الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ وما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ كانَ مِن جُمْلَةِ غَرُورِهِمْ في نَفْيِ البَعْثِ أنَّهم يَجْعَلُونَ عَدَمَ إعْلامِ النّاسِ بِتَعْيِينِ وقْتِهِ أمارَةً عَلى أنَّهُ غَيْرُ واقِعٍ، قالَ تَعالى ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [يونس: ٤٨] وقالَ ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧] ﴿يَسْتَعْجِلُ بِها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها﴾ [الشورى: ١٨]، فَلَمّا جَرى في الآياتِ قَبْلَها ذِكْرُ يَوْمِ القِيامَةِ أُعْقِبَتْ بِأنَّ وقْتَ السّاعَةِ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. فَجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِوُقُوعِها جَوابًا عَنْ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ في نُفُوسِ النّاسِ. والجُمَلُ الأرْبَعُ الَّتِي بَعْدَها إدْماجٌ لِجَمْعِ نَظائِرِها تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ. وقالَ الواحِدِيُّ والبَغَوِيُّ: إنَّ رَجُلًا مِن مُحارِبِ خَصَفَةَ مِن أهْلِ البادِيَةِ سَمّاهُ في الكَشّافِ الحارِثَ بْنَ عَمْرٍو - وقَعَ في تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ وفي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ تَسْمِيَتُهُ الوارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حارِثَةَ - جاءَ إلى النَّبِيءِ ﷺ فَقالَ: مَتى السّاعَةُ ؟ وقَدْ أجْدَبَتْ بِلادُنا فَمَتى تُخْصِبُ ؟ وتَرَكْتُ امْرَأتِي حُبْلى فَما تَلِدُ ؟ وماذا أكْسِبُ غَدًا ؟ وبِأيِّ أرْضٍ أمُوتُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ولا يُدْرى سَنَدُ هَذا. ونُسِبَ إلى عِكْرِمَةَ ومُقاتِلٍ، ولَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُنافِيًا لِاعْتِبارِ هَذِهِ الجُمْلَةِ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا فَإنَّهُ مُقْتَضى السِّياقِ. وقَدْ أفادَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إنَّ تَحْقِيقَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِوَقْتِ السّاعَةِ وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ وُقُوعِها. وفي كَلِمَةٍ عِنْدَهُ إشارَةٌ إلى اخْتِصاصِهِ تَعالى بِذَلِكَ العِلْمِ لِأنَّ (p-١٩٧)العِنْدِيَّةَ شَأْنُها الِاسْتِئْثارُ. وتَقْدِيمُ عِنْدَ وهو ظَرْفٌ مُسْنَدٌ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ بِالقَرِينَةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مُرادٌ بِهِ مُجَرَّدَ التَّقْوى. وجُمْلَةُ ﴿ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ الخَبَرِ. والتَّقْدِيرُ: وإنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الغَيْثَ، فَيُفِيدُ التَّخْصِيصَ بِتَنْزِيلِ الغَيْثِ. والمَقْصُودُ أيْضًا عِنْدَهُ عِلْمُ وقْتِ نُزُولِ الغَيْثِ ولَيْسَ المَقْصُودُ مُجَرَّدُ الإخْبارِ بِأنَّهُ يُنَزِّلُ الغَيْثَ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمّا يُنْكِرُونَهُ ولَكِنْ نُظِمَتِ الجُمْلَةُ بِأُسْلُوبِ الفِعْلِ المُضارِعِ لِيَحْصُلَ مَعَ الدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِئْثارِ بِالعِلْمِ بِهِ الِامْتِنانُ بِذَلِكَ المَعْلُومِ الَّذِي هو نِعْمَةٌ. وفِي اخْتِيارِ الفِعْلِ المُضارِعِ إفادَةُ أنَّهُ يُجَدِّدُ إنْزالَ الغَيْثِ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ عِنْدَ احْتِياجِ الأرْضِ. ولا التِفاتَ إلى مَن قَدَّرُوا: يُنَزِّلُ الغَيْثَ، بِتَقْدِيرِ (أنِ) المَصْدَرِيَّةِ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِ طَرَفَةَ: ؎ألا أيُّهَذا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغى لِلْبَوْنِ بَيْنَ المَقامَيْنِ وتَفاوُتِ الدَّرَجَتَيْنِ في البَلاغَةِ. وإذْ قَدْ جاءَ هَذا نَسَقًا في عِدادِ الحَصْرِ كانَ الإتْيانُ بِالمُسْنَدِ فِعْلًا خَبَرًا عَنْ مُسْنَدٍ إلَيْهِ مُقَدَّمٍ مُفِيدًا لِلِاخْتِصاصِ بِالقَرِينَةِ؛ فالمَعْنى: ويَنْفَرِدُ بِعِلْمِ وقْتِ نُزُولِ الغَيْثِ مِن قُرْبٍ وبُعْدٍ وضَبْطِ وقْتٍ. وعُطِفَ عَلَيْهِ ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾، أيْ يَنْفَرِدُ بِعِلْمِ جَمِيعِ أطْوارِهِ مِن نُطْفَةٍ وعَلَقَةٍ ومُضْغَةٍ ثُمَّ مِن كَوْنِهِ ذَكَرًا أوْ أُنْثى وإبّانَ وضْعِهِ بِالتَّدْقِيقِ، وجِيءَ بِالمُضارِعِ لِإفادَةِ تَكَرُّرِ العِلْمِ بِتَبَدُّلِ تِلْكَ الأطْوارِ والأحْوالِ. والمَعْنى: يَنْفَرِدُ بِعِلْمِ جَمِيعِ تِلْكَ الأطْوارِ الَّتِي لا يَعْلَمُها النّاسُ لِأنَّهُ عَطْفٌ عَلى ما قَصَدَ مِنهُ الحَصْرَ فَكانَ المُسْنَدُ الفِعْلِيُّ المُتَأخِّرُ عَنِ المُسْنَدِ إلَيْهِ مُفِيدًا لِلِاخْتِصاصِ بِالقَرِينَةِ كَما قُلْنا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ [المزمل: ٢٠] . وأمّا قَوْلُهُ ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ﴾ فَقَدْ نُسِجَ عَلى مِنوالٍ آخَرَ مِنَ النَّظْمِ فَجُعِلَ سُداهُ نَفْيَ عِلْمِ أيَّةِ نَفْسٍ بِأخَصِّ أحْوالِها وهو حالُ اكْتِسابِها القَرِيبُ مِنها في اليَوْمِ المُوالِي يَوْمَ تَأمُّلِها ونَظَرِها، وكَذَلِكَ مَكانُ انْقِضاءِ حَياتِها لِلنِّداءِ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ؛ فَإذا كانُوا بِهَذِهِ المَثابَةِ في (p-١٩٨)قِلَّةِ العِلْمِ فَكَيْفَ يَتَطَلَّعُونَ إلى عِلْمِ أعْظَمِ حَوادِثِ هَذا العالَمِ وهو حادِثُ فَنائِهِ وانْقِراضِهِ واعْتِياضِهِ بِعالَمِ الخُلُودِ. وهَذا النَّفْيُ لِلدِّرايَةِ بِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ فِيهِ كِنايَةٌ عَنْ إثْباتِ العِلْمِ بِما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ والعِلْمُ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ فِيها كُلُّ نَفْسٍ إلى اللَّهِ تَعالى، فَحَصَلَتْ إفادَةُ اخْتِصاصِ اللَّهِ تَعالى بِهَذَيْنِ العِلْمَيْنِ فَكانا في صَمِيمَةِ ما انْتَظَمَ مَعَهُما مِمّا تَقَدَّمَهُما. وعَبَّرَ في جانِبِ نَفْيِ مَعْرِفَةِ النّاسِ بِفِعْلِ الدِّرايَةِ لِأنَّ الدِّرايَةَ عِلْمٌ فِيهِ مُعالَجَةٌ لِلِاطِّلاعِ عَلى المَعْلُومِ ولِذَلِكَ لا يُعَبَّرُ بِالدِّرايَةِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى فَلا يُقالُ: اللَّهُ يَدْرِي كَذا، فَيُفِيدُ: انْتِفاءَ عِلْمِ النّاسِ بَعْدَ الحِرْصِ عَلى عِلْمِهِ، والمَعْنى: لا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلّا اللَّهُ تَعالى بِقَرِينَةِ مُقابَلَتِهِما بِقَوْلِهِ ﴿ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ . وقَدْ عَلَّقَ فِعْلَ الدِّرايَةِ عَنِ العَمَلِ في مَفْعُولَيْنِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهامَيْنِ بَعْدَهُما، أيْ ما تَدْرِي هَذا السُّؤالَ، أيْ جَوابَهُ. وقَدْ حَصَلَ إفادَةُ اخْتِصاصِ اللَّهِ تَعالى بِعِلْمِ هَذِهِ الأُمُورِ الخَمْسَةِ بِأفانِينَ بَدِيعَةٍ مِن أفانِينِ الإيجازِ البالِغِ حَدَّ الإعْجازِ. ولُقِّبَتْ هَذِهِ الخَمْسَةُ في كَلامِ النَّبِيءِ ﷺ بِمَفاتِحِ الغَيْبِ وفُسِّرَ بِها قَوْلُهُ تَعالى ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩]، فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ الآيَةَ»، ومِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ. . . «فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السّاعَةِ جَوابًا عَنْ سُؤالِ جِبْرِيلَ مَتى السّاعَةُ» ؟ . . . . ومَعْنى حَصْرِ مَفاتِحِ الغَيْبِ في هَذِهِ الخَمْسَةِ أنَّها هي الأُمُورُ المُغَيَّبَةُ المُتَعَلِّقَةُ بِأحْوالِ النّاسِ في هَذا العالَمِ وأنَّ التَّعْبِيرَ عَنْها بِالمَفاتِحِ أنَّها تَكُونُ مَجْهُولَةً لِلنّاسِ فَإذا وقَعَتْ فَكَأنَّ وُقُوعَها فَتْحٌ لِما كانَ مُغْلَقًا وأمّا بَقِيَّةُ أحْوالِ النّاسِ فَخَفاؤُها عَنْهم مُتَفاوِتٌ ويُمْكِنُ لِبَعْضِهِمْ تَعْيِينُها مِثْلُ تَعْيِيِنِ يَوْمِ كَذا لِلزِّفافِ ويَوْمِ كَذا لِلْغَزْوِ وهَكَذا مَواقِيتُ العِباداتِ والأعْيادِ، وكَذَلِكَ مُقارَناتُ الأزْمِنَةِ مِثْلَ: يَوْمِ كَذا مَدْخَلُ الرَّبِيعِ؛ فَلا تَجِدُ مُغَيَّباتٍ لا قِبَلَ لِأحَدٍ بِمَعْرِفَةِ وُقُوعِها مِن أحْوالِ النّاسِ في هَذا العالَمِ غَيْرَ هَذِهِ الخَمْسَةِ فَأمّا في العَوالِمِ الأُخْرى وفي الحَياةِ الآخِرَةِ فالمُغَيَّباتُ عَنْ عِلْمِ النّاسِ كَثِيرَةٌ ولَيْسَتْ لَها مَفاتِحُ عِلْمٍ في هَذا العالَمِ. (p-١٩٩)وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدائِيَّةٌ واقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِما تَضَمَّنَهُ الكَلامُ السّابِقُ مِن إبْطالِ شُبْهَةِ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا﴾ [لقمان: ٣٣] كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ في قِصَّةِ لُقْمانَ ﴿إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦] عَقِبَ قَوْلِهِ ﴿إنَّها إنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ﴾ [لقمان: ١٦] الآيَةَ. والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَدى وعْدِهِ خَبِيرٌ بِأحْوالِكم مِمّا جَمَعَهُ قَوْلُهُ ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا﴾ إلَخْ. ولِذا جَمَعَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ صِفَةِ (عَلِيمٌ) وصِفَةِ (خَبِيرٌ) لِأنَّ الثّانِيَةَ أخَصُّ. * * * (p-٢٠٠)(p-٢٠١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ السَّجْدَةِ أشْهَرُ أسْماءِ هَذِهِ السُّورَةِ هو (سُورَةُ السَّجْدَةِ)، وهو أخْصَرُ أسْمائِها، وهو المَكْتُوبُ في السَّطْرِ المَجْعُولِ لِاسْمِ السُّورَةِ مِنَ المَصاحِفِ المُتَداوَلَةِ. وبِهَذا الِاسْمِ تَرْجَمَ لَها التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ وذَلِكَ بِإضافَةِ كَلِمَةِ (سُورَةٍ) إلى كَلِمَةِ (السَّجْدَةِ) . ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ كَلِمَةِ (الم) مَحْذُوفَةً لِلِاخْتِصارِ إذْ لا يَكْفِي مُجَرَّدُ إضافَةِ سُورَةٍ إلى السَّجْدَةِ في تَعْرِيفِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإنَّهُ لا تَكُونُ سَجْدَةٌ مِن سُجُودِ القُرْآنِ إلّا في سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ. وتُسَمّى أيْضًا الم تَنْزِيلُ؛ رَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ «كانَ لا يَنامُ حَتّى يَقْرَأ (الم تَنْزِيلُ) و﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك»: ١] . وتُسَمّى (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) . وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «كانَ النَّبِيءُ ﷺ يَقْرَأُ يَوْمَ الجُمُعَةِ في صَلاةِ الفَجْرِ (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) و﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ﴾ [الإنسان»: ١] . قالَ شارِحُو صَحِيحِ البُخارِيِّ ضَبْطُ اللّامِ مِن كَلِمَةِ (تَنْزِيلُ) بِضَمَّةٍ عَلى الحِكايَةِ، وأمّا لَفْظُ (السَّجْدَةِ) في هَذا الحَدِيثِ فَقالَ ابْنُ حَجَرٍ هو بِالنَّصْبِ: وقالَ العَيْنِيُّ والقَسْطَلانِيُّ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ عَطْفُ بَيانٍ يَعْنِي أنَّهُ بَيانٌ لِلَفْظِ (الم تَنْزِيلُ)، وهَذا بِعِيدٌ لِأنَّ لَفْظَ السَّجْدَةِ لَيْسَ اسْمًا لِهَذِهِ السُّورَةِ إلّا بِإضافَةِ (سُورَةٍ) إلى (السَّجْدَةِ)، فالوَجْهُ أنْ يَكُونَ لَفْظُ (السَّجْدَةِ) في كَلامِ أبِي هُرَيْرَةَ مَجْرُورًا بِإضافَةِ مَجْمُوعِ (الم تَنْزِيلُ) إلى لَفْظِ (السَّجْدَةِ)، وسَأُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الإضافَةِ. وعَنْوَنَها البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ (سُورَةُ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) . ويَجِبُ أنْ يَكُونَ (تَنْزِيلُ) مَضْمُومًا عَلى حِكايَةِ لَفْظِ القُرْآنِ، فَتَمَيَّزَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِوُقُوعِ سَجْدَةِ تِلاوَةٍ فِيها مِن (p-٢٠٢)بَيْنِ السُّوَرِ المُفْتَتَحَةِ بِـ (الم)، فَلِذَلِكَ فَمَن سَمّاها (سُورَةَ السَّجْدَةِ) عَنى تَقْدِيرَ مُضافٍ أيْ سُورَةُ (الم السَّجْدَةِ) . ومَن سَمّاها (تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) فَهو عَلى تَقْدِيرِ (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) بِجَعْلِ (الم تَنْزِيلُ) اسْمًا مُرَكَّبًا ثُمَّ إضافَتِهِ إلى السَّجْدَةِ، أيْ ذاتِ السَّجْدَةِ، لِزِيادَةِ التَّمْيِيزِ والإيضاحِ، وإلّا فَإنَّ ذِكْرَ كَلِمَةِ (تَنْزِيلُ) كافٍ في تَمْيِيزِها عَمّا عَداها مِن ذَواتِ (الم) ثُمَّ اخْتَصَرَ بِحَذْفِ (الم) وإبْقاءِ (تَنْزِيلُ)، وأُضِيفَ (تَنْزِيلُ) إلى (السَّجْدَةِ) عَلى ما سَيَأْتِي في تَوْجِيهِ تَسْمِيَتِها (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) . ومَن سَمّاها (الم السَّجْدَةِ) فَهو عَلى إضافَةِ (الم) إلى (السَّجْدَةِ) إضافَةً عَلى مَعْنى اللّامِ وجَعْلِ (الم) اسْمًا لِلسُّورَةِ. ومَن سَمَّوْها (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِها في شُرُوحِ صَحِيحِ البُخارِيِّ ولا في النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الجامِعِ الصَّحِيحِ، ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ (الم) مُضافًا إلى (تَنْزِيلُ) عَلى أنَّ مَجْمُوعَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ اسْمٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ مَحْكِيٌّ لَفْظُهُ؛ فَتَكُونُ كَلِمَةُ (تَنْزِيلُ) مَضْمُومَةً عَلى حِكايَةِ لَفْظِها القُرْآنِيِّ، وأنْ يُعْتَبَرَ هَذا المُرَكَّبُ الإضافِيُّ اعْتِبارَ العَلَمِ مِثْلُ: عَبْدِ اللَّهِ، ويُعْتَبَرُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ المُرَكَّبِ الإضافِيِّ مُضافًا إلى السَّجْدَةِ إضافَةَ المُفْرَداتِ، وهو اسْتِعْمالٌ مَوْجُودٌ، ومِنهُ قَوْلُ تَأبَّطَ شَرًّا: ؎إنِّي لَمُهْدٍ مِن ثَنَـائِي فـَقَـاصـِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مالِكٍ إذْ أضافَ مَجْمُوعَ (ابْنِ عَمِّ) إلى الصِّدْقِ، ولَمْ يُرِدْ إضافَةَ عَمِّ إلى الصِّدْقِ. وكَذَلِكَ قَوْلُ أحَدِ الطّائِيِّينَ في دِيوانِ الحَماسَةِ: ؎داوِ ابْنَ عَمِّ السُّوءِ بِالنَّأْيِ والغِنَـى ∗∗∗ كَفى بِالغِنى والنَّأْيِ عَنْهُ مُداوِيا فَإنَّهُ ما أرادَ وصْفَ عَمِّهِ بِالسُّوءِ ولَكِنَّهُ أرادَ وصْفَ ابْنِ عَمِّهِ بِالسُّوءِ. فَأضافَ مَجْمُوعَ ابْنِ عَمٍّ إلى السُّوءِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِن كَلْبٍ في دِيوانِ الحَماسَةِ: ؎هَنِيئًا لِابْنِ عَمِّ السُّوءِ أنِّي ∗∗∗ مُجاوِرَةٌ بَنِي ثُعَلٍ لَبُونِي وقالَ عُيَيْنَةُ بْنُ مِرْداسٍ في الحَماسَةِ: (p-٢٠٣) ؎فَلَمّا عَرَفْتُ اليَأْسَ مِنهُ وقَدْ بَدَتْ ∗∗∗ أيادِي سَبا الحاجاتِ لِلْمُتَذَكِّـرِ فَأضافَ مَجْمُوعَ (أيادِي سَبا) وهو كالمُفْرَدِ لِأنَّهُ جَرى مَجْرى المَثَلِ إلى الحاجاتِ. وقالَ بَعْضُ رُجّازِهِمْ: ؎أنا ابْنُ عَمِّ اللَّيْلِ وابْنُ خالِهِ ∗∗∗ إذا دُجًى دَخَلْتُ في سِرْبالِهِ فَأضافَ (ابْنُ عَمِّ) إلى لَفْظِ (اللَّيْلِ)، وأضافَ (ابْنُ خالٍ) إلى ضَمِيرِ (اللَّيْلِ) عَلى مَعْنى أنا مُخالِطُ اللَّيْلِ، ولا يُرِيدُ إضافَةَ عَمٍّ ولا خالٍ إلى اللَّيْلِ. ومِن هَذا اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيّاتِ، فالمُضافُ إلى (الرُّقَيّاتِ) هو مَجْمُوعُ المُرَكَّبِ إمّا عَبْدُ اللَّهِ، أوِ (ابْنُ قَيْسٍ) لا أحَدُ مُفْرَداتِهِ. وهَذِهِ الإضافَةُ قَرِيبَةٌ مِن إضافَةِ العَدَدِ المُرَكَّبِ إلى مَن يُضافُ إلَيْهِ مَعَ بَقاءِ اسْمِ العَدَدِ عَلى بِنائِهِ كَما تَقُولُ: أعْطِهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ. وتُسَمّى هَذِهِ السُّورَةُ أيْضًا (سُورَةَ المَضاجِعِ) لِوُقُوعِ لَفْظِ (المَضاجِعِ) في قَوْلِهِ تَعالى ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦] . وفِي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ عَنْ مُسْنَدِ الدّارِمِيِّ أنَّ خالِدَ بْنَ مَعْدانَ سَمّاها (المُنْجِيَةَ) . قالَ: بَلَغَنِي أنَّ رَجُلًا يَقْرَؤُها ما يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَها، وكانَ كَثِيرَ الخَطايا فَنَشَرَتْ جَناحَها وقالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإنَّهُ كانَ يُكْثِرُ مِن قِراءَتِي فَشَفَّعَها الرَّبُّ فِيهِ وقالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ حَسَنَةً وارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً اهــ. وقالَ الطَّبَرَسِيُّ: تُسَمّى (سُورَةَ سَجْدَةِ لُقْمانَ) لِوُقُوعِها بَعْدَ سُورَةِ لُقْمانَ لِئَلّا تَلْتَبِسَ بِسُورَةِ (حم السَّجْدَةِ)، أيْ كَما سَمَّوْا سُورَةَ (حم السَّجْدَةِ) وهي سُورَةُ فُصِّلَتْ (سُورَةَ سَجْدَةِ المُؤْمِنِ) لِوُقُوعِها بَعْدَ (سُورَةِ المُؤْمِنِينَ) . وهِيَ مَكِّيَّةٌ في إطْلاقِ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ وإحْدى رِوايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ اسْتِثْناءُ ثَلاثِ آياتٍ مَدَنِيَّةٍ وهي ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ (p-٢٠٤)فاسِقًا﴾ [السجدة: ١٨] إلى لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ. قِيلَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ والوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وسَيَأْتِي إبْطالُهُ. وزادَ بَعْضُهم آيَتَيْنِ ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦] إلى بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لِما رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِها وهو ضَعِيفٌ. والَّذِي نُعَوِّلُ عَلَيْهِ أنَّ السُّورَةَ كُلَّها مَكِّيَّةٌ وأنَّ ما خالَفَ ذَلِكَ إنْ هو إلّا تَأْوِيلٌ أوْ إلْحاقُ خاصٍّ بِعامٍّ كَما أصَّلْنا في المُقَدِّمَةِ الخامِسَةِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّحْلِ وقَبْلَ سُورَةِ نُوحٍ، وقَدْ عُدَّتِ الثّالِثَةَ والسَبْعِينَ في النُّزُولِ. وعُدَّتْ آياتُها عِنْدَ جُمْهُورِ العادِّينَ ثَلاثِينَ، وعَدَّها البَصْرِيُّونَ سَبْعًا وعِشْرِينَ. * * * مِن أغْراضِ هَذِهِ السُّورَةُ أوَّلُها التَّنْوِيهُ بِالقُرْآنِ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وتَوْبِيخُ المُشْرِكِينَ عَلى ادِّعائِهِمْ أنَّهُ مُفْتَرًى بِأنَّهم لَمْ يَسْبِقْ لَهُمُ التَّشَرُّفُ بِنُزُولِ كِتابٍ. والِاسْتِدْلالُ عَلى إبْطالِ إلَهِيَّةِ أصْنامِهِمْ بِإثْباتِ انْفِرادِ اللَّهِ بِأنَّهُ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ ومُدَبِّرُ أُمُورِهِما. وذِكْرُ البَعْثِ والِاسْتِدْلالُ عَلى كَيْفِيَّةِ بَدْءِ خَلْقِ الإنْسانِ ونَسْلِهِ، وتَنْظِيرِهِ بِإحْياءِ الأرْضِ، وأُدْمِجَ في ذَلِكَ أنَّ إحْياءَ الأرْضِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِمُسْدِيها. والإنْحاءُ عَلى الَّذِينَ أنْكَرُوهُ ووَعِيدُهم. والثَّناءُ عَلى المُصَدِّقِينَ بِآياتِ اللَّهِ ووَعْدُهم، ومُقابَلَةُ إيمانِهِمْ بِكُفْرِ المُشْرِكِينَ، ثُمَّ إثْباتُ رِسالَةِ رَسُولٍ عَظِيمٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ هَدى بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً. والتَّذْكِيرُ بِما حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ السّابِقِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِظَةً لِلْحاضِرِينَ، وتَهْدِيدُهم بِالنَّصْرِ الحاصِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وخَتَمَ ذَلِكَ بِانْتِظارِ النَّصْرِ. وأمَرَ الرَّسُولَ ﷺ بِالإعْراضِ عَنْهُ تَحْقِيرًا لَهم، ووَعَدَهُ بِانْتِظارِ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ. (p-٢٠٥)ومِن مَزايا هَذِهِ السُّورَةِ وفَضائِلِها ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وأحْمَدُ والدّارِمِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ («كانَ النَّبِيءُ لا يَنامُ حَتّى يَقْرَأ (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ) و﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ﴾ [الملك»: ١] ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب