الباحث القرآني

(p-١٤٤)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ وما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ يَقُولُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى نَفى عِلْمَ أُمُورٍ خَمْسَةٍ بِهَذِهِ الآيَةِ عَنْ غَيْرِهِ، وهو كَذَلِكَ، لَكِنَّ المَقْصُودَ لَيْسَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الجَوْهَرَ الفَرْدَ الَّذِي كانَ في كَثِيبِ رَمْلٍ في زَمانِ الطُّوفانِ، ونَقَلَهُ الرِّيحُ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ كَمْ مَرَّةٍ، ويَعْلَمُ أنَّهُ أيْنَ هو ولا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، ولِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّهُ يُوجَدُ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِينَ ذَرَّةٌ في بَرِّيَّةٍ لا يَسْلُكُها أحَدٌ ولا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَلا وجْهَ لِاخْتِصاصِ هَذِهِ الأشْياءِ بِالذِّكْرِ، وإنَّما الحَقُّ فِيهِ أنْ نَقُولَ لَمّا قالَ اللَّهُ: ﴿واخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ ولَدِهِ﴾ وذَكَرَ أنَّهُ كائِنٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ كَأنَّ قائِلًا قالَ: فَمَتى يَكُونُ هَذا اليَوْمُ ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّ هَذا العِلْمَ مِمّا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ اللَّهِ، ولَكِنْ هو كائِنٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْناهُما مِرارًا عَلى البَعْثِ، أحَدُهُما: إحْياءُ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنْ كانُوا مِن قَبْلِ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ ﴿فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتى﴾ [الروم: ٥٠] وقالَ تَعالى: ﴿ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ وقالَ هَهُنا: يا أيُّها السّائِلُ إنَّكَ لا تَعْلَمُ وقْتَها ولَكِنَّها كائِنَةٌ، واللَّهُ قادِرٌ عَلَيْها كَما هو قادِرٌ عَلى إحْياءِ الأرْضِ حَيْثُ قالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ وقالَ: ﴿يُحْيِي الأرْضَ﴾ . وثانِيهِما: الخَلْقُ ابْتِداءً كَما قالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: ٢٧] وقالَ تَعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأةَ الآخِرَةَ﴾ [العنكبوت: ٢٠] إلى غَيْرِ ذَلِكَ فَقالَ هَهُنا ﴿ويَعْلَمُ ما في الأرْحامِ﴾ إشارَةً إلى أنَّ السّاعَةَ وإنْ كُنْتَ لا تَعْلَمُها لَكِنَّها كائِنَةٌ، واللَّهُ قادِرٌ عَلَيْها، وكَما هو قادِرٌ عَلى الخَلْقِ في الأرْحامِ كَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلى الخَلْقِ مِنَ الرُّخامِ، ثُمَّ قالَ لِذَلِكَ الطّالِبِ عِلْمَهُ: يا أيُّها السّائِلُ إنَّكَ تَسْألُ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها، فَلَكَ أشْياءُ أهَمُّ مِنها لا تَعْلَمُها، فَإنَّكَ لا تَعْلَمُ مَعاشَكَ ومَعادَكَ، ولا تَعْلَمُ ماذا تَكْسِبُ غَدًا مَعَ أنَّهُ فِعْلُكَ وزَمانُكَ، ولا تَعْلَمُ أيْنَ تَمُوتُ مَعَ أنَّهُ شُغْلُكَ ومَكانُكَ، فَكَيْفَ تَعْلَمُ قِيامَ السّاعَةِ مَتى تَكُونُ، فاللَّهُ ما أعْلَمَكَ كَسْبَ غَدِكَ مَعَ أنَّ لَكَ فِيهِ فَوائِدَ تُبْنى عَلَيْها الأُمُورُ مِن يَوْمِكَ، ولا أعْلَمَكَ أيْنَ تَمُوتُ، مَعَ أنَّ لَكَ فِيهِ أغْراضًا تُهَيِّئُ أُمُورَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ العِلْمِ، وإنَّما لَمْ يُعْلِمْكَ لِكَيْ تَكُونَ في وقْتٍ بِسَبَبِ الرِّزْقِ راجِعًا إلى اللَّهِ تَعالى مُتَوَكِّلًا عَلى اللَّهِ، ولا أعْلَمَكَ الأرْضَ الَّتِي تَمُوتُ فِيها كَيْ لا تَأْمَنَ المَوْتَ، وأنْتَ في غَيْرِها، فَإذا لَمْ يُعْلِمْكَ ما تَحْتاجُ إلَيْهِ كَيْفَ يُعْلِمُكَ ما لا حاجَةَ لَكَ إلَيْهِ، وهي السّاعَةُ ؟ ! وإنَّما الحاجَةُ إلى العِلْمِ بِأنَّها تَكُونُ، وقَدْ أُعْلِمْتَ مِنَ اللَّهِ عَلى لِسانِ أنْبِيائِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ لَمّا خَصَّصَ أوَّلًا عِلْمَهُ بِالأشْياءِ المَذْكُورَةِ، بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ ذَكَرَ أنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِها، بَلْ هو عَلِيمٌ مُطْلَقًا بِكُلِّ شَيْءٍ، ولَيْسَ عِلْمُهُ عِلْمًا بِظاهِرِ الأشْياءِ فَحَسْبُ، بَلْ خَبِيرٌ عِلْمُهُ واصِلٌ إلى بَواطِنِ الأشْياءِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب