الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ إلَخْ. أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «أنَّ رَجُلًا يُقالُ لَهُ الوارِثُ بْنُ عَمْرٍو جاءَ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، مَتّى قِيامُ السّاعَةِ؟ وقَدْ أجْدَبَتْ بِلادُنا، فَمَتى تُخْصِبُ؟ وقَدْ تَرَكْتُ امْرَأتِي حُبْلى فَما تَلِدُ؟ وقَدْ عَلِمْتُ ما كَسَبْتُ اليَوْمَ فَماذا أكْسِبُ غَدًا؟ وقَدْ عَلِمْتُ بِأيِّ أرْضٍ وُلِدْتُ، فَبِأيِّ أرْضٍ أمُوتُ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» وذَكَرَ نَحْوَهُ مُحْيِي السُّنَّةِ البَغَوِيُّ، والواحِدِيُّ، والثَّعْلَبِيُّ، فَهو نَظَرًا إلى سَبَبِ النُّزُولِ جَوابٌ لِسُؤالٍ مُحَقَّقٍ، ونَظَرًا إلى ما قَبْلَها مِنَ الآيِ جَوابٌ لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: مَتى هَذا اليَوْمُ الَّذِي ذُكِرَ مِن شَأْنِهِ ما ذُكِرَ؟ فَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ، ولَمْ يَقُلْ إنَّ عِلْمَ السّاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ، مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ، لِأنَّ اسْمَ اللَّهِ سُبْحانَهُ أحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ، ولِأنَّ تَقْدِيمَهُ وبِناءَ الخَبَرِ عَلَيْهِ يُفِيدُ الحَصْرَ كَما قَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ مَعَ ما فِيهِ مِن مَزِيَّةِ تَكَرُّرِ الإسْنادِ، وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ أيْضًا، بَلْ لَفْظُ عِنْدَ كَذَلِكَ، لِأنَّها تُفِيدُ حِفْظَهُ بِحَيْثُ لا يُوصَلُ إلَيْهِ، فَيُفِيدُ الكَلامُ مِن أوْجُهٍ اخْتِصاصَ عِلْمِ وقْتِ القِيامَةِ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ أيْ في إبّانِهِ مِن غَيْرِ تَقْدِيمٍ ولا تَأْخِيرٍ في بَلَدٍ لا يَتَجاوَزُهُ بِهِ، وبِمِقْدارٍ تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، الظّاهِرُ أنَّهُ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ الظَّرْفِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ عَلى عَكْسِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِها ولَكم فِيها مَنافِعُ﴾ [المُؤْمِنُونَ: 21] فَيَكُونُ خَبَرًا مَبْنِيًّا عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ مِثْلَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيُفِيدُ الكَلامُ الِاخْتِصاصَ أيْضًا، والمَقْصُودُ تَقْيِيداتُ التَّنْزِيلِ الرّاجِعَةُ إلى العِلْمِ لا مَحْضِ القُدْرَةِ عَلى التَّنْزِيلِ، إذْ لا شُبْهَةَ فِيهِ، فَيَرْجِعُ الِاخْتِصاصُ إلى العِلْمِ بِزَمانِهِ ومَكانِهِ ومِقْدارِهِ، كَما يُشِيرُ إلى ذَلِكَ كَلامُ الكَشْفِ، وقالَ العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ: دِلالَةُ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى عِلْمِ الغَيْبِ مِن حَيْثُ دِلالَةُ المَقْدُورِ المُحْكَمِ المُتْقَنِ عَلى العِلْمِ الشّامِلِ، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ أيْ أذَكَرٌ أمْ أُنْثى؟ أتامٌّ أمْ ناقِصٌ؟ وكَذَلِكَ ما سِوى ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ، عُطِفَ عَلى الجُمْلَةِ الظَّرْفِيَّةِ أيْضًا نَظِيرَ ما قَبْلَهُ، وخُولِفَ بَيْنَ ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ وبَيْنَ هَذا، لِيَدُلَّ في الأوَّلِ عَلى مَزِيدِ الِاخْتِصاصِ اعْتِناءً بِأمْرِ السّاعَةِ ودِلالَةً عَلى شِدَّةِ خَفائِها، وفي هَذا عَلى اسْتِمْرارِ تَجَدُّدِ التَّعَلُّقاتِ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ المُتَعَلِّقاتِ مَعَ الِاخْتِصاصِ، ولَمْ يُراعَ هَذا الأُسْلُوبُ فِيما قَبْلَهُ بِأنْ يُقالَ: ويَعْلَمُ الغَيْثَ مَثَلًا إشارَةً بِإسْنادِ التَّنْزِيلِ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ صَرِيحًا إلى عِظَمِ شَأْنِهِ لِما فِيهِ مِن كَثْرَةِ المَنافِعِ لِأجْناسِ الخَلائِقِ، وشُيُوعِ الِاسْتِدْلالِ بِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن إحْياءِ الأرْضِ عَلى صِحَّةِ البَعْثِ المُشارِ إلَيْهِ بِالسّاعَةِ في الكِتابِ العَظِيمِ، قالَ تَعالى: ﴿وإنْ كانُوا مِن قَبْلِ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ ﴿فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتى﴾ [الرُّومُ: 49، 50]، وقالَ سُبْحانَهُ: ﴿ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الرُّومُ: 19]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، ورُبَّما يُقالُ: إنَّ لِتَنْزِيلِ الغَيْثِ، وإنْ لَمْ يَكُنِ الغَيْثَ المَعْهُودَ دَخْلًا في المَبْعَثِ بِناءً عَلى ما ورَدَ مِن حَدِيثِ «مَطَرِ السَّماءِ بَعْدَ النَّفْخَةِ الأُولى مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجالِ». وقِيلَ: الِاخْتِصاصُ راجِعٌ إلى التَّنْزِيلِ، وما تَرْجِعُ إلَيْهِ تَقْيِيداتُهُ الَّتِي يَقْتَضِيها المَقامُ مِنَ العِلْمِ، وفي ذَلِكَ رَدٌّ عَلى القائِلِينَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا، ولِلِاعْتِناءِ بِرَدِّ ذَلِكَ لِما فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ في الرُّبُوبِيَّةِ عُدِلَ عَنْ يَعْلَمُ إلى ( يُنَزِّلُ )، وهو كَما تَرى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ﴾ أيْ كُلُّ نَفْسٍ بَرَّةٍ كانَتْ أوْ فاجِرَةً، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُ النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ ﴿ماذا تَكْسِبُ غَدًا﴾ أيْ في الزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، وقَوْلُهُ (p-110)سُبْحانَهُ: ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ﴾ عَطْفٌ عَلى ما اسْتَظْهَرَهُ صاحِبُ الكَشْفِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ وأشارَ إلى أنَّهُ لَمّا كانَ الكَلامُ مَسُوقًا لِلِاخْتِصاصِ لا لِإفادَةِ أصْلِ العِلْمِ لَهُ تَعالى، فَإنَّهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ لَزِمَ مِنَ النَّفْيِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِغْراقِ اخْتِصاصُهُ بِهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ عَلى الوَجْهِ الأبْلَغِ، وفي العُدُولِ عَنْ لَفْظِ العِلْمِ إلى لَفْظِ الدِّرايَةِ لِما فِيها مِن مَعْنى الخَتَلِ والحِيلَةِ، لِأنَّ أصْلَ دَرى رَمى الدَّرِيَّةَ، وهي الحَلْقَةُ الَّتِي يَقْصِدُ رَمْيَها الرُّماةُ، وما يُتَعَلَّمُ عَلَيْهِ الطَّعْنُ والنّاقَةُ الَّتِي يُسَيِّبُها الصّائِدُ لِيَأْنَسَ بِها الصَّيْدُ فَيَسْتَتِرُ مِن ورائِها فَيَرْمِيهِ، وفي كُلٍّ حِيلَةٌ، ولِكَوْنِها عِلْمًا بِضَرْبٍ مِنَ الخَتَلِ والحِيلَةِ لا تُنْسَبُ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ إلّا إذا أُوِّلَتْ بِمُطْلَقِ العِلْمِ كَما في خَبَرِ: ««خَمْسٌ لا يَدْرِيهِنَّ إلّا اللَّهُ تَعالى»» وقِيلَ: قَدْ يُقالُ المَمْنُوعُ نِسْبَتُها إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِانْفِرادِهِ تَعالى، أمّا مَعَ غَيْرِهِ تَبارَكَ اسْمُهُ تَغْلِيبًا فَلا، ويُفْهَمُ مِن كَلامِ بَعْضِهِمْ صِحَّةُ النِّسْبَةِ إلَيْهِ جَلَّ وعَلا عَلى سَبِيلِ المُشاكَلَةِ كَما في قَوْلِهِ: ؎لاهُمَّ لا أدْرِي وأنْتَ الدّارِي فَلا حاجَةَ إلى ما قِيلَ: إنَّهُ كَلامُ أعْرابِيٍّ جِلْفٍ لا يَعْرِفُ ما يَجُوزُ إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى، وما يَمْتَنِعُ، فَيَكُونُ المَعْنى لا تَعْرِفُ كُلُّ نَفْسٍ، وإنْ أعْمَلَتْ حِيَلَها ما يَلْصَقُ بِها، ويَخْتَصُّ، ولا يَتَخَطّاها، ولا شَيْءَ أخَصُّ بِالإنْسانِ مِن كَسْبِهِ، وعاقِبَتِهِ، فَإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلى مَعْرِفَتِهِما، كانَ مِن مَعْرِفَةِ ما عَداهُما أبْعَدَ وأبْعَدَ، وقَدْ رُوعِيَ في هَذا الأُسْلُوبِ الإدْماجُ المَذْكُورُ، ولِذا لَمْ يَقُلْ: ويَعْلَمُ ماذا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، ويَعْلَمُ أنَّ كُلَّ نَفْسٍ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ أصْلُ ﴿ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ وأنْ يُنَزِّلَ الغَيْثَ، فَحُذِفَ أنْ، وارْتَفَعَ الفِعْلُ كَما في قَوْلِهِ: ؎أيُّهَذا الزّاجِرِي أحَضَرَ الوَغى وكَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ والعَطْفُ عَلى ( عِلْمُ السّاعَةِ ) فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ، وتَنْزِيلُ الغَيْثِ، وعِلْمُ ما في الأرْحامِ، ودِلالَةُ ذَلِكَ عَلى اخْتِصاصِ عِلْمِ تَنْزِيلِ الغَيْثِ بِهِ سُبْحانَهُ ظاهِرٌ لِظُهُورِ أنَّ المُرادَ بِعِنْدِهِ تَنْزِيلُ الغَيْثِ عِنْدَهُ عِلْمُ تَنْزِيلِهِ، وإذا عَطَفَ ( يُنَزِّلُ ) عَلى ( السّاعَةِ ) كانَ الِاخْتِصاصُ أظْهَرُ لِانْسِحابِ عِلْمِ المُضافِ إلى السّاعَةِ إلى الإنْزالِ حِينَئِذٍ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وعِلْمُ تَنْزِيلِ الغَيْثِ، وهَذا العَطْفُ لا يَكادُ يَتَسَنّى في ( ويَعْلَمُ ) إذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وعِنْدَهُ عِلْمُ عِلْمِ ما في الأرْحامِ، ولَيْسَ ذاكَ بِمُرادٍ أصْلًا. وجَعَلَ الطِّيبِيُّ ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ﴾ إلَخْ، مَعْطُوفًا عَلى خَبَرِ إنَّ، مِن حَيْثُ المَعْنى بِأنْ يُجْعَلَ المَنفِيُّ مُثْبَتًا بِأنْ يُقالَ: ويَعْلَمُ ماذا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ غَدًا، ويَعْلَمُ أنَّ كُلَّ نَفْسٍ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، وقالَ: إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ جائِزٌ في الكَلامِ إذا رُوعِيَ نُكَتُهُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم ألا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [الأنْعامُ: 151]، فَإنَّ العَطْفَ فِيهِ بِاعْتِبارِ رُجُوعِ التَّحْرِيمِ إلى ضِدِّ الإحْسانِ، وهي الإساءَةُ، وذَكَرَ في بَيانِ نُكْتَةِ العُدُولِ عَنِ المُثْبَتِ إلى المَنفِيِّ نَحْوَ ما ذَكَرْنا آنِفًا. وتَعَقَّبَ ذَلِكَ صاحِبُ الكَشْفِ بِأنَّ عَنْهُ مَندُوحَةً أيْ بِما ذَكَرَ مِن عَطْفِهِ عَلى جُمْلَةِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ وقالَ الإمامُ في وجْهِ نَظْمِ الجُمَلِ: الحَقُّ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿واخْشَوْا يَوْمًا﴾ إلَخْ، وذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ كائِنٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ قائِلًا: ( إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) فَكَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: فَمَتى هَذا اليَوْمُ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّ هَذا العِلْمَ مِمّا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ تَعالى، وذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ جَلَّ وعَلا الدَّلِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرا مِرارًا عَلى البَعْثِ. أحَدُهُما إحْياءُ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ والثّانِي الخَلْقُ ابْتِداءً المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ فَكَأنَّهُ قالَ عَزَّ وجَلَّ: يا أيُّها السّائِلُ إنَّكَ لا تَعْلَمُ وقْتَها، ولَكِنَّها كائِنَةٌ واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلَيْها كَما هو سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى إحْياءِ الأرْضِ، وعَلى (p-111)الخَلْقِ في الأرْحامِ، ثُمَّ بَعْدُ جَلَّ شَأْنُهُ لَهُ أنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: (وما تَدْرِي) إلَخْ، فَكَأنَّهُ قالَ تَعالى: يا أيُّها السّائِلُ، إنَّكَ تَسْألُ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها، وإنَّ مِنَ الأشْياءِ ما هو أهَمُّ مِنها، لا تَعْلَمُ مَعاشَكَ ومَعادَكَ فَما تَعْلَمُ ماذا تَكْسِبُ غَدًا مَعَ أنَّهُ فِعْلُكَ وزَمانُكَ، ولا تَعْلَمُ أيْنَ تَمُوتُ مَعَ أنَّهُ شُغْلُكَ ومَكانُكَ، فَكَيْفَ تَعْلَمُ قِيامَ السّاعَةِ، مَتى يَكُونُ؟ واللَّهُ تَعالى ما عَلَّمَكَ كَسْبَ غَدِكَ ولا عَلَّمَكَ أيْنَ تَمُوتُ؟ مَعَ أنَّ لَكَ في ذَلِكَ فَوائِدَ شَتّى، وإنَّما لَمْ يُعْلِمْكَ لِكَيْ تَكُونَ في كُلِّ وقْتٍ بِسَبَبِ الرِّزْقِ راجِعًا مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ سُبْحانَهُ، ولِكَيْلا تَأْمَنَ المَوْتَ، إذا كُنْتَ في غَيْرِ الأرْضِ الَّتِي أعْلَمَكَ سُبْحانَهُ أنَّكَ تَمُوتُ فِيها، فَإذا لَمْ يُعْلِمْكَ ما تَحْتاجُ إلَيْهِ، كَيْفَ يُعْلِمُكَ ما لا حاجَةَ لَكَ إلَيْهِ، وهو وقْتُ القِيامَةِ، وإنَّما الحاجَةُ إلى العِلْمِ بِأنَّها تَكُونُ، وقَدْ أعْلَمَكَ جَلَّ وعَلا بِذَلِكَ عَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِ تَعالى عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ انْتَهى، ولا يَخْفى أنَّ الظّاهِرَ عَلى ما ذَكَرَهُ أنْ يُقالَ: وبِخَلْقِ ما في الأرْحامِ، كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ ووَجْهُ العُدُولِ عَنْ ذَلِكَ إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ غَيْرُ ظاهِرٍ، عَلى أنَّ كَلامَهُ بَعْدُ لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ، وكَوْنُ المُرادِ اخْتِصاصَ عِلْمِ هَذِهِ الخَمْسِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ هو الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الأحادِيثُ والآثارُ، فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مِن حَدِيثٍ طَوِيلٍ: ««أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ مَتى السّاعَةُ؟ فَقالَ لِلسّائِلِ: ما المَسْؤُولُ عَنْها بِأعْلَمَ مِنَ السّائِلِ، وسَأُخْبِرُكَ عَنْ أشْراطِها، إذا ولَدَتِ الأمَةُ رَبَّها، وإذا تَطاوَلَ رُعاةُ الإبِلِ إلَيْهِمْ في البُنْيانِ في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ تَلا النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ الآيَةَ»» أيْ إلى آخِرِ السُّورَةِ كَما في بَعْضِ الرِّواياتِ، وما وقَعَ عِنْدَ البُخارِيِّ في التَّفْسِيرِ مِن قَوْلِهِ: إلى الأرْحامِ تَقْصِيرٌ مِن بَعْضِ الرُّواةِ، وأخْرَجا أيْضًا هُما وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««مِفْتاحُ - وفي رِوايَةِ مَفاتِحُ - الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، لا يَعْلَمُ أحَدٌ ما يَكُونُ في غَدٍ، ولا يَعْلَمُ أحَدٌ ما يَكُونُ في الأرْحامِ، ولا تَعْلَمُ نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا، وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، وما يَدْرِي أحَدٌ مَتى يَجِيءُ المَطَرُ»». وأخْرَجَ أحْمَدُ، والبَزّارُ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والرُّويانِيُّ، والضِّياءُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ قالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ، إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ، الآيَةَ»» وظاهِرُ هَذِهِ الأخْبارِ يَقْتَضِي أنَّ ما عَدا هَذِهِ الخَمْسَ مِنَ المُغَيَّباتِ قَدْ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ عَزَّ وجَلَّ، وإلَيْهِ ذَهَبَ مَن ذَهَبَ. أخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهُ ذَكَرَ العِلْمَ بِوَقْتِ الكُسُوفِ قَبْلَ الظُّهُورِ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ، فَقالَ: إنَّما الغَيْبُ خَمْسٌ وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، وما عَدا ذَلِكَ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ قَوْمٌ ويَجْهَلُهُ قَوْمٌ، وفي بَعْضِ الأخْبارِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ عِلْمَ هَذِهِ الخَمْسِ لَمْ يُؤْتَ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ويَلْزَمُهُ أنَّهُ لَمْ يُؤْتَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن بابِ أوْلى. أخْرَجَ أحْمَدُ، والطَّبَرانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««أُوتِيتُ مَفاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إلّا الخَمْسَ، ( إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ)» الآيَةَ». وأخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو يَعْلى، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «أُوتِيَ نَبِيُّكم ﷺ مَفاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ الخَمْسِ: ( إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ) الآيَةَ». وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ، عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: «لَمْ يُغَمَّ عَلى نَبِيِّكم ﷺ إلّا الخَمْسُ مِن سَرائِرِ الغَيْبِ هَذِهِ الآيَةُ في آخِرِ لُقْمانَ: (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ) إلى آخِرِ السُّورَةِ». وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وأحْمَدُ، والبُخارِيُّ في الأدَبِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِراشٍ قالَ: «حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِن بَنِي عامِرٍ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنَ العِلْمِ شَيْءٌ لا تَعْلَمُهُ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَقَدْ عَلَّمَنِي اللَّهُ تَعالى خَيْرًا، وإنَّ مِنَ العِلْمِ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى الخَمْسَ، ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ الآيَةَ». وصَرَّحَ بَعْضُهم بِاسْتِئْثارِ اللَّهِ تَعالى بِهِنَّ، أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: خَمْسٌ مِنَ الغَيْبِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِنَّ، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِنَّ مَلَكًا مُقَرَّبًا، ولا نَبِيًّا مُرْسَلًا، (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ)، (p-112)ولا يَدْرِي أحَدٌ مِنَ النّاسِ مَتى تَقُومُ السّاعَةُ في أيِّ سَنَةٍ، ولا في أيِّ شَهْرٍ، ألَيْلًا، أمْ نَهارًا؟ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ فَلا يَعْلَمُ أحَدٌ مَتى يَنْزِلُ الغَيْثُ ألَيْلًا أمْ نَهارًا؟ ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ، فَلا يَعْلَمُ أحَدٌ ما في الأرْحامِ أذَكَرًا أمْ أُنْثى أحْمَرَ أوْ أسْوَدَ؟ ولا تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا؟ أخَيْرًا أمْ شَرًّا؟ وما تَدْرِي بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ؟ لَيْسَ أحَدٌ مِنَ النّاسِ يَدْرِي أيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الأرْضِ، أفِي بَحْرٍ أمْ في بَرٍّ؟ في سَهْلٍ؟ أمْ في جَبَلٍ؟ والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ كُلَّ غَيْبٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، ولَيْسَ المُغَيَّباتُ مَحْصُورَةً بِهَذِهِ الخَمْسِ، وإنَّما خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِوُقُوعِ السُّؤالِ عَنْها، أوْ لِأنَّها كَثِيرًا ما تَشْتاقُ النُّفُوسُ إلى العِلْمِ بِها، وقالَ القَسْطَلّانِيُّ: ذَكَرَ ﷺ خَمْسًا، وإنْ كانَ الغَيْبُ لا يَتَناهى، لِأنَّ العَدَدَ لا يَنْفِي زائِدًا عَلَيْهِ، ولِأنَّ هَذِهِ الخَمْسَةَ هي الَّتِي كانُوا يَدَّعُونَ عِلْمَها، انْتَهى، وفي التَّعْلِيلِ الأخِيرِ نَظَرٌ لا يَخْفى، وأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُطْلِعَ اللَّهُ تَعالى بَعْضَ أصْفِيائِهِ عَلى إحْدى هَذِهِ الخَمْسِ ويَرْزُقَهُ عَزَّ وجَلَّ العِلْمَ بِذَلِكَ في الجُمْلَةِ، وعِلْمُها الخاصُّ بِهِ جَلَّ وعَلا ما كانَ عَلى وجْهِ الإحاطَةِ والشُّمُولِ لِأحْوالِ كُلٍّ مِنها، وتَفْصِيلَهُ عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ، وفي شَرْحِ المُناوِيِّ الكَبِيرِ لِلْجامِعِ الصَّغِيرِ في الكَلامِ عَلى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ السّابِقِ: (خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلّا اللَّهُ)، عَلى وجْهِ الإحاطَةِ والشُّمُولِ كُلِّيًّا وجُزْئِيًّا، فَلا يُنافِيهِ إطْلاعُ اللَّهِ تَعالى بَعْضَ خَواصِّهِ عَلى بَعْضِ المُغَيَّباتِ مِن هَذِهِ الخَمْسِ، لِأنَّها جُزْئِيّاتٌ مَعْدُودَةٌ، وإنْكارُ المُعْتَزِلَةِ لِذَلِكَ مُكابَرَةٌ انْتَهى، ويُعْلَمُ مِمّا ذَكَرْنا وجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ الأخْبارِ الدّالَّةِ عَلى اسْتِئْثارِ اللَّهِ تَعالى بِعِلْمِ ذَلِكَ، وبَيْنَ ما يَدُلُّ عَلى خِلافِهِ كَبَعْضِ إخْباراتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالمُغَيَّباتِ الَّتِي هي مِن هَذا القَبِيلِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَن راجَعَ نَحْوَ الشِّفاءِ، والمَواهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ مِمّا ذُكِرَ فِيهِ مُعْجِزاتُهُ ﷺ، وإخْبارُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالمُغَيَّباتِ، وذَكَرَ القَسْطَلّانِيُّ أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ إذا أمَرَ بِالغَيْثِ وسَوْقِهِ إلى ما شاءَ مِنَ الأماكِنِ عَلِمَتْهُ المَلائِكَةُ المُوَكَّلُونَ بِهِ، ومَن شاءَ سُبْحانَهُ مِن خَلْقِهِ عَزَّ وجَلَّ، وكَذا إذا أرادَ تَبارَكَ وتَعالى خَلْقَ شَخْصٍ في رَحِمٍ يُعْلِمُ سُبْحانَهُ المَلَكَ المُوَكَّلَ بِالرَّحِمِ بِما يُرِيدُ جَلَّ وعَلا، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««إنَّ اللَّهَ تَعالى وكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يا رَبِّ نُطْفَةٌ، يا رَبِّ عَلَقَةٌ، يا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإذا أرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قالَ: أذَكَرٌ أمْ أُنْثى؟ شَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ؟ فَما الرِّزْقُ والأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ في بَطْنِ أُمِّهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِذَلِكَ المَلَكُ، ومَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن خَلْقِهِ عَزَّ وجَلَّ»» وهَذا لا يُنافِي الِاخْتِصاصَ والِاسْتِئْثارَ بِعِلْمِ المَذْكُوراتِ بِناءً عَلى ما سَمِعْتَ مِنّا مِن أنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ سُبْحانَهُ بِهِ العِلْمُ الكامِلُ بِأحْوالِ كُلٍّ عَلى التَّفْصِيلِ، فَما يَعْلَمُ بِهِ المَلَكُ ويَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْضُ الخَواصِّ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ دُونَ ذَلِكَ العِلْمِ، بَلْ هو كَذَلِكَ في الواقِعِ بِلا شُبْهَةٍ، وقَدْ يُقالُ فِيما يَحْصُلُ لِلْأوْلِياءِ مِنَ العِلْمِ بِشَيْءٍ مِمّا ذُكِرَ إنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ يَقِينِيٍّ قالَ: عَلِيٌّ القارِي في شَرْحِ الشِّفا: الأوْلِياءُ وإنْ كانَ قَدْ يَنْكَشِفُ لَهم بَعْضُ الأشْياءِ، لَكِنْ عِلْمُهم لا يَكُونُ يَقِينِيًّا، وإلْهامُهم لا يُفِيدُ إلّا أمْرًا ظَنِّيًّا، ومِثْلُ هَذا عِنْدِي بَلْ هو دُونَهُ بِمَراحِلَ عِلْمُ النُّجُومِيِّ ونَحْوِهِ بِواسِطَةِ أماراتٍ عِنْدَهُ بِنُزُولِ الغَيْثِ، وذُكُورَةِ الحَمْلِ أوْ أُنُوثَتِهِ، أوْ نَحْوِ ذَلِكَ، ولا أرى كُفْرَ مَن يَدَّعِي مِثْلَ هَذا العِلْمِ، فَإنَّهُ ظَنٌّ عَنْ أمْرٍ عادِيٍّ، وقَدْ نَقَلَ العَسْقَلانِيُّ في فَتْحِ البارِي عَنِ القُرْطُبِيِّ أنَّهُ قالَ: مَنِ ادَّعى عِلْمَ شَيْءٍ مِنَ الخَمْسِ غَيْرَ مُسْنَدَةٍ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَ كاذِبًا في دَعْواهُ، وأمّا ظَنُّ الغَيْبِ فَقَدْ يَجُوزُ مِنَ المُنَجِّمِ، وغَيْرِهِ إذا كانَ عَنْ أمْرٍ عادِيٍّ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ، وعَلَيْهِ فَقَوْلُ القَسْطَلّانِيِّ: مَنِ ادَّعى عِلْمَ شَيْءٍ مِنها فَقَدْ كَفَرَ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ العِلْمُ فِيهِ عَلى نَحْوِ العِلْمِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ دُونَ مُطْلَقِ العِلْمِ الشّامِلِ لِلظَّنِّ، وما يُشْبِهُهُ، وبَعْدَ هَذا كُلِّهِ إنَّ أمْرَ السّاعَةِ أخْفى الأُمُورِ المَذْكُورَةِ، وإنَّ ما أطْلَعَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ نَبِيَّهُ ﷺ مِن وقْتِ قِيامِها في غايَةِ الإجْمالِ، وإنْ كانَ أتَمَّ مِن عِلْمِ غَيْرِهِ مِنَ البَشَرِ ﷺ. وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««بُعِثْتُ أنا والسّاعَةَ كَهاتَيْنِ»» لا يَدُلُّ عَلى أكْثَرِ مِنَ العِلْمِ الإجْمالِيِّ بِوَقْتِها، ولا أظُنُّ أنَّ خَواصَّ (p-113)المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أعْلَمُ مِنهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ، ويُؤَيِّدُ ظَنِّي ما رَواهُ الحُمَيْدِيُّ في نَوادِرِهِ بِالسَّنَدِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: سَألَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ عَنِ السّاعَةِ فانْتَفَضَ بِأجْنِحَتِهِ، وقالَ: ما المَسْؤُولُ بِأعْلَمَ مِنَ السّائِلِ، والمُرادُ التَّساوِي في العِلْمِ، بِأنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِها عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ، ويُرْشِدُ إلى العِلْمِ الإجْمالِيِّ بِها ذِكْرُ أشْراطِها كَما لا يَخْفى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى أطْلَعَ حَبِيبَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى وقْتِ قِيامِها عَلى وجْهٍ كامِلٍ، لَكِنْ لا عَلى وجْهٍ يُحاكِي عِلْمَهُ تَعالى بِهِ إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ أوْجَبَ عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَتْمَهُ لِحِكْمَةٍ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِن خَواصِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولَيْسَ عِنْدِي ما يُفِيدُ الجَزْمَ بِذَلِكَ، هَذا وخَصَّ سُبْحانَهُ المَكانَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ﴾ لِيُعْرَفَ الزَّمانُ مِن بابِ أوْلى، فَإنَّ الأوَّلَ في وُسْعِ النَّفْسِ في الجُمْلَةِ بِخِلافِ الثّانِي، وأخْرَجَ أحْمَدُ وجَماعَةٌ عَنْ أبِي غُرَّةَ الهُذَلِيِّ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا أرادَ اللَّهُ تَعالى قَبْضَ عَبْدٍ بِأرْضٍ جَعَلَ لَهُ إلَيْها حاجَةً، فَلَمْ يَنْتَهِ حَتّى يَقْدَمَها، ثُمَّ قَرَأ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ)»» وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، عَنْ خَيْثَمَةَ أنَّ مَلَكَ المَوْتِ مَرَّ عَلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلى رَجُلٍ مِن جُلَسائِهِ يُدِيمُ النَّظَرَ إلَيْهِ، فَقالَ الرَّجُلُ: مَن هَذا؟ قالَ: مَلَكُ المَوْتِ، فَقالَ: كَأنَّهُ يُرِيدُنِي، فَمُرِ الرِّيحَ أنْ تَحْمِلَنِي وتُلْقِيَنِي بِالهِنْدِ، فَفَعَلَ، فَقالَ المَلَكُ: كانَ دَوامُ نَظَرِي إلَيْهِ تَعَجُّبًا مِنهُ، إذْ أُمِرْتُ أنْ أقْبِضَ رُوحَهُ بِالهِنْدِ، وهو عِنْدَكَ. ( وتَدْرِي ) في المَوْضِعَيْنِ مُعَلَّقَةٌ، فالجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ماذا تَكْسِبُ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ماذا كُلُّها مَوْصُولًا مَنصُوبَ المَحَلِّ (بِتَدْرِي) كَأنَّهُ قِيلَ: وما تَدْرِي نَفْسٌ الشَّيْءَ الَّذِي تَكْسِبُهُ غَدًا، ( وبِأيِّ ) مُتَعَلِّقٌ (بِتَمُوتُ)، والباءُ ظَرْفِيَّةٌ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ (بِتَدْرِي). وقَرَأ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ «يُنْزِلُ» مِنَ الإنْزالِ، وقَرَأ مُوسى الأسْوارِيُّ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ «بِأيَّةِ أرْضٍ» بِتاءِ التَّأْنِيثِ لِإضافَتِها إلى المُؤَنَّثِ، وهي لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِيها، كَما أنَّ كُلّا إذا أُضِيفَتْ إلى مُؤَنَّثٍ قَدْ تُؤَنَّثُ نادِرًا فَيُقالُ: كُلَّتُهُنَّ فَعَلْنَ ذَلِكَ، فَلْيُعْلَمْ، واللَّهُ عَزَّ جَلَّ أعْلَمُ. ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ مُبالِغٌ في العِلْمِ، فَلا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ، ﴿خَبِيرٌ﴾ يَعْلَمُ بَواطِنَها كَما يَعْلَمُ ظَواهِرَها، فالجَمْعُ بَيْنَ الوَصْفَيْنِ لِلْإشارَةِ إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ عِلْمِ الظّاهِرِ والباطِنِ عِنْدَهُ عَزَّ وجَلَّ، والجُمْلَةُ عَلى ما قِيلَ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِما ذُكِرَ، وقِيلَ: جَوابُ سُؤالٍ نَشَأ مِن نَفْيِ دِرايَةِ الأنْفُسِ ماذا تَكْسِبُ غَدًا، وبِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَمَن يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وهو جَوابٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَعْلَمُ ذَلِكَ وزِيادَةً، ولا يَخْفى أنَّهُ إذا كانَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مِن تَتِمَّةِ الجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَها كانَتْ دِلالَةُ الكَلامِ عَلى انْحِصارِ العِلْمِ بِالأمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ نُفِيَ العِلْمُ بِهِما عَنْ كُلِّ نَفْسٍ ظاهِرَةٍ جَدًّا، فَتَأمَّلْ ذاكَ، واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَتَوَلّى هُداكَ. * * * (ومِن بابِ الإشارَةِ في السُّورَةِ الكَرِيمَةِ): ﴿الم﴾ إشارَةٌ إلى آلائِهِ تَعالى ولُطْفِهِ جَلَّ شَأْنُهُ ومَجْدِهِ عَزَّ وجَلَّ، ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ بِحُضُورِ القَلْبِ والإعْراضِ عَنِ السِّوى، وهي صَلاةُ خَواصِّ الخَواصِّ، وأمّا صَلاةُ الخَواصِّ فَبِنَفْيِ الخَطَراتِ الرَّدِيَّةِ، والإراداتِ الدُّنْيَوِيَّةِ ولا يَضُرُّ فِيها طَلَبُ الجَنَّةِ ونَحْوُهُ، وأمّا صَلاةُ العَوامِّ فَما يَفْعَلُهُ أكْثَرُ النّاسِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، ﴿ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ بِبَذْلِ الوُجُودِ لِلْمَلِكِ المَعْبُودِ لِنَيْلِ المَقْصُودِ، وهي زَكاةُ الأخَصِّ، وزَكاةُ الخاصَّةِ بِبَذْلِ المالِ كُلِّهِ لِتَصْفِيَةِ قُلُوبِهِمْ عَنْ صَدَإ مَحَبَّةِ الدُّنْيا، وزَكاةُ العامَّةِ بِبَذْلِ القَدْرِ المَعْرُوفِ مِنَ المالِ المَعْلُومِ عَلى الوَجْهِ المَشْرُوعِ المَشْهُورِ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ عَنْ نَجاسَةِ البُخْلِ، ﴿ومِنَ (p-114)النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ هو ما يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ تَعالى ذِكْرُهُ، ويَحْجُبُ عَنْهُ عَزَّ وجَلَّ اسْتِماعُهُ، وأمّا الغِناءُ فَهو عِنْدَ كَثِيرٍ مِنهم أقْسامٌ مِنها ما هو مِن لَهْوِ الحَدِيثِ، ونَقَلَ بَعْضُهم عَنِ الجُنَيْدِ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّهُ قالَ: السَّماعُ عَلى أهْلِ النُّفُوسِ حَرامٌ لِبَقاءِ نُفُوسِهِمْ، وعَلى أهْلِ القُلُوبِ مُباحٌ لِوُفُورِ عُلُومِهِمْ، وصَفاءِ قُلُوبِهِمْ، وعَلى أصْحابِنا واجِبٌ لِفَناءِ حُظُوظِهِمْ، وعَنْ أبِي بَكْرٍ الكِنانِيِّ: سَماعُ العَوامِّ عَلى مُتابَعَةِ الطَّبْعِ، وسَماعُ المُرِيدِينَ رَغْبَةٌ ورَهْبَةٌ، وسَماعُ الأوْلِياءِ رُؤْيَةُ الآلاءِ والنِّعَمِ، وسَماعُ العارِفِينَ عَلى المُشاهَدَةِ، وسَماعُ أهْلِ الحَقِيقَةِ عَلى الكَشْفِ والعِيانِ، ولِكُلٍّ مِن هَؤُلاءِ مَصْدَرٌ ومَقامٌ، وذَكَرُوا أنَّ مِنَ القَوْمِ مَن يَسْمَعُ في اللَّهِ ولِلَّهِ وبِاللَّهِ، ومِنَ اللَّهِ جَلَّ وعَلا، ولا يَسْمَعُ بِالسَّمْعِ الإنْسانِيِّ بَلْ يَسْمَعُ بِالسَّمْعِ الرَّبّانِيِّ كَما في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: ««كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ»» وقالُوا: إنَّما حُرِّمَ اللَّهْوُ لِكَوْنِهِ لَهْوًا، فَمَن لا يَكُونُ لَهْوًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، إذْ عِلَّةُ الحُرْمَةِ في حَقِّهِ مُنْتَفِيَةٌ، والحُكْمُ يَدُورُ مَعَ العِلَّةِ وُجُودًا وعَدَمًا، ويَلْزَمُهُمُ القَوْلُ بِحِلِّ شُرْبِ المُسْكِرِ لِمَن لا يُسْكِرُهُ، لا سِيَّما لِمَن يَزِيدُهُ نَشاطًا لِلْعِبادَةِ مَعَ ذَلِكَ، ومِن زَنادِقَةِ القَلَنْدَرِيَّةِ مَن يَقُولُ بِحِلِّ الخَمْرِ والحَشِيشَةِ ونَحْوِها مِنَ المُسْكِراتِ المُحَرَّمَةِ بِلا خِلافٍ، زاعِمِينَ أنَّ اسْتِعْمالَ ذَلِكَ يَفْتَحُ عَلَيْهِمْ أبْوابَ الكُشُوفِ، وبَعْضُ الجَهَلَةِ الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطانُ يَطْلُبُونَ مِنهُمُ المَدَدَ في ذَلِكَ الحالِ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى أنّى يُؤْفَكُونَ، ﴿ولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ﴾ قِيلَ: هي إدْراكُ خِطابِ الحَقِّ بِوَصْفِ الإلْهامِ، وذَكَرُوا أنَّ الحِكْمَةَ مَوْهِبَةُ الأوْلِياءِ كَما أنَّ الوَحْيَ مَوْهِبَةُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَكُلٌّ لَيْسَ بِكَسْبِيٍّ إلّا أنَّ لِلْكَسْبِ مَدْخَلًا ما في الحِكْمَةِ. فَقَدْ ورَدَ: ««مَن أخْلَصَ لِلَّهِ تَعالى أرْبَعِينَ صَباحًا تَفَجَّرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ مِن قَلْبِهِ»» والحِكْمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الفَلاسِفَةُ أنَّها حِكْمَةٌ لَيْسَتْ بِحِكْمَةٍ، إذْ هي مِن نَتائِجِ الفِكْرِ، ويُؤْتاها المُؤْمِنُ والكافِرُ، وقَلَّما تَسْلَمُ مِن شَوائِبِ آفاتِ الوَهْمِ، ولِهَذا وقَعَ الِاخْتِلافُ العَظِيمُ بَيْنَ أهْلِها، وعَدَّها بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِن لَهْوِ الحَدِيثِ، ولَمْ يَبْعُدْ في ذَلِكَ عَنِ الصَّوابِ، وأشارَتْ قِصَّةُ لُقْمانَ إلى التَّوْحِيدِ، ومَقامِ جَمْعِ الجَمْعِ، وعَيْنِ الجَمْعِ، واتِّباعِ سَبِيلِ الكامِلِينَ، والإعْراضِ عَنِ السِّوى، وتَكْمِيلِ الغَيْرِ، والصَّبْرِ عَلى الشَّدائِدِ، والتَّواضُعِ لِلنّاسِ، وحُسْنِ المُماشاةِ، والمُعامَلَةِ والسِّيرَةِ، وتَرْكِ التَّماوُتِ في المَشْيِ، وتَرْكِ رَفْعِ الصَّوْتِ، وقِيلَ: ( الحَمِيرُ ) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ أنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾ هُمُ الصُّوفِيَّةُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِلِسانِ المَعْرِفَةِ قَبْلَ أنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ، وطَبَّقَ بَعْضُهم جَمِيعَ ما في القِصَّةِ عَلى ما في الأنْفُسِ، ﴿وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً )،﴾ قالَ الجُنَيْدُ: النِّعَمُ الظّاهِرَةُ حُسْنُ الأخْلاقِ والنِّعَمُ الباطِنَةُ أنْواعُ المَعارِفِ، وقِيلَ: عَلى قِراءَةِ النِّعْمَةِ الظّاهِرَةِ اتِّباعُ ظاهِرِ العِلْمِ، والباطِنَةُ طَلَبُ الحَقِيقَةِ في الِاتِّباعِ، وقِيلَ: النِّعْمَةُ الظّاهِرَةُ بِلا زَلَّةٍ، والباطِنَةُ قَلْبٌ بِلا غَفْلَةٍ. ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ يُشِيرُ إلى أهْلِ الجَدَلِ مِنَ الفَلاسِفَةِ فَإنَّهم يُجادِلُونَ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى، وصِفاتِهِ عَزَّ وجَلَّ كَذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، لِأنَّهم لا يَعْتَبِرُونَ كَلامَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ مِنَ السَّماءِ، وأكْثَرُ عُلُومِهِمْ مَشُوبٌ بِآفَةِ الوَهْمِ، ومَعَ هَذا فَشُؤُونُ اللَّهِ جَلَّ وعَلا طَوْرُ ما وراءَ طَوْرِ العَقْلِ: ؎هَيْهاتَ أنْ تَصْطادَ عَنْقاءُ البَقا بِلُعابِهِنَّ عَناكِبَ الأفْكارِ وأبْعَدُ مِن مُحَدَّبِ الفَلَكِ التّاسِعِ حُصُولُ عِلْمٍ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وبِصِفاتِهِ جَلَّ شَأْنُهُ يُعْتَدُّ بِهِ، بِدُونِ نُورٍ إلَهِيٍّ يَسْتَضِيءُ العَقْلُ بِهِ، وعُقُولُهم في ظُلُماتٍ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وقَدْ سُدَّتْ أبْوابِ الوُصُولِ إلّا عَلى مُتَّبِعٍ لِلرَّسُولِ ﷺ، قالَ بَعْضُهم مُخاطِبًا لِحَضْرَةِ صاحِبِ الرِّسالَةِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ؎وأنْتَ بابُ اللَّهِ أيُّ امْرِئٍ ∗∗∗ أتاهُ مِن غَيْرِكَ لا يَدْخُلُ (p-115)﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأنَّ اللَّهَ هو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ تَمامٌ، وفَوْقَ التَّمامِ، والمُرادُ بِالأوَّلِ مَن حَصَلَ لَهُ كُلُّ ما جازَ لَهُ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ( هو الحَقُّ )، والمُرادُ بِالثّانِي مَن حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ، وحَصَلَ لِما عَداهُ ما جازَ لَهُ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ( هو العَلِيُّ الكَبِيرُ )، ووَراءَ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ ناقِصٌ، وهو ما لَيْسَ لَهُ ما يَنْبَغِي، كالصَّبِيِّ، والمَرِيضِ، والأعْمىِ، ومُكْتَفٍ، وهو مَن أعْطى ما تَنْدَفِعُ بِهِ حاجَتُهُ في وقْتِهِ، كالإنْسانِ الَّذِي لَهُ مِنَ الآلاتِ ما تَنْدَفِعُ بِهِ حاجَتُهُ في وقْتِهِ، ولَكِنَّها في مَعْرِضِ التَّحَلُّلِ، والزَّوالِ. ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ الآيَةَ، ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ حِكاياتٍ عَنِ الأوْلِياءِ مُتَضَمِّنَةً لِإطْلاعِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم عَلى ما عَدا عِلْمَ السّاعَةِ مِنَ الخَمْسِ، وقَدْ عَلِمْتَ الكَلامَ في ذَلِكَ، وأغْرَبُ ما رَأيْتُ ما ذَكَرَهُ الشَّعْرانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ كانَ يَبِيعُ المَطَرَ فَيُمْطِرُ عَلى أرْضِ مَن يَشْتَرِي مِنهُ مَتى شاءَ، ومَن لَهُ عَقْلٌ مُسْتَقِيمٌ لا يَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الحِكايَةِ، وكَمْ لِلْقُصّاصِ أمْثالُها مِن رِوايَةٍ، نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَحْفَظَنا، وإيّاكم مِنَ اعْتِقادِ خُرافاتٍ لا أصْلَ لَها، وهو سُبْحانَهُ ولِيُّ العِصْمَةِ والتَّوْفِيقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب