّمِيرِ المُبْهَمِ، في بِئْسَ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، (وشَرَوْا)، يَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ، والظّاهِرُ هو الظّاهِرُ، أيْ واللَّهِ لَبِئْسَ شَيْئًا شَرَوْا بِهِ حُظُوظَ أنْفُسِهِمْ أيْ باعُوها، أوْ شَرَوْها في زَعْمِهِمْ ذَلِكَ الشِّراءَ، وفي البَحْرِ: بِئْسَما باعُوا أنْفُسَهُمُ السِّحْرُ أوِ الكُفْرُ، ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ مَذْمُومِيَّةَ الشِّراءِ المَذْكُورِ لامْتَنَعُوا عَنْهُ، ولا تَنافِيَ بَيْنَ إثْباتِ العِلْمِ لَهم أوَّلًا، ونَفْيِهِ عَنْهم ثانِيًا، إمّا لِأنَّ المُثْبَتَ لَهم هو العَقْلُ الغَرِيزِيُّ، والمَنفِيُّ عَنْهم هو الكَسْبُ الَّذِي هو مِن جُمْلَةِ التَّكْلِيفِ، أوْ لِأنَّ الأوَّلَ هو العِلْمُ بِالجُمْلَةِ، والثّانِيَ هو العِلْمُ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَدْ يَعْلَمُ الإنْسانُ مَثَلًا قُبْحَ الشَّيْءِ، ثُمَّ لا يَعْلَمُ أنَّ فِعْلَهُ قَبِيحٌ، فَكَأنَّهم عَلِمُوا أنَّ شِراءَ النَّفْسِ بِالسِّحْرِ مَذْمُومٌ، لَكِنْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنَّ ما يَفْعَلُونَهُ هو مِن جُمْلَةِ ذَلِكَ القَبِيحِ، أوْ لِأنَّهم عَلِمُوا العِقابَ، ولَمْ يَعْلَمُوا حَقِيقَتَهُ، وشِدَّتَهُ، وإمّا لِأنَّ الكَلامَ مُخَرَّجٌ عَلى تَنْزِيلِ العالِمِ بِالشَّيْءِ مَنزِلَةَ الجاهِلِ، ووُجُودِ الشَّيْءِ مَنزِلَةَ عَدَمِهِ، لِعَدَمِ ثَمَرَتِهِ، حَيْثُ إنَّهم لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ، أوْ عَلى تَنْزِيلِ العالِمِ بِفائِدَةِ الخَبَرِ، ولازِمِها مَنزِلَةَ الجاهِلِ بِناءً عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ مَعْناهُ لَوْ كانَ لَهم عِلْمٌ بِذَلِكَ الشِّراءِ لامْتَنَعُوا مِنهُ، أيْ لَيْسَ لَهم عِلْمٌ، فَلا يَمْتَنِعُونَ، وهَذا هو الخَبَرُ المُلْقى إلَيْهِمْ، واعْتِراضُ العَلّامَةِ بِأنَّ هَذا الخَبَرَ لَوْ فُرِضَ كَوْنُهُ مُلْقًى إلَيْهِمْ فَلا مَعْنى لِكَوْنِهِمْ عالِمِينَ بِمَضْمُونِهِ، كَيْفَ وقَدْ تَحَقَّقَ في ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ نَقِيضُهُ، وهو أنَّ لَهم عِلْمًا بِهِ، وبَعْدَ اللُّتَيّا والَّتِي لا مَعْنى لِتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ الجاهِلِ، بِأنْ لَيْسَ لَهم عِلْمٌ بِأنَّ مَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ، بَلْ إنْ كانَ فَلا بُدَّ أنْ يُنَزَّلُوا مَنزِلَةَ الجاهِلِ بِأنَّ لَهم عِلْمًا بِذَلِكَ، يُجابُ عَنْهُ: أمّا أوَّلًا، فَبِأنَّ الخِطابَ صَرِيحًا لِلرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتَعْرِيضًا لَهُمْ، ولِذا أُكِّدَ، وأمّا ثانِيًا فَبِأنَّ المُسْتَفادَ مِن ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ ثُبُوتُ العِلْمِ لَهم حَقِيقَةً، والمُسْتَفادُ مِنَ الخَبَرِ المُلْقى لَهم نَفْيُ العِلْمِ عَنْهم تَنْزِيلًا، ولا مُنافاةَ بَيْنَهُما، وأمّا ثالِثًا فَبِأنَّ العالِمَ إذا عَمِلَ بِخِلافِ عِلْمِهِ كانَ عالِمًا بِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ الجاهِلِ في عَدَمِ تَرَتُّبِ ثَمَرَةِ عِلْمِهِ، ومُقْتَضى هَذا العِلْمِ أنْ يَمْتَنِعَ عَنْ ذَلِكَ العَمَلِ، فَفِيما نَحْنُ فِيهِ كانُوا عالِمِينَ فِيهِ بِأنْ لَيْسَ لَهم عِلْمٌ، وأنَّهم بِمَنزِلَةِ الجاهِلِ في ذَلِكَ الشِّراءِ، ومُقْتَضى هَذا العِلْمِ أنْ يَمْتَنِعُوا عَنْهُ، وإذا لَمْ يَمْتَنِعُوا كانُوا بِمَنزِلَةِ الجاهِلِ في عَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلى مُقْتَضى هَذا العِلْمِ، فَألْقى الخَبَرَ إلَيْهِمْ بِأنْ لَيْسَ لَهم عِلْمٌ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ، كَذا قِيلَ، ولا يَخْفى ما فِيهِ مِن شِدَّةِ التَّكَلُّفِ، وأجابَ بَعْضُهم عَمّا يَتَراءى مِنَ التَّنافِي بِأنَّ مَفْعُولَ (يَعْلَمُونَ) ما دَلَّ عَلَيْهِ (لِبِئْسَما شَرَوْا) إلَخْ، أعْنِي مَذْمُومِيَّةَ الشِّراءِ، ومَفْعُولُ (عَلِمُوا) أنَّهُ لا نَصِيبَ لَهم (p-347)فِي الآخِرَةِ، والعِلْمُ بِأنَّهُ لا نَصِيبَ لَهم في الآخِرَةِ لا يُنافِي نَفْيَ العِلْمِ بِمَذْمُومِيَّةِ الشِّراءِ بِأنْ يَعْتَقِدُوا إباحَتَهُ فَلا حاجَةَ حِينَئِذٍ إلى جَمِيعِ ما سَبَقَ، وفِيهِ أنَّ العِلْمَ بِكَوْنِ الشِّراءِ المَذْكُورِ مُوجِبًا لِلْحِرْمانِ في الآخِرَةِ بِدُونِ العِلْمِ بِكَوْنِهِ مَذْمُومًا غايَةَ المَذْمُومِيَّةِ مِمّا لا يَكادُ يُعْقَلُ عِنْدَ أرْبابِ العُقُولِ، والقَوْلُ بِأنَّ مَفْعُولَ (عَلِمُوا) مَحْذُوفٌ أيْ لَقَدْ عَلِمُوا أنَّهُ يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ، (ولَمَنِ اشْتَراهُ) مُرْتَبِطٌ بِأوَّلِ القِصَّةِ، وضَمِيرُ (لَبِئْسَما شَرَوْا) (لِمَنِ اشْتَراهُ) رَكِيكٌ جِدًّا، وبِئْسَما يُشْتَرى، ودَفْعَ التَّنافِيَ بِأنَّهُ أثْبَتَ أوَّلًا العِلْمَ بِسُوءِ ما شَرَوْهُ بِالكِتابِ بِحَسَبِ الآخِرَةِ، ثُمَّ ذَمَّ بِالسُّوءِ مُطْلَقًا في الدِّينِ والدُّنْيا، لِأنَّ بِئْسَ لِلذَّمِّ العامِّ، فالمَنفِيُّ العِلْمُ بِالسُّوءِ المُطْلَقِ يَعْنِي لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ضَرَرَهُ في الدِّينِ والدُّنْيا لامْتَنَعُوا، إنَّما غَرَّهم تَوَهُّمُ النَّفْعِ العاجِلِ، أوْ بِأنَّ المُثْبَتَ أوَّلًا العِلْمُ بِأنَّ ما شَرَوْهُ ما لَهم في الآخِرَةِ نَصِيبٌ مِنهُ، لا أنَّهم شَرَوْا أنْفُسَهم بِهِ، وأخْرَجُوها مِن أيْدِيهِمْ بِالكُلِّيَّةِ، بَلْ كانُوا يَظُنُّونَ أنَّ آباءَهُمُ الأنْبِياءَ يَشْفَعُونَهم في الآخِرَةِ، والعِلْمُ المَنفِيُّ هو هَذا العِلْمُ لا يَخْفى ما فِيهِ، أمّا أوَّلًا فَلِأنَّ عُمُومَ الذَّمِّ في بِئْسَ، وإنْ قِيلَ بِهِ لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى إفْرادِ الفاعِلِ في نَفْسِها مِن دُونِ تَعَرُّضٍ لِلْأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ، والتِزامُ ذَلِكَ لا يَخْلُو عَنْ كَدَرٍ، وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّ تَخْصِيصَ النَّصِيبِ بِمِنهُ مَعَ كَوْنِهِ نَكِرَةً مَقْرُونَةً بِمِن، في سِياقِ النَّفْيِ المُساقِ لِلتَّهْوِيلِ مِمّا لا يَدْعُو إلَيْهِ إلّا ضِيقُ العَطَنِ، والجَوابُ بِإرْجاعِ ضَمِيرِ (عَلِمُوا) لِلنّاسِ، أوِ الشَّياطِينِ، (واشْتَرَوْا) لِلْيَهُودِ ارْتِكابٌ لِلتَّفْكِيكِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَيْهِ، ولا قَرِينَةٍ واضِحَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وبَعْدَ كُلِّ حِسابٍ الأوْلى عِنْدِي في الجَوابِ كَوْنُ الكَلامِ مُخَرَّجًا عَلى التَّنْزِيلِ، ولا رَيْبَ في كَثْرَةِ وُجُودِ ذَلِكَ في الكِتابِ الجَلِيلِ، والأجْوِبَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ مِن قَبْلُ مَعَ جَرَيانِ الكَلامِ فِيها عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ لا تَخْلُو في الباطِنِ عَنْ شَيْءٍ فَتَدَبَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب