الباحث القرآني

زَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ هَذَا مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ مَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَإِنَّمَا صَارَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ بِتَوْقِيفِ الرَّسُولِ ﷺ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ ﷺ قَالَ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ﴾ [الانعام: ٥٩]: (إِنَّهَا هَذِهِ): قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٧ ص ١ فما بعد.]] حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:) مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، هُنَّ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَدًا) قَالَ:/ (صَدَقْتَ). لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: كل شي أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ ﷺ غَيْرَ خَمْسٍ: "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ"، الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَعْلَمُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ خَالَفَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنَ الْغَيْبِ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ. وَالْمُرَادُ إِبْطَالُ كَوْنِ الْكَهَنَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ يَسْتَسْقِي بِالْأَنْوَاءِ [[الأنواء: جمع نوء، وهو سقوط نجم في المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع آخر من المشرق يقابله في ساعته. وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.]] وَقَدْ يَعْرِفُ بِطُولِ التَّجَارِبِ أَشْيَاءَ مِنْ ذُكُورَةِ الْحَمْلِ وَأُنُوثَتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْأَنْعَامِ [[راجع ج ٧ ٢ فما بعد.]]. وَقَدْ تَخْتَلِفُ التَّجْرِبَةُ وَتَنْكَسِرُ الْعَادَةُ وَيَبْقَى الْعِلْمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ يَحْسُبُ حِسَابَ النُّجُومِ، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ نَجْمَ ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام، وَأَنْتَ لَا تَمُوتُ حَتَّى تَعْمَى، وَأَنَا لَا يَحُولُ عَلَيَّ الْحَوْلُ حَتَّى أَمُوتَ. قَالَ: فَأَيْنَ مَوْتُكَ يَا يَهُودِيُّ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ اللَّهُ. "وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ" فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ ابْنَهُ مَحْمُومًا، وَمَاتَ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَمَاتَ الْيَهُودِيُّ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَمَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْمَى. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ: هَذَا أَعْجَبُ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ اسمه الوارث ابن عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ، أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي حُبْلَى فَأَخْبِرْنِي مَاذَا تَلِدُ، وَبِلَادَنَا جَدْبَةٌ فَأَخْبِرْنِي مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَتَى وُلِدْتُ فَأَخْبِرْنِي مَتَى أَمُوتُ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَا عَمِلْتُ الْيَوْمَ فَأَخْبِرْنِي مَاذَا أَعْمَلُ غَدًا، وَأَخْبِرْنِي مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ. وَرَوَى أَبُو الْمَلِيحِ عَنْ أَبِي عَزَّةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ ﷺ: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتَهِ حَتَّى يَقْدُمَهَا- ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ- "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ"- إِلَى قَوْلِهِ- "بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ" (ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) مُسْتَوْفًى. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: "وَيُنَزِّلُ" مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "بِأَيَّةِ أَرْضٍ" الْبَاقُونَ "بِأَيِّ أَرْضٍ". قَالَ الْفَرَّاءُ: اكْتَفَى بِتَأْنِيثِ الْأَرْضِ مِنْ تَأْنِيثِ أَيٍّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْمَكَانَ فذكر. قال الشَّاعِرِ: فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا [[القائل هو عامر بن جوين الطائي. وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والمزنة: السحابة. والودق: المطر.]] وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ مَرَرْتُ بِجَارِيَةٍ أَيِّ جَارِيَةٍ، وَأَيَّةِ جَارِيَةٍ. وَشَبَّهَ سِيبَوَيْهِ تَأْنِيثَ "أَيٍّ" بِتَأْنِيثِ كُلٍّ فِي قَوْلِهِمْ: كُلَّتُهُنَّ. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) "خَبِيرٌ" نَعْتٌ لِ"- عَلِيمٌ" أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب