الباحث القرآني

ولَمّا كانَ مِنَ الأمْرِ الواضِحِ أنَّ لِسانَ حالِهِمْ بَعْدَ السُّؤالِ عَنْ تَحَقُّقِ ذَلِكَ اليَوْمِ يُسْألُ عَنْ وقْتِهِ كَما مَضى في غَيْرِ آيَةٍ، ويَأْتِي في آخِرِ الَّتِي بَعْدَها، إمّا تَعَنُّتًا واسْتِهْزاءً وإمّا حَقِيقَةً، أجابَ عَنْ ذَلِكَ ضامًّا إلَيْهِ أخَواتِهِ مِن مَفاتِيحِ الغَيْبِ المَذْكُورَةِ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما الآتِي، لِما في ذَلِكَ مِنَ الحِكْمَةِ الَّتِي سِيقَتْ لَها السُّورَةُ، مُرَتِّبًا لَها عَلى الأبْعَدِ فالأبْعَدِ عَنْ عِلْمِ الخَلْقِ، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِما يَعْتَقِدُونَ في كُهّانِهِمْ مُظْهِرًا الِاسْمَ الأعْظَمَ غَيْرَ مُضْمِرٍ لِشِدَّةِ اقْتِضاءِ المَقامِ لَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيْ بِما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ وجَمِيعِ أوْصافِ الكَمالِ ﴿عِنْدَهُ﴾ أيْ خاصَّةً، ولَوْ قِيلَ لَهُ مَثَلًا ما أفادَ الحُضُورَ، ولَوْ قِيلَ ”لَدَيْهِ“ لَأوْهَمَ التَّعْبِيرُ بِـ”لَدى“ (p-٢١٥)الَّتِي هي لِلْحُضُورِ أنَّ ذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ قُرْبِها جِدًّا، وأوْهَمَ أنَّ عِلْمَهُ تَعالى يَتَفاوَتُ تَعَلُّقُهُ بِالأشْياءِ بِخُصُوصٍ أوْ عُمُومٍ لِأجْلِ أنَّ ”لَدى“ أخَصُّ مِن عِنْدَ فَكانَتْ عِنْدَ أوْفَقَ لِلْمُرادِ، فَإنَّها أفادَتِ التَّمَكُّنَ مِنَ العِلْمِ مَعَ احْتِمالِ تَأخُّرِها [وسَلِمَتْ] مِن تَطَرُّقِ احْتِمالٍ فاسِدٍ إلَيْها ﴿عِلْمُ السّاعَةِ﴾ أيْ وقْتُ قِيامِها، لا عِلْمَ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ أصْلًا. ولَمّا كانَ سُبْحانَهُ قَدْ نَصَبَ عَلَيْها أماراتٍ تُوجِبُ ظُنُونًا في قُرْبِها، وكَشَفَ بَعْضَ أمْرِها، عَبَّرَ تَعالى بِالعِلْمِ، ولَمّا كانُوا قَدْ ألَحُّوا في السُّؤالِ عَنْ وقْتِها، وكانَتْ أبْعَدَ الخَمْسِ عَنْ عِلْمِ الخَلْقِ، وكانَتْ شَيْئًا واحِدًا لا يَتَجَزَّأُ ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ﴾ [النازعات: ١٣] ﴿فَإذا هم بِالسّاهِرَةِ﴾ [النازعات: ١٤] أبْرَزَها سُبْحانَهُ في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ دالَّةٍ عَلى الدَّوامِ والثُّبُوتِ عَلى طَرِيقِ الحَصْرِ، وهَذا هو المِفْتاحُ الأوَّلُ مِن مَفاتِيحِ الغَيْبِ يَنْفَتِحُ بِهِ مِنَ العُلُومِ ما يَجِلُّ عَنِ الحَصْرِ عَنْ قِيامِ الأنْفُسِ بِأبْدانِها، ماثِلَةً عَلى مَذاقِها بِجَمِيعِ أرْكانِها، وأشْكالِها وألْوانِها، وسائِرِ شَأْنِها، وطَيَرانِ الأرْواحِ بِالنَّفْخِ إلَيْها واحْتِوائِها عَلَيْها عَلى اخْتِلافِ أنْواعِهِمْ، وتَغايُرِ صُوَرِهِمْ وأطْوالِهِمْ، وتَبايُنِ ألْسِنَتِهِمْ وأعْمالِهِمْ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ، وعَجائِبِ المَقْدُورِ، ثُمَّ سَعْيِهِمْ إلى المَوْقِفِ ثُمَّ وُقُوفِهِمْ، ثُمَّ حِسابِهِمْ إلى اسْتِقْرارِ الفَرِيقَيْنِ في الدّارَيْنِ، هَذا إلى مَوْجِهِمْ (p-٢١٦)مِن شِدَّةِ الزِّحامِ، والكُرُوبِ العِظامِ بَعْضًا في بَعْضٍ. يَطْلُبُونَ مَن يَشْفَعُ لَهم في الحِسابِ حَتّى يَقُومَ المُصْطَفى ﷺ المَقامَ المَحْمُودَ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ إلى انْتِقاضِ السَّماواتِ، وانْكِدارِ ما فِيها مِنَ النَّيِّراتِ، ونُزُولِ المَلائِكَةِ بَعْدَ قِيامِهِمْ مِن مَنامِهِمْ، وهم مَن لا يُحْصِي أهْلُ سَماءٍ مِنهم كَثْرَةً، كَيْفَ وقَدْ أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَها أنْ تَئِطَّ، ما فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ قائِمٌ يُصَلِّي هَذا إلى تَبَدُّلِ الأراضِي وزَوالِ الجِبالِ، ونَسْفِ الأبْنِيَةِ والرَّوابِي والتِّلالِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يَعْلَمُهُ حَقَّ عِلْمِهِ إلّا هو سُبْحانَهُ. المِفْتاح الثّانِي: آيَةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ عَلى قِيامِ السّاعَةِ، وأدَلُّ الأدِلَّةِ عَلَيْهِ وهو إنْزالُ المَطَرِ الَّذِي يَكْشِفُ عَنِ الِاخْتِلاطِ في أعْماقِ الأراضِي بِالتُّرابِ الَّذِي كانَ نَباتًا ثُمَّ إعادَتُهُ نَبْتًا [كَما] كانَ مِن قَبْلُ عَلى اخْتِلافِ ألْوانِهِ، ومَقادِيرِهِ وأشْكالِهِ، وأغْصانِهِ وأفْنانِهِ، ورَوائِحِهِ وطَعُومِهِ، ومَنافِعِهِ وطَبائِعِهِ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن شُؤُونِهِ، وأحْوالِهِ وفُنُونِهِ، الَّتِي لا يُحِيطُ بِها عِلْمًا إلّا خالِقُها ومُبْدِعُها وصانِعُها. ولَمّا كانُوا يَنْسُبُونَ الغَيْثَ إلى الأنْواءِ أسْنَدَ الإنْزالَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ لِيُفِيدَ الِامْتِنانَ، وعَبَّرَ بِالجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّجَدُّدِ فَقالَ: ﴿ويُنَـزِّلُ الغَيْثَ﴾ بِلامِ الِاسْتِغْراقِ القائِمَةِ مَقامَ التَّسْوِيرِ بِـ ”كُلٍّ“ (p-٢١٧)وقَدْ أفادَ ذَلِكَ الِاخْتِصاصَ بِالعِلْمِ بِوَقْتِهِ ومَكانِهِ ومِقْدارِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن شُؤُونِهِ، فَإنَّ مَن فَعَلَ شَيْئًا حَقِيقَةً لَمْ يَعْلَمْ أحَدٌ وقْتَ فِعْلِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ إلّا مِن قِبَلِهِ. المِفْتاحُ الثّالِثُ: عِلْمُ الأجِنَّةِ وهو الرُّتْبَةُ الثّانِيَةُ في الدَّلالَةِ عَلى البَعْثِ الكاشِفِ عَنْ تَخْطِيطِها وتَصْوِيرِها، وتَشْكِيلِها وتَقْدِيرِها، عَلى وصْفَيِ الذُّكُورَةِ والأُنُوثَةِ، مَعَ الوُضُوحِ أوِ الإشْكالِ، والوَحْدَةِ أوِ الكَثْرَةِ، والتَّمامِ أوِ النَّقْصِ - إلى ما هُناكَ مِنِ اخْتِلافِ المَقادِيرِ والطَّبائِعِ، والأخْلاقِ والشَّمائِلِ، والأكْسابِ والصَّنائِعِ، والتَّقَلُّباتِ في مِقْدارِ العُمْرِ والرِّزْقِ في الأوْقاتِ والأماكِنِ - وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي لا يُحْصِيها إلّا بارِئُ النَّسَمِ، ومُحْيِي الرَّمَمِ. ولَمّا كانَتْ لِلْخَلْقِ في ذَلِكَ لِكَثْرَةِ المُلابَساتِ والمُعالَجاتِ ظُنُونٌ في وُجُودِ الحَمْلِ أوَّلًا، ثُمَّ في كَوْنِهِ ذَكَرًا أوْ أُنْثى ثانِيًا، ونَحْوُ ذَلِكَ بِما ضَرَبَ عَلَيْهِ مِنَ الأماراتِ النّاشِئَةِ عَنْ طُولِ التَّجارِبِ، وكَثْرَةِ المُمارَسَةِ، عَبَّرَ بِالعِلْمِ فَقالَ: ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى حَيٌّ أوْ مَيِّتٌ وغَيْرُ ذَلِكَ، وصِيغَةُ المُضارِعِ لِتَجَدُّدِ الأجْنِحَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا وقْتًا بَعْدَ وقْتٍ، والكَلامُ في اللّامِ والِاخْتِصاصِ (p-٢١٨)بِالعِلْمِ كالَّذِي قَبْلَهُ سَواءً. المِفْتاحُ الرّابِعُ: الكَسْبُ النّاشِئُ عَمّا في الأرْحامِ الفاتِحُ لِكُنُوزِ السَّعادَةِ وآفاتِ الشَّقاوَةِ والمُسْفِرُ عَنْ حَقائِقِ الضَّمائِرِ في صِدْقِها عِنْدَ البَلاءِ وكَذِبِها، وعَنْ مَقادِيرِ العَزائِمِ ورُتَبِ الغَرائِزِ، وعَنْ أحْوالِ النّاسِ عِنْدَ ذَلِكَ في الصَّداقَةِ والعَداوَةِ والذَّكاءِ والغَباوَةِ والصَّفاءِ والكَدَرِ والسَّلامَةِ والحِيَلِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّحَّةِ والعِلَلِ، في اخْتِلافِ الأُمُورِ، وعَجائِبِ المَقْدُورِ، في الخُيُورِ والشُّرُورِ، مِمّا لا يُحِيطُ بِهِ إلّا مُبْدِعُهُ، وغارِزُهُ في عِبادِهِ ومُودِعُهُ، ولِكَوْنِ الإنْسانِ - مَعَ أنَّهُ ألْصَقُ الأشْياءِ وألْزَمُهُ لَهُ - لا يَعْلَمُهُ مَعَ إيساعِهِ الحِيلَةَ [فِي] مَعْرِفَتِهِ، عَبَّرَ فِيهِ بِالدِّرايَةِ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى الحِيلَةِ بِتَصْرِيفِ الفِكْرِ وإجالَةِ الرَّأْيِ - كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّ مادَّةَ ”دَرى“ تَدُورُ عَلى الدَّوَرانِ، ومِن لَوازِمِهِ إعْمالُ الحِيلَةِ وإمْعانُ النَّظَرِ، فَهي أخَصُّ مِن مُطْلَقِ العِلْمِ فَقالَ: ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ﴾ أيْ مِنَ الأنْفُسِ البَشَرِيَّةِ وغَيْرِها ما وأكَّدَ المَعْنى بِـ ”ذا“ وتَجْرِيدِ الفِعْلِ فَقالَ: ذا تَكَسُّبٍ غدًا أيْ في المُسْتَقْبَلِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وفي نَفْيِ عِلْمِ ذَلِكَ مِنَ العَبْدِ مَعَ كَوْنِهِ ألْصَقَ الأشْياءِ بِهِ دَلِيلٌ ظاهِرٌ عَلى نَفْيٍ عِلْمِ ما قَبْلَهُ عَنْهُ لِأنَّهُ أخْفى مِنهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ إثْباتُ عِلْمِهِ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَصارَ عَلى طَرِيقِ الحَصْرِ، (p-٢١٩)وعُلِمَ أيْضًا أنَّهُ لا يُسْنَدُ إلى العَبْدِ الأعْلى طَرِيقُ الكَسْبِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مَخْلُوقًا لَهُ لَعَلِمَهُ قَطْعًا، فَثَبَتَ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى خالِقُهُ، فَعَلِمَ اخْتِصاصَهُ بِعِلْمِهِ مِن هَذا الوَجْهِ أيْضًا. المِفْتاحُ الخامِسُ: مَكانُ المَوْتِ الَّذِي هو خِتامُ الأمْرِ الدُّنْيَوِيِّ وطَيُّ سِجِلِّ الأثَرِ الشُّهُودِيِّ، وابْتِداءُ الأمْرِ الأُخْرَوِيِّ المَظْهَرِ لِأحْوالِ البَرْزَخِ في النُّزُولِ مَعَ المُنْتَظِرِينَ لِبَقِيَّةِ السَّفَرِ إلى دائِرَةِ البَعْثِ وحالَةِ الحَشْرِ إلى ما هُنالِكَ مِن رِبْحٍ وخُسْرانٍ، وعِزٍّ وهَوانٍ، وما لِلرُّوحِ مِنَ الِاتِّصالِ بِالجَسَدِ والرُّتْبَةِ في العُلُوِّ والسُّفُولِ، والصُّعُودِ والنُّزُولِ، إلى ما وراءَ ذَلِكَ إلى ما لا آخِرَ مِمّا لا يَعْلَمُ تَفاصِيلَهُ وجُمَلَهُ وكُلِّيّاتِهِ وجُزْئِيّاتِهِ إلّا مُخْتَرِعُهُ وبارِئُهُ ومُصْطَنِعُهُ. ولَمّا كانَ لا يَعْلَمُهُ الإنْسانُ بِنَوْعِ حِيلَةٍ مِن شِدَّةِ حَذَرِهِ مِنهُ [وحُبِّهِ] لَوْ أنْفَقَ جَمِيعَ ما يَمْلِكُهُ لِكَيْ يَعْلَمَهُ، عَبَّرَ عَنْهُ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ فَقالَ مُؤَكِّدًا بِإعادَةِ النّافِي والمُسْنَدِ: ﴿وما تَدْرِي﴾ وأظْهَرَ لِأنَّهُ أوْضَحُ وألْيَقُ بِالتَّعْمِيمِ فَقالَ: ﴿نَفْسٌ﴾ أيْ مِنَ البَشَرِ وغَيْرِهِ ﴿بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ﴾ ولَمْ يَقُلْ: بِأيِّ وقْتٍ، لِعَدَمِ القُدْرَةِ عَلى الِانْفِكاكِ عَنِ الوَقْتِ مَعَ القُدْرَةِ عَلى الِانْفِكاكِ عَنْ مَكانٍ مُعَيَّنٍ، وإحاطَةِ العِلْمِ بِكَراهَةِ كُلِّ أحَدٍ لِلْمَوْتِ، فَكانَ [ذَلِكَ] أدَلَّ دَلِيلٍ عَلى جَهْلِهِ بِمَوْضِعِ (p-٢٢٠)مَوْتِهِ إذْ عَلِمَ بِهِ لَبَعُدَ عَنْهُ ولَمْ يَقْرَبْ مِنهُ، وقَدْ رَوى البُخارِيُّ حَدِيثَ المَفاتِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مَفاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ الآيَةُ»، ولَهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حَدِيثِ سُؤالِ جِبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ أشْراطِ السّاعَةِ فَأخْبَرَهُ بِبَعْضِها وقالَ: «خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَـزِّلُ الغَيْثَ﴾» - إلى آخِرِ السُّورَةِ، فَقَدْ دَلَّ الحَدِيثُ قَطْعًا عَلى أنَّ الآيَةَ فِيما يَنْفَرِدُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِعِلْمِهِ، وقَدْ رَتَّبَها سُبْحانَهُ هَذا التَّرْتِيبَ لِما تَقَدَّمَ مِنَ الحِكْمَةِ وعَلِمَ سِرَّ إتْيانِهِ بِها تارَةً في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وتارَةً في فِعْلِيَّةٍ، وتارَةً لَيْسَ فِيها ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ، وأُخْرى يُذْكَرُ فِيها، ويُسْنَدُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، ولَكِنْ لا عَلى وجْهِ الحَصْرِ، وتارَةً بِنَفْيِ العِلْمِ مِن غَيْرِهِ فَقَطْ مِن غَيْرِ إسْنادٍ لِلْفِعْلِ إلَيْهِ، وعُلِمَ سِرُّ قَوْلِهِ ”بِأيِّ أرْضٍ“ دُونَ أيِّ وقْتٍ، كَما في بَعْضِ [طُرُقِ] الحَدِيثِ. ولَمّا كانَ قَدْ أثْبَتَ سُبْحانَهُ لِنَفْسِهِ اخْتِصاصَ العِلْمِ عَنِ الخَلْقِ بِهَذِهِ الأشْياءِ، أثْبَتَ بَعْدَها ما هو أعْلَمُ لِتَدْخُلَ فِيهِ ضِمْنًا فَيَصِيرُ مُخْبِرًا (p-٢٢١)بِعِلْمِهِ لَها مَرَّتَيْنِ، فَقالَ عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ لِأنَّهم يُنْكِرُونَ بَعْضَ ما يُخْبِرُ بِهِ، وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إنْكارَهم لِبَعْضِ عِلْمِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ المُخْتَصُّ بِأوْصافِ الكَمالِ والعَظَمَةِ والكِبْرِياءِ والجَلالِ ﴿عَلِيمٌ﴾ أيْ شامِلُ العِلْمِ لِلْأُمُورِ كُلِّها، كُلِّيّاتِها وجُزْئِيّاتِها، فَأثْبَتَ العِلْمَ المُطْلَقَ لِنَفْسِهِ سُبْحانَهُ بَعْدَ أنْ نَفاهُ عَنِ الغَيْرِ في هَذِهِ الخَمْسِ تارَةً نَصًّا وأُخْرى بِطَرِيقِ الأوْلى أوْ بِاللّازِمِ، فانْطَبَقَ الدَّلِيلُ عَلى الدَّعْوى. واللَّهُ المُوَفِّقُ. ولَمّا أثْبَتَ العِلْمَ عَلى هَذا الوَجْهِ، أكَّدَهُ لِأجْلِ ما سِيقَتْ لَهُ السُّورَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿خَبِيرٌ﴾ أيْ يَعْلَمُ خَبايا الأُمُورِ، وخَفايا الصُّدُورِ، كَما يَعْلَمُ ظَواهِرَها وجَلاياها، كُلٌّ عِنْدِهِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ، فَهو الحَكِيمُ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ، ولِذَلِكَ أخْفى هَذِهِ المَفاتِيحَ عَنْ عِبادِهِ، لِأنَّهُ لَوْ أطْلَعَهم عَلَيْها لَفاتَ كَثِيرٌ مِنَ الحِكَمِ، بِاخْتِلافِ هَذا النِّظامِ، عَلى ما فِيهِ مِنَ الإحْكامِ، فَقَدِ انْطَبَقَ آخِرُ السُّورَةِ - بِإثْباتِهِ الحِكْمَةَ بِإثْباتِ العِلْمِ [والخَبَرِ] مَعَ تَقْرِيرِ أمْرِ السّاعَةِ الَّتِي هي مِفْتاحُ الدّارِ الآخِرَةِ - عَلى أوَّلِها المُخْبِرِ بِحِكْمَةِ صِفَتِهِ الَّتِي مَن عَلِمَها حَقَّ عِلْمِها، وتَخَلَّقَ بِما دَعَتْ إلَيْهِ وحَضَّتْ عَلَيْهِ لا سِيَّما الإيقانُ بِالآخِرَةِ، كانَ حَكِيمًا خَبِيرًا عَلِيمًا مُهَذَّبًا [مَهْدِيًّا] مُقَرَّبًا عَلِيًّا، فَسُبْحانَهُ مَن هَذا كَلامُهُ، وتَعالى كِبْرِياؤُهُ وعَزَّ مَرامُهُ، ولا إلَهَ غَيْرُهُ وهو اللَّطِيفُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب