الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ" [[راجع ج ٧ ص ٢٢٨ و "نشرا" بالنون قراءة نافع.]] مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً﴾. فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَاءً طَهُوراً﴾ يُتَطَهَّرُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: وَضُوءٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ. وَكُلُّ طَهُورٍ طَاهِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ طَهُورًا. فَالطَّهُورُ (بِفَتْحِ الطَّاءِ) الِاسْمُ. وَكَذَلِكَ الْوَضُوءُ وَالْوَقُودُ. وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الطَّهُورَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ فِي طَاهِرٍ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ طاهرا مطهرا. وإلى هذا ذهب الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: إِنَّ "طَهُوراً" بِمَعْنَى طَاهِرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً" يعنى طاهرا. وَيَقُولُ الشَّاعِرُ: خَلِيلَيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فُجُورُ إِلَى رُجَّحِ الْأَكْفَالِ غِيدٍ [[في ابن العربي واللسان مادة رجح": إلى رجح الأكفال هيف خصورها وامرأة رجاح وراجح، ثقيلة العجيزة، من نسوة رجح.]] مِنَ الظِّبَا عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ وَلَيْسَ بمطهر. وتقول العرب: رجل نؤوم وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنِيمٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ نَفْسِهِ. وَلَقَدْ أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا فَقَالُوا: وَصْفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ عَنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ وَعَنْ خَسَائِسِ الصِّفَاتِ كَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ، فَإِذَا شَرِبُوا هَذَا الشَّرَابَ يُطَهِّرُهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْضِ الذُّنُوبِ وَأَوْضَارِ الِاعْتِقَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، فَجَاءُوا اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِصِفَاتِ التَّسْلِيمِ، وَقِيلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ: "سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ". وَلَمَّا كَانَ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا بِزَوَالِ حُكْمِ الْحَدَثِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَانَتْ تِلْكَ حِكْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: ... رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَإِنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ لِعُذُوبَتِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْمُحِبِّ بِرَشْفِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشِّعْرِيَّةِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَجَاوَزُونَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَدَّ الصِّدْقِ إِلَى الْكَذِبِ، وَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَرُبَّمَا وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَلَوْ لَمْ تُلَامِسْ صَفْحَةُ الْأَرْضِ رِجْلَهَا لَمَا كُنْتُ أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ وَهَذَا كُفْرٌ صُرَاحٌ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مُنْتَهَى لُبَابِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ، إِلَّا أَنِّي تَأَمَّلْتُ مِنْ طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ فوجدت فيه مَطْلَعًا مُشْرِقًا، وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ فَعُولٍ لِلْمُبَالَغَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا [[هذا صدر بيت من قصيدة لابي طالب بن عبد المطلب يمدح بها مسافر بن عمر والقرشي، وتمامه. إذا عدموا زادا فإنك عاقر]] وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ كما قال الشاعر: نؤوم الضحا لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلٍ [[هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس، وصدره: ويضحى فنيت المسك فوق فراشها والانتطاق: الائتزاز للعمل. والتفضل: التوشح، وهو لبسها أدنى ثيابها.]] وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ طَهُورِيَّةُ الماء لغيره من الحسن نَظَافَةً وَمِنَ الشَّرْعِ طَهَارَةً، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ". وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ طَهُورٍ يختص بالماء ولا يَتَعَدَّى إِلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهِّرُ، وَقَدْ يَأْتِي فَعُولٌ لِوَجْهٍ آخَرَ لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَهُوَ العبارة به الْآلَةِ لِلْفِعْلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِنَا: وَقُودٌ وَسَحُورٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْحَطَبِ والطعم الْمُتَسَحَّرُ بِهِ، فَوَصْفُ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ (بِفَتْحِ الطَّاءِ) أَيْضًا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْآلَةِ الَّتِي يُتَطَهَّرُ بِهَا. فَإِذَا ضُمَّتِ الْفَاءُ فِي الْوَقُودِ وَالسَّحُورِ وَالطَّهُورِ عَادَ إِلَى الْفِعْلِ وَكَانَ خَبَرًا عَنْهُ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْفَعُولِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) يَكُونُ بِنَاءً لِلْمُبَالَغَةِ وَيَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْآلَةِ، وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنْ قَصُرَتْ أَشْدَاقُهَا عَنْ لَوْكِهِ، وَبَعْدَ هَذَا يَقِفُ الْبَيَانُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ وَعَنِ الْآلَةِ عَلَى الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً". وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" يَحْتَمِلُ الْمُبَالَغَةَ وَيَحْتَمِلُ الْعِبَارَةَ بِهِ عَنِ الْآلَةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِعُلَمَائِنَا، لَكِنْ يَبْقَى قول: "لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" نص فِي أَنَّ فِعْلَهُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ- الْمِيَاهُ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْمُودَعَةُ فِي الْأَرْضِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَأَرْيَاحِهَا حَتَّى يُخَالِطَهَا غَيْرُهَا، وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب: ضرب يوافقه فِي صِفَتَيْهِ جَمِيعًا، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيَّرَهُ لَمْ يَسْلُبْهُ وَصْفًا مِنْهُمَا لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمَا وَهُوَ التُّرَابُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي يُوَافِقُهُ فِي إِحْدَى صِفَتَيْهِ وَهِيَ الطَّهَارَةُ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيَّرَهُ سَلَبَهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ وَهُوَ التَّطْهِيرُ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيَّرَهُ سَلَبَهُ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا وَهُوَ النَّجَسُ. الثَّالِثَةُ- ذَهَبَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُفْسِدُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ، وَأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يُفْسِدُهُ إِلَّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلَمْ يَحُدُّوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَدًّا يُوقَفُ عِنْدَهُ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ رَوَى عَنْ مَالِكٍ فِي الْجُنُبِ يَغْتَسِلُ فِي حَوْضٍ مِنَ الْحِيَاضِ الَّتِي تُسْقَى فِيهَا الدَّوَابُّ وَلَمْ يَكُنْ غَسَلَ مَا بِهِ مِنَ الْأَذَى أَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ الْمَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ. إِلَّا ابْنَ وَهْبٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي الْمَاءِ بِقَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُمْ مَا حَكَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُمْ وَعَنْهُ: أَنَّ الْمَاءَ لَا تُفْسِدُهُ النَّجَاسَةُ الْحَالَّةُ فِيهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ فيه النجاسة وَتُغَيِّرَ مِنْهُ طَعْمًا أَوْ رِيحًا أَوْ لَوْنًا. وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَدِّلِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْمَاءِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْرٍ وَأَبُو الْفَرَجِ الْأَبْهَرِيُّ وَسَائِرُ الْمُنْتَحِلِينَ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ وَجَيِّدِ الْأَثَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَتْهُ كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا إِذَا تَحَقَّقَتْ عُمُومُ النَّجَاسَةِ فِيهِ. وَوَجْهُ تَحَقُّقِهَا عِنْدَهُ أَنْ تَقَعَ مَثَلًا نُقْطَةُ بَوْلٍ فِي بِرْكَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْبِرْكَةُ يَتَحَرَّكُ طَرَفَاهَا بِتَحَرُّكِ أَحَدِهِمَا فَالْكُلُّ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا تُحَرِّكُ الْآخَرَ لَمْ يَنْجُسْ. وَفِي الْمَجْمُوعَةِ نَحْوَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَطْعُونٌ فِيهِ، اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَخَاصَّةً الدَّارَقُطْنِيَّ، فَإِنَّهُ صَدَّرَ بِهِ كِتَابَهُ وَجَمَعَ طُرُقَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ رَامَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى إِمَامَتِهِ أَنْ يُصَحِّحَ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَقْدِرْ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فَمَذْهَبٌ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأَثَرِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ، وَلِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَةِ مَبْلَغِهِمَا فِي أَثَرٍ ثَابِتٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَازِمًا لَوَجَبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْبَحْثُ عَنْهُ لِيَقِفُوا عَلَى حَدِّ مَا حَدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَفَرْضِهِمْ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا ضَيَّعُوهُ، فَلَقَدْ بَحَثُوا عَمَّا هُوَ أَدْوَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَلْطَفُ. قُلْتُ: وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الخلاف يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّوْقِيفِ فِيهِمَا وَالتَّحْدِيدِ. وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: الْقِلَالُ الْخَوَابِي الْعِظَامُ. وَعَاصِمٌ هَذَا هُوَ أَحَدُ رُوَاةِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ. وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، لِسِيَاقِهِ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "لَمَّا رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ [[بئر بضاعة: بئر بالمدينة. ويقال إن بضاعة اسم المرأة نسبت إليها البئر.]]، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ أَيْضًا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا قَدَمَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ فَاوَضْتُ الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِنَّ أَخْلَصَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، إِذْ لَا حَدِيثَ فِي الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً﴾ وهو ماء بصفاته، فإذا تغير عن شي مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الِاسْمِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الصِّفَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجِدِ الْبُخَارِيُّ إِمَامُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي الْبَابِ خَبَرًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَالَ: (بَابُ إِذَا تَغَيَّرَ وَصْفُ الْمَاءِ) وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ:" مَا مِنْ أَحَدٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ [[يثعب: يجري.]] دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ". فَأَخْبَرَ ﷺ أَنَّ الدَّمَ بِحَالِهِ وَعَلَيْهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ الرَّائِحَةُ عَنْ صِفَةِ الدَّمَوِيَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفِهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ مِنْهُ. وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وُضِعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسًا لَهُ للمخالطة والاولى مجاورة لا تعويل عليها. قُلْتُ: وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِهِ. وَوَجْهُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الدَّمَ لَمَّا اسْتَحَالَتْ رَائِحَتُهُ إِلَى رَائِحَةِ الْمِسْكِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَخْبَثًا نَجِسًا، وَأَنَّهُ صَارَ مِسْكًا، وَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ. فَكَذَلِكَ الْمَاءُ إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ. وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي الْمَاءِ. وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: جَعَلُوا الْحُكْمَ لِلرَّائِحَةِ دُونَ اللَّوْنِ، فَكَانَ الْحُكْمُ لَهَا فَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا فِي زَعْمِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَهَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَا فِي الدَّمِ مَعْنَى الْمَاءِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِمِثْلِ هَذَا الْفُقَهَاءُ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ اللَّغْزُ بِهِ وَإِشْكَالُهُ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ إِيضَاحُهُ وَبَيَانُهُ، وَلِذَلِكَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ، وَالْمَاءُ لَا يَخْلُو تَغَيُّرُهُ بِنَجَاسَةٍ أَوْ بِغَيْرِ نَجَاسَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِنَجَاسَةٍ وَتَغَيَّرَ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ طَاهِرٍ وَلَا مُطَهِّرٍ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ بِغَيْرِ نَجَاسَةٍ أَنَّهُ طَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَغَيُّرُهُ من تربة وحمأة. وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا الْتِبَاسَ مَعَهُ. الرَّابِعَةُ- الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِقَرَارِهِ كَزِرْنِيخٍ أَوْ جِيرٍ يَجْرِي عَلَيْهِ، أَوْ تَغَيَّرَ بِطُحْلُبٍ أَوْ وَرَقِ شَجَرٍ يَنْبُتُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوُضُوءِ بِهِ، لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ وَالِانْفِكَاكِ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ. الْخَامِسَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَيُكْرَهُ سُؤْرُ النَّصْرَانِيِّ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَالْمُدْمِنِ الْخَمْرَ، وَمَا أَكَلَ الْجِيَفَ، كَالْكِلَابِ وَغَيْرِهَا. وَمَنْ تَوَضَّأَ بسؤرهم فلا شي عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ النَّجَاسَةَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ. ذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثُونَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كُنَّا بِالشَّامِ أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهَذَا الْمَاءِ؟ مَا رَأَيْتُ مَاءً عَذْبًا وَلَا مَاءَ سَمَاءٍ أَطْيَبَ مِنْهُ. قَالَ قُلْتُ: جِئْتُ بِهِ مِنْ بَيْتِ هَذِهِ الْعَجُوزِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ أَتَاهَا فَقَالَ: أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ أَسْلِمِي تَسْلَمِي، بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْحَقِّ. قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا، فَإِذَا مِثْلُ الثَّغَامَةِ [[الثغامة: نبات أبيض الثمر والزهر يشبه بياض الشيب به.]]، فَقَالَتْ: عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَإِنَّمَا أَمُوتُ الْآنَ! فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ .. فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ أَتَاهَا فَقَالَ: أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ أَسْلِمِي ... ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ- فَأَمَّا الْكَلْبُ إِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ مَالِكٌ: يُغْسَلُ الْإِنَاءُ سَبْعًا وَلَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُتَوَضَّأُ بذلك الماء ويتمم معه. وهو قول عبد الملك ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْكَلْبُ نَجِسٌ وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْهُ لِأَنَّهُ نَجِسٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْكِلَابِ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ مِنْهَا فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ. وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ لَا يُنَجِّسُ وُلُوغُهُ شَيْئًا وَلَغَ فِيهِ طَعَامًا وَلَا غَيْرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحَبَّ هِرَاقَةَ مَا وَلَغَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ لِيَسَارَةِ مُؤْنَتِهِ. وَكَلْبُ الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ سَوَاءٌ. وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَبْعًا تَعَبُّدًا. هَذَا مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ عِنْدَ المناظرين من أصحابه. ذكر ابن وهب وقال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي تَكُونُ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْكِلَابَ وَالسِّبَاعَ ترد عليها. فقال: "لا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَهَذَا نَصٌّ فِي طَهَارَةِ الْكِلَابِ وَطَهَارَةِ مَا تَلِغُ فِيهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ الَّذِي سَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السِّبَاعِ، وَالْكَلْبُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَلَا حُجَّةَ لِلْمُخَالِفِ فِي الْأَمْرِ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ التَّنَزُّهَ مِنَ الْأَقْذَارِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، أَوْ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن، فلما لم ينتهوا ذَلِكَ غُلِّظَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَاءِ لِقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ فِي الْبَادِيَةِ، حَتَّى يَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فَيَمْتَنِعُوا مِنَ اقْتِنَائِهَا. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ فَعِبَادَةٌ لَا لِنَجَاسَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْغَسْلَ قد دخله العدد. الثاني- أنه قد جُعِلَ لِلتُّرَابِ فِيهِ مَدْخَلٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ". وَلَوْ كَانَ لِلنَّجَاسَةِ لَمَا كَانَ لِلْعَدَدِ وَلَا لِلتُّرَابِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَالْبَوْلِ. وَقَدْ جَعَلَ ﷺ الْهِرَّ وَمَا وَلَغَ فِيهِ طَاهِرًا، وَالْهِرُّ سَبُعٌ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَفْتَرِسُ وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، فَكَذَلِكَ الْكَلْبُ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنَ السِّبَاعِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ نَصُّ ذَلِكَ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ نَصًّا فِي الْآخَرِ. وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا النَّصَّ عَلَى طَهَارَتِهِ فَسَقَطَ قَوْلُ الْمُخَالِفِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. السَّابِعَةُ- مَا مَاتَ فِي الْمَاءِ مِمَّا لَا دَمَ لَهُ فَلَا يَضُرُّ الْمَاءَ إِنْ لَمْ يُغَيِّرْ رِيحَهُ، فَإِنْ أَنْتَنَ لَمْ يُتَوَضَّأْ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ كَالْحُوتِ وَالضُّفْدَعِ لَمْ يُفْسِدْ ذَلِكَ الْمَاءَ مَوْتُهُ فِيهِ، إِلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ رَائِحَتُهُ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ وَأَنْتَنَ لَمْ يَجُزِ التَّطَهُّرُ بِهِ وَلَا الْوُضُوءُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَمَّا مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَمَاتَ فِي الْمَاءِ وَنُزِحَ مَكَانُهُ وَلَمْ يُغَيِّرْ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيْحَهُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا عِنْدَ الْمَدَنِيِّينَ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يُنْزَحْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ دِلَاءٌ لِتَطِيبَ النَّفْسُ بِهِ، وَلَا يَحُدُّونَ فِي ذَلِكَ حَدًّا لَا يُتَعَدَّى. وَيَكْرَهُونَ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ الْمَاءِ قَبْلَ نَزْحِ الدِّلَاءِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ أَحَدٌ فِي غُسْلٍ أَوْ وُضُوءٍ جَازَ إِذَا كَانَتْ حَالُهُ مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ يَرَى لِمَنْ تَوَضَّأَ بِهَذَا الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَنْ يَتَيَمَّمَ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الطَّهَارَتَيْنِ احْتِيَاطًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَصَلَّى بِذَلِكَ الْمَاءِ أَجْزَأَهُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ- يَعْنِي فَمَاتَ- فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأُخْرِجَ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنْزَحَ. قَالَ: فَغَلَبَتْهُمْ عَيْنٌ جَاءَتْهُمْ من الرُّكْنِ فَأَمَرَ بِهَا فَدُسِمَتْ بِالْقُبَاطِيِّ [[دسم الشيء يدسمه دسما: سده. والقباطي (بالضم): ثياب من كتان رقيق يعمل بمصر، نسبة إلى القبط على غير قياس. والمطارف: جمع مطرف، وهو رداء من خز مربع ذو أعلام.]] وَالْمَطَارِفِ حَتَّى نَزَحُوهَا، فَلَمَّا نَزَحُوهَا انْفَجَرَتْ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ غُلَامًا وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ فَنُزِحَتْ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ تَغَيَّرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى. شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كُلُّ نَفْسٍ سَائِلَةٍ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا، وَلَكِنْ رُخِّصَ فِي الْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ وَالْجَرَادِ وَالْجُدْجُدِ [[الجدجد كهدهد طوير شبه الجرادة.]] إِذَا وَقَعْنَ فِي الرِّكَاءِ [[الركاء (جمع ركوة): إباء صغير من جلد يشرب فيه الماء.]] فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَأَظُنُّهُ قَدْ ذَكَرَ الْوَزَغَةَ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ... ، فَذَكَرَهُ. الثَّامِنَةُ- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَسَائِرُ التَّابِعِينَ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ أَنَّ مَا وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ مِنَ الْمَاءِ طَاهِرٌ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِسُؤْرِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ خِلَافٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بن أبي رباح وسعيد ابن الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِإِرَاقَةِ مَاءٍ وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ وَغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ كون الْحَسَنُ رَأَى فِي فَمِهِ نَجَاسَةً لِيَصِحَّ مَخْرَجُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكٍ: "وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، لَمْ يَرَوْا بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ بَأْسًا. وهذا أحسن شي فِي الْبَابِ، وَقَدْ جَوَّدَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ أَحَدٌ أَتَمَّ مِنْ مَالِكٍ" قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ: الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ أَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ. الْحَدِيثَ. وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ الْفُقَهَاءِ فِي كُلِّ مِصْرَ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ سُؤْرَهُ. وَقَالَ: إِنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَحَدٌ أَجْزَأَهُ، وَلَا أَعْلَمُ حُجَّةً لِمَنْ كَرِهَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ أَحْسَنَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، وَبَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْكَلْبِ فَقَاسَ الْهِرَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ فرقت السنة بينهما في باب التَّعَبُّدِ فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ، وَمَنْ حَجَّتْهُ السُّنَّةُ خَاصَمَتْهُ، وَمَا خَالَفَهَا مُطْرَحٌ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "طَهُورُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ أَنْ يُغْسَلَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ" شَكَّ قُرَّةُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَّا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَقُرَّةُ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَمَتْنُهُ: "طَهُورُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الْأُولَى بِالتُّرَابِ والهر مرة أو مرتين". قرة شك. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَذَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ قُرَّةَ (وُلُوغُ الْكَلْبِ) مرفعا وَ (وُلُوغُ الْهِرِّ) مَوْقُوفًا. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنَ الْهِرِّ كَمَا يُغْسَلُ مِنَ الْكَلْبِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَثْبُتُ هَذَا مَرْفُوعًا وَالْمَحْفُوظُ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ. وَذَكَرَ مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْهِرَّ مِثْلَ الْكَلْبِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِنَاءِ يَلِغُ فِيهِ السِّنَّوْرُ قال: اغسله سبع مرات. قال الدَّارَقُطْنِيُّ. التَّاسِعَةُ- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ إِذَا كَانَتْ أَعْضَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ طَاهِرَةً، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَجَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ الْجِلَّةُ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْوُضُوءَ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ، فَإِنْ فَعَلَ وَصَلَّى لَمْ أَرَ عَلَيْهِ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ وَيَتَوَضَّأُ لِمَا يَسْتَقْبِلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَعَادَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، ويتمم وَاجِدُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِدٍ مَاءً. وَقَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الصُّنَابِحِيِّ خَرَّجَهُ مَالِكٌ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ. وَقَالُوا: الْمَاءُ إِذَا تُوُضِّئَ بِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مَعَهُ، فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَاءُ الذُّنُوبِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا عِنْدِي لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الذُّنُوبَ لَا تُنَجِّسُ الْمَاءَ لِأَنَّهَا لَا أَشْخَاصَ لَهَا وَلَا أَجْسَامَ تمازج الماء فتفسد، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "خَرَجَتِ الْخَطَايَا مَعَ الْمَاءِ" إِعْلَامٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ عَمَلٌ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ السَّيِّئَاتِ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لا ينضاف إليه شي وَهُوَ مَاءٌ مُطْلَقٌ. وَاحْتَجُّوا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى طَهَارَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ نَجَاسَةٌ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ وعطاء بن أبى وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فَوَجَدَ فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا: إِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَمْسَحَ بِذَلِكَ الْبَلَلِ رَأْسَهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَجَازُوا الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. رَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَرْضِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدِ اغْتَسَلَ وَقَدْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ مِنْ جَسَدِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَكَانَ لَهُ شَعْرٌ وَارِدٌ [[أي مسترسل طويل.]]، فَقَالَ [[العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وقال بالماء على يده، أي قلب. وقال بثوب، أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع.]] بِشَعْرِهِ هَكَذَا عَلَى الْمَكَانِ فَبَلَّهُ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ هَذَا بَصْرِيٌّ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ وَغَيْرُهُ مِنَ الثِّقَاتِ يَرْوِيهِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنِ الْعَلَاءِ مُرْسَلًا، وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: الرَّاوِي الثِّقَةُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ الْعَدَوِيِّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ الْعَدَوِيِّ أن رسول الله ﷺ اغْتَسَلَ ... ، الْحَدِيثَ فِيمَا ذَكَرَهُ هُشَيْمٌ. قَالَ ابْنُ العربي: "مسألة الماء المستعمل إنما ت على أصل آخر، وهو أن لآلة إِذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضٌ هَلْ يُؤَدَّى بِهَا فَرْضٌ آخَرُ أَمْ لَا، فَمَنَعَ ذَلِكَ الْمُخَالِفُ قِيَاسًا عَلَى الرَّقَبَةِ إِذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضُ عِتْقٍ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنَ الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ إِذَا أَتَى عَلَى الرِّقِّ أَتْلَفَهُ فَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ بِعِتْقٍ آخَرَ. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْمَاءِ مَا تَلِفَ عَلَى الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ آخَرُ لِتَلَفِ عَيْنِهِ حِسًّا كَمَا تَلِفَ الرِّقُّ فِي الرقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه". الْعَاشِرَةُ- لَمْ يُفَرِّقْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ الْمَاءِ تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الْمَاءُ، رَاكِدًا كَانَ الْمَاءُ أَوْ غَيْرَ رَاكِدٍ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "الماء لا ينجسه شي إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ". وَفَرَّقَتِ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ: عَلَى الْمَاءِ تَنَجَّسَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ: مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي أَحْكَامِ المياه أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ كَوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ". فَمَنَعَ مِنْ وُرُودِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ، وَأَمَرَ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي الْبَابِ، وَلَوْلَا وُرُودُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ- قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا- لَمَا طَهُرَتْ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ:" صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا [[الذنوب (بالفتح): الدلو.]] مِنْ مَاءٍ". قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَحَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِنْ وَرَدَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فأقبل عَلَى النَّجَاسَةِ فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا بَقِيَ الْمَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ وَأَزَالَ النَّجَاسَةَ وَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ، إِذِ الْمُخَالَطَةُ قَدْ حَصَلَتْ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَتَفْرِيقُهُمْ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَوُرُودِهَا عَلَيْهِ فَرْقٌ صُورِيٌّ لَيْسَ فيه من الفقه شي، فَلَيْسَ الْبَابُ بَابَ التَّعَبُّدَاتِ بَلْ مِنْ بَابِ عَقْلِيَّةِ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَأَحْكَامِهَا. ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شي إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ". قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أبى أمامة البالهى وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّوْنِ. وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قيل: يا رسول الله، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ [[الحيض: الخرق التي يمسح بها دماء الحيض، ويقال لها المحايض.]] وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الْمَاءَ طهور لا ينجسه شي" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ كُلُّهُمْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ جَوَّدَ أَبُو أُسَامَةَ. هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ أَحْسَنَ مِمَّا رَوَى أَبُو أُسَامَةَ. فَهَذَا الحديث نص فِي وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ، وَقَدْ حَكَمَ ﷺ بِطَهَارَتِهِ وَطَهُورِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا، قُلْتُ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِيهَا؟ قَالَ: إِلَى الْعَانَةِ. قُلْتُ: فَإِذَا نَقَصَ؟ قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدَّرْتُ بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ، وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ: هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَا. وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ. فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا لَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَالَ: إِنَّهَا فِي وَسَطِ السَّبْخَةِ، فَمَاؤُهَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا مِنْ قَرَارِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- الْمَاءُ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ وَغَسْلُ النَّجَاسَاتِ هُوَ الْمَاءُ الْقَرَاحُ الصَّافِي مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ، وَمَا عَرَفَهُ النَّاسُ ماء مطلقا غير مضاف إلى شي خَالَطَهُ كَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَافِيًا وَلَا يَضُرُّهُ لَوْنُ أَرْضِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. أَبُو حَنِيفَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَجَازَ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ فِي السَّفَرِ، وَجَوَّزَ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ. فأما بِالدُّهْنِ وَالْمَرَقِ فَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِزَالَتُهَا بِهِ. إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ يَقُولُونَ: إِذَا زالت النجاسة به جاز. وكذلك عند النَّارُ وَالشَّمْسُ، حَتَّى إِنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ إِذَا جَفَّ فِي الشَّمْسِ طَهُرَ مِنْ غَيْرِ دِبَاغٍ. وَكَذَلِكَ النَّجَاسَةُ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا جَفَّتْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، بِحَيْثُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ وَامْتَنَّ بِإِنْزَالِهِ مِنَ السَّمَاءِ لِيُطَهِّرَنَا بِهِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قال عليه الصلاة وَالسَّلَامُ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: "حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ". فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ الِامْتِنَانِ، وَلَيْسَتِ النَّجَاسَةُ مَعْنًى مَحْسُوسًا حَتَّى يُقَالَ كُلُّ مَا أَزَالَهَا فَقَدْ قَامَ بِهِ الْغَرَضُ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْمَاءَ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لا سقطه، وَالْفَرْعُ إِذَا عَادَ إِلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ فِي إِسْقَاطِهِ سَقَطَ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ كَانَ تَاجُ السُّنَّةِ ذو العز ابن الْمُرْتَضَى الدَّبُوسِيُّ يُسَمِّيهِ فَرْخُ زِنًى. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ النَّبِيذِ فَأَحَادِيثُ واهية، ضعاف لا يقوم شي مِنْهَا عَلَى سَاقٍ، ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهَا وَنَصَّ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ ضُعِّفَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا "النَّبِيذُ وَضُوءٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ". فِي طَرِيقِهِ ابْنُ مُحْرِزٍ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ. الْحَجَّاجُ وَأَبُو لَيْلَى ضَعِيفَانِ. وَضُعِّفَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَذُكِرَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَشَهِدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَحَدٌ مِنْكُمْ لَيْلَةَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ؟ فَقَالَ لَا. قُلْتُ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي عَدَالَةِ رُوَاتِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلَنِي النَّبِيُّ ﷺ:" مَا فِي إداوتك [[الإداوة (بالكسر): إناء صغير من جلد يتخذ للماء.]] "فقلت: نبيذ. فقال:" تمرة طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ "قَالَ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَإِنَّمَا رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا نَعْرِفُ لَهُ رِوَايَةً. غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ، مِنْهُمْ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يُتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنِ ابْتُلِيَ رَجُلٌ بِهَذَا فَتَوَضَّأَ بِالنَّبِيذِ وَتَيَمَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ أَبُو عِيسَى: وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ لَا يُتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ أَقْرَبُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَشْبَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً "وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُطَوَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَعُمْدَتُهُمُ التَّمَسُّكُ بِلَفْظِ الْمَاءِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْمَائِدَةِ" [[راجع ج ٦ ص ١٠٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.]] بَيَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً" وَقَالَ: "لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" تَوَقَّفَ جَمَاعَةٌ فِي مَاءِ الْبَحْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى رَوَوْا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو مَعًا أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، لِأَنَّهُ نَارٌ وَلِأَنَّهُ طَبَقُ جَهَنَّمَ. وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ حُكْمَهُ حِينَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ فِيهِ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ الْوُضُوءَ بِمَاءِ الْبَحْرِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: هُوَ نَارٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ، وَقَدْ سُئِلَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَدِيثِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو عِيسَى فَقُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ: هُشَيْمٌ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ أَبِي بَرْزَةَ. فَقَالَ: وَهِمَ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا مِنَ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَأَخْرَجَهُ فِي مُصَنَّفِهِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّهُ لَا يُعَوِّلُ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا عَلَى الْإِسْنَادِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَحْتَجُّ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمِثْلِ إِسْنَادِهِ، وَهُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا يُخَالِفُ فِي جُمْلَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ جُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ مِنَ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْبَحْرَ طَهُورٌ مَاؤُهُ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ بِهِ جَائِزٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ الله بن عمرو بن العاصي أَنَّهُمَا كَرِهَا الْوُضُوءَ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَلَمْ يُتَابِعْهُمَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَرَّجَ عَلَيْهِ، وَلَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ هَذَا الْبَابِ. وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى اشْتِهَارِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ، وَعَمَلِهِمْ بِهِ وَقَبُولِهِمْ لَهُ، وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِسْنَادِ الظَّاهِرِ الصِّحَّةِ لِمَعْنًى تَرُدُّهُ الْأُصُولُ. وبالله التوفيق. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ مَوْلَى حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ، مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، نَاسِكًا، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ بِمَا وَجَدَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، كَثِيرَ الْعَمَلِ، خَائِفًا لِلَّهِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةً. ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُسْأَلُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ فَقَالَ: ثِقَةٌ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ وَفُضَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ. فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ فِيمَا عَلِمْتُ إِلَّا صَفْوَانُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ. وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ فَقِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي حَمَلَةِ الْعِلْمِ كَسَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَجْهُولٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ وَجَدْتُ ذِكْرَهُ فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ بِالْمَغْرِبِ، وَكَانَ مُوسَى يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْخَيْلِ، وَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ فِي بِلَادِ الْبَرْبَرِ فُتُوحَاتٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: "مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ الله". قال إسناد حَسَنٌ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا فَضَلَتْ لِلْجُنُبِ مِنْهُ فَضْلَةٌ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَجْنَبْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاغْتَسَلْتُ مِنْ جَفْنَةٍ وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِيَغْتَسِلَ مِنْهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ اغْتَسَلْتُ مِنْهُ. فَقَالَ: "إِنَّ الماء ليس عليه نجاسة- أوإن الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَدَتْ آثَارٌ فِي هَذَا الْبَابِ مَرْفُوعَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِهَا: وَلَكِنْ لِيَغْتَرِفَا جَمِيعًا. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْتَرِفَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَوَضِّئٌ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَنْفَرِدَ الْمَرْأَةُ بِالْإِنَاءِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ بَعْدَهَا بِفَضْلِهَا. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَوَى بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَثَرًا. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَتَتَوَضَّأَ الْمَرْأَةُ مِنْ فَضْلِهِ، انْفَرَدَتِ الْمَرْأَةُ بِالْإِنَاءِ أَوْ لَمْ تَنْفَرِدْ. وَفِي مِثْلِ هَذَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ. وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أن الماء لا ينجسه شي إِلَّا مَا ظَهَرَ فِيهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ أَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَلَا وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْآثَارِ وَالْأَقْوَالِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ. قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرْقُ [[الفرق (بالتحريك): مكيال يسع ستة عشر رطلا. وبالسكون مائة وعشرون رطلا.]]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، فِي جَفْنَةٍ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا. قَالَ: "إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَتَوَضَّأُ أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَصَابَتِ الْهِرَّةُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ، وَكَرِهَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَضْلَ طَهُورِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ الْمَاءُ فِي قُمْقُمَةٍ [[القمقمة والقمقم (كهدهد): ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره.]] وَيَغْتَسِلُ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دُخِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ سَخَّنْتُ مَاءً فِي الشَّمْسِ. فَقَالَ: "لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ". رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْشَمُ عَنْ فُلَيْحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ عَنْ فُلَيْحٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنِ الزهري، قاله الدارقطني . الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- كُلُّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ فَجَائِزٌ الْوُضُوءُ مِنْهُ إِلَّا إِنَاءَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ اتِّخَاذِهِمَا. وَذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِلتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَالْجَبَابِرَةِ لَا لِنَجَاسَةٍ فِيهِمَا. وَمَنْ تَوَضَّأَ فِيهِمَا أَجْزَأَهُ وُضُوءُهُ وَكَانَ عَاصِيًا بِاسْتِعْمَالِهِمَا. وَقَدْ قِيلَ: لَا يُجْزِئُ الْوُضُوءُ فِي أَحَدِهِمَا. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. وَكُلُّ جِلْدٍ ذَكِيٍّ فَجَائِزٌ اسْتِعْمَالُهُ لِلْوُضُوءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْوُضُوءَ فِي إِنَاءِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ قَوْلِهِ. وقد تقدم في "النحل" [[راجع ج ١٠ ص ١٥٦ طبعه أولى أو ثانية.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب