الباحث القرآني

﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾، مَعْنى اتَّبَعُوا: أيِ اقْتَدَوْا بِهِ إمامًا، أوْ فَضَّلُوا؛ لِأنَّ مَنِ اتَّبَعَ شَيْئًا فَضَّلَهُ، أوْ قَصَدَ واوَ الضَّمِيرِ في واتَّبَعُوا لِلْيَهُودِ، فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ والسُّدِّيُّ: يَعُودُ عَلى مَن كانَ في عَهْدِ سُلَيْمانَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقِيلَ: يَعُودُ عَلى جَمِيعِ اليَهُودِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: واتَّبَعُوا، مَعْطُوفَةٌ عَلى جَمِيعِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ مِن قَوْلِهِ: ولَمّا جاءَهم إلى آخِرِها، وهو إخْبارٌ عَنْ حالِهِمْ في اتِّباعِهِمْ ما لا يَنْبَغِي أنْ (p-٣٢٦)يُتَّبَعَ، وهَذا هو الظّاهِرُ، لا أنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهم؛ لِأنَّ الِاتِّباعَ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلى مَجِيءِ الرَّسُولِ، لِأنَّهم كانُوا مُتَّبِعِينَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، بِخِلافِ نَبْذِ كِتابِ اللَّهِ، فَإنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلى مَجِيءِ الرَّسُولِ. وتَتْلُو: تَتَبِّعُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ تَدَّعِي، أوْ تَقْرَأُ، أوْ تُحَدِّثُ، قالَهُ عَطاءٌ، أوْ تَرْوِي، قالَهُ يَمانٌ، أوْ تَعْمَلُ، أوْ تَكْذِبُ، قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ. وهي أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. وما مَوْصُولَةٌ، صِلَتُها تَتْلُو، وهو مُضارِعٌ في مَعْنى الماضِي، أيْ ما تَلَتْ. وقالَ الكُوفِيُّونَ: المَعْنى: ما كانَتْ تَتْلُو، لا يُرِيدُونَ أنَّ صِلَةَ ما مَحْذُوفَةٌ، وهي كانَتْ، وتَتْلُو في مَوْضِعِ الخَبَرِ، وإنَّما يُرِيدُونَ أنَّ المُضارِعَ وقَعَ مَوْقِعَ الماضِي، كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ: كانَ زَيْدٌ يَقُومُ، هو إخْبارٌ بِقِيامِ زَيْدٍ، وهو ماضٍ لِدَلالَةِ كانَ عَلَيْهِ. والشَّياطِينُ: ظاهِرُهُ أنَّهم شَياطِينُ الجِنِّ؛ لِأنَّهُ إذا أُطْلِقَ الشَّيْطانُ، تَبادَرَ الذِّهْنُ إلى أنَّهُ مِنَ الجانِّ. وقِيلَ: المُرادُ شَياطِينُ الإنْسِ. وقَرَأ الحَسَنُ والضَّحّاكُ: الشَّياطُونَ، بِالرَّفْعِ بِالواوِ، هو شاذٌّ، قاسَهُ عَلى قَوْلِ العَرَبِ: بُسْتانُ فُلانٍ حَوْلَهُ بَساتُونَ، رَواهُ الأصْمَعِيُّ. قالُوا: والصَّحِيحُ أنَّ هَذا الجِنَّ فاحِشٌ. وقالَ أبُو البَقاءِ: شَبَّهَ فِيهِ الياءَ قَبْلَ النُّونِ بِياءِ جَمْعِ الصَّحِيحِ، وهو قَرِيبٌ مِنَ الغَلَطِ. وقالَ السَّجاوَنْدِيُّ: خَطَّأهُ الخازَرْبَجِيُّ. عَلى مُلْكِ: مُتَعَلِّقٌ بِتَتْلُو، وتَلا يَتَعَدّى بِعَلى إذا كانَ مُتَعَلِّقُها يُتْلى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: يُتْلى عَلى زَيْدٍ القُرْآنُ، ولَيْسَ المُلْكُ هُنا بِهَذا المَعْنى؛ لِأنَّهُ لَيْسَ شَخْصًا يُتْلى عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أنَّ عَلى تَكُونُ بِمَعْنى في، أيْ تَتْلُو في مُلْكِ سُلَيْمانَ. وقالَ أصْحابُنا: لا تَكُونُ ”عَلى“ في مَعْنى ”في“، بَلْ هَذا مِنَ التَّضْمِينِ في الفِعْلِ ضُمِّنَ تَتَقَوَّلُ، فَعُدِّيَتْ بِعَلى لِأنَّ تَقَوَّلَ: تُعَدّى بِها، قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا﴾ [الحاقة: ٤٤] ومَعْنى: ﴿عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾، أيْ شَرْعِهِ ونُبُوَّتِهِ وحالِهِ. وقِيلَ: عَلى عَهْدِهِ، وفي زَمانِهِ، وهو قَرِيبٌ. وقِيلَ: عَلى كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ بَعْدَ وفاتِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ مِن آلاتِ مُلْكِهِ. وفَسَّرُوا ما يَتْلُو الشَّياطِينُ بِالسِّحْرِ، قالُوا: وهو الأشْهَرُ والأظْهَرُ عَلى ما نُقِلَ في أسْبابِ النُّزُولِ، مِن أنَّ الشَّياطِينَ كَتَبَتِ السِّحْرَ واخْتَلَقَتْهُ ونَسَبَتْهُ إلى سُلَيْمانَ وآصَفَ. وقِيلَ: الَّذِي تَلَتْهُ هو الكَذِبُ الَّذِي تُضِيفُهُ إلى ما تَسْتَرِقُ مِن أخْبارِ السَّماءِ، وأضافُوا ذَلِكَ إلى سُلَيْمانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ ما يَتْلُونَهُ؛ لِأنَّ الَّذِي كانَ مَعَهُ مِنَ المُعْجِزاتِ، وإظْهارِ الخَوارِقِ، وتَسْخِيرِ الجِنِّ والإنْسِ، وتَقْرِيبِ المُتَباعِداتِ، وتَأْلِيفِ الخَواطِرِ، وتَكْلِيمِ العَجْماواتِ، كانَ أمْرًا عَظِيمًا. والسّاحِرُ يَدَّعِي أشْياءَ مِن هَذا النَّوْعِ: مِن تَسْخِيرِ الجِنِّ، وبُلُوغِ الآمالِ، والتَّأْثِيرِ في الخَواطِرِ، بَلْ ويَدَّعِي قَلْبَ الأعْيانِ عَلى ما يَأْتِي في الكَلامِ عَلى السِّحْرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾، أوْ لِأنَّهم كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ مُلْكَ سُلَيْمانَ إنَّما حَصَلَ بِالسِّحْرِ. وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في كَيْفِيّاتِ ما رَتَّبُوهُ مِن هَذا الَّذِي تَلَوْهُ قِصَصًا كَثِيرَةً، اللَّهُ أعْلَمُ بِهِ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ، ولا الحَدِيثُ المُسْنَدُ الصَّحِيحُ لِشَيْءٍ مِنهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ. ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾: تَنْزِيهٌ لِسُلَيْمانَ عَنِ الكُفْرِ، أيْ لَيْسَ ما اخْتَلَقَتْهُ الجِنُّ مِن نِسْبَةِ ما تَدَّعِيهِ إلى سُلَيْمانَ تَعاطاهُ سُلَيْمانُ؛ لِأنَّهُ كُفْرٌ، ومَن نَبَّأهُ اللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ المَعاصِي الكَبائِرِ والصَّغائِرِ، فَضْلًا عَنِ الكُفْرِ. وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَمَّنْ لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ مِنهُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ مِنهُ الكُفْرُ، ولا يَدُلُّ هَذا عَلى أنَّ ما نَسَبُوهُ إلى سُلَيْمانَ مِنَ السِّحْرِ يَكُونُ كُفْرًا، إذْ يُحْتَمَلُ أنَّهم نَسَبُوا إلَيْهِ الكُفْرَ مَعَ السِّحْرِ. ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا ذَكَرَ سُلَيْمانَ في الأنْبِياءِ قالَ بَعْضُ اليَهُودِ: انْظُرُوا إلى مُحَمَّدٍ يَذْكُرُ سُلَيْمانَ في الأنْبِياءِ، وما كانَ إلّا ساحِرًا. ولَمْ يَتَقَدَّمْ في الآياتِ أنَّ أحَدًا نَسَبَ سُلَيْمانَ إلى الكُفْرِ، ولَكِنَّها آيَةٌ نَزَلَتْ في السَّبَبِ المُتَقَدِّمِ أنَّ اليَهُودَ نَسَبَتْهُ إلى السِّحْرِ والعَمَلِ بِهِ. ﴿ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾: كُفْرُهم، إمّا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وإمّا تَعَلُّمِهِمْ بِهِ، وإمّا بِتَكْفِيرِهِمْ سُلَيْمانَ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كُفْرُهم بِغَيْرِ ذَلِكَ. واسْتِعْمالُ لَكِنَّ هَنا حَسَنٌ، لِأنَّها بَيْنَ نَفْيٍ وإثْباتٍ. وقُرِئَ: ولَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَجِبُ إعْمالُها، وهي قِراءَةُ نافِعٍ وعاصِمٍ وابْنِ كَثِيرٍ وأبِي عَمْرٍو. (p-٣٢٧)وقُرِئَ: بِتَخْفِيفِ النُّونِ ورَفْعِ ما بَعْدَها بِالِابْتِداءِ والخَبَرِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ. وإذا خُفِّفَتْ، فَهَلْ يَجُوزُ إعْمالُها ؟ مَسْألَةُ خِلافٍ. الجُمْهُورُ عَلى المَنعِ، ونَقَلَ أبُو القاسِمِ بْنُ الرِّماكِ عَنْ يُونُسَ جَوازَ إعْمالِها، ونَقَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الأخْفَشِ، والصَّحِيحُ المَنعُ. وقالَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: الِاخْتِيارُ، التَّشْدِيدُ إذا كانَ قَبْلَها واوٌ، والتَّخْفِيفُ إذا لَمْ يَكُنْ مَعَها واوٌ، وذَلِكَ لِأنَّها مُخَفَّفَةً تَكُونُ عاطِفَةً ولا تَحْتاجُ إلى واوٍ مَعَها. كَبَلْ، فَإذا كانَتْ قَبْلَها واوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ؛ لِأنَّ بَلْ لا تَدْخُلُ عَلَيْها الواوُ، فَإذا كانَتْ لَكِنَّ مُشَدَّدَةً عَمِلَتْ عَمَلَ إنَّ، ولَمْ تَكُنْ عاطِفَةً. انْتَهى الكَلامُ. وهَذا كُلُّهُ عَلى تَسْلِيمِ أنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عاطِفَةً، وهي مَسْألَةُ خِلافٍ، الجُمْهُورُ عَلى أنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عاطِفَةً. وذَهَبَ يُونُسُ إلى أنَّها لَيْسَتْ مِن حُرُوفِ العَطْفِ، وهو الصَّحِيحُ لِأنَّهُ لا يُحْفَظُ ذَلِكَ مِن لِسانِ العَرَبِ، بَلْ إذا جاءَ بَعْدَها ما يُوهِمُ العَطْفَ، كانَتْ مَقْرُونَةً بِالواوِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكم ولَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٤٠] . وأمّا إذا جاءَتْ بَعْدَها الجُمْلَةُ، فَتارَةً تَكُونُ بِالواوِ، وتارَةً لا يَكُونُ مَعَها الواوُ، كَما قالَ زُهَيْرٌ: ؎إنَّ ابْنَ ورْقاءَ لا تُخْشى بَوادِرُهُ لَكِنْ وقائِعَهُ في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ وأمّا ما يُوجَدُ في كُتُبِ النَّحْوِيِّينَ مِن قَوْلِهِمْ: ما قامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وما ضَرَبْتُ زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا، وما مَرَرْتُ بِزَيْدٍ لَكِنْ عَمْرٍو، فَهو مِن تَمْثِيلِهِمْ، لا أنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنَ العَرَبِ. ومِن غَرِيبِ ما قِيلَ في لَكِنَّ: أنَّها مُرَكَّبَةٌ مِن كَلِمٍ ثَلاثٍ: لا لِلنَّفْيِ، والكافُ لِلْخِطابِ، وأنَّ الَّتِي لِلْإثْباتِ والتَّحْقِيقِ، وأنَّ الهَمْزَةَ حُذِفَتْ لِلِاسْتِثْقالِ، وهَذا قَوْلٌ فاسِدٌ، والصَّحِيحُ أنَّها بَسِيطَةٌ. ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾: الضَّمِيرُ في يُعَلِّمُونَ اخْتُلِفَ في مَن يَعُودُ عَلَيْهِ، فالظّاهِرُ أنَّهُ يَعُودُ عَلى الشَّياطِينِ، يَقْصِدُونَ بِهِ إغْواءَهم وإضْلالَهم، وهو اخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وعَلى هَذا تَكُونُ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في كَفَرُوا. قالُوا: أوْ خَبَرًا ثانِيًا. وقِيلَ: حالٌ مِنَ الشَّياطِينِ. ورُدَّ بِأنَّ لَكِنَّ لا تَعْمَلُ في الحالِ، وقِيلَ: بَدَلٌ مِن كَفَرُوا، بَدَلَ الفِعْلِ مِنَ الفِعْلِ؛ لِأنَّ تَعْلِيمَ الشَّياطِينِ السِّحْرَ كُفْرٌ في المَعْنى. والظّاهِرُ أنَّهُ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْهم. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الَّذِينَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ. عَلى اخْتِلافِ المُفَسِّرِينَ فِيمَن يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ اتَّبَعُوا، فَيَكُونُ المَعْنى: يَعْلَمُ المُتَّبِعُونَ ما تَتْلُو الشَّياطِينُ النّاسَ، فالنّاسُ مُعَلِّمُونَ لِلْمُتَّبِعِينَ. وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُونَ مُعَلِّمِينَ لِلشَّياطِينِ. واخْتُلِفَ في حَقِيقَةِ السِّحْرِ عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ قَلْبُ الأعْيانِ واخْتِراعُها وتَغْيِيرُ صُوَرِ النّاسِ مِمّا يُشْبِهُ المُعْجِزاتِ والكَراماتِ، كالطَّيَرانِ وقَطْعِ المَسافاتِ في لَيْلَةٍ. الثّانِي: أنَّهُ خُدَعٌ ومَخارِيقُ وتَمْوِيهاتٌ وشَعْوَذَةٌ لا حَقِيقَةَ لَها، ويَدُلُّ عَلَيْهِ، ﴿يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى﴾ [طه: ٦٦] . وفي الحَدِيثِ، حِينَ «سَحَرَ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: ”يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما يَفْعَلُهُ“» . وهو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ: يَرَوْنَ أنَّ السِّحْرَ لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، ووافَقَهم أبُو إسْحاقَ الِإسْتِراباذِيُّ مِنَ الشّافِعِيَّةِ. الثّالِثُ: أنَّهُ أمْرٌ يَأْخُذُ بِالعَيْنِ عَلى جِهَةِ الحِيلَةِ، ومِنهُ: ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦]، كَما رُوِيَ أنَّ حِبالَهم وعِصِيَّهم كانَتْ مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، فَسَجَرُوا تَحْتَها نارًا، فَحَمِيَتِ الحِبالُ والعِصِيُّ، فَتَحَرَّكَتْ وسَعَتْ. ولِأرْبابِ الحِيَلِ والدَّكِّ والشَّعْوَذَةِ مِن هَذا أشْياءُ، يُبَيَّنُ كَثِيرٌ مِنها في الكِتابِ المُسَمّى بِكَشْفِ الدَّكِّ والشَّعْوَذَةِ وإيضاحِ الشَّكِّ، وفي كِتابِ إرْخاءِ السُّتُورِ والكَلَلِ في الشَّعْوَذَةِ والحِيَلِ ) . وفي الحَدِيثِ حِينَ «انْشَقَّ القَمَرُ نِصْفَيْنِ بِمَكَّةَ، قالَ أبُو جَهْلٍ: اصْبِرُوا حَتّى يَأْتِيَ أهْلُ البَوادِي، فَإنْ لَمْ يُخْبِرُوا بِذَلِكَ كانَ مُحَمَّدٌ قَدْ سَحَرَ أعْيُنَنا، فَأتَوْا فَأخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَقالَ: ما هَذا إلّا سِحْرٌ عَظِيمٌ» . الرّابِعُ: أنَّهُ نَوْعٌ مِن خِدْمَةِ الجِنِّ، وهُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوهُ مَن جِنْسِ لَطِيفِ أجْسامِهِمْ وهَيْئاتِها، فَلَطُفَ ودَقَّ وخَفِيَ. الخامِسُ: أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن أجْسامٍ تُجْمَعُ وتُحْرَقُ، وتُتَّخَذُ مِنها أرْمِدَةٌ ومِدادٌ، ويُتْلى عَلَيْها أسْماءٌ وعَزائِمُ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ (p-٣٢٨)فِيما يُحْتاجُ إلَيْها مِنَ السِّحْرِ. السّادِسُ: أنَّ أصْلَهُ طَلْسَماتٌ وقَلْفَطْرِيّاتٌ، تُبْنى عَلى تَأْثِيرِ خَصائِصِ الكَواكِبِ، كَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ في زِئْبَقِ عَصى فِرْعَوْنَ، أوِ اسْتِخْدامِ الشَّياطِينِ لِتَسْهِيلِ ما عَسُرَ. السّابِعُ: أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن كَلِماتٍ مَمْزُوجَةٍ بِكُفْرٍ. قالَ بَعْضُ مُعاصِرِينا: هَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها الَّتِي قالُوها في حَقِيقَةِ السِّحْرِ أنْواعٌ مِن أنْواعِ السِّحْرِ، وقَدْ ضُمَّ إلَيْها أنْواعٌ أُخَرُ مِنَ الشَّعْبَذَةِ والدَّكِّ والنّارِنْجِيّاتِ والأوْفاقِ والعَزائِمِ وضُرُوبِ المَنادِلِ والصَّرَعِ، وما يَجْرِي مَجْرى ذَلِكَ. انْتَهى كَلامُهُ. ولا يُشَكُّ في أنَّ السِّحْرَ كانَ مَوْجُودًا، لِنُطْقِ القُرْآنِ والحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِهِ. وأمّا في زَمانِنا الآنَ، فَكُلَّما وقَفْنا عَلَيْهِ في الكُتُبِ، فَهو كَذِبٌ وافْتِراءٌ، لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، ولا يَصِحُّ مِنهُ شَيْءٌ ألْبَتَّةَ. وكَذَلِكَ العَزائِمُ وضَرْبُ المَندَلِ، والنّاسُ الَّذِينَ يُعْتَقَدُ فِيهِمْ أنَّهم عُقَلاءُ، يُصَدِّقُونَ بِهَذِهِ الأشْياءِ، ويُصْغُونَ إلى سَماعِها. وقَدْ رَأيْتُ بَعْضَ مَن يَنْتَمِي إلى العِلْمِ، إذا أفْلَسَ، وضَعَ كُتُبًا وذَكَرَ فِيها أشْياءَ مِن رَأْسِهِ، وباعَها في الأسْواقِ بِالدَّراهِمِ الجَيِّدَةِ. وقَدْ أطْلَقَ اسْمَ السِّحْرِ بَعْضُ العُلَماءِ عَلى الوَشْيِ بَيْنَ النّاسِ بِالنَّمِيمَةِ؛ لِأنَّ فِيهِ قَلْبَ الصَّدِيقِ عَدُوًّا، والحَبِيبِ بَغِيضًا. كَما أُطْلِقَ عَلى حُسْنِ التَّوَسُّلِ بِاللَّفْظِ الرّائِقِ العَذْبِ، لِما فِيهِ مِنَ الِاسْتِمالَةِ، وسُمِّيَ سِحْرًا حَلالًا. وقَدْ رُوِيَ: «إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا»، وقالَ: ؎وحَدِيثُها السِّحْرُ الحَلالُ لَوَ انَّهُ ∗∗∗ لَمْ يَجْنِ قَتْلَ المُسْلِمِ المُتَحَرِّزِ وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾: أنَّهم يُفَهِّمُونَهم إيّاهُ بِالإقْراءِ والتَّعْلِيمِ. وقِيلَ: المَعْنى يَدُلُّونَهم عَلى تِلْكَ الكُتُبِ، فَأطْلَقَ عَلى الدَّلالَةِ تَعْلِيمًا، تَسْمِيَةً لِلْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ. وقِيلَ: المَعْنى يُوَقِّرُونَ في قُلُوبِهِمْ أنَّها حَقٌّ، تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وأنَّ سُلَيْمانَ إنَّما تَمَّ لَهُ ما تَمَّ بِذَلِكَ، وهَذا أيْضًا تَسْمِيَةٌ لِلْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ. وقِيلَ: يُعَلِّمُونَ مَعْناهُ يُعْلِمُونَ، أيْ يُعْلِمُونَهم بِما يَتَعَلَّمُونَ بِهِ السِّحْرَ، أوْ بِمَن يَتَعَلَّمُونَ مِنهُ ولَمْ يُعَلِّمُوهم، فَهو مِن بابِ الإعْلامِ لا مِن بابِ التَّعْلِيمِ. وأمّا حُكْمُ السِّحْرِ، فَما كانَ مِنهُ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ مِنَ الكَواكِبِ والشَّياطِينِ، وإضافَةِ ما يُحْدِثُهُ اللَّهُ إلَيْها، فَهو كُفْرٌ إجْماعًا، لا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ ولا العَمَلُ بِهِ. وكَذا ما قُصِدَ بِتَعَلُّمِهِ سَفْكُ الدِّماءِ، والتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ والأصْدِقاءِ. وأمّا إذا كانَ لا يُعْلَمُ مِنهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، بَلْ يُحْتَمَلُ، فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ ولا العَمَلُ بِهِ. وما كانَ مِن نَوْعِ التَّحَيُّلِ والتَّخْيِيلِ والدَّكِّ والشَّعْبَذَةِ، فَإنْ قَصَدَ بِتَعْلِيمِهِ العَمَلَ بِهِ والتَّمْوِيهَ عَلى النّاسِ، فَلا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ؛ لِأنَّهُ مِن بابِ الباطِلِ. وإنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْرِفَتَهُ لِئَلّا تَتِمَّ عَلَيْهِ مَخايِلُ السَّحَرَةِ وخُدَعُهم، فَلا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهِ، أوِ اللَّهْوِ واللَّعِبِ، وتَفْرِيجِ النّاسِ عَلى خِفَّةِ صَنْعَتِهِ فَيُكْرَهُ. رُوِيَ: «لَسْتُ مِن دَدٍ ولا دَدٌ مِنِّي» . وأمّا سِحْرُ البَيانِ، فَما أُرِيدَ بِهِ تَأْلِيفُ القُلُوبِ عَلى الخَيْرِ، فَهو السِّحْرُ الحَلالُ، أوْ سَتْرُ الحَقِّ، فَلا يَجُوزُ تَعَلُّمُهُ ولا العَمَلُ بِهِ. وأمّا حُكْمُ السّاحِرِ حَدًّا وتَوْبَةً، فَقَدْ تَعَرَّضَ المُفَسِّرُونَ لِذَلِكَ، ولَمْ تَتَعَرَّضْ إلَيْهِ الآيَةُ، وهي مَسْألَةٌ مَوْضُوعُها عِلْمُ الفِقْهِ، فَتُذْكَرُ فِيهِ. ﴿وما أُنْزِلَ﴾: ظاهِرُهُ أنَّ ما مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ مَنصُوبٌ، وأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: السِّحْرَ، وظاهِرُ العَطْفِ التَّغايُرُ، فَلا يَكُونُ ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ سِحْرًا. وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى ما تَتْلُو الشَّياطِينُ، أيْ واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ والَّذِي أُنْزِلَ، وظاهِرُهُ أنَّ ما عَلَّمُوهُ النّاسَ، أوْ ما اتَّبَعُوهُ هو مُنَزَّلٌ. واخْتُلِفَ في هَذا المُنَزَّلِ الَّذِي عُلِّمَ، أوِ الَّذِي اتُّبِعَ فَقِيلَ: عِلْمُ السِّحْرِ أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ ابْتِلاءً مِنَ اللَّهِ لِلنّاسِ، مَن تَعَلَّمَهُ مِنهم وعَمِلَ بِهِ كانَ كافِرًا، ومَن تَجَنَّبَهُ أوْ تَعَلَّمَهُ لا يَعْمَلُ بِهِ ولَكِنْ لِيَتَوَقّاهُ ولِئَلّا يَغْتَرَّ بِهِ كانَ مُؤْمِنًا، كَما ابْتُلِيَ قَوْمُ طالُوتَ بِالنَّهَرِ، وهَذا اخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: المُنَزَّلُ هو الشَّيْءُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ، وهو دُونَ السِّحْرِ. وقِيلَ: السِّحْرُ لِيُعْلَمَ عَلى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنهُ، والنَّهْيِ عَنْهُ، والتَّعْلِيمُ عَلى هَذا القَوْلِ إنَّما هو تَعْرِيفٌ يَسِيرٌ بِمَبادِئِهِ. وقِيلَ: ”ما“ في مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلى ”مُلْكِ سُلَيْمانَ“، والمَعْنى: افْتِراءً عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، وافْتِراءً عَلى ما أُنْزِلَ (p-٣٢٩)عَلى المَلَكَيْنِ، وهو اخْتِيارُ أبِي مُسْلِمٍ، وأنْكَرَ أنْ يَكُونَ المَلَكانِ نازِلًا عَلَيْهِما السِّحْرُ، قالَ: لِأنَّهُ كُفْرٌ، والمَلائِكَةُ مَعْصُومُونَ، ولِأنَّهُ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ إنْزالُهُ، ولا يُضافُ إلَيْهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ يُبْطِلُهُ، وإنَّما المُنَزَّلُ عَلى المَلَكَيْنِ الشَّرْعُ، وإنَّهُما كانا يُعَلِّمانِ النّاسَ ذَلِكَ. وقِيلَ: ”ما“ حَرْفُ نَفْيٍ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾، وذَلِكَ أنَّ اليَهُودَ قالُوا: إنَّ اللَّهَ أنْزَلَ جِبْرِيلَ ومِيكالَ بِالسِّحْرِ، فَنَفى اللَّهُ ذَلِكَ. ﴿عَلى المَلَكَيْنِ﴾: قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِفَتْحِ اللّامِ، وظاهِرُهُ أنَّهُما مَلَكانِ مِنَ المَلائِكَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى المَلَكِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٤]، فَقِيلَ: هَمّا جِبْرِيلَ ومِيكالُ، كَما ذَكَرْناهُ في هَذا القَوْلِ الأخِيرِ. وقِيلَ: مَلَكانِ غَيْرُهُما وهُما: هارُوتُ ومارُوتُ. وقِيلَ: مَلَكانِ غَيْرُهُما، وسَيَأْتِي إعْرابُ هارُوتَ ومارُوتَ عَلى تَقْدِيرِ هَذِهِ الأقْوالِ، إنْ شاءَ اللَّهُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وأبُو الأسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ والضَّحّاكُ وابْنُ أبْزى: المَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللّامِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُما رَجُلانِ ساحِرانِ كانا بِبابِلَ؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ لا تُعَلِّمُ النّاسَ السِّحْرَ. وقالَ الحَسَنُ: هُما عِلْجانِ بِبابِلِ العِراقِ. وقالَ أبُو الأسْوَدِ: هُما هارُوتُ ومارُوتُ، وهَذا مُوافِقٌ لِقَوْلِ الحَسَنِ. وقالَ ابْنُ أبْزى: هُما داوُدُ وسُلَيْمانُ، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقِيلَ: هُما شَيْطانانِ. فَعَلى قَوْلِ ابْنِ أبْزى تَكُونُ ما نافِيَةً، وعَلى سائِرِ الأقْوالِ، في هَذِهِ القِراءَةِ، تَكُونُ ما مَوْصُولَةً. ومَعْنى الإنْزالِ: القَذْفُ في قُلُوبِهِما. وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ، في قِراءَةِ مَن قَرَأ: المَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللّامِ، قَصَصًا كَثِيرًا، تَتَضَمَّنُ: أنَّ المَلائِكَةَ تَعَجَّبَتْ مِن بَنِي آدَمَ في مُخالَفَتِهِمْ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى بَكَّتَهم، بِأنْ قالَ لَهُمُ اخْتارُوا مَلَكَيْنِ لِلْهُبُوطِ إلى الأرْضِ، فاخْتارُوا هارُوتَ ومارُوتَ، ورَكَّبَ فِيهِما الشَّهْوَةَ، فَحَكَما بَيْنَ النّاسِ، وافْتُتِنا بِامْرَأةٍ، تُسَمّى بِالعَرَبِيَّةِ: الزُّهْرَةَ، وبِالفارِسِيَّةِ: مِيذَخْتَ، فَطَلَباها وامْتَنَعَتْ إلّا أنْ يَعْبُدا صَنَمًا، ويَشْرَبا الخَمْرَ ويَقْتُلا. فَخافا عَلى أمْرِهِما، فَعَلَّماها ما تَصْعَدُ بِهِ إلى السَّماءِ وما تَنْزِلُ بِهِ، فَصَعِدَتْ ونَسِيَتْ ما تَنْزِلُ بِهِ، فَمُسِخَتْ. وأنَّهُما تَشَفَّعا بِإدْرِيسَ إلى اللَّهِ تَعالى، فَخَيَّرَهُما في عَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فاخْتارا عَذابَ الدُّنْيا، فَهُما بِبابِلَ يُعَذَّبانِ. وذَكَرُوا في كَيْفِيَّةِ عَذابِهِما اخْتِلافًا. وهَذا كُلُّهُ لا يَصِحُّ مِنهُ شَيْءٌ. والمَلائِكَةُ مَعْصُومُونَ، ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]، ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩]، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠] . ولا يَصِحُّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَلْعَنُ الزُّهْرَةَ، ولا ابْنَ عُمَرَ. وقِيلَ: سَبَبُ إنْزالِ المَلَكَيْنِ: أنَّ السَّحَرَةَ كَثُرُوا في ذَلِكَ الزَّمانِ، وادَّعَوُا النُّبُوَّةَ، وتَحَدَّوُا النّاسَ بِالسِّحْرِ. فَجاءا لِيُعَلِّما النّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَمَكَّنُوا مِن مُعارَضَةِ السِّحْرِ، فَيَتَبَيَّنَ كَذِبُهم في دَعْواهُمُ النُّبُوَّةَ، أوْ لِأنَّ المُعْجِزَةَ والسِّحْرَ ماهِيَّتانِ مُتَبايِنَتانِ، ويَعْرِضُ بَيْنَهُما الِالتِباسُ. فَجاءا لِإيضاحِ الماهِيَّتَيْنِ، أوْ لِأنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُوقِعُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أعْداءِ اللَّهِ وأوْلِيائِهِ كانَ مُباحًا، أوْ مَندُوبًا، فَبُعِثا لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ القَوْمُ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أوْلِياءِ اللَّهِ. أوْ لِأنَّ الجِنَّ كانَ عِنْدَهم مِن أنْواعِ السِّحْرِ ما لَمْ تَقْدِرِ البَشَرُ عَلى مِثْلِهِ، فَأُنْزِلا بِذَلِكَ لِأجْلِ المُعارَضَةِ. وقِيلَ: أُنْزِلا عَلى إدْرِيسَ؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ لا يَكُونُونَ رُسُلًا لِكافَّةِ النّاسِ، ولا بُدَّ مِن رَسُولٍ مِنَ البَشَرِ. ﴿بِبابِلَ﴾: قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هي في سَوادِ الكُوفَةِ. وقالَ قَتادَةُ: هي مِن نَصِيبِينَ إلى رَأْسِ العَيْنِ. وقِيلَ: هي جَبَلُ دَماوَنْدَ. وقِيلَ: هي بِالمَغْرِبِ. وقِيلَ: في أرْضٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، فِيها هارُوتُ ومارُوتُ، وسُمِّيَتْ بِبابِلَ، قالَ الخَلِيلُ: لِتَبَلْبُلِ الألْسِنَةِ حِينَ أرادَ اللَّهُ أنْ يُخالِفَ بَيْنَها، أتَتْ رِيحٌ فَحَشَرَتِ النّاسَ إلى بابِلَ، فَلَمْ يَدْرِ أحَدٌ ما يَقُولُ الآخَرُ، ثُمَّ فَرَّقَتْهُمُ الرِّيحُ في البِلادِ. وقِيلَ: لِتَبَلْبُلِ الألْسِنَةِ بِها عِنْدَ سُقُوطِ قَصْرِ نَمْرُوذَ. ﴿هارُوتَ ومارُوتَ﴾: قَرَأ الجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التّاءِ، وهُما بَدَلٌ مِنَ المَلَكَيْنِ، وتَكُونُ الفَتْحَةُ عَلامَةً لِلْجَرِّ لِأنَّهُما لا يَنْصَرِفانِ، وذَلِكَ إذا قُلْنا إنَّهُما اسْمانِ لَهُما. وقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ النّاسِ، فَتَكُونُ الفَتْحَةُ عَلامَةً لِلنَّصْبِ، ولا يَكُونُ هارُوتُ ومارُوتُ (p-٣٣٠)اسْمَيْنِ لِلْمَلَكَيْنِ. وقِيلَ: هُما قَبِيلَتانِ مِنَ الشَّياطِينِ، فَعَلى هَذا يَكُونانِ بَدَلًا مِنَ الشَّياطِينِ، وتَكُونُ الفَتْحَةُ عَلامَةً لِلنَّصْبِ، عَلى قِراءَةِ مَن نَصَبَ الشَّياطِينَ. وأمّا مَن رَفَعَ الشَّياطِينَ، فانْتِصابُهُما عَلى الذَّمِّ، كَأنَّهُ قالَ: أذُمُّ هارُوتَ ومارُوتَ، أيْ هاتَيْنِ القَبِيلَتَيْنِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎أُقارِعُ عَوْفًا لا أُحاوِلُ غَيْرَها ∗∗∗ وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَن تُخادِعُ وهَذا عَلى قِراءَةِ المَلَكَيْنِ، بِفَتْحِ اللّامِ. وأمّا مَن قَرَأ بِكَسْرِها، فَيَكُونانِ بَدَلًا مِنَ المَلَكَيْنِ، إلّا إذا فُسِّرا بِداوُدَ وسُلَيْمانَ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَلا يَكُونُ هارُوتُ ومارُوتُ بَدَلًا مِنهُما، ولَكِنْ يَتَعَلَّقانِ بِالشَّياطِينِ عَلى الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنا في رَفْعِ الشَّياطِينِ ونَصْبِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ: هارُوتُ ومارُوتُ بِالرَّفْعِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هُما هارُوتُ ومارُوتُ، إنْ كانا مَلَكَيْنِ. وجازَ أنْ يَكُونا بَدَلًا مِنَ الشَّياطِينِ الأوَّلِ أوِ الثّانِي، عَلى قِراءَةِ مَن رَفَعَهُ، إنْ كانا شَيْطانَيْنِ. وتَقَدَّمَ لَنا القَوْلُ في هارُوتَ ومارُوتَ، وأنَّهُما أعْجَمِيّانِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُما مُشْتَقّانِ مِنَ الهَرْتِ والمَرْتِ، وهو الكَسْرُ، وقَوْلُهُ خَطَأٌ، بِدَلِيلِ مَنعِهِمُ الصَّرْفَ لَهُما، ولَوْ كانا كَما زَعَمَ، لانْصَرَفا، كَما انْصَرَفَ جامُوسٌ إذا سَمَّيْتَ بِهِ. واخْتُصَّتْ بابِلُ بِالإنْزالِ لِأنَّها كانَتْ أكْثَرَ البِلادِ سِحْرًا. ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾: قَرَأ الجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، مِن عَلَّمَ عَلى بابِها مِنَ التَّعْلِيمِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: هو هُنا بِمَعْنى يُعَلِّمانِ، التَّضْعِيفُ والهَمْزَةُ بِمَعْنًى واحِدٍ، فَهو مِن بابِ الإعْلامِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ. وما يُعَلِّمانِ: مِن أعْلَمَ قالَ: لِأنَّ المَلَكَيْنِ إنَّما نَزَلا يُعَلِّمانِ السِّحْرَ ويَنْهَيانِ عَنْهُ. والضَّمِيرُ في يُعَلِّمانِ عائِدٌ عَلى المَلَكَيْنِ، أيْ وما يُعَلِّمُ المَلَكانِ. وكَذَلِكَ قِراءَةُ أُبَيٍّ، أيْ بِإظْهارِ الفاعِلِ لا إضْمارِهِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى هارُوتَ ومارُوتَ، فَفي القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ عائِدًا عَلى المُبْدَلِ مِنهُ، وفي الثّانِي عَلى البَدَلِ، ومِن زائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْراقِ الجِنْسِ؛ لِأنَّ أحَدًا مِنَ الألْفاظِ المُسْتَعْمَلَةِ لِلِاسْتِغْراقِ في النَّفْيِ العامِّ، فَزِيدَتْ هُنا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ، بِخِلافِ قَوْلِكَ: ما قامَ مِن رَجُلٍ، فَإنَّها زِيدَتْ لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ، وشَرْطُ زِيادَتِها هُنا مَوْجُودٌ عِنْدَ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، لِأنَّهم شَرَطُوا أنْ يَكُونَ بَعْدَها نَكِرَةٌ، وأنْ يَكُونَ قَبْلَها غَيْرُ واجِبٍ. وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى زِيادَةِ مِن في كِتابِ مَنهَجِ السّالِكِ مِن تَأْلِيفِنا، وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ أحَدٌ هُنا بِمَعْنًى واحِدٍ، والأوَّلُ أظْهَرُ. ﴿حَتّى يَقُولا﴾: حَتّى هُنا: حَرْفُ غايَةٍ، والمَعْنى انْتِفاءُ تَعْلِيمِهِما، أوْ إعْلامِهِما عَلى اخْتِلافِ القَوْلَيْنِ في يُعَلِّمانِ إلى أنْ يَقُولا: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ . وقالَ أبُو البَقاءِ: حَتّى هُنا بِمَعْنى إلّا أنْ، وهَذا مَعْنًى لِحَتّى لا أعْلَمُ أحَدًا مِنَ المُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَهُ. وقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ وأنْشَدَ عَلَيْهِ في غَيْرِهِ: ؎لَيْسَ العَطاءُ مِنَ الفُضُولِ سَماحَةً ∗∗∗ حَتّى تَجُودَ وما لَدَيْكَ قَلِيلُ قالَ: يُرِيدُ إلّا أنْ تَجُودَ، وما في (إنَّما) كافَّةٌ لِإنَّ عَنِ العَمَلِ، فَيَصِيرُ مِن حُرُوفِ الِابْتِداءِ. وقَدْ أجازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَمَلَ إنَّ مَعَ وُجُودِ ما، نَحْوُ: إنَّما زَيْدٌ قائِمٌ. ﴿نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾: أيِ ابْتِلاءٌ واخْتِبارٌ. ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾: قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كانا يُعَلِّمانِ تَعْلِيمَ إنْذارٍ لا تَعْلِيمَ دُعاءٍ إلَيْهِ، كَأنَّهُما يَقُولانِ: لا تَفْعَلْ كَذا، كَما لَوْ سَألَ سائِلٌ عَنْ صِفَةِ الزِّنا، أوِ القَتْلِ، فَأُخْبِرَ بِصِفَتِهِ لِيَجْتَنِبَهُ. فَكانَ المَعْنى في يُعَلِّمانِ: يُعْلِمانِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلا تَكْفُرْ: فَلا تَتَعَلَّمْ مُعْتَقِدًا أنَّهُ حَقٌّ فَتَكْفُرَ. وحَكى الَمَهْدَوِيُّ: أنَّ قَوْلَهُما ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾، اسْتِهْزاءٌ، لِأنَّهُما إنَّما يَقُولانِهِ لِمَن قَدْ تَحَقَّقا ضَلالَهُ. وقالَ في المُنْتَخَبِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ تَوْكِيدٌ لِقَبُولِ الشَّرْعِ والتَّمَسُّكِ بِهِ، فَكانَتْ طائِفَةٌ تَمْتَثِلُ وأُخْرى تُخالِفُ. وقِيلَ: فَلا تَكْفُرْ، أيْ لا تَسْتَعْمِلْهُ فِيما نُهِيتَ عَنْهُ، ولَكِنْ إذا وقَفْتَ عَلَيْهِ فَتَحَرَّزْ مِن أنْ يَنْفُذَ لِساحِرٍ عَلَيْكَ تَمْوِيهٌ. وقِيلَ: فَلا تَفْعَلْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ. وهَذا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: تَعَلُّمُهُ جائِزٌ والعَمَلُ بِهِ كُفْرٌ. وقِيلَ: فَلا تَكْفُرْ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وهَذا عَلى قَوْلِ (p-٣٣١)مَن قالَ: إنَّ تَعَلُّمَهُ كُفْرٌ. وقِيلَ: فَلا تَكْفُرْ بِنا، وهَذا عَلى قَوْلِ: إنَّ المَلَكَيْنِ نَزَلا مِنَ السَّماءِ بِالسِّحْرِ، وإنَّ مَن تَعَلَّمَهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ كانَ كافِرًا، ومَن تَرَكَهُ كانَ مُؤْمِنًا، كَما جاءَ في نَهَرِ طالُوتَ، وقَدْ تَقَدَّمَ ما حَكاهُ الَمَهْدَوِيُّ أنَّ قَوْلَهُما: فَلا تَكْفُرْ، عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، لا عَلى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ. وقَوْلَهُ: حَتّى يَقُولا مُطْلَقًا في القَوْلِ، وأقَلُّ ما يَتَحَقَّقُ بِالمَرَّةِ الواحِدَةِ، فَقِيلَ مَرَّةٌ، وقِيلَ سَبْعُ مَرّاتٍ، وقِيلَ تِسْعُ مَرّاتٍ، وقِيلَ ثَلاثٌ. ويَحْتاجُ ذَلِكَ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ، فَيَكُونُ مُحْتَمَلًا، والمُتَحَقِّقُ المَرَّةُ الواحِدَةُ. واخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي ذَلِكَ العِلْمِ مِنهُما، فَقالَ مُجاهِدٌ: هارُوتُ ومارُوتُ لا يَصِلُ إلَيْهِما أحَدٌ، ويَخْتَلِفُ إلَيْهِما شَيْطانانِ في كُلِّ سَنَةٍ اخْتِلافَةً واحِدَةً، فَيَتَعَلَّمانِ مِنهُما ما يُفَرِّقانِ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ. والظّاهِرُ أنَّ هارُوتَ ومارُوتَ هُما اللَّذانِ يُباشِرانِ التَّعْلِيمَ لِقَوْلِهِ: ﴿وما يُعَلِّمانِ﴾ . وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ قِصَصًا فِيما يَعْرِضُ مِنَ المُحاوَرَةِ بَيْنَ المَلَكَيْنِ وبَيْنَ مَن جاءَ لِيَتَعَلَّمَ مِنهُما، وفي كُلٍّ مِن ذَلِكَ القَصَصِ أنَّهُما يَأْمُرانِهِ بِأنْ يَبُولَ في تَنُّورٍ. فاخْتَلَفُوا في الإيمانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنهُ، أيَرى فارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ يَخْرُجُ مِنهُ حَتّى يَغِيبَ في السَّماءِ ؟ أوْ نُورًا خَرَجَ مِن رَمادٍ يَسْطَعُ حَتّى يَدْخُلَ السَّماءَ ؟ أوْ طائِرًا خَرَجَ مِن بَيْنِ ثِيابِهِ وطارَ نَحْوَ السَّماءِ ؟ وفَسَّرُوا ذَلِكَ الخارِجَ بِأنَّهُ الإيمانُ. وهَذا كُلُّهُ شَيْءٌ لا يَصِحُّ ألْبَتَّةَ، فَلِذَلِكَ لَخَّصْنا مِنهُ شَيْئًا، وإنْ كانَ لا يَصِحُّ، حَتّى لا نُخَلِّيَ كِتابَنا مِمّا ذَكَرُوهُ. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾: قالَهُ الفَرّاءُ، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى شَيْءٍ دَلَّ عَلَيْهِ أوَّلُ الكَلامِ، كَأنَّهُ قالَ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ. وقالَ الفَرّاءُ أيْضًا: هو عَطْفٌ عَلى ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما﴾ . وأنْكَرَهُ الزَّجّاجُ بِسَبَبِ لَفْظِ الجَمْعِ في يُعَلِّمُونَ، وقَدْ قالَ: ”مِنهُما“ . وأجازَهُ أبُو عَلِيٍّ وغَيْرُهُ، إذْ لا يَمْتَنِعُ عَطْفُ فَيَتَعَلَّمُونَ عَلى يُعَلِّمُونَ، وإنْ كانَ التَّعْلِيمُ مِنَ المَلَكَيْنِ خاصَّةً، والضَّمِيرُ في مِنهُما راجِعٌ إلَيْهِما؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما، إنَّما جاءَ بَعْدَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: هو مَعْطُوفٌ عَلى كَفَرُوا، قالَ: وارْتَفَعَتْ فَيَتَعَلَّمُونَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنِ المَلَكَيْنِ أنَّهُما قالا: لا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُوا لِيَجْعَلا كُفْرَهُ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ غَيْرِهِ، ولَكِنَّهُ عَلى كَفَرُوا فَيَتَعَلَّمُونَ. يُرِيدُ سِيبَوَيْهِ: أنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ لَيْسَ بِجَوابٍ لِقَوْلِهِ: فَلا تَكْفُرْ، فَيُنْصَبُ كَما نُصِبَ ﴿ويْلَكم لا تَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكم بِعَذابٍ﴾ [طه: ٦١]؛ لِأنَّ كُفْرَ مَن نُهِيَ أنْ يَكْفُرَ في الآيَةِ لَيْسَ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ مَن يَتَعَلَّمُ. وكَفَرُوا: في مَوْضِعِ فِعْلٍ مَرْفُوعٍ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ مَرْفُوعٌ، ولا وجْهَ لِاعْتِراضِ مَنِ اعْتَرَضَ في العَطْفِ عَلى كَفَرُوا، أوْ عَلى يَعْلَمُونَ، بِأنَّ فِيهِ إضْمارَ المَلَكَيْنِ. قِيلَ: ذَكَرَهُما مِن أجْلِ أنَّ التَّقْدِيرَ: ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما إنَّما جاءَ بَعْدَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ، كَما تَقَدَّمَ. وقَدْ نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ، هو عَلى إضْمارِ هم، أيْ فَهم يَتَعَلَّمُونَ، فَتَكُونُ جُمْلَةً ابْتِدائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلى ما قَبْلَها عَطْفَ الجُمَلِ، والضَّمِيرُ عَلى هَذِهِ الأقْوالِ في فَيَتَعَلَّمُونَ عائِدٌ عَلى النّاسِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفًا عَلى يُعَلِّمانِ، والضَّمِيرُ الَّذِي في فَيَتَعَلَّمُونَ لِأحَدٍ، وجُمِعَ حَمْلًا عَلى المَعْنى كَما قالَ تَعالى ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] وهَذا العَطْفُ وإنْ كانَ عَلى مَنفِيٍّ، فَذَلِكَ المَنفِيُّ هو مُوجَبٌ في المَعْنى؛ لِأنَّ مَعْناهُ أنَّهُما يُعَلِّمانِ كُلَّ واحِدٍ، إذا قالا لَهُ: إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وذَكَرَ الزَّجّاجُ هَذا الوَجْهَ. وقالَ الزَّجّاجُ أيْضًا: الأجْوَدُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى يُعَلِّمانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، واسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمانِ، بِما في الكَلامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لا وجْهَ لِقَوْلِ الزَّجّاجِ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمانِ؛ لِأنَّهُ مَوْجُودٌ في النَّصِّ. انْتَهى كَلامُ أبِي عَلِيٍّ، وهو كَلامٌ فِيهِ مُغالَطَةٌ؛ لِأنَّ الزَّجّاجَ لَمْ يُرِدْ أنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفٌ عَلى يُعَلِّمانِ الدّاخِلِ عَلَيْها ما النّافِيَةُ في قَوْلِهِ: ولا ما يُعَلِّمانِ، فَيَكُونَ يُعَلِّمانِ مَوْجُودًا في النَّصِّ، وإنَّما يُرِيدُ أنَّ يُعَلِّمانِ مُضْمَرَةٌ مُثْبَتَةٌ لا مَنفِيَّةٌ. وهَذا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّجّاجُ لَيْسَ مَوْجُودًا في النَّصِّ. وحَمَلَ أبا عَلِيٍّ عَلى هَذِهِ المُغالَطَةِ حُبُّ رَدِّهِ (p-٣٣٢)عَلى الزَّجّاجِ وتَخْطِئَتِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ مُولَعًا بِذَلِكَ. ولِلشَّنَآنِ الجارِي بَيْنَهُما سَبَبٌ ذَكَرَهُ النّاسُ. انْتَهى ما وقَفْنا عَلَيْهِ لِلنّاسِ في هَذا العَطْفِ، وأكْثَرُهُ كَلامُ الَمَهْدَوِيِّ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي أشْبَعَ الكَلامَ في ذَلِكَ. وتَلَخَّصَ في هَذا العَطْفِ أنَّهُ عُطِفَ عَلى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ، أوْ يُعَلِّمانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، أيْ عَلى مُثْبَتٍ، أوْ يَتَعَلَّمُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ فَهم يَتَعَلَّمُونَ، عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلى فِعْلِيَّةٍ، أوْ مَعْطُوفًا عَلى يُعَلِّمُونَ النّاسَ، أوْ مَعْطُوفًا عَلى كَفَرُوا، أوْ عَلى يُعَلِّمانِ المَنفِيَّةِ لِكَوْنِها مُوجَبَةً في المَعْنى. فَتِلْكَ أقْوالٌ سِتَّةٌ، أقْرَبُها إلى اللَّفْظِ هَذا القَوْلُ الأخِيرُ. ﴿مِنهُما﴾: الضَّمِيرُ في الظّاهِرِ عائِدٌ عَلى المَلَكَيْنِ، أيْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ المَلَكَيْنِ، سَواءٌ قُرِئَ بِفَتْحِ اللّامِ، أوْ كَسْرِها. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى السِّحْرِ، وعَلى الَّذِي أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ، وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الفِتْنَةِ والكُفْرِ، الَّذِي هو مَصْدَرٌ مَفْهُومٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾، وهَذا قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الفِتْنَةِ والكُفْرِ مِقْدارَ ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ. ﴿ما يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾: ما مَوْصُولَةٌ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأجْلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْها. والمَصْدَرِيَّةُ لا يَعُودُ عَلَيْها ضَمِيرٌ، لِأنَّها حَرْفٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، والَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ هو السِّحْرُ. وعَنى بِالتَّفْرِيقِ تَفْرِيقَ الأُلْفَةِ والمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ تَقَعُ الشَّحْناءُ والبَغْضاءُ فَيَفْتَرِقانِ، أوْ تَفْرِيقَ الدِّينِ، بِحَيْثُ إذا تَعَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ وصارَ مُرْتَدًّا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفَرِّقًا بَيْنَهُما. ﴿بَيْنَ المَرْءِ﴾: قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الرّاءِ والهَمْزِ. وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ وقَتادَةُ: المَرِ بِغَيْرِ هَمْزٍ مُخَفَّفًا. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: المُرْءِ بِضَمِّ المِيمِ والهَمْزَةِ. وقَرَأ الأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ: المِرْءِ بِكَسْرِ المِيمِ والهَمْزِ، ورُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ أيْضًا: المَرِّ بِفَتْحِ المِيمِ وإسْقاطِ الهَمْزِ وتَشْدِيدِ الرّاءِ فَأمّا فَتْحُ المِيمِ وكَسْرُها وضَمُّها فَلُغاتٌ، وأمّا المَرِ بِكَسْرِ الرّاءِ فَوَجْهُهُ أنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ إلى الرّاءِ، وحَذَفَ الهَمْزَةَ، وأمّا تَشْدِيدُها بَعْدَ الحَذْفِ، فَوَجْهُهُ أنَّهُ نَوى الوَقْفَ فَشَدَّدَ، كَما رُوِيَ عَنْ عاصِمٍ: مُسْتَطَرٌّ بِتَشْدِيدِ الرّاءِ في الوَقْفِ، ثُمَّ أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرى الوَقْفِ، فَأقَرَّها عَلى تَشْدِيدِها فِيهِ. ﴿وزَوْجِهِ﴾: ظاهِرُهُ أنَّهُ يُرِيدُ بِهِ امْرَأةَ الرَّجُلِ. وقِيلَ الزَّوْجُ هُنا: الأقارِبُ والإخْوانُ، وهُمُ الصِّنْفُ المُلائِمُ لِلْإنْسانِ، ومِنهُ: ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥]، ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢] . ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ﴾: الضَّمِيرُ الَّذِي هو هم: عائِدٌ عَلى السَّحَرَةِ الَّذِينَ عادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَيَتَعَلَّمُونَ. وقِيلَ: عَلى اليَهُودِ الَّذِينَ عادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ واتَّبَعُوا. وقِيلَ: عَلى الشَّياطِينِ. وبِضارِّينَ: في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى أنَّ ما حِجازِيَّةٌ، أوْ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّ ما تَمِيمِيَّةٌ. والضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلى ما في قَوْلِهِ: ﴿ما يُفَرِّقُونَ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِإثْباتِ النُّونِ في بِضارِّينَ. وقَرَأ الأعْمَشُ: بِحَذْفِها، وخَرَّجَ ذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وإنْ كانَ اسْمُ الفاعِلِ في صِلَةِ الألِفِ واللّامِ. والثّانِي: أنَّ حَذْفَها لِأجْلِ الإضافَةِ إلى أحَدٍ، وفُصِلَ بَيْنَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ بِالجارِّ والمَجْرُورِ الَّذِي هو بِهِ، كَما قالَ: ؎هُما أخَوا في الحَرْبِ مَن لا أخا لَهُ وكَما قالَ: ؎كَما خُطَّ الكِتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ وهَذا اخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ أحَدًا مَجْرُورٌ بِمِن، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أنَّهُ مَجْرُورٌ بِالإضافَةِ ؟ فَقالَ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ يُضافُ إلى أحَدٍ، وهو مَجْرُورٌ بِمِن ؟ (قُلْتُ): جُعِلَ الجارُ جُزْءًا مِنَ المَجْرُورِ. انْتَهى. وهَذا التَّخْرِيجُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ الفَصْلَ بَيْنَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ بِالظَّرْفِ والجارِّ والمَجْرُورِ مِن ضَرائِرَ الشِّعْرِ، وأقْبَحُ مِن ذَلِكَ أنْ لا يَكُونَ ثَمَّ مُضافٌ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ مَشْغُولٌ بِعامِلِ جَرٍّ، فَهو المُؤَثِّرُ فِيهِ لا الإضافَةُ. وأمّا جَعْلُ حَرْفِ الجَرِّ جُزْءًا مِنَ المَجْرُورِ، فَهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ. وجُزْءُ الشَّيْءِ لا يُؤَثِّرُ في الشَّيْءِ، والأجْوَدُ التَّخْرِيجُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ لَهُ نَظِيرًا في نَظْمِ العَرَبِ ونَثْرِها. فَمِنَ النَّثْرِ قَوْلُ العَرَبِ، قَطاقَطا بَيْضُكِ ثِنْتا وبَيْضِي مِائَتا، يُرِيدُونَ: ثِنْتانِ ومِائَتانِ. ﴿مِن أحَدٍ﴾، مِن زائِدَةٌ، و”أحَدٍ“: مَفْعُولٌ بِضارِّينَ. ومِن تُزادُ في المَفْعُولِ، إلّا أنَّ المَعْهُودَ زِيادَتُها في المَفْعُولِ (p-٣٣٣)الَّذِي يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْفاعِلِ الَّذِي يُباشِرُهُ حَرْفُ النَّفْيِ نَحْوُ: ما ضَرَبْتُ مِن رَجُلٍ، وما ضَرَبَ زَيْدٌ مِن رَجُلٍ. وهُنا حُمِلَتِ الجُمْلَةُ مِن غَيْرِ الفِعْلِ والفاعِلِ عَلى الجُمْلَةِ مِنَ الفِعْلِ والفاعِلِ؛ لِأنَّ المَعْنى: وما يَضُرُّونَ مِن أحَدٍ. ﴿إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾: مُسْتَثْنًى مُفَرَّغٌ مِنَ الأحْوالِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ الفاعِلِ في قَوْلِهِ: ﴿بِضارِّينَ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ الَّذِي هو: ﴿مِن أحَدٍ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن بِهِ، أيِ السِّحْرِ المُفَرَّقِ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّرَرِ المَصْدَرِ المُعَرَّفِ المَحْذُوفِ. والإذْنُ هُنا فَسَّرَ الوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْناها عِنْدَ الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ. فَقالَ الحَسَنُ: الإذْنُ هُنا: هو التَّخْلِيَةُ بَيْنَ المَسْحُورِ وضَرَرِ السِّحْرِ. وقالَ الأصَمُّ: العِلْمُ. وقالَ غَيْرُهُ: الخَلْقُ، ويُضافُ إلى إذْنِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] وقِيلَ: الأمْرُ، قِيلَ: والإذْنُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، واسْتُبْعِدَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ، ولِأنَّهُ ذَمَّهم عَلى ذَلِكَ. وأُوِّلَ مَعْنى الأمْرِ فِيهِ بِأنْ يُفَسَّرَ التَّفْرِيقُ بِالصَّيْرُورَةِ كافِرًا، فَإنَّ هَذا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِأمْرِ اللَّهِ. وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ ما يَتَعَلَّمُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ وضَرَرٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ رُبَّما أحْدَثَ اللَّهُ عِنْدَهُ شَيْئًا، ورُبَّما لَمْ يُحْدِثْ. ﴿ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾: لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِمَن يُفَرَّقُ بَيْنَهُما، ذَكَرَ أيْضًا أنَّ ضَرَرَهُ لا يَقْتَصِرُ عَلى مَن يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، بَلْ هو أيْضًا يَضُرُّ مَن تَعَلَّمَهُ. ولَمّا كانَ إثْباتُ الضَّرَرِ بِشَيْءٍ لا يَنْفِي النَّفْعَ؛ لِأنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الشَّيْءُ فَيَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ ويَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، نَفى النَّفْعَ عَنْهُ بِالكُلِّيَّةِ، وأتى بِلَفْظِ لا، لِأنَّها يُنْفى بِها الحالُ والمُسْتَقْبَلُ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿يَضُرُّهُمْ﴾، وكِلا الفِعْلَيْنِ صِلَةٌ لِما، فَلا يَكُونُ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ. وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ لا يَنْفَعُهم عَلى إضْمارِ هو، أيْ وهو لا يَنْفَعُهم، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وتَكُونُ الواوُ لِلْحالِ، فَتَكُونُ جُمْلَةً حالِيَّةً، وهَذا ضَعِيفٌ. وقَدْ قِيلَ: الضَّرَرُ وعَدَمُ النَّفْعِ مُخْتَصٌّ بِالآخِرَةِ. وقِيلَ: هو في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَإنَّ تَعَلُّمَهُ، إنْ كانَ غَيْرَ مُباحٍ، فَهو يَجُرُّ إلى العَمَلِ بِهِ، وإلى التَّنْكِيلِ بِهِ، إذا عَثَرَ عَلَيْهِ، وإلى أنَّ ما يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ حَرامٌ، هَذا في الدُّنْيا. وأمّا في الآخِرَةِ فَلِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ العِقابِ. ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾: الضَّمِيرُ عائِدٌ قِيلَ: عَلى اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا في عَهْدِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكانُوا حاضِرِينَ اسْتِخْراجَ الشَّياطِينِ السِّحْرَ ودَفْنَهُ، أوْ أخْذَ سُلَيْمانَ السِّحْرَ ودَفْنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، ولَمّا أخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قالُوا: واللَّهِ ما هَذا مِن عَمَلِ سُلَيْمانَ ولا مِن ذَخائِرِهِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى مَن بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ اليَهُودِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى اليَهُودِ قاطِبَةً، أيْ عَلِمُوا ذَلِكَ في التَّوْراةِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى عُلَماءِ اليَهُودِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الشَّياطِينِ. وقِيلَ: عَلى المَلَكَيْنِ، لِأنَّهُما كانا يَقُولانِ لِمَن يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ: فَلا تَكْفُرْ، فَقَدْ عَلِمُوا أنَّهُ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ. وأُتِيَ بِضَمِيرِ الجَمْعِ عَلى قَوْلِ مَن يَرى ذَلِكَ. وعَلِمَ: هُنا يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولَيْنِ، (p-٣٣٤)وعُلِّقَتْ عَنِ الجُمْلَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولٍ واحِدٍ، وعُلِّقَتْ أيْضًا كَما عُلِّقَتْ عَرَفْتُ. والفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَظْهَرُ في العَطْفِ عَلى مَوْضِعِها. واللّامُ في: ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ هي لامُ الِابْتِداءِ، وهي المانِعَةُ مَن عَمِلَ عَلِمَ، وهي أحَدُ الأسْبابِ المُوجِبَةِ لِلتَّعْلِيقِ، وأجازُوا حَذْفَها، وهي باقِيَةٌ عَلى مَنعِ العَمَلِ، وخَرَّجُوا عَلى ذَلِكَ: ؎إنِّي وجَدْتُ مَلاكَ الشِّيمَةِ الأدَبا يُرِيدُ لِمَلاكِ الشِّيمَةِ. ومَن هُنا مَوْصُولَةٌ، وهي مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِداءِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ في مَوْضِعِ الخَبَرِ. واللّامُ في لَقَدْ لِلْقَسَمِ. هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وأكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ. وجُمْلَةُ ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ مُقْسَمٌ عَلَيْها، التَّقْدِيرُ: واللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا. والجُمْلَةُ الثّانِيَةُ عِنْدَهُ غَيْرُ مُقْسَمٍ عَلَيْها. وأجازَ الفَرّاءُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَتانِ مُقْسَمًا عَلَيْهِما، وتَكُونَ مَن لِلشَّرْطِ، وتَبِعَهُ في ذَلِكَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ. قالَ أبُو البَقاءِ: اللّامُ في ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ هي الَّتِي يُوطَأُ بِها القَسَمُ مِثْلَ: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ [مريم: ٤٦]، ومَن في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وهي شَرْطٌ وجَوابُ القَسَمِ ﴿ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ . انْتَهى كَلامُهُ. فاشْتَراهُ في القَوْلِ الأوَّلِ صِلَةٌ، وفي هَذا القَوْلِ خَبَرٌ عَنْ مَن، ويَكُونُ إذْ ذاكَ جَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوابُ القَسَمِ؛ لِأنَّهُ اجْتَمَعَ قَسَمٌ وشَرْطٌ، ولَمْ يَتَقَدَّمْهُما ذُو خَبَرٍ، فَكانَ الجَوابُ لِلسّابِقِ، وهو القَسَمُ، ولِذَلِكَ كانَ فِعْلُ الشَّرْطِ ماضِيًا في اللَّفْظِ. هَذا هو تَقْرِيرُ هَذا القَوْلِ وتَوْضِيحُهُ. وُفي كِلا القَوْلَيْنِ يَكُونُ: لِمَنِ اشْتَراهُ، في مَوْضِعِ نَصْبٍ: بِيَعْلَمُوا. وقَدْ نُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ رَدُّ قَوْلِ مَن قالَ مَن شَرْطٌ، وقالَ هَذا لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ، ولَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَوْجِيهُ كَوْنِهِ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ. وأرى المانِعَ مِن ذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ الَّذِي يَلِي مَن هو ماضٍ لَفْظًا ومَعْنًى؛ لِأنَّ الِاشْتِراءَ قَدْ وقَعَ، وجَعْلُهُ شَرْطًا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إذا كانَ ماضِيًا لَفْظًا، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا في المَعْنى. فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ، كانَ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في اشْتَراهُ عائِدٌ عَلى السِّحْرِ، أوِ الكُفْرِ، أوْ كِتابِهِمُ الَّذِي باعُوهُ بِالسِّحْرِ، أوِ القُرْآنِ؛ لِأنَّهُ تَعَوَّضُوا عَنْهُ بِكُتُبِ السِّحْرِ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. والخَلاقُ: النَّصِيبُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوِ الدِّينُ، قالَهُ الحَسَنُ؛ أوِ القَوامُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ الخَلاصُ، أوِ القَدَرُ، قالَهُ قَتادَةُ؛ أقْوالٌ خَمْسَةٌ. ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾: تَقَدَّمَ القَوْلُ في بِئْسَ، وفي ما الواقِعَةُ بَعْدَها، ومَعْناهُ: ذُمَّ ما باعُوا بِهِ أنْفُسَهم. والضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلى السِّحْرِ، أوِ الكُفْرِ. والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في بِئْسَما السِّحْرُ، أوِ الكُفْرُ. والضَّمِيرُ في: شَرَوْا، ويَعْلَمُونَ، بِاتِّفاقٍ لِلْيَهُودِ. فَمَتى فُسِّرَ الضَّمِيرُ في: ولَقَدْ عَلِمُوا بِأنَّهُ عائِدٌ عَلى الشَّياطِينِ، أوِاليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا بِحَضْرَةِ سُلَيْمانَ، وفي زَمانِهِ، أوِ المَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللّامِ، أوْ بِكَسْرِها، فَلا إشْكالَ لِاخْتِلافِ المُسْنَدِ إلَيْهِ العِلْمُ. وإنِ اتَّحَدَ المُسْنَدُ إلَيْهِ أُوِّلَ العِلْمُ الثّانِي بِالعَقْلِ؛ لِأنَّ العِلْمَ مِن ثَمَرَتِهِ، فَلَمّا انْتَفى الأصْلُ، نُفِيَ ثَمَرَتُهُ. أوْ بِالعَمَلِ؛ لِأنَّهُ مِن ثَمَرَةِ العِلْمِ، فَلَمّا انْتَفَتِ الثَّمَرَةُ، جُعِلَ ما يَنْشَأُ عَنْهُ مَنفِيًّا، أوْ أُوِّلَ مُتَعَلِّقُ العِلْمِ، وهو المَحْذُوفُ، أيْ عَلِمُوا ضَرَرَهُ في الآخِرَةِ، ولَمْ يَعْلَمُوا نَفْعَهُ في الدُّنْيا. أوْ عَلِمُوا نَفْيَ الثَّوابِ، ولَمْ يَعْلَمُوا اسْتِحْقاقَ العَذابِ. وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ . ذُمَّ ذَلِكَ لَمّا باعُوا أنْفُسَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب