الباحث القرآني

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا﴾ النَّكْثُ النَّقْضُ، وَأَصْلُهُ فِي كُلِّ مَا فُتِلَ ثُمَّ حُلَّ. فَهِيَ فِي الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ مُسْتَعَارَةٌ. قَالَ: وَإِنْ حَلَفَتْ لَا يَنْقُضُ النَّأْيُ عَهْدَهَا ... فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَانِ يَمِينُ أَيْ عَهْدٌ. وَقَوْلُهُ: (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي بالاستنقاض وَالْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُ. يُقَالُ: طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ وَطَعَنَ بِالْقَوْلِ السَّيِّئِ فِيهِ يَطْعَنُ، بِضَمِّ الْعَيْنِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: يَطْعُنُ بِالرُّمْحِ (بِالضَّمِّ) وَيَطْعَنُ بِالْقَوْلِ (بِالْفَتْحِ). وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَّرَ أُسَامَةَ: (إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمِ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ). خَرَّجَهُ الصَّحِيحُ [[راجع صحيح مسلم (كتاب الفضائل).]]. الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ كُلِّ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّينِ، إِذْ هُوَ كَافِرٌ. وَالطَّعْنُ أَنْ يَنْسُبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنَ الدِّينِ، لِمَا ثَبَتَ مِنَ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَيْهِ الْقَتْلُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ فِي مَجْلِسِ عَلِيٍّ: مَا قُتِلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَّا غَدْرًا، فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِضَرْبِ عُنُقِهِ. وَقَالَهُ آخَرُ فِي مَجْلِسِ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَيُقَالُ هَذَا فِي مَجْلِسِكَ وَتَسْكُتُ! وَاللَّهِ لَا أُسَاكِنُكَ تَحْتَ سَقْفٍ [[في ب: سقيفة.]] أبدا، ولين خَلَوْتُ بِهِ لَأَقْتُلَنَّهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ إِنْ نَسَبَ الْغَدْرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ. وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا مِنْ قَائِلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ زَنْدَقَةٌ. فَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ لِلْمُبَاشِرِينَ لِقَتْلِهِ بِحَيْثُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أَمَّنُوهُ ثُمَّ غَدَرُوهُ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ كَذِبًا مَحْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ وَلَا صَرَّحُوا لَهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَا كَانَ أَمَانًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِنَّمَا وَجَّهَهُمْ لِقَتْلِهِ لَا لِتَأْمِينِهِ، وَأَذِنَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي أَنْ يَقُولَ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي قَتْلِ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ لَهُمْ نَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ. وَسَبَبُهُ هَلْ يَلْزَمُ مِنْ نِسْبَةِ الْغَدْرِ لَهُمْ نِسْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، لِأَنَّهُ قَدْ صَوَّبَ فِعْلَهُمْ وَرَضِيَ بِهِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالْغَدْرِ وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قتل، أولا يَلْزَمُ مِنْ نِسْبَةِ الْغَدْرِ لَهُمْ نِسْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَلَا يُقْتَلُ. وَإِذَا قُلْنَا لَا يُقْتَلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْكِيلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَعُقُوبَتِهِ بِالسَّجْنِ، وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْإِهَانَةِ العظيمة. الثَّالِثَةُ- فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِقَوْلِهِ: "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ" الْآيَةَ. فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا: إِنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ الطَّعْنِ لَا يُنْقَضُ بِهِ الْعَهْدُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ النَّكْثِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ، وَالثَّانِي طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ. قُلْنَا: إِنْ عَمِلُوا بِمَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَذِكْرُ الْأَمْرَيْنِ لا يقتضي توقف قتاله على وجود هما، فَإِنَّ النَّكْثَ يُبِيحُ لَهُمْ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَنَا: فَإِنْ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ حَلَّ قِتَالُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْكُثُوا بَلْ طَعَنُوا فِي الدِّينِ مَعَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ حَلَّ قِتَالُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إِلَيْهِ: ذِمِّيٌّ نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ فَرَمَحَتْ فَأَسْقَطَتْهَا فَانْكَشَفَتْ بَعْضُ عَوْرَتِهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ. الرَّابِعَةُ- إِذَا حَارَبَ الذِّمِّيُّ نُقِضَ عَهْدُهُ وَكَانَ ماله وولده فيئا معه. وقال محمد ابن مَسْلَمَةَ: لَا يُؤَاخَذُ وَلَدُهُ بِهِ، لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْدَهُ. وَقَالَ: أَمَّا مَالُهُ فَيُؤْخَذُ. وَهَذَا تَعَارُضٌ لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، لِأَنَّ عَهْدَهُ هُوَ الَّذِي حَمَى مَالَهُ وَوَلَدَهُ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ مَالُهُ ذَهَبَ عَنْهُ وَلَدُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ عَلَى عَهْدِهِ وَلَا يَعُودُ فِي الرِّقِّ أَبَدًا. وَهَذَا مِنَ الْعَجَبِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْدَ مَعْنًى مَحْسُوسًا. وَإِنَّمَا الْعَهْدُ حُكْمٌ اقْتَضَاهُ النَّظَرُ، وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ لَهُ، فَإِذَا نَقَضَهُ انْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ. الْخَامِسَةُ- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ عَرَّضَ أَوِ اسْتَخَفَّ [[في ب: فاستخف.]] بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، فَإِنَّا [[في ى: لأنا.]] لَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ أَوِ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا. إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيَّ وَأَتْبَاعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُقْتَلُ، مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا﴾ الْآيَةَ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَمْرِهِ ﷺ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَكَانَ مُعَاهِدًا. وَتَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ! فَقَالَ: مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، فَكَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ ﷺ وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ، وَيَزْجُرُهَا فَلَمْ تَنْزَجِرْ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ذَكَرَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَمَا صَبَرَ سَيِّدُهَا أَنْ قَامَ إِلَى مِعْوَلٍ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْفَذَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَلَا اشْهَدُوا إِنَّ دَمَهَا هَدَرٌ). وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَتَلَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ [[في ج: في حقك.]] فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةُ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَقَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَلَا اشْهَدُوا إِنَّ دَمَهَا هَدَرٌ). السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ أَسْلَمَ تَقِيَّةً مِنَ الْقَتْلِ، فَقِيلَ: يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ تَابَ قَالَ الله عز وجل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ﴾[[راجع ج ٧ ص ٤٠١.]] [الأنفال: ٣٨]. وَقِيلَ: لَا يُسْقِطُ الْإِسْلَامُ قَتْلَهُ، قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَجَبَ لِانْتِهَاكِهِ حُرْمَتَهُ وَقَصْدِهِ إِلْحَاقَ النَّقِيصَةِ وَالْمَعَرَّةِ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالَّذِي يُسْقِطُهُ، وَلَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ المسلم. السابعة- قوله تعالى: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) "أَئِمَّةَ" جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْمُرَادُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ- فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ- كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ. وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ "بَرَاءَةٌ" وَحِينَ نَزَلَتْ وَقُرِئَتْ عَلَى النَّاسِ كَانَ اللَّهُ قَدِ اسْتَأْصَلَ شَأْفَةَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ "فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ" [[في ب وج: وك أن يكون المراد بقاتلوا ... أن من أقدم ... إلخ.]] أَيْ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ يَكُونُ أَصْلًا وَرَأْسًا فِي الْكُفْرِ، فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ عَلَى هَذَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْنَى بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قِتَالَهُمْ قِتَالٌ لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ. وَالْأَصْلُ أَأْمِمَةٌ كَمِثَالٍ وَأَمْثِلَةٍ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الْمِيمِ وَقُلِبَتِ الْحَرَكَةُ عَلَى الهمزة فاجتمعت هَمْزَتَانِ، فَأُبْدِلَتْ مِنَ الثَّانِيَةِ يَاءً. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا أَيَمُّ مِنْ هَذَا، بِالْيَاءِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: أَوَمُّ مِنْ هَذَا، بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ "أَئِمَّةَ". وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا لَحْنٌ [[قال الزمخشري في كشافه: (فإن قلت كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء، وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف (. وعقب على هذا أبو حيان في البحر بقوله:) وذلك دأبه في تلحين المقرءين وكيف يكون ذلك لحنا وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء وقارئ مكة ابن كثير وقارئ مدينة الرسول ﷺ نافع (. وقال الألوسي في روح المعاني:) ... وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو (أئمة) بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير إدخال ألف وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الالف. هذا هو المشهور عن القراء السبعة ... ).]]، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. (إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ) أَيْ لا عهود لهم، أي ليست عهود هم صَادِقَةً يُوفُونَ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "لَا أَيْمانَ لَهُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا إِسْلَامَ لَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ آمَنْتُهُ إِيمَانًا، مِنَ الْأَمْنِ الَّذِي ضِدُّهُ الْخَوْفُ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، مِنْ أَمَنْتُهُ إِيمَانًا أَيْ أَجَرْتُهُ، فَلِهَذَا قَالَ: "فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ". "لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ" أَيْ عَنِ الشِّرْكِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ سَنَةً وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةَ فَحَبَسُوهُ عَنِ الْبَيْتِ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَاتَلَ حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ خُزَاعَةَ حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ كِنَانَةَ، فَأَمَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ حلفاء هم بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، فَاسْتَعَانَتْ [[في ج وز: استغاثه.]] خُزَاعَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أن يُعِينَ حُلَفَاءَهُ كَمَا سَبَقَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ- يَعْنِي "فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ"- إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَلَا بَقِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ. فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّكُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تُخْبِرُونَ أَخْبَارًا لَا نَدْرِي مَا هِيَ! تَزْعُمُونَ أَلَّا مُنَافِقَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ [[بقره شقه وفتحه.]] بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعَلَاقَنَا [[الأعلاق: نفائس الأموال.]]. قَالَ: أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ. أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لما وجد برده [[قال القسطلاني:) لذهاب شهوته وفساد معدته بسبب عقوبة الله له في الدنيا، فلا يفرق بين الأشياء).]]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ أَيْ عَنْ كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ قِتَالِهِمْ دَفْعَ ضَرَرِهِمْ لِيَنْتَهُوا عَنْ مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب