الباحث القرآني

قوله تعالى ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ الآية، هذه الآية قد أشكل علم إعرابها ومعناها على كثيرٍ من الناس، حتى ترك أكثر أهل العلم والنحو الكلام فيها لصعوبتها. وتكلم آخرون فيها [[قال الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 185: فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم، وإنما تكلمنا على مذاهبهم.]]. قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183.]]. وقوله تعالى: ﴿تَتْلُوا﴾ أي: تقرأ [[وبه قال مجاهد وقتادة وعطاء، وروي عن ابن عباس، ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 447، و"تفسير ابن كثير" ص 144 - 146.]]. وقال ابن عباس: تتبع وتعمل به [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 447 وذكره الثعلبي في "تفسيره" 14/ 1055.]]. وكذلك قال في قوله: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121]: يتبعونه حق اتباعه [[رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 218، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 145.]]، فيعملون به حق عمله. وقال أبو عُبَيدة: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي: ما تتكلم به. كقولك: فلان يتلو كتاب الله، أي: يقرؤه ويتكلم به [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة بمعناه 1/ 48.]]. وقال عطاء: ما تُحدّث وتَقُصّ [[رواه الطبري في تفسيره عنه 1/ 447، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1055.]]. وهذه أقوال متقاربة [[ينظر الطبري في تفسيره 1/ 447 - 448، وذكر أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 326: أنها متقاربة.]]. قال الزجاج: وفيه إضمار، أراد: واتبعوا ما كانت تتلوا [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183 بتصرف، وليس عنده قوله: وفيه إضمار، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 326.]]، وقيل: إنه لفظ الاستقبال والمراد به المضي، أي: تلت [[ينظر: "التبيان" للعكبري 1/ 80، "البحر المحيط" 1/ 326.]]، كقول الشاعر: فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ [[صدر البيت: وانْضَح جوانبَ قبرِه بدمائها وهو لزياد الأعجم في "ديوانه" ص 54، "تفسير الثعلبي" 1/ 1055، و"البيان" 1/ 133، "تفسير القرطبي" 2/ 37، "الدر المصون"1/ 318، "أمالي المرتضي" 1/ 301، "الشعر والشعراء" 1/ 279، "لسان العرب" 7/ 3962، ينظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" 2/ 126.]] أي: فلقد كان [["تفسير الثعلبي" 1/ 1055.]]. وكقوله: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: 214]، أي: حتى قال. وقال أبو علي [[أي: في كتابه "الإغفال".]] فيما استدرك على أبي إسحاق الآية: تحتمل تأويلين، كلُّ واحد منهما أسوغ مما ذكره وذهب إليه. أحدهما: أن يكون ﴿تَتلُوا﴾ بمعنى: تلت فيكون كقوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 91]. أي: فلم قتلتم، إلا أنه لما اتصل بقوله: {مِن قَبْلُ} علم أن المراد بمثال المضارع الماضي، فكذلك هنا [[ساقطة من (ش).]] كان يعلم باتصال الكلام بعهد سليمان؛ لأن المعنى [[في "الإغفال": في من قال إن المعنى على عهد ملك سليمان.]]: على عهد ملك سليمان، أو في زمن ملك سليمان، على تقدير [[في "الإغفال": على من لم يقدر.]] حذف المضاف [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183، "التبيان" للعكبري 1/ 80، "البحر المحيط" 1/ 326.]]، وكان ذلك يدل على أن مثال المضارع يراد به الماضي. ومن هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: 25]. يجوز عندي أن يكون المعنى: إنّ الذين كفروا وصدوا. فلما كان المعطوف عليه ماضيًا دلّ على أن المراد بالمضارع أيضًا الماضي، ويقوي هذا قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 1] [[تتمة الكلام في "الإغفال" فخبر اسم إن مضمرة، هو من نحو ما ظهر من قوله: أضل أعمالهم، وحسن الحذف لطول الكلام بالعلة.]]. ويجوز أن يكون المضارع على بابه، كأنه قال: إنّ الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدُّون مع ما تقدم من كفرهم. والأول كأنه أقوى [["الإغفال" ص321 - 322.]]. والإرادة بمثال المضارع الماضي مذهب سيبويه؛ لأنه قال [[في "الإغفال" وهذا الذي ذكرته لك من الإرادة بمثال المضارع الماضي مذهب سيبويه وقوله.]]: وقد تقع [[في (ش): (يقع تفعل).]] نفْعَل في موضع فَعلت في بعض المواضع، ومثل ذلك: قول رجل من بني سلول: ولقد أمرُّ على اللئيم يَسُبّني ... فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنِيني [[البيت لرجل من سلول في "الكتاب" 3/ 24، و"الخصائص" 3/ 330، و"الإغفال" 1/ 323، و"الدر" 1/ 78، ولشمر بن عمرو الحنفي في "الأصمعيات" ص 126، ولم ينسب في بعضها: نحو "تفسير الطبري" 1/ 420، وروايته وحده: فمضيت عنه وقلت. وبعد هذا البيت: غضبان ممتلئًا عليّ إهابه ... إني وربِّك سُخْطُه يُرضيني]] [[" الكتاب" لسيبويه 3/ 24.]] على معنى: ولقد مررت [["الإغفال" ص 322، 323 وقال سيبويه في "الكتاب" 1/ 504: يجوز أن يجعل أفعل في موضع فعلت، ولا يجوز فعلت في موضع أفعل إلا في مجازاة، نحو إن فعلت فعلت.]]. قال أبو علي: فسألت أبا بكر عما ذكره سيبويه من هذا، فقال: الأفعال جنس واحد، فكان يجب أن يكون على بناء واحد؛ لكنها غُيّرت بتغيير الأزمنة وقُسِّمت بتقاسيمها، لما كان ذلك في الإيضاح أبلغ، فخُصّ كلُّ قسم من ذلك بمثال لا يقع واحد منها في موضع الآخر، إلا أن يُضمّ إليه حرف يكون دليلًا على ما أريد به [[في "الإغفال" على ما أريد به الحرف.]]، فيصير الحرف كأنه يقوم مقام البناء المراد، إذ كان يَدُلّ عليه كما يدلّ البناء، نحو: والله لا فعلت، فقولك: فعلت فعلٌ ماض وقع في موضع مستقبل، فلما كانت قبلها [[في (ش): (في قبلها).]] (لا) عُلم أنه يُرادُ به الاستقبال؛ لأن (لا) إنما [[إنما ساقطة من (ش).]] تكون نفيًا لما يستقبل [[في "الإغفال": لما يستقبل مما أوجب القسم.]]، فلما كانت نفيًا للمستقبل ووقع بعدها ماض علمت أنه يراد به الاستقبال [["الإغفال" ص 323، 324.]]. قال أبو علي: وقد اتسعوا في إقامة أمثلة الأفعال، بعضها مقام بعض [[في "الإغفال": اتساعًا أشد مما قدمنا.]]، من ذلك: إقامتهم مثال الأمر مقام الخبر، نحو قولهم: أكرِمْ بزيد وقوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ﴾ [مريم:38]، ومعنى هذا: كرُمَ زيد، وسمعوا [[في "الإغفال" فمعنى هذا: أكْرم زيد وأسمعوا. وما في نسخة البسيط أصوب.]] وأبصروا، أي: صار زيد ذا كرم، وصار هؤلاء المستحقون لأن يمدحوا بهذا المدح ذوي [[في نسخة "الإغفال" جاء النص مُحرّفًا: وصار هؤلاء المستحقون الآن يمدحون بهذا المدح، ويثنى عليهم بهذا الثناء دون أسماع وأبصار.]] أسماع وأبصار [["الإغفال" ص 326.]]. ووقع مثال الأمر مقام الخبر، كما وقع مثال الخبر مقام الأمر في مثل: غفر الله لزيد، وقطع الله يده، وفي التنزيل: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ [البقرة: 233]. وقال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: 234] [["الإغفال" ص 327 وما بعدها. بتصرف كبير.]]. فكذلك تَتْلُوا في هذه الآية، يجوز أن تكون بمعنى (تلتْ) كهذه الأشياء التي أريتكها، وهذا وجه. وأما الوجه الآخر: فعلى أن يكون يفعل على بابه، لا تريد به فَعَل كما أردت في الأول، ولكن تجعله حكايةً للحال وإن كان ماضيًا، وهذا الوجه في السَّعَة والكثرة كالأول وأسوغ [[في "الإغفال": أو أسوغ.]]، كأنه حكى الفعل الذي كان يُحدّث به عنهم وهو للحال. ونظير هذا قوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ﴾ [البقرة: 49]، فقوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه، وإن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب، وموضع الفعل نصب بالحال. ونظير هذا أيضًا من حكاية الحال: قوله: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: 15] فأشير إليهما بما [[في "الإغفال": كما.]] يشار إلى الحاضر؛ إرادة لحكاية الحال على وجهها، وإن كانت قد تقدمت [[في "الإغفال" لحكاية القصة على جهتها، وإن كانت متقدمًا كونها.]]. ومن هذا أيضًا: إضافة (إذ) إلى تقول وإلى جمع المضارع في نحو: ﴿إِذ تَقُولُ لِلمُؤمِنِينَ﴾ [آل عمران: 124] أضيف (إذ) إلى فعل الحال إرادةً لحكايتها [[من قوله: إرادة لحكاية الحال على وجهها ... ساقط من (أ)، (م).]]، ولولا ذلك لتنافى هذا الكلام؛ لأن (إذ) لما مضى و (تقول) لما يستقبل. ومن هذا أيضًا: ما أنشده أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي: جاريةٌ في رمضانَ الماضي ... تُقطِّع الحديث بالإيماض [[ذكره في "الإغفال" ص 332 بهذه الصيغة ووقع في نوادر ابن الأعرابي غير منسوب كما في "شرح ابن يعيش" 6/ 93، ووقع في "ديوان رؤبة" مما نسب إليه ص 176: جارية في درعها الفضفاض ... تقطع الحديث بالإيماض ونسب البغدادي 3/ 483 الشاهد نقلًا عن هشام اللخمي لرؤبة هكذا: لقد أتى في رمضان الماضي ... جارية في درعها الفضفاض تقطع الحديث بالإيماض أبيض من أخت بنىِ إباض وينظر أيضًا: "مغنى اللبيب" 2/ 691، و"الإنصاف" 1/ 124، مع اختلاف في الرواية، وحاشية "الإغفال" 332.]] وهذا وجه ثانٍ نظير ما يحسن حمل الآية عليه [["الإغفال" ص331، 332. بتصرف.]]. فإن قلت: ما تنكر أن يكون ما ذكره أبو إسحاق من إضمار (كان) أيضًا جائزًا، فيكون ذلك وجهًا ثالثًا. قيل: ذلك لا يجوز؛ لأن المضمر لا دلالة عليه، وإنما يسوغ الإضمار إذا كانت عليه دلالة يكون بها كالمظهر، وسيبويه منع إجازة هذا، فقال: واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول: عبدَ الله المقتول، وأنت تريد: كن عبدَ الله المقتول [["الكتاب"1/ 159 ط. بيروت. وزاد: لأنه ليس فعلًا يصل من شيء إلى شيء، ولكنك لست على أحد.]]، فإذا لم يجز هذا، لم يجز هذا مع أن المنصوب يدل على ناصبه، فأن لا يجوز ما ذهب إليه في الآية أولى [["الإغفال" ص 333 بتصرف.]]. فإن قلت: فقد قالوا: إنْ سيفًا فسيفٌ، وإنْ خنجرًا فخنجرٌ، فأضمروا، قيل: ليس ذلك من هذا في شيء؛ لأن (إن) مما يعلم أنه لا يليه إلا الفعل، فالدلالة على المحذوف المضمر قوية، وليس شيء من هذا في الآية [["الإغفال" ص 334 بتصرف.]]. وقوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ ذكرنا أنه على تقدير حذف المضاف، وقيل: إن (على) هاهنا من صلة الافتراء والكذب، إذا قلنا إنّ (تتلوا) معناه: تحدّث وتكلّم، على ما قال أبو عبيدة وعطاء، فمعنى قوله: ﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [[ينظر: "التفسير الكبير" للرازي 3/ 204، "البحر المحيط" 1/ 326، ابن كثير في "تفسيره" 1/ 143 - 146.]]؛ لأنهم قالوا: إن سليمان مَلَكَ النّاسَ بالسحر، وذلك ما قاله ابن عباس [[قال في "البحر المحيط" 1/ 326: وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصًا كثيرة، الله أعلم به، ولم تتعرض الآية الكريمة ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه، فلذلك لم نذكره اهـ. وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 121 الكيفيات فعد أقوالًا ستة.]] رحمه الله: إن سليمان، عليه السلام، لما عُذّبَ بنزع ملكه، دفنت الشياطين في خزانته ومواضع مصلاه سحرًا وأُخَذًا ونِيرَنْجات [[النيرنجات: أُخذٌ كالسحر وليس به، وإنما هو شبه وتلبيس، ويقال: النيرنجيَّات. ينظر: "تاج العروس" 3/ 497، و"مفتاح السعادة" لطاش كبرى زاده 1/ 340.]]، فلما مات سليمان دلّت الشياطين عليه الناسَ حتى أستخرجوها، وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه، فأقبل بنو إسرائيل على تعلمها، ورفضوا كتب أنبيائهم، فبرّأ الله نبيه سليمان عليه السلام على لسان محمد ﷺ [[أخرج هذه القصة النسائي في "تفسيره" 1/ 179، الطبري في "تفسيره" 1/ 447 ولفظه مختصر، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 297 من طريق المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، بنحوه، والمنهال: صدوق ربما وهم. وقد ذكرها الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1057، وعزا القصة للكلبي. وذكرها أيضًا في "عروس المجالس" ص 43، والواحدي في "أسباب النزول" ص 35.]]. وقال السُّدِّي: إن الناس في زمن سُليمان كتبوا السحر، واشتغلوا بتعلّمه، فأخذ سليمان تلك الكتب، وجعلها في صندوق، ودفنها تحت كرسيه، ونهاهم عن ذلك، فلما مات سليمان، وذهب الذين كانوا يعرفون دفنه الكتب، تمثل شيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا [[لا تأكلونه أبدًا: أي: لا تفنونه أبدًا، يقال: أكل فلان عمره: إذا أفناه.]]؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها، قال الشيطان: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس [[في (م): (الإنس والجن).]] والشياطين والطير بهذا، فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب؛ فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فبرأ الله تعالى سليمان من ذلك، وأنزل هذه الآية [[رواه ابن جرير في "تفسيره" مطولًا عنه 1/ 444 - 445، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 186 من طريق أسباط عن السدي، وذكره الثعلبي في "تفسيره" مطولًا 1/ 1057 والواحدي في أسباب النزول ص 36 ولفظه هناك مثل هذا تمامًا. وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 121 - 122، وروى الحاكم 2/ 265، والواحدي بسنديهما عن ابن عباس نحوًا من هذا وصححه الذهبي. وينظر: "التفسير الصحيح" 1/ 205 - 206. ذكر الدكتور بشير حكمت ياسين في كتاب "التفسير الصحيح" 1/ 205 - 206 روايتين عن ابن عباس وصححهما وهما موافقتان لما نقله الواحدي وقال بعدهما. وهاتان الروايتان من أخبار أهل "الكتاب"، ولكنهما لا تتعارض مع "الكتاب" والسنة، بل لبعض فقراتها شواهد، فهي توافق عصمة سليمان عليه السلام وتبرىء ساحته مما ألصق به من مفتريات الإسرائيليات.]]. وقوله تعالى ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ أي: لم يكن كافرًا ساحرًا بسحر، [[ساقطة من (ش).]] ويعمل بالسحر [["تفسيرالثعلبي" 1/ 1060.]]. وقيل: وما ستر سليمان كتب السحر، ولكن الشياطين سترته ودفنته. وأصل الكفر: الستر والتغطِية [["المفردات" للراغب 435.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ في (لكن) قراءتان: التشديد ونصب الاسم به، والتخفيف ورفع الاسم به [[قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف نون لكن وإسكانها، ثم تكسر تخلصًا من التقاء الساكنين، والشياطين بالرفع. وقرأ الباقون بتشديد النون مفتوحة، ونصب الشياطين. ينظر: "السبعة" 167 - 168، و"الحجة" لأبي علي 2/ 169، و"النشر" 2/ 219، و"البدور الزاهرة" ص 46.]]. وهذه الحروف، أعني: لكنّ، وإن، وأن، وكأنَّ حروف تستعمل مخففة ومثقلة، فإذا استعملت مثقلة كانت عاملة في الأسماء، وعملها النصب [[ينظر: "اللسان" 7/ 4070 (مادة: لكن)، و"مغني اللبيب" 1/ 290 - 292.]]، والعلة في ذلك: أنها إذا كانت مشدّدة كانت مفتوحة الأواخر، وفتحةُ أواخرِها ألحقتها في المشابهة بالأفعال الماضية، والأفعال عاملةٌ في الأسماء، فإذا استعملت مخففة باينتها تلك الصفة التي ألحقتها في المشابهة بالأفعال، فالقياس أن لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل [[ينظر: "الحجة" 2/ 170 - 177، "تفسير الثعلبي" 1/ 1061، "المجيد في إعراب القرآن المجيد" ص 359.]]. وقال الكسائي: الذي يختار العرب والذي هو وجه الكلام عندنا إذا كانت (لكن) وحدها بغير واو كان التخفيف أحسن، وإذا كانت بالواو كانت بالتشديد، وبهذا قرئ أكثر ما في القرآن كقوله: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33] ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 37]. وبغير الواو كقوله: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ﴾ [النساء: 166]، ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ﴾ [التوبة: 88] ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾ [مريم: 38]. وقال الفراء: إذا ألقيت من ولكن الواو آثرت العرب تخفيفَ نونها، وإذا دخلت الواو آثروا تشديدَها، وإنما فعلوا ذلك؛ لأنها رجوع عما أصاب أول الكلام، فشبهت بـ "بل"، إذ كانت رجوعًا مثلها، ألا ترى أنك تقول: لم يقم أخوك بل أبوك، ثم تقول: لم يقم أخوك لكن أبوك، فتراهما في معنى واحد، والواو لا تصلح في بل. فإذا قالوا: ولكن فأدخلوا الواو تباعدت من بل، إذ لم تصلح الواو في بل، فآثروا فيها تشديد النون، وجعلوا الواو كأنها دخلت لعطف لا بمعنى بل [[بل ساقطة من (ش).]]، وأصلها: أن دخلت عليها لا وكاف الخطاب، فصارنا جميعًا حرفًا واحدًا [[نقل كلام الفراء صاحب "اللسان" 7/ 4070، وقد ناقش أبو علي في "الحجة" 2/ 179 ذلك وبين أن القياس لا يوجب هذا الذي ذكره الفراء من تشديدها مع الواو وتخفيفها مع عدمها.]]. وقال الكسائي: حرفان من الاستثناء لا يقعان [[في (ش): (لا تقعان).]] أكثر ما يقعان إلا مع الجحد، وهما: لكن وبل، والعرب تجعلهما مثل واو النسق [[نقل كلام الكسائي صاحب "اللسان" 7/ 4070.]]. وقال المبرد: لكن من حروف العطف، وهي الاستدراك بعد النفي، ولا يجوز أن يدخل بعد واجب إلا لترك قصة إلى قصة تامة، نحو قولك: جاءني زيد لكن عبد الله لم يأت [["المقتضب" للمبرد 1/ 12.]]. وأما اختلاف القراء في تشديد (لكن) في بعض المواضع وتخفيفها في بعض، فلا معنى للمصير إلى التبعيض في هذه المواضع ونظائرها إلا بأن تترجح عند أحد من القراء بعض الروايات على بعض، فيصير إليه [[ينظر: "الحجة" 2/ 179 - 180.]]. ومعنى الآية: ولكن الشياطين كفروا بالله يعلّمون الناس السحر. يريد: ما كتب لهم الشياطين من كتب السحر. ويجوز أن يكون (يعلّمون) في فعل اليهود الذين عُنُوا بقوله: ﴿وَاْتَّبَعُواْ﴾ [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 451 - 452، "معاني للقرآن" للزجاج 1/ 183، "تفسير الثعلبي" 1/ 1062، "البيان" لابن الأنباري 1/ 114، "التفسير الكبير" للرازي 3/ 205.]]. وسمي السحرُ سحرًا؛ لخفاء سببه. ومنه: السِّحْر وهو الغِذَاء، كقول لبيد [[هو: أبو عقيل، لبيد بن ربيعة بن مالك العامر، تقدمت ترجمته [البقرة: 2].]]: ونُسْحَرُ بالطعام وبالشراب [[وشطره الأول: == أرانا مُوضِعِين لأمر غيب وفي رواية: لحتم غيبٍ، وهو لامرئ القيس في "ديوانه" ص 43، "تهذيب اللغة" 2/ 1641، "لسان العرب" 4/ 1952، ونسبه المؤلف وكثير من أهل التفسير كالرازي في "تفسيره" 3/ 205 إلى لبيد.]] وذلك أن حاله خفيّة في التنمية [[نقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1641: أن معنى ونسحر بالطعام، أي نُعَلَّل به قال الرازي في "تفسيره" 3/ 205: قيل فيه (أي: البيت) وجهان: أحدهما أنا نعلل ونخدع كالمسحور. والآخر: نغذى، وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء.]]، والسَّحَر: الرئة، لأنها مما تخفى وليس مما يظهر. وسَحَر الليل: قبل ظهور الصُبح. وقال المحققون من أهل اللغة: معنى السحر: الإزالة وصرف الشيء عن وجهه [[ينظر كلام الأزهري في "تهذيب اللغة" 2/ 1641، ونقله صاحب "اللسان" 4/ 19525.]]، تقول العرب: ما سَحَرك عن كذا، أي: ما صَرَفك عنه. ومنه: قوله تعالى: ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: 89]، أي: تصرفون، ويقال: سحره، أي: أزاله عن البُغض إلى الحُبِ، وكأن السّاحر بما أرى الباطل في صورة الحق فقد سَحَر الشيء عن وجهه، أي: صرفه [[ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1641، "مقاييس اللغة" 3/ 138، "المفردات" للراغب 331، 332، "التفسير الكبير"3/ 205، "تفسير القرطبي" 2/ 38، "اللسان" 4/ 1952.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ موضع (ما) نصب، نسق على السحر، وجائز أن يكون نسقًا على ما في قوله: ﴿مَا تَتلُوا الشَّيَاطِينُ﴾ [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1062وصحح الأول، "تفسير الطبري" 1/ 454 - 455 "إعراب مشكل القرآن" 1/ 106، "التبيان" للعكبري 1/ 80.]]. ومعنى: ﴿أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾: أي: عُلِّما وأُلْهِما وقُذِفَ في قُلُوبِهِما من علم التفرقة، وهو رقية [[الرقية: العُوذَةُ التي يُرَقى بها صاحب الآفة، كالحُمَى والصرع وغير ذلك من الآفات. ينظر: "النهاية" لابن الأثير، "اللسان" 3/ 1711.]] وليس بسحر، والرخصة في الرقية واردة. فقد روى عوف الأشجعي [[هو: عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو حماد، صحابي جليل، أول مشاهده خيبر، وكانت معه راية أشجع يوم الفتح، توفي بدمشق سنة 73 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 4/ 312.]] أنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا لرسول الله ﷺ كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك" [[أخرجه مسلم (2200) كتاب السلام، باب: لا بأس، وأخرجه أبو داود (3886) كتاب الطب، باب: ما جاء في الرقى واللفظ له.]]. وقال ابن قتيبة: الذي أنزل الله على الملكين فيما يرى أهل النظر من أهل العلم والله أعلم هو الاسم الذي صعدت الزهرة فعلمته الشياطين، فهي تعلمه أولياءها، وقد يقال: إنّ السّاحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض، ويطفو على الماء. وذهب قومٌ ممن أبطلوا السّحر وأنكروا أن يكون له حقيقة [[اختلف الناس هل للسحر حقيقة أو أنه خدع وتخييل؟ فذهب المعتزلة إلى أنه خدع وتخييل، ولا حقيقة له؛ لقوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: 116]. والصحيح الذي عليه أهل السنة أنه يكون تخييلا وخدعا، ويكون حقيقة، ودليل كونه حقيقة قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾. ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 459 - 461، "تفسير القرطبي" 2/ 38 - 39، "المغني" لابن قدامة 12/ 304.]] إلى أن قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ ما فيه نفي [[ذكر هذا الوجه مكي بن أبي طالب في "مشكل إعراب القرآن" 1/ 106.]]، وذلك مستكره؛ لأنه إذا كان المعنى: لم ينزل على الملكين، [[من قوله: مافيه ... ساقط من (أ)، (م).]] صار الكلام فضلًا لا معنى له. وإنما يجوز أن يكون (ما) نفيًا أن لو ادعى مدعي: أن السحر أنزل على الملكين، ويكون فيما تقدّم ذكر ذلك أو دليل [[في (ش): (ذلك).]] عليه، فيقول الله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾، ولم ينزل على الملكين كما ذكروا. ومثال ذلك: أن يقول مُبْتدئا: علمت هذا الرجل القرآن، وما أنزل على موسى. فلا يتوهم سامعُ هذا أنك أردت بقولك أن القرآن لم ينزل على مُوسى؛ لأنه لم يتقدّمه قول أحدٍ أنه أنزل على موسى، وإنما يتوهم السامع أنك علمتَه القُرآنَ والتوراةَ [[كلام ابن قتيبة لم أره في "غريب القرآن" و"تأويل مشكل القرآن".]]. ثم اعلم أن السحر على قسمين: أحدهما: يكفر به السّاحر، وهو أن يعتقد القدرة لنفسه، فإذا انتهى به السحر إلى هذه النهاية صار كافرًا بالله، وهذا السحر هو الذي عده رسول الله ﷺ في الكبائر في قوله: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: "الشرك بالله، والسّحر، وقَتْل النفسِ التي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنة". [[أخرجه البخاري (6857) كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، ومسلم (89): الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها.]] والقسم الثاني: لا يكفر به، وهو التخييل الذي يشاكل النِّيرَنْجات، فإذا لم يعتقد لنفسه فيما يعمل قدرة، واعتقد القدرة لله تعالى، كانت معصية، ولم يكن ذلك كفرًا [[قد ذكر القرافي في "أنوار البروق في أنول الفروق" 4/ 137، أقسام السحر وأحكامه، وذكر القرطبي في "تفسيره" 2/ 39: أن من السحر ما يكون كفرًا == من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس وإخراجهم في هيئة بهيمة، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات فلم يَجِبْ على أصله قتل الساحر إلا أن يقتل بفعله أحدًا فيقتل به، ثم ذكر في 2/ 47 خلاف الفقهاء في حكم الساحر: 1 - فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرًا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته؛ لأنه أمر يستسرّ به كالزنديق والزاني؛ ولأن الله سمى السحر كفرًا في هذه الآية، وهو قول أحمد وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة، وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين، وروي مرفوعا: "حد الساحر ضربه بالسيف". 2 - وروي عن الشافعي: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره، ويقول: تعمدت القتل، وإن قال: لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيها الدية كقتل الخطأ، وإن أضرَّ به أُدِّبَ على قدر الضرر. ينظر: "الأم" للشافعي 1/ 293. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 48: وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته: أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر. وينظر في المسألة: الطبري في "تفسيره" 1/ 453، و"أحكام القرآن" للجصاص 1/ 725، و"المغني" 12/ 302 - 303، "زاد المسير" 1/ 126، "تفسير ابن كثير" 1/ 147 - 152.]]. وأما قصّة الملكين فهي معروفة مذكورة في عدة مواضع [[ينظر في القصة وتفصيلاتها: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 53، والبزار في "المسند" برقم 2938، وعبد بن حميد كما في "المنتخب من مسنده" برقم 787، وابن حبان 1/ 634، والسمرقندي في "تفسيره" 1/ 143، والبيهقي في "سننه" 4/ 10، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1063، و"زاد المسير" 1/ 123، و"الدر المنثور" 1858 - 193، والقرطبي 2/ 44 - 45، قال: وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار، والسدي والكلبي ما معناه: فذكر القصة مجملة، ثم قال: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء. اهـ. وقال "ابن كثير" في تفسيره: "وحاصلها راجع في تفاصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ == ليس فيه حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة في غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراد الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال". وقال أيضًا: "فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل. اهـ. وقد أنكر القصة جماعة من أهل العلم منهم ابن حزم في "الفصل" 3/ 261، 4/ 32، وابن عطية في "تفسيره" 1/ 420، وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 29، والرازي في "تفسيره" 1/ 237، والبيضاوي في "تفسيره" 1/ 79، والخازن في "تفسيره" 1/ 71، وأبو حيان في "البحر" 1/ 329، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 151، والآلوسي في "روح المعاني" 1/ 341، والقاسمي في "محاسن التأويل" 1/ 211، وغيرهم. وينظر استقصاؤهم في: "تحقيق العجاب" لابن حجر للأستاذ عبد الحكيم محمد الأنيس 1/ 332 - 342، وانتصر لتصحيحها الحافظ ابن حجر في "العجاب"، والسيوطي كما في "اللآلي المصنوعة" 1/ 159 و"مناهل الصفافي" تخريج أحاديث الشفاء للسيوطي 4/ 231 كما أفاده الخفاجي عنه في "نسيم الرياض" 4/ 231، وقال: وقد جمع الجلال السيوطي طرق هذا الحديث في تأليف مستقل فبلغت نيفًا وعشرين طريقًا.]]. وقوله تعالى: ﴿بِبَابِلَ﴾ [[قال العكبري في "التبيان" ص 81: ببابل، يجوز أن يكون ظرفًا لأنزل، ولجوز أن يكون حالا من الملكين، أو من الضمير في أنزل.]]. وبابل اسم أرض [[ذكر الطبري فى تفسيره 1/ 459 فيها قولين: أنها: بابل رنباوند، أو أنها بابل العراق، وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 109 في حدها ثلاثة أقوال: أنها الكوفة وسوادها، والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين، والثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض، وقد رجح ابن كثير في تفسيره 1/ 152 أنها بابل العراق، واستدل لذلك. وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1063، "معجم ما استعجم" 1/ 202، "معجم البلدان" 1/ 309.]]، قيل: سميت لأن الله تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من كل أفق إلى بابل، فبلبل الله بها أَلْسِنَتهم، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1063، "زاد المسير" 1/ 125، "القرطبي" 2/ 46.]]. والبلبلة: التفرِيقُ [[ينظر: "القاموس" 968 - 969.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ اختلفوا في تعليم الملكين السحر، فذكر أهل التفسير وأصحاب المعاني فيه وجهين [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 461 - 462 - 463، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183 - 184، "تفسير البغوي" 1/ 129، "زاد المسير" 1/ 122، "القرطبي" 2/ 48.]]: أحدهما: أنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر، ولكنهما يصفانه، ويذكران بطلانه، ويأمران الناس باجتنابه، وكانا يعلمان الناس وغيرهم ما يُسألان عنه، ويأمران باجتناب ما حُرِّم عليهم، وطاعة الله فيما أُمروا به، ونهوا عَنْهُ. وفي ذلك حكمة، لأن سائلًا لو سأل: ما الزنا؟ وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس السحر، وأمرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام والإخبار أنه كفر حرام [[من "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 2554 مادة (علم) ومنه نقل الثعلبي 1/ 1085.]]. ويؤكد هذا الوجه: ما روى أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال: عَلَّم بمعنى أعلم، وذلك أن التعليم لا ينفك عن الإعلام، كما يقال: تعلّمْ بمعنى أعلَمْ؛ لأن من تعلم [[ساقطة من (أ)، (م).]] شيئا فقد عَلِمَه، فيوضع التَّعَلُّم موضع العلم [[نقله عن ابن الأعرابي والأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2554، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 48، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 330.]]. قال قيس بن زهَير: تَعَلَّمْ أنّ خيرَ الناس حيًّا ... على جَفْر الهَباءةِ لا يَريم [[البيت لقيس بن زهير في "مقاييس اللغة" 4/ 110، و"لسان العرب" 5/ 3083 مادة (علم).]] أي: اعلم. قال ابن الأعرابي: ومن هذا قول الله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ قال معناه: إن السّاحر يأتي الملكين فيقول: أخبرني عمّا نهى الله عنه حتى أنتهي، فيقولان: نهى عن الزنى، فيستوصفُهما الزِنى، فيصفانه، فيقول: وعن ماذا؟ فيقولان: عن اللواط، ثم يقول: وعن ماذا؟ فيقولان عن السحر، فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا، فحفظه، وينصرف فيخالف، فيكفر، فهذا معنى ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ [[هذا فيه زيادة في (ش) إنما هو يعلمان ولا يكون.]] ولا يكون تَعليم السحْر إذا كان إعلامًا كفرًا، ولا تعلّمه إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه كفرًا، كما أن من عرَّف الزنى لم يأثم بأنه عرَّفه، إنما يأثم بالعمل [[نقل هذا بطوله الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2555 مادة (علم)، ومنه أخذ الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1085، ونصر هذا القول الطبري في "تفسيره" 1/ 453 - 455، وقواه الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 183 - 184، قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 152 - 153: وهذا الذي سلكه [يعني: ابن جرير] غريب جدًّا، وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم.]]. الوجه الثاني: أن الله عز وجل امتحن الناسَ بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنةَ في الكفر والإيمان أن يقبل القائل تعلُّم السحر، فيكفر بتعلّمه، ويؤمن بترك التعلّم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن الله [[في (ش): (كما أنه امتحن بنهر طالوت).]] بنهر طالُوت في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ [البقرة: 249]. يدل على صحة هذا: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ أي: محنة من الله نُخبرك أنَّ عملَ السحر كفر بالله، وننهاك عنه، فإن أطعتنا في ترك العمل بالسحر نجوتَ، وإن عصيتنا في ذلك هلكتَ [[من "تفسير الثعلبي" 1/ 1085 وذكر أنه الأصح. وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183، "تفسير الطبري" 1/ 455، "تفسير السمعاني" 1/ 575، "تفسير الرازي" 3/ 283.]]. وروي عن ابن عباس أنه قال: أما السحر فمما [[في (ش): (فما).]] علّمت الشياطين، وأما الفرق بين المرء وزوجه فمما علّم الملكان [[رواه بمعناه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 188، ورواه الطبري بسنده عن مجاهد 1/ 454، وروى نحوه 1/ 453 عن قتادة، وكذا ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1080 وعزاه في "الدر" 1/ 194 لعبد بن حميد.]]. ثم وجه تعليم الملكين أنه يجوز أن يلهمهما الله ويعلّمهما من الأذكار والأسماء ما يعلمان أنها إذا استعلمت على جهة الدعاء أو على جهة الرقية أفادت التفريق بين المرء وزوجه، إذ لا يحسن بحالهما وما هما فيه من عقوبة الذنب السابق أن يشتغلا بارتكاب كبيرة مستأنفة. وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ أي: أحدًا، ومِنْ زائدة مؤكدة، كقولك: ما جاءني من أحدٍ [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 330، وقال: من زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام فزيدت هنا لتأكيد ذلك.]]. وأما (أحد) [[قال العكبري في "التبيان" 1/ 81: وأحد هاهنا يجوز أن تكون المستعملة في العموم، كقولك ما بالدار من أحد، ويجوز أن تكون هاهنا بمعنى واحد أو إنسان قال في "البحر المحيط" 1/ 330: والأول أظهر.]] فقال الليث: أصله: وحد [[نقلة في "تهذيب اللغة" 4/ 3846، (مادة: وحد).]]، ونحو ذلك قال الزجاج [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3844، "اللسان" 8/ 4780، (مادة: وحد).]]. وقال أحمد بن يحيى: واحد وأحد وَوَحد بمعنى [[في "تهذيب اللغة" 4/ 3844: ثعلب عن سلمة عن الفراء: رجل وَحيدٌ وَوَحَدٌ وَوَحِدٌ، وكذلك فريد وفَرَدٌ مادة (وحد).]]. وقال الليث: الوحَد: المنفرد، ورجل وحدٌ، وثور وحدٌ، قال النابغة [[هو: الذبياني أبو أمامة زياد بن معاوية بن ضباب، من الطبقة الأولى، من فحول شعراء الجاهلية، كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ ويفاضل بينهم. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 56، و"جمهرة أشعار العرب" 1/ 303.]]: بذي الجليل [[في (م) و (أ): (الخليل).]] على مستأنسٍ وَحَدِ [[صدر البيت: كأن رحلي وقد زال النهار بها والبيت، من قصيدة قالها يمدح النعمان بن المنذر، ينظر: "ديوانه" ص 17، "تهذيب اللغة" 4/ 3844 مادة (وحد).]] والوَحْد والحِدَة كالوَعْد والعدة، يقال: وَحَدَ الشيءُ فهو يحِد حِدَةً. وفرّق قوم بين الواحد والأحد، فقالوا: أحد يصلح في الكلام في موضع الجحد، وواحد في موضع الإثبات. تقول ما جاءني منهم أحد، وجاءني منهم واحد، ولا يقال: جاءني منهم أحد؛ لأنك إذا قلت: ما جاءني منهم أحد، فمعناه لا واحد ولا اثنان، وإذا قلت: جاءني منهم واحد، فمعناه: أنه لم يأتني منهم اثنان [[من "تهذيب اللغة" 4/ 3845، وعنه في "اللسان" 3/ 448، (مادة: وحد).]]. وأكثر ما جاء (أحد) في التنزيل في موضع النفي. قال أبو علي: وقد استعملوا أحدًا بمعنى واحد، وذلك قولهم: أحد وعشرون، وفي التنزيل: ﴿قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَد﴾ [[ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3847 - (مادة: وحد)، "مقاييس اللغة" 6/ 90، "اللسان" 8/ 4780 (مادة: وحد)، وقال صاحب "المفردات" ص21 - 22 ما حاصله: أحد يستعمل على ضربين: أحدهما في النفي فقط، نحو: ما في الدار أحد. والثاني: في الإثبات، وهو على ثلاثة أوجه: الأول: في الواحد المضموم إلى العشرات، نحو أحد عشر. والثاني: أن يستعمل مضافًا إليه بمعنى الأول، كقوله: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ [يوسف: 41]، وقولهم: يوم الأحد، أي يوم الأول، ويوم الاثنين. والثالث: أن يستعمل مطلقًا وصفًا، وليس ذلك إلا في وصف الله تعالى: ﴿قُل هُوَ اَللَّهُ أَحَدُ﴾.]] [الصمد: 1]. وسنذكر الكلام في (أحد) صفة الله تعالى في سورة الإخلاص، والكلام في (واحد) نذكره في [[في (م): (عند).]] قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: 163]، إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان [[قال في "مقاييس اللغة" 4/ 472: الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على ابتلاء واختبار.]]، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب: إنا أذبتهما بالنار؛ ليتميز الرديء من الجيد، وتعرف جودتهما من الرداءة، ومن هذا قوله عز وجل: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: 13]، أي: يحرقون بالنار، ومن هذا قيل للحجارة السود التي كأنها أحرقت بالنار: الفتين، هذا هو [[من "تهذيب اللغة" 3/ 2738، (مادة: فتن).]]، ثم جعل كل امتحان فِتْنَة، وقد جعل الله امتحانه عبيده المؤمنين باللأواء ليبلو صبرَهم فيثيبهم، أو جزعهم [[في (ش): (جوعهم).]] على ما ابتلاهم به فيجزيهم، جزاؤهم فتنة فقال: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت:1 - 2] قيل في تفسيره: وهم لا يُبلَون في أنفسهم وأموالهم، وكذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 3]، أي: اختبرنا [[بمعناه من "تهذيب اللغة" 3/ 2738، (مادة: فتن).]]. والفتنة تستعمل في معانٍ كثيرة، ترجع كلها إلى الأصل الذي ذكرنا عند النظر، والفتنة مصدر؛ لذلك [[في (ش): (كذلك).]] لم يُثَنَّ [[ينظر: "الوسيط" 1/ 185.]]. ويقال: فَتَنَه وأَفْتَنَه، والأول: لغة أهل الحجاز، والثاني: لغة أهل نجد، وقال أعشى همْدان: لئن فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمس أفْتَنَتْ ... سعيدًا فأمسى قد قَلَى كلَّ مُسلم [[البيت لأعشى همدان، وقيل: لابن قيس الرقيات، كما في "اللسان" 6/ 3345، (مادة: فتن) وذكر أنه قيل في سعيد بن جبير، وقال الأصمعي: هذا سمعناه من مخنث، وليس بثبت، لأنه كان ينكر أفتن. وينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن).]] وكان الأصمعي ينكر أفتَنَه [[في (ش): (افتنته).]]، وذُكر له هذا البيت فلم يعبأ به [[ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن)، "اللسان" 6/ 3344.]]. وأكثر أهل اللغة أجازوا اللغتين [[ما تقدم من "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن).]]. ومعنى فتنته فلانة: أي: اختبرته، كأنه اختبر بها لجمالها. وقال الليث: يقال فِتَنَه يَفتِنُه، ففَتَنَ بمعنى: افتتن، فجعله لازمًا ومتعديًا [[نقله في "تهذيب اللغة" 3/ 2739، (مادة: فتن).]]، وقال: رخيم الكلام قطيع القيام ... أمسى الفؤاد به فاتنا [[البيت في: "اللسان" 6/ 3345، (مادة: فتن)، ولم ينسبه، وروايته: أمسى فؤادي بها فاتنا.]] قال الأزهري: يقال: افْتَتَنَتْهُ [[في (م): (افتنته).]] فافْتَتَنَ، واقعًا ومطاوعًا، وهو صحيح ذكره ابن شُميل [[هو: النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم التميمي، تقدمت ترجمته.]]. وأما فَتَنَتْه فَفَتَنَ فهي لغة ضعيفة [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2740، ينظر في فتن: "المفردات" 374، "اللسان" 6/ 3345، "تاج العروس" 18/ 424 - 428.]]. ومعنى قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي: ابتلاء واختبار لكم [["تهذيب اللغة" 3/ 2739.]] وقوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ [[ينظر في إعرابها: "التبيان" ص 80، "البحر المحيط" 1/ 331، وقد لخص أبو حيان الكلام فيها بقوله: وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف، تقديره: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي: على مثبت، أو يتعلمون: خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يتعلمون عطف على جملة اسمية على فعلية، أو معطوف على يعلمون الناس أو معطوفًا على كفروا أو على يعلمان المنفية، لكونها موجبة في المعنى، فتلك أقوال ستة أقربها إلى اللفظ هذا القول الأخير.]] هذا الفعل منسوق على فعل مقدّر يدل عليه الكلام، كأنه قال: حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فَيَأبَون فيتعلمون [[وهذا اختيار "الطبري" 1/ 462 واستحسنه الزجاج 1/ 185 لكنه جوّد ما بعده.]]. قال ابن الأنباري: وصلح إضمار يأبون هنا كما صلح إضمار الفعل في قوله: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: 63]، والعرب تحمل على المعنى كثيرًا، من ذلك قول الفرزدق: فكيف بليلةٍ لا نجمَ فيها ... ولا قمر لساريها منيرِ [[ورد البيت هكذا: فكيف بليلة لا نوم فيها ... ولا ضوء لصاحبها منير والبيت للفرزدق، ينظر: "ديوانه" ص 221.]] عطف (ولا قمر) على مقدر في المعنى، كأنه قال: فكيف بليلة ليست بليلة نجم ولا قمر. قال أبو إسحاق: والأجود في هذا أن يكون عطفًا على ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾، ويستغنى [[في "معاني القرآن" للزجاج: واستغنى.]] عن ذكر ﴿يُعَلِّمَانِ﴾؛ لما [[في "معاني القرآن" للزجاج: بما.]] في الكلام من الدليل عليه [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 185، وينظر: "التبيان" للعكبري ص 81.]]. وقال الفراء: هي مردودة على قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ فيتعلّمون [["معاني القرآن" للفراء 1/ 64، وقد جود الوجه الأول، ورد عليه النحاس هذا الوجه في "إعراب القرآن" 1/ 204، فقال: غلط؛ لأنه لو كان كذا لوجب أن يكون فيتعلمون منهم، فقوله. منهما، يمنع أن يكون التقدير: ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر فيتعلمون، إلا على قول من قال الشياطين هاروت وماروت.]]. قال الزجّاج: هذا خطأ؛ لأن قوله: (منهما) دليل هاهُنا على التعلم منَ الملكين خاصّةً [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 185، وقد أطال أبو علي في "الإغفال" ص 335 - 349 النفس في مناقشة كلام الزجاج.]]. وابن الأنباري صحح مذهب الفراء، وقال: معناه: يعلّمون الناس السحر فيتعلّمون منهم عن [[في (أ): فيتعلمون عن منهم عن الملكين، وفي (م): فيتعلمون عن منهم من الملكين.]] الملكين، فلا يكون (منهما) على هذا صلة للتعلم، بل يكون كقولك: تعلمت من الفراء عن الكسائي، أي: الفراء تعلم عنه، وروى لي [[(لي) ساقطة من (م)]] عنه، (ومنهما) على هذا الوجه يكون بمعنى: عنهما، فقامت مِنْ مقام عن. قال هشام: قال الأصمعي: سمعت [[في (م): (سمعت من).]] أفصح العرب يقول: حدثني فلان من فلان، وهو يريد عن فلان. ويجوز أن يكون معنى قوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ أي: مِن السّحر والكُفر، أو من السحر والكهانة. و (أحدٌ): يقع على الواحد وَالاثنين والجميع؛ لذلك [[في (ش): (كذلك).]] قال: فيتعلّمُون بلفظ الجمع، والدليل على ذلك: قوله: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47]. قال ابن الأنباري: وأجاز أصحابنا: ما مررت بأحدٍ يتكلّمون. ومررت على كُلّ رَجُل يتعجبون [[ابن الأنباري.]]. وروى سَلَمة [[هو: سلمة بن عاصم النحوي أبو محمد، تقدمت ترجمته [البقرة: 8].]] عن الفراء قال: (أحدٌ)، يكون للجميع والواحد في النفي، كقوله: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47]، جعل (أحد) في موضع جمع، وكذلك قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285] فهذا جمع؛ لأن (بينَ) لا يقع إلّا على اثنين فما زاد [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3846 وقال سيبويه: هو معطوف على (كفروا)، قال: وارتفعت (فيتعلمون) لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلموا، ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره، نقله أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 331.]]. وقوله تعالى: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وهو أن يُؤَخَّذَ [[يؤخذ: من التاخيذ، وآخذه: رقاه، والأُخْذَة: بضم فسكون: رقية تأخذ العين ونحوها كالسحر، أو خرزة يؤخذ بها النساء الرجال، ورجل مؤخذ عن النساء: محبوس، ينظر: "اللسان" (مادة: أخذ).]] كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغَّضَ كلُّ واحد إلى الآخر [[رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 463، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 193، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1080 كلهم عن قتادة.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ﴾ أي: السحرة، وقيل: الشياطين وعلى هذا دلّ كلام ابن عبّاس [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 332 وزاد قولًا ثالثًا: وقيل: على اليهود.]]. (به) أي: بالسحر ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ أي: أحدًا [[أي: من زائدة. ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1086، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 49، "تفسير القرطبي" 2/ 49، "البحر المحيط" 1/ 332.]]. ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. قال ابن عبّاس: يريد: ما يُضلّون إلا من كان في علمي وقضائي وقدرتي أن أُضِلّه [[ليس في شيء من التفاسير المسندة، وقد تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة.]]. وقال المفسرون: الإذن هاهُنا تأويله: إرادة التكوين، أي: لا يضرّون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه ذلك الضرر [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 364، "ابن أبي حاتم" 1/ 193، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 186، "تفسير القرطبي" 2/ 49.]]. وقوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ المعنى: إنه يضرهم في الآخرة، وإن تعجّلوا به في الدنيا نفعًا [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 464.]]. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ يعني: اليهود [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 464، "تفسير الثعلبي" 1/ 1086، وذكره في "البحر المحيط" 1/ 323 قولين آخرين أحدهما: أن المراد الشياطين، والثاني: أن المراد الملكين.]] ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ أي: اختاره يعني السحر [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 465، ابن أبي حاتم 1/ 195، "تفسير الثعلبي" 1/ 1086، "زاد المسير" 1/ 125، وذكر في "البحر المحيط" 1/ 334 أربعة أقوال فيما يعود عليه الضمير، فقيل: السحر، وقيل: الكفر، وقيل: كتابهم الذي باعوه بالسحر، وقيل: القرآن لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر.]]. ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي: نصيب. والخلاق: النصيب الوافر من الخير [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 187، "الطبري" 1/ 465 - 466، "ابن أبي حاتم" 1/ 195، "البحر المحيط" 1/ 334، وذكروا خمسة أقوال هي: النصيب، والدين، والقوام، والخلاص، والقدر وقد فسره بالنصيب ابن عباس ومجاهد والسدي ورجحه الطبري والزجاج وغيرهما.]]. قال المفسرون في هذه الآية، الخلاقُ: النصيبُ من الجنة [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 466، "تفسير الثعلبي" 1/ 1086.]]. ثعلب عن ابن الأعرابي: ﴿لَا خَلَاقَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 77] لا نصيب لهم في الخير. ويعني بهذا: الذين يعلّمون الناس السحر، وهم كانوا من علماء اليهود [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 186، "زاد المسير" 1/ 125.]]. وفي قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ جملتان [[ما سيأتي فىِ المسألة من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 362 وما بعدها. وينظر في إعرابها "معاني القرآن" للفراء 1/ 65 - 69، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 186 - 187، "إعراب القرآن" للنحاس1/ 204، "إعراب مشكل القرآن" 1/ 106 - 107، "التبيان" للعكبري ص 81.]]: إحداهما: مقسم عليها. والأخرى: مؤكدة بغير قسم. ويحتمل أن تكون الجملتان كلتاهما مقسم عليهما، والجملة هي المحدّث عنه والحديث. فأما الجملة المقسم عليها فقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ مقسم عليه؛ لدخول اللام في لقد، وهذه اللام إذا جاءت في الفعل الماضي والمستقبل فإنما تجيء على نية اليمين، كانت مذكورة معها أو محذوفة. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: ليفعلنّ إذا جاءت مبتدأة؟ فقال: هي على نية القسم [["الكتاب" 1/ 531 - 532 ط. بيروت.]]، واللام التي تدخل على الماضي هي هذه التي إذا دخلت على المستقبل لزمته النون، فتقدير ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾: والله لقد علموا. والأخرى المؤكدة غير المقسم عليها: قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ إذا جعلت (مَنْ) بمعنى (الذي) كانت اللام للتأكيد دون القسم. ومذهب سيبويه فيه هذا، وهو أن (من) فيه بمعنى (الذي)، كأنه قيل: للذي اشتراه ماله في الآخرة من خلاق [[ساقط من (أ)، (م).]]. فموضع (من) رفع بالابتداء. وموضع ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ رفع على أنه خبر الابتداء. وأما احتمال الكلام أن يكون فيه جملتان كلتاهما مقسم عليهما: فالأولى منهما أيضًا: قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾، والأخرى المقسم عليها: قوله: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، وذلك أن تجعل (من) شرطًا في قوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ ولا تجعله بمنزلة الذي. وتجعل قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ بمنزلة القسم؛ لأن العلم قد يقام مقام القسم، في مثل قولك: علمت ليفعلنّ كذا، وفي مثل قول الشاعر [[الذي استشهد به أبو علي في "الإغفال" ص 366 ونقله عنه سيبويه هو قول الشاعر: ولقد علمت لتأتين منيتي.]]: ولقد علمتُ لتأتينّ عَشِيّةٌ ... لا بعدها خوفٌ عليّ ولا عَدَمْ [[البيت لعامر بن حوط، في تاج العروس، (مادة: عدم). "المعجم المفصل" 7/ 163.]] قال سيبويه: كأنه قال: والله لتأتينّ عَشِيَّة، فحمل (علمت) في البيت على معنى اليمين. فمن حيث استعمل استعمال القسم صلح أن يكون له جواب، كما يكون للقسم، وساغ أن يكون النفي جوابًا له في الآية. فإن قيل: على هذا إذا قلتم: إن قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ مقسم عليه، وجوزتم أن يكون هو في نفسه قسمًا، فكأنه قسم قد دخل على قسم، ويبعد ذلك عند سيبويه، فإن سيبويه والخليل قالا: لا يقوى أن يقول: وحقِّك وحقِّ زيد لأفعلن، والواو الآخرة واوُ قَسم لا يجوز إلا مستكرهًا؛ لأنّه لا يجوز هذا في محلوف عليه، إلا أن تضم الآخر إلى الأوّل، وتحلف بهما على المحلوف عليه [["الكتاب" لسيبويه 3/ 501 ط. عبد السلام هارون.]]. ولهذا جعل هو والخليل الحرف في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل: 1 - 2] إنه للعطف [[المصدر السابق.]]. معنى ضم الآخر إلى الأوّل، أي: يضم إليه بحرف العطف [[من قوله: معنى (ضم الآخر) ساقط من (ش).]] دون القسم، قلنا: هذا على ما ذكرت، ولكن قوله: ﴿وَلَقَد عَلِمُوا﴾ أقيم مقام القسم، وليس كالمختصِّ بالقسم التي لا معنى لها غيره، نحو لعمرُك لأفعلنّ، وبالله [[في (ش): (وتالله).]] ليقومنّ، فليس يدخل على هذا قسم على قسم على [[(على) ساقطة من (ش).]] الحقيقة، إنما يدخل [[في (ش) يدخل الاسم على شيء.]] على شيء أقيم مقام القسم، وأصله غير ذلك، والأول هو الوجه الواضح [[هذه المسألة بتمامها ملخصة من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 362 - 368.]]. قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: بئس شيء باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 466، "تفسير الثعلبي" 1/ 1087، "تفسير ابن كثير" 1/ 154.]]. وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ إن قيل: كيف نفى العلم عنهم، ولقد أثبت العلم لهم في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾. قيل: وصفهم بالعلم [[في (ش): (وصفهم بالعلم ثم نفاه عنهم في قوله ... وهذا سيأتي).]] في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ على المجاز لا على الحقيقة، كأنه قال: علموا هذا عِلمًا ظاهرًا، ولم يعلموا كنه ما يصير إليه من بخس الآخرة من العقاب، لذلك [[في (ش): (كذلك).]] قال: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. وقيل: إن الله تعالى وصفهم بالعلم ثم نفاه عنهم؛ لأنهم لم يعملوا بما علموا، فكانوا بمنزلة من لم يعلم، كما تقول: صلَّيتَ ولم تصلِّ، وتكلّمتَ ولم تتكلّم، أي: لم تجوّد كلامك، فكنت بمنزلة من لم يتكلم. وقيل: إنما وصفهم بوصفين مختلفين؛ لأنهم علموا أن الآخرة يخسرها من آثر السحر، ثم دخلوا فيه وآثروه طمعًا في عوض يصير إليهم من الدنيا، فقال الله عز وجل: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أن الذي قصدوه وآثروه لا يتم لهم من جهته ما يؤمِّلُون؛ لأن الدنيا تنقطع عنهم بالموت، ثم يقدمون على الآخرة التي لا حظ لهم فيها [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 467، "تفسير البغوي" 1/ 132، "التفسير الكبير" للرازي 3/ 222، "البحر المحيط" 1/ 334، وأجاب الطبري 1/ 466 بأنه من باب التقديم والتأخير، ومعنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، ثم رد على من قال: ولقد علموا، أي: الشياطين، ولو كانوا يعلمون، يعني به الناس، وبين أنه قول لجميع أهل التأويل مخالف، لأنهم مجمعون على أن قوله (ولقد علموا)، يعني به اليهود إلخ ما قال.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب